حتى لا يكون حصاد التطور العربي صفرا.. ماذا عن التحول الحرج؟

حتى لا يكون حصاد التطور العربي صفرا.. ماذا عن التحول الحرج؟

حديث الشهر

لست الوحيد الذي أرقه النظر في هذا الصراع الدائر في عالمنا اليوم, كما أنني لست الوحيد الذي تؤرقه محاولة فهم أسباب الصراعات الإنسانية الحالية والسابقة, إنما السؤال القديم قدم الإنسانية هو: هل الإنسان خيّر بطبعه? أم شرير بطبعه? أم هو بين ذلك, يتحدد تحيزه إلى الخير أو الشر تبعا لظروف موضوعية لا علاقة لها بطبيعة محددة, ونحن على أبواب عام جديد كنت أتساءل عندما وقع بين يدي هذا الكتاب المهم الذي حاول فيه مؤلفه عالم السياسة الأمريكي رالف جولدمن أن يقرأ تاريخ الشعوب في تحولها الحرج من محاولة حل مشكلاتها بالحروب إلى حل مشكلاتها بالسياسة وذلك أمر أظن أن الكثيرين منا يريدون أن يتعرفوا عليه وعلى ماهية الآلية المؤدية لصنعه, والتعرف ليس سهلا ولا قصيرا في مداه, قد يحسن معي القارىء الظن ويتحلى بالصبر لنسبر معا قاع هذه المعضلة الإنسانية.

وقبل أن نوغل بين دفتي هذا الكتاب, لعله يكون مناسبا أن نتوقف خارجه مهيئين أنفسنا للدخول بمحاولة الإجابة عن السؤال الأساس, القديم المتجدد, عن الإنسان بين الخير والشر ـ بالمفهوم الأخلاقي, أو بين السلام والعنف ـ بالمفهوم النفسي والمجتمعي. وهذه المحاولة قد تكون مهمة لتعبيد أرض نمهد الطرق منها نحو الكتاب المذكور الذي يوشك أن يكون في بنائه أكاديميا ومحددا بإطار يمكن أن ندخله في خانة علم الاجتماع السياسي.

ومنذ البداية, فإنه ليس بخاف أن أدق الأسئلة ومحاولات الإجابة عنها, ليست ترفا ثقافيا في الفضاء, بل هي إلحاح يحتمه الواقع في مجال الأرض التي نعيش عليها, والأرض العربية تحديدا, والتي قد تكون عينة مثالية لبحث كل أنواع المكابدة من الصراع بالعنف ـ الخارجي والداخلي على السواء ـ وكل أنواع الشوق إلى الحوار بالسلم ـ أمام ووراء خطوط الحدود العربية معظمها. وإذا كان ذلك التخصيص يناسب الخاتمة, فلنبدأ بالعام الذي يمثل المدخل.

أعماق العنف

يقول عالم النفس الاجتماعي غاستون بوتول في تقديمه لكتاب فاوستو أنطونيني "عنف الإنسان" إن حياة كل المجتمعات الإنسانية المنظمة تتأرجح بين عالمين, عالم العمل والادخار وتحريم أعمال العنف, وعالم القتل المنظم والمدبّر وطقوس التدمير والهدم".

ويبدو أن ذلك صحيح إلى حدّ بعيد, إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العالم الأول يتسع ليشمل اللاعنف من أبسط أشكال الحوار وحتى أكثرها تعقيدا, بينما العالم الثاني يزدحم بكل أنواع العنف ابتداء من نبذ أبسط أنواع الحوار وحتى أبشع أنواع القتل والمجازر.

ومادام بحثنا ـ التمهيدي للدخول في كتاب "رالف جولدمان" عن "التحول الحرج" ـ من الحرب إلى سياسة الأحزاب ـ فإن توجهنا يتحدد بإطار تقصي العدوانية لدى الجماعات, والتي تأخذ صورة الصراعات العنيفة والحروب.. من أصغرها إلى أكبرها, ومن الخفي منها إلى المعلن.

وقد يكون من الأهمية بمكان التفريق في هذا الشأن بين عدوانيتين ـ بالمفهوم النفسي ـ أولاهما عدوانية تطمح إلى الخلق والبناء ويصح أن نسميها اقتحاما, وثانيتهما عدوانية التدمير والقتل, ويصح تسميتها تخريبا وهدما. وباختصار عدوانية بنّاءة وعدوانية هدّامة, وهذه ـ الأخيرة ـ هي المعنية في سياق حديثنا.

على مستوى الفرد فإن العدوانية المدمرة والمهدمة (أي التي لا تخدم الحياة وتناميها بتحصيل الغذاء أو الوصال أو الدفاع عن الفرد والنوع), هي غاية بذاتها تنتج ـ في رأي الفرويديين ـ عن قمع الميول العاطفية النفسية. وليس ببعيد عن ذلك تقف العدوانية المدمرة على مستوى الجماعة وإن كان هناك من يرى أن تكوين الجماعة في حد ذاته ينطوي على دافع نحو العدوان على اعتبار مماثلة سلوك الجماعة في تزاحمها بسلوك الحيوان في بدائيته وبريته. لكن هذا التعميم تدحضه أمثلة واقعية عن وجود جماعات بشرية قديمة مسالمة كتلك التي في سلسلة جزر الساموا (SAMOA) في جنوب المحيط الهادي. وما يُقال عن فطرة الإنسان الفرد الخيّرة يمكن أن ينطبق علي فطرة الجماعة الإنسانية أيضا. لكن كل الاعتداءات المضاد لهذه الفطرة, ودون حاجة لأية براهين أكاديمية نفسية, تُنتج التشوه الذي يتجلى في العدوانية المدمرة لدى الفرد ولدى الجماعة أيضا. ولعل الظاهرة العدوانية الأشد بروزا ومثولا واستمرارا بين الفئات أو الجماعات البشرية هي الحرب, ولعل البحث عن أسبابها يجسد كل تجريد في هذا الشأن.

تسع نظريات للبؤس.. ولكن

في مؤلّفه "انهيار الأمم" وسع الكاتب "ليبولد كوهر" من مفهوم الحرب التي أسماها "البؤس الاجتماعي" لتشمل الصراع والخوف والحقد والعدوانية مع كل ما يصاحبها أو يلحق بها من آلام ودمار. وقد أورد في كتابه تسع نظريات لتفسير ظاهرة الحرب, وصف الثلاث الأول منها بأنها "وهمية", بينما نعت الست التالية بأنها "عقلية". وهي على الترتيب:

1 ـ نظرية القوى فوق البشرية لدى البدائيين الذين كانوا يعتقدون أن كل النكبات, ومن بينها الحرب, مردها إلى غضب قوى فوق بشرية ينبغي استرضاؤها بالقرابين خاصة الضحايا البشرية.

2 ـ النظرية الكونية, التي تعزو الأمراض والأوبئة والحروب إلى تأثيرات نجمية.

3 ـ النظرية الإحيائية التي ترد الآلام, ومنها الحرب, إلى أرواح خبيثة.

4 ـ النظرية الاقتصادية "الماركسية" التي تعتبر الحروب أثرا من آثار النمو الرأسمالي بحثا عن أسواق جديدة.

5 ـ النظرية النفسية التي ترجع الحروب وما شابهها إلى عدم الإشباع الفردي.

6 ـ النظرية الشخصية التي تنسب الحروب كعمل مشئوم لشخصيات شريرة كهتلر وموسوليني, وأمثالهما في التاريخ.

7 ـ النظرية الأيديولوجية, التي تعتبر أن الأيديولوجيات هي سبب الحروب لأنها تدافع منهجيا عن العنف والفتوحات والقتل والحقد.

8 ـ النظرية الثقافية التي ترى أن الحروب امتداد لبعض التقاليد الاجتماعية ـ الثقافية كالنزعة العسكرية البروسية والنزعة الاستعمارية البريطانية.

9 ـ النظرية القومية أو الاجتماعية التي تعتبر الحروب امتدادا لجذور العدوانية في بعض القوميات والمجتمعات مثل أهالي أسبرطة أو البروسيين.

لقد أورد "كوهر" هذه النظريات لتفسير الحرب, أو العنف الجماعي, أو البؤس الاجتماعي ـ على حد تعبيره, لكنه دحض معظمها كسبب منفرد لهذا البؤس البشري, وأوجز كوهر سبب الحروب في أنها تكمن في ثنائية: البحث عن السلطة, واستخدامها الجائر! وإذا وسعنا مفهوم كل من طرفي الثنائية بأن تكون السلطة شاملة كل أنواع التسلط أو التحكم الاقتصادي, الاجتماعي, السياسي, الثقافي, وكذلك الجور, فإن هذا الطرح يمكن أن يوفر إطارا شاملا للأسباب تدخل فيه أسباب أخرى لعنف الجماعة أو العدوانية الجماعية, ومنها الحروب بالطبع, وأشكال الصراعات العنيفة الأخرى.

في هذا الإطار يمكن أن يدرج التزايد السكاني كعامل تفجير للعنف, والمقصود بذلك التزايد تحديدا التزاحم مع ضيق الرقعة المكانية وتناقص الموارد, ينطبق هذا على الأسرة والبيت كما ينطبق على الأمة والدولة. كما يمكننا أن ندرج أيضا استشعار الفرد ـ نفسيا ـ بالتشوه الرمزي عندما يدخل الجماعة, أي جماعة. والمقصود بالتشوه النفسي هنا فقد بعض الفطرة نتيجة تخلي الفرد عن جزء من ذاته كضرورة للذوبان في الجماعة, ومن ثم معاناة شيء من الإحباط الذي يجد تعويضه في العدوانية, والعدوانية هنا يمارسها الفرد بتعزيز الجماعة, وهي لازمة لتعزيز الروابط داخل الجماعة أيضا, فكل عدوان تمارسه الجماعة "سواء كانت عصابة, أو فئة أو تنظيما, أو طائفة, أو مجتمعا" يمتن الأواصر بين أفرادها. وهكذا تدور العجلة الشريرة.

من كل ما سلف نجد أن إيراد سبب واحد منفرد أو نظرية واحدة لتفسير العنف الجماعي أو العدوانية الجماعية هو محض افتراض إن لم يكن افتراء. فالعدوانية الجماعية ظاهرة معقدة التركيب إلى أبعد حد, وتكاد تكون تعقيدا داخل تعقيد. فالإنسان الفرد ودوافعه العدوانية حالة معقدة, والجماعة التي تمارس العدوانية وداخلها أفراد هذا شأنهم هي تعقيد أكبر, محاط بتعقيدات عديدة أصغر في داخله.

حرب البشر

نحن إذن بصدد ظاهرة سلبية, قد لا يكون هناك اتفاق محدد على أسبابها وتبرير دوافعها, لكن لا شك أن هناك اتفاقا بديهيا على رفض الآثار التدميرية لها, أي لعدوانية الجماعة, أي جماعة, في السلطة, أو المجتمع, داخل الحدود, أو خارجها.

بالضبط نجد أنفسنا كما لو كنا في مواجهة مرض, وثمة اقتراحات للعلاج, من بينها دواء مجرّب, هو باختصار الأشكال التمثيلية (الديمقراطية) على المستوى الوطني وأشكال مؤسسات الضبط الدولي (كالأمم المتحدة) على مستوى العالم, ولكن الأمر ليس بهذه السهولة في التطبيق. وأن يجري الكاتب محاولة لتقنين هذا الدواء مع فتح باب البحث في فهم آليات عمله وهذا بدوره قد يكون كفيلا بالكشف عن أسباب محددة للداء. وهذا يوشك أن يكون منهج الكتاب المهم الذي أشرت إليه في السطور الأولى لعالم الاجتماع السياسي "رالف جولدمان" من الحرب إلى سياسة الأحزاب.

إنه كتاب "عملي" وإن استند إلى منهج تجريبي أكاديمي, يستخدم آليات البحث الاسترجاعي ودراسة الحالة, يستنبط الأسباب من قراءة حوادث الصراع والنزاع, ويمنهج العلاج بتقصي التجربة, ولا يرفع يده عن الواقع الملموس. لهذا لا يضيع كثيرا في متاهات التنظير, ومن ثم يستخدم مصطلحات يومية سهلة لصياغة الأفكار المركبة, ويصل بهذه المصطلحات إلى حد نحتها من مصطلحات السوق فهو يتكلم ـ على سبيل المثال ـ عن عملية التحول التي تجري في المجتمعات لإعادة ترتيب النفوذ بين قادة فئاتها أو تجمعاتها المختلفة بأنها "صفقات" يجري عقدها بين النخب المتنافسة باستخدام أنواع "العملات السياسية المتداولة"!

في هذا الكتاب يرى المؤلف أن الصراع بين البشر أو الصراعات التي تقوم بها قيادات الجماعات المختلفة ونخبها هو مظهر مستمر ومحتوم في تاريخ البشرية, غالبا ما يكون مظهرا بنّاء من مظاهر التجربة الإنسانية في حدودها السوية. النزاع بين البشر في المجتمع الواحد أو بين المجتمعات المختلفة ينشأ بسبب حدوث شكوك وعدم ثقة بين النخب القائدة في المجتمع الواحد أو بين هذه النخب في المجتمعات المختلفة, وقد يدفع هذا التخوف وعدم الثقة والشكوك المتراكمة إلى تكتيكات العنف مثل الحروب الأهلية والخارجية بل حتى سباق التسلح والتهديد النووي.

الحروب تقع عندما لا تحاول المؤسسات السياسية, أو لا تستطيع ـ سواء كانت محلية أو دولية ـ الحد من النزاع بصورة كافية, أو حين تفشل في توفير البديل المناسب لحل تلك الصراعات, ويعتبر الكاتب أن التحول الحرج في تطور المؤسسات السياسية يكون في قدرتها على الانتقال بالمجتمع من حالة الصراع العنيف إلى حالة الصراع السياسي السلمي, ومن ثم تطوير كفاءة خاصة من أجل التقليل من اللجوء إلى العنف أو تجنبه كواحد من التكتيكات المتبعة في صياغة القرار الجماعي.

النقاش حول شكل القيادة السياسية ومهماتها ليس نقاشا حديثا بل هو قديم, بدأه أفلاطون عندما لفت النظر إلى حقيقة أن كل جماعة تحتاج إلى طبقة خاصة "عليا" ممن سماهم "بالأوصياء" تمثل وظيفتهم حماية الجماعة من الأعداء الغرباء والحفاظ على السلام بين المواطنين, ويقابل هذه الوظيفة في العصر الحديث ما يمكن أن يسمى تحقيق الأمن القومي واستتباب الأمن, ومع حلول القرن التاسع عشر أخذ المنظرون الغربيون يدعون هؤلاء الحراس (الأوصياء) بالطبقات الحاكمة أو النُخب, وقد وضحت بعد ذلك العلاقة بين النخب الحاكمة أو صاحبة السلطة وبين القوة المادية في النظرية السياسية, ومن ثم صاروا هم الذين يحافظون على السلطة ماداموا متمكنين من استخدام القوة المادية, وإذا ما حصل وفقدت نخبة منهم قدرتها أو رغبتها في استخدام القوة, فإن نخبة أخرى سوف تزيحها من السلطة وتحل محلها.

النخب أمر معروف ومشهود في معظم المجتمعات, فثمة مجتمعات تعتبر كبار السن من النخب وأخرى تعتبر الكهنة من النخب, وظلت النخبة تتبوأ مكانها في المجتمعات المختلفة تبعا لصلات القرابة أو إمكانات الثروة أو المهنة أو اللغة, ومع التطور في المجتمعات الأكثر حداثة, فإن الارتقاء إلى مكانة النخب بين الشعوب صار يتحدد بالمواهب والمميزات التي يمثلها الشخص, مما يعكس الطبيعة المنظمة والمتخصصة للمجتمعات الغربية الصناعية الحديثة. وقد عرفت النخب الجديدة بسبب مؤهلاتها السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية, ويختلف أعضاء هذه النخب بينهم ـ شأن البشر جميعا ـ وتعدد مصادر النزاع نتيجة الاختلاف في الرأي حول رؤية الواقع, أو حول ندرة المصادر الاقتصادية الناضبة, أو حول الأولويات التي يجب أن يتوجه إليها المجتمع, أو من الخوف والقلق من النخب الأخرى, أو الدفاع عن الذات أو حتى الكراهية الشخصية, هذه بعض أسباب النزاعات وليس كلها, فالرصد السياسي الاجتماعي شأن التفسير النفسي السياسي لا يستطيع أن يشمل بالتحديد كل أسباب الصراع بالعنف لتعدد وتنوع منابع هذا الصراع.

لقد وصفت السياسة بأنها عملية نزاع مستمر بين النخب في المجتمع, وتعالج الاستراتيجية السياسية أشكال استغلال هذا النزاع أواستخدامه لأغراض سياسية أو إخماده إن كان يهدد بقاء النسيج الاجتماعي, والسياسة العامة لإدارة النزاع هي سياسة السياسات, هي السياسة المطلقة.

تطرح سياسة النزاع بين النخب سؤالا مركزيا هو لماذا يحدث هذا النزاع ميلا نحو العنف?, والإجابة العامة هي أن هذه النخب المتخاصمة تميل بقوة إلى عدم الثقة في بعضها, ويكون احتواء عدم الثقة هو المقصد السياسي من بناء المؤسسات السياسية, فإن أنشأنا مؤسسة تعزز الثقة بين فئات المجتمع المختلفة ممثلة بنخبها, فإن ذلك يقلل من النتائج السلبية (العنيفة) التي تنشأ من النزاع بين النخب. الوسائل والتكتيكات التي تستخدم في نزاع النخب تنقسم إلى تكتيكات عنف وتكتيكات سلام. وتكتيكات العنف تشمل الأسلحة بأشكالها المختلفة أو التهديد بهذه الأسلحة, أما تكتيكات السلام فهي لا تعتمد السلاح ولا تهدد به بل تعتمد الحوار والإقناع. كل هذه التكتيكات تحاول التأثير في القرار السياسي في المجتمع, واستخدام العنف أو التهديد بالعنف هو السلاح الذي عرفته البشرية لفترة طويلة من الزمن ولا يزال هذا السلاح مستخدما أو مهددا باستخدامه, أما الحوار بالكلمات التي تأخذ شكل القوانين, والأحكام الدستورية والحجج المقننة والدعاية فهي أدوات التحول عن العنف في المجتمع الديمقراطي, ولقد غدا النقاش الحر والإقناع وتوصيل المعلومات من المتطلبات الضرورية للديمقراطية الدستورية الحديثة, كما أن الأرقام التي يعتبرها الكاتب من أكثر وسائل الإقناع الديمقراطي حداثة عهد, يستخدمها السياسيون في بعض المراحل ضمن تكتيكات السلام لإقناع الناخبين بصلاحية برامجهم أو فشل برامج المنافسين السياسيين.

البحث عن جسور الثقة

اختيار أي التكتيكات السياسية التي تستخدم يتأثر بالدرجات المختلفة من حجم الثقة أو عدمها التي تسود بين الجماعة, فحالة عدم الثقة المفرطة تؤدي إلى استخدام العنف المفرط, وتزايد وجود الثقة يؤدي إلى استخدام تكتيكات سياسية مرنة, العنف وما جاوره من التكتيكات معادلة صفرية تهدف لدى كل طرف إما إلى تحقيق كل شيء أو لاشيء, بينما التكتيكات السلمية السياسية مبنية على تحقيق بعض المساومات وأنصاف الحلول. لقد صُوِّر العنف لآلاف من السنين بوصفه الوسيلة الوحيدة الحاسمة للسيادة, خصوصا بين الشعوب, ولكن التاريخ أثبت بعد ذلك بما لا يحتمل الجدل الكثير أن استخدام العنف هو في الحقيقة فشل أو نقص في كفاءة المؤسسات السياسية. المؤسسة السياسية تنمو من خلال تكرار أنماط من الفعاليات, فهي مكان لتكرار الأفعال السياسية التي تتشكل بطريقة تتحكم في سلوك الأعضاء الذين ينتمون إلى تلك المؤسسة, وتصير بعد التراكم قيما تؤمن بها الجماعة, وتنعكس هذه القيم ضمن النظام الاجتماعي والثقافي في لغة الأفعال والمواقف. فالمؤسسة السياسية مجموعة من العادات والمواقف والوظائف, يمكننا التنبؤ بأدائها لوظائفها بكثير من الثقة, تلك هي المؤسسة السياسية الحقة, أما تلك التي لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تقوم به فهي ليست مؤسسة بالمعنى العلمي والعملي, لأنها تفتقد إلى ميزة إمكانية التنبؤ بالسلوك الإنساني الموصل إلى الثقة. ويمكن ضرب الكثير من الأمثلة في نقص كفاءة المؤسسة السياسية في تواريخ الشعوب المختلفة, على رأسها في التاريخ الأمريكي ما كان سببا في حدوث الحرب الأهلية الأمريكية. ففي سنة 1860 وعندما لم يعد الكونجرس الأمريكي قادرا على تمثيل مصالح الشمال أو الجنوب الأمريكي في موضوع العبودية (الرق), وعندما لم تعد الأحزاب السياسية الأمريكية قادرة على انتخاب مرشحها لمنصب الرئيس, وعندما أصبح الجيش الفيدرالي قوة هزيلة, قامت الحرب الأهلية الأمريكية واستبدل سلاح الكلام بسلاح الرصاص والمدفع. ويمكن ملاحظة هذا المثال في تاريخنا العربي المعاصر في لبنان في سبعينيات هذا القرن. استبدال الحوار بالسلاح حدث أيضا على المستوى الدولي وأبرز صوره الحربان العالميتان الأولى والثانية, فقد وقعت الحرب الأولى بعد انهيار نظام حل المنازعات الدولية الذي ظهر إلى الوجود في مؤتمر فيينا بعد عام 1814 وهزيمة نابليون في أوربا. أما الحرب العالمية الثانية فقد حدثت بعد الفشل المؤسسي لعصبة الأمم, وبالمقابل فإن إمكانات الأمم المتحدة اليوم وإن كانت ضعيفة قد استطاعت إلى حد ما أن تحد من التخريب والدمار الذي تسببه النزاعات الدولية.

على المستوى الدولي أو الإقليمي أو في البلد الواحد فإن عجز المؤسسات, وخصوصا عجز المؤسسات السياسية, هو ما يفجر الوضع ويدفع باتجاه العودة إلى استخدام أسلوب الحرب أو الحرب الأهلية, لأن النخب المتنافسة تعجز عن اقتناص الفرص المناسبة للتفاوض حول عملية التحول التي لابد أن تشهدها المجتمعات المختلفة.

المؤسسات المعنية بنزاعات النخب أساسا وبصورة مباشرة هي المؤسسات العسكرية والتمثلية والحزبية, لقد اتسمت المؤسسة العسكرية في العديد من الحالات بأنها الأكثر تنظيما وأنها أكثر قدرة على التدمير وذات طبيعة استبدادية, أما المؤسسات التمثيلية فهي التي تعمل على توزيع وحدات امتياز اتخاذ القرار المجتمعي بين الناخبين المشاركين, والتي تعمل في الوقت نفسه على تقليص حالات عدم الثقة بين النخب المتنافسة, وعندما تكون هذه الجمعيات المنتخبة فعالة تصبح منظمات تتقاسم النخب المتنافسة في إطارها سيادة الشعب (الامتياز الجماعي), أما الأحزاب السياسية فإنها في الغالب منظمات غير حكومية تحشد ممثلي الهيئات التشريعية وتعبىء الناخبين من أجل احتلال المناصب الحكومية.

حالات أربع

لقد حاول مفكرون وكتاب النظر في العلاقة بين المؤسسات المختلفة لتقاسم السلطة ويذكر لنا التاريخ السياسي أن أول من فعل ذلك من المفكرين الغربيين هو توماس هوبز الذي بحث عملية التمثيل بوصفها علاقة سياسية بين القيادة والأتباع في كتاب صدر له سنة 1651, وبعد مائة عام كرس جون ستيوارت مل كتابا كاملا سنة 1861, سماه "بحث في الحكومة النيابية", وجرى التحول في التاريخ الحديث إلى التمثيل الشعبي عسيرا وطويلا ولفترة طويلة من الزمن. واستمرت محاولات النظر وإعادة النظر في العلاقة بين المؤسسات. ولعل كتاب رالف جولدمان الذي بين أيدينا يأتي في هذا السياق لكنه يستند إلى تراكم في خبرات ممارسة هذه العلاقة التي حاول تقصيها بدراسة حالات مختلفة هي حالات المجتمعات الإنجليزية والأمريكية والمكسيكية والأوربية. ومن ثم كان استنتاجه الذي بلوره في مفهوم التحول الحرج. أي تغيير التراتب بين المؤسسات الثلاث الأهم في تطور المجتمعات المدنية وهي: المؤسسة العسكرية, والهيئة التمثيلية, والأحزاب السياسية.

الحالات الأربع التي اختارها الكاتب الباحث لها ما يبررها لديه, وما يمكن تقبله بغير قسر لدى المتابع والمهتم, وإن كانت لا تمثل شمول كل التجارب في هذا الشأن, وعلى سبيل المثال نذكر أكبر الديمقراطيات, في الهند, وكذلك تجربة اليابان. لكن الحالات المختارة في الكتاب على أي حال تكفي لتقريب الاستنتاج الذي وصل إليه الكاتب بدلالات قوية. فإنجلترا هي لا جدال مهد التعددية السياسية وأول دولة يتحقق فيها نظام حزبي حديث قائم على التنافس, كما أنها عرفت بتاريخ الحروب الداخلية الطويل فيها, وأفكار "لوك" الخاصة بالتعاقدات الاجتماعية والسياسية والإجراءات السياسية التي أدت إلى تحولات أساسية في المؤسسات. ومن ثم فهي مثال أولي واضح, أو نموذج تقليدي للتحول الحرج.

أما الولايات المتحدة, وبرغم تحدرها من التجربة الإنجليزية, فإن لها خصوصية مهمة, على الأقل بحكم موقعها في عالم اليوم, إضافة إلى معطيات التجربة ذاتها, لأن نظام الحكم الدستوري فيها والجمهورية والفيدرالية قد نشأ عنهما ما يجعل الولايات المتحدة نموذجا خاصا في عملية التحول الحرج.

وكتنوع ثقافي, غير الحالتين الإنجلو ـ ساكسونيتين "إنجلترا والولايات المتحدة" تأتي المكسيك كحالة مميزة في عملية التحول الحرج ـ التي يدرسها الكاتب ـ من الحروب الداخلية إلى النظام التمثيلي. وأخيرا تمثل المجموعة الأوربية حالة إقليمية تطورت فيها المؤسسات بشكل متوازن تجاوز الحدود الوطنية.

المخاض.. إعادة ترتيب

في هذه الحالات الأربع حدث تحول مشهود من لغة الصدام بالسلاح بين النخب المتنافسة إلى لغة الصفقات السلمية أو التنافس السلمي المؤسسي, فإنجلترا التي خاضت النخب المتصارعة بجيوشها حروبا داخلية لألف سنة, وضعت حدا للنزاع بتسوية عام 1689, وتحول التصارع بالجيوش إلى تنافس بالأحزاب. أما الولايات المتحدة فإن الحرب الداخلية الأكثر تدميرا اشتعلت داخلها عام 1861, وانتهت عام 1865, وكادت تشتعل خلال حملة انتخابات هيزـ تيلدن عام 1876, لكن التنافس المؤسسي والصفقات السياسية أطفأت شرارة آخر احتمال للحروب الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المكسيك ما بين عامي 1820 و1920 قاتلت تحالفات زعماء "الكوديلوس" ضد بعضها البعض بدموية مكلفة, لكن في ثلاثينيات القرن العشرين أصبحت أحزاب الشعب والمؤسسات التمثيلية فعالة بصورة كافية لإعاقة استمرار الحرب الأهلية. ونأتي في النهاية إلى أوربا التي أدمتها واشتعلت فيها الحربان العالميتان الأولى والثانية, فنجد أن البرلمان الأوربي تجربة مهمة في التحول غير المسبوق من التناحر بالحرب إلى التآزر عبر المؤسسة التمثيلية على المستوى الإقليمي. ففي عام 1979 تم انتخاب أعضاء البرلمان الأوربي لأول مرة بصورة مباشرة من قبل المقترعين في البلدان التسعة المشاركة في هذه المؤسسة التمثيلية آنذاك, والتي توسعت المشاركة فيها بعد ذلك لتصبح إحدى عشرة دولة أوربية, تحتضن تسع لغات مختلفة.

من الأسلحة, إلى الكلمات

في الحالات الأربع السابقة حدث تحول مشهود من الاعتماد على قرقعة السلاح في حسم تنافس النُخب المجتمعية (سواء في البلد الواحد أو عبر عدة بلدان), إلى اعتماد الرأي والتمثيل البرلماني والحزبي كبديل. حدث انتقال من سفك الدماء إلى حوار الكلمات. واستبدلت الحروب التي ثبت أنها لا تحرز انتصارا حاسما دائما, بما يعني أن نتيجتها الحقيقية صفر, بصفقات سياسية بين المتنافسين تحسمها لغة الأرقام, وتحرسها مؤسسات يحترمها الجميع ويساهمون في صنعها.

هذا التحول الحرج, الذي تم عبوره على جسر من النار والدم والألم والدموع, بما يمكن أن يثير الدهشة عند تلخيصه, فهذا التحول الحرج جوهره إعادة ترتيب أولويات النفوذ بين المؤسسات الثلاث (العسكرية والتمثيلية والحزبية), في المجتمع الواحد أو عبر الحدود (كما في حالة البرلمان الأوربي).

ولإيضاح هذا التحول الضخم, خطير النتائج, أكرر ماذهب إلى تلخيصه الكتاب نفسه لتقريب مفهوم التحول الحرج بشكل توضيحي يبين أن:

تراتبية نفوذ المؤسسات قبل نشوء نموذج التحول الحرج كانت كما يلي:

المرتبة الأعلى: المؤسسات العسكرية (المتعددة)

المرتبة الوسطى: الهيئة التمثيلية

المرتبة الأدنى: الأحزاب السياسية "إن وجدت"

وتراتبية نفوذ المؤسسات بعد نشوء النموذج الحرج صارت على الصورة التالية:

المرتبة الأعلى: الأحزاب السياسية.

المرتبة الوسطى: الهيئة التمثيلية.

المرتبة الأدنى: المؤسسة العسكرية (المركزية)

هذا الترتيب الجديد لنفوذ المؤسسات في المجتمعات المدنية الديمقراطية الحديثة لم يعن أبدا الحط من شأن المؤسسة العسكرية, بل جاء إدراكا لطبيعتها وصونا لدورها الحقيقي, ونأيا بها عن منافسات الخصوم في النخب السياسية, وهو وضع أفضل للجيوش والمجتمعات على السواء. بل إن العلاقة بين المؤسسات الثلاث بعد هذا التحول الحرج صارت تسمح بالتنافس بين الخصوم السياسيين مع استبعاد إمكان حدوث العنف, وعززت عوامل الثقة السياسية وسهلت دمج الجماعة السياسية واستيعابها بمعنى إشاعة تكتيكات السلام في السياسة, وهذا لاشك أجدى للبناء والتنمية وتقوية المؤسسة العسكرية أيضا كمؤسسة متخصصة.

قضية تطور

التحول الحرج, الذي استبدل الحرب بالسلام داخل البلد الواحد (إنجلترا, الولايات المتحدة, المكسيك, كأمثلة), وعبر بلدان عديدة (أوربا), لم يكن مجرد اختيار عقلاني (وقد كان كذلك), للبحث عن معادلة أخرى غير المعادلة الصفرية الملوثة بالأحقاد والدم. بل كان أيضا نتيجة تطور في المجتمع المدني وتطور في تفكير النخبة.

فمن حيث ترتيب النشوء تبدو المؤسسة العسكرية هي الأقدم, تليها المؤسسات التمثيلية (النيابية) التي صارت ظاهرة مألوفة في البنى السياسية في العالم الحديث (وإن كان لها إرهاصات في الأشكال التمثيلية الأقدم". أما الأحزاب السياسية فهي الأكثر حداثة بين المنظمات الاجتماعية.

هذا التحديث جاء استجابة لمتغيرات حقيقية في المجتمعات الحديثة كالتطورات التكنولوجية التي عقدت تشابكات وتنافرات المصالح في المجتمع الواحد وعبر المجتمعات, وبالتالي تغير مصالح الجماعات, ومن ثم تغير مواقف المؤسسات. فالتغيرات الكمية في نظم المؤسسات وسلوكها جاءت نتيجة لعقد الصفقات السياسية بين النخب المتنافسة. وقد تضمنت هذه الصفقات تبادلا لأنماط متعددة من "العملة السياسية" ومن النتائج الفرعية المصاحبة للصفقات بين النخب. وكان أن قلصت تلك الصفقات من العنف أو الشعور بأهمية العنف لدى البعض, ووفرت "ربحا" جيدا لكلا الجانبين, وهو تطور مهم وفر ثقة بين المتنافسين, وهذه الثقة في استقرار ساحة التبادل السياسي السلمي هي من أهم ثمار ما بعد التحول الحرج.

التطور الذي أفرز إمكان التحول الحرج في النماذج الديمقراطية, الغربية خصوصا, قد يكون هو العنصر المفتقد في السعي الديمقراطي في منطقتنا العربية, وقد يكون اختلاف التجربة التاريخية والبنية الاقتصادية هو سبب فشل محاولات "الدمقرطة" التي تمت في بعض البلدان العربية فترة ما بين الحربين العالميتين, الأولى والثانية, والتجارب التي تلت ذلك. فهل يحول ذلك دون السعي لعبور جسر التحول الحرج?

الردع السلمي

لا شك أن محاولاتنا الديمقراطية المبكرة كانت نقلا ثقافيا وزرعا في أرض لم تمهد لنمو هذا النبت الجديد في ساحة تنسيق وتهذيب عمليات التنافس بين النخب العربية. لكن الآن, يبدو أن بحر الدماء والآلام الذي عبرته الديمقراطيات الغربية على جسر التحول الحرج نحو استقرار تراتب مؤسسي سياسي جديد لم يعد مما ينقصنا حتى نصطنعه ونخوضه ليتوافر عامل التطور المطلوب, فقد مررنا بتجارب قصيرة, ولكنها دموية ومدمرة سواء في القطر الواحد أو بين الأقطار العربية.

فحادثات وشواهد تفاعلات التنافس السياسي بين النخب العربية قد خاضت بالفعل لججا من الدم والألم لايزال بعضها مستمرا داخل بعض المجتمعات العربية, وكامنا فيما بين مجتمعات أخرى.

صحيح أن وجود إسرائيل, باستعداداتها العدوانية, وعامل افتقاد الثقة بين العرب وبينها, يمثل تعويقا ملموسا لعمليات التحول الحرج داخل المجتمعات العربية. لكن قد يكون هذا التحول في حد ذاته أدعى لردع النوايا الإسرائيلية العدوانية في مهدها. فمن يعرف إسرائيل معرفة عيانية, ولو من خلال بثها الفضائي ـ على سبيل المثال ـ يدرك فقرها الثقافي ومحدوديتها الحضارية, ويدرك بوضوح أن عامل التفوق الوحيد هو عبورها لجسر التحول الحرج بشكل خاص. فالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية برغم هيمنتها تأخذ في التراتب المؤسسي مكانا بعد الأحزاب والبرلمان.

إن مبررات عبور الجسر عربيا لم تعد ترفا ثقافيا, فقد تكون ضرورة مستقبلية. وليس النموذج لعبور جسر التحول الحرج وقفا على الديمقراطيات الغربية, كما أسلفت, فهناك ديمقراطيات أخرى مهمة, في الهند, وجنوب إفريقيا, عبرت الجسر نحو سلامها الداخلي ـ على الأقل ـ وهي أقرب للمقارنة والاعتبار, وإن لم يذكرها ذلك الكتاب المهم الذي كان محور موضوعنا.

 

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب




حتى لا يكون حصاد التطور العربي صفرا.. ماذا عن التحول الحرج؟

حديث الشهر

لست الوحيد الذي أرقه النظر في هذا الصراع الدائر في عالمنا اليوم, كما أنني لست الوحيد الذي تؤرقه محاولة فهم أسباب الصراعات الإنسانية الحالية والسابقة, إنما السؤال القديم قدم الإنسانية هو: هل الإنسان خيّر بطبعه? أم شرير بطبعه? أم هو بين ذلك, يتحدد تحيزه إلى الخير أو الشر تبعا لظروف موضوعية لا علاقة لها بطبيعة محددة, ونحن على أبواب عام جديد كنت أتساءل عندما وقع بين يدي هذا الكتاب المهم الذي حاول فيه مؤلفه عالم السياسة الأمريكي رالف جولدمن أن يقرأ تاريخ الشعوب في تحولها الحرج من محاولة حل مشكلاتها بالحروب إلى حل مشكلاتها بالسياسة وذلك أمر أظن أن الكثيرين منا يريدون أن يتعرفوا عليه وعلى ماهية الآلية المؤدية لصنعه, والتعرف ليس سهلا ولا قصيرا في مداه, قد يحسن معي القارىء الظن ويتحلى بالصبر لنسبر معا قاع هذه المعضلة الإنسانية.

وقبل أن نوغل بين دفتي هذا الكتاب, لعله يكون مناسبا أن نتوقف خارجه مهيئين أنفسنا للدخول بمحاولة الإجابة عن السؤال الأساس, القديم المتجدد, عن الإنسان بين الخير والشر ـ بالمفهوم الأخلاقي, أو بين السلام والعنف ـ بالمفهوم النفسي والمجتمعي. وهذه المحاولة قد تكون مهمة لتعبيد أرض نمهد الطرق منها نحو الكتاب المذكور الذي يوشك أن يكون في بنائه أكاديميا ومحددا بإطار يمكن أن ندخله في خانة علم الاجتماع السياسي.

ومنذ البداية, فإنه ليس بخاف أن أدق الأسئلة ومحاولات الإجابة عنها, ليست ترفا ثقافيا في الفضاء, بل هي إلحاح يحتمه الواقع في مجال الأرض التي نعيش عليها, والأرض العربية تحديدا, والتي قد تكون عينة مثالية لبحث كل أنواع المكابدة من الصراع بالعنف ـ الخارجي والداخلي على السواء ـ وكل أنواع الشوق إلى الحوار بالسلم ـ أمام ووراء خطوط الحدود العربية معظمها. وإذا كان ذلك التخصيص يناسب الخاتمة, فلنبدأ بالعام الذي يمثل المدخل.

أعماق العنف

يقول عالم النفس الاجتماعي غاستون بوتول في تقديمه لكتاب فاوستو أنطونيني "عنف الإنسان" إن حياة كل المجتمعات الإنسانية المنظمة تتأرجح بين عالمين, عالم العمل والادخار وتحريم أعمال العنف, وعالم القتل المنظم والمدبّر وطقوس التدمير والهدم".

ويبدو أن ذلك صحيح إلى حدّ بعيد, إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العالم الأول يتسع ليشمل اللاعنف من أبسط أشكال الحوار وحتى أكثرها تعقيدا, بينما العالم الثاني يزدحم بكل أنواع العنف ابتداء من نبذ أبسط أنواع الحوار وحتى أبشع أنواع القتل والمجازر.

ومادام بحثنا ـ التمهيدي للدخول في كتاب "رالف جولدمان" عن "التحول الحرج" ـ من الحرب إلى سياسة الأحزاب ـ فإن توجهنا يتحدد بإطار تقصي العدوانية لدى الجماعات, والتي تأخذ صورة الصراعات العنيفة والحروب.. من أصغرها إلى أكبرها, ومن الخفي منها إلى المعلن.

وقد يكون من الأهمية بمكان التفريق في هذا الشأن بين عدوانيتين ـ بالمفهوم النفسي ـ أولاهما عدوانية تطمح إلى الخلق والبناء ويصح أن نسميها اقتحاما, وثانيتهما عدوانية التدمير والقتل, ويصح تسميتها تخريبا وهدما. وباختصار عدوانية بنّاءة وعدوانية هدّامة, وهذه ـ الأخيرة ـ هي المعنية في سياق حديثنا.

على مستوى الفرد فإن العدوانية المدمرة والمهدمة (أي التي لا تخدم الحياة وتناميها بتحصيل الغذاء أو الوصال أو الدفاع عن الفرد والنوع), هي غاية بذاتها تنتج ـ في رأي الفرويديين ـ عن قمع الميول العاطفية النفسية. وليس ببعيد عن ذلك تقف العدوانية المدمرة على مستوى الجماعة وإن كان هناك من يرى أن تكوين الجماعة في حد ذاته ينطوي على دافع نحو العدوان على اعتبار مماثلة سلوك الجماعة في تزاحمها بسلوك الحيوان في بدائيته وبريته. لكن هذا التعميم تدحضه أمثلة واقعية عن وجود جماعات بشرية قديمة مسالمة كتلك التي في سلسلة جزر الساموا (SAMOA) في جنوب المحيط الهادي. وما يُقال عن فطرة الإنسان الفرد الخيّرة يمكن أن ينطبق علي فطرة الجماعة الإنسانية أيضا. لكن كل الاعتداءات المضاد لهذه الفطرة, ودون حاجة لأية براهين أكاديمية نفسية, تُنتج التشوه الذي يتجلى في العدوانية المدمرة لدى الفرد ولدى الجماعة أيضا. ولعل الظاهرة العدوانية الأشد بروزا ومثولا واستمرارا بين الفئات أو الجماعات البشرية هي الحرب, ولعل البحث عن أسبابها يجسد كل تجريد في هذا الشأن.

تسع نظريات للبؤس.. ولكن

في مؤلّفه "انهيار الأمم" وسع الكاتب "ليبولد كوهر" من مفهوم الحرب التي أسماها "البؤس الاجتماعي" لتشمل الصراع والخوف والحقد والعدوانية مع كل ما يصاحبها أو يلحق بها من آلام ودمار. وقد أورد في كتابه تسع نظريات لتفسير ظاهرة الحرب, وصف الثلاث الأول منها بأنها "وهمية", بينما نعت الست التالية بأنها "عقلية". وهي على الترتيب:

1 ـ نظرية القوى فوق البشرية لدى البدائيين الذين كانوا يعتقدون أن كل النكبات, ومن بينها الحرب, مردها إلى غضب قوى فوق بشرية ينبغي استرضاؤها بالقرابين خاصة الضحايا البشرية.

2 ـ النظرية الكونية, التي تعزو الأمراض والأوبئة والحروب إلى تأثيرات نجمية.

3 ـ النظرية الإحيائية التي ترد الآلام, ومنها الحرب, إلى أرواح خبيثة.

4 ـ النظرية الاقتصادية "الماركسية" التي تعتبر الحروب أثرا من آثار النمو الرأسمالي بحثا عن أسواق جديدة.

5 ـ النظرية النفسية التي ترجع الحروب وما شابهها إلى عدم الإشباع الفردي.

6 ـ النظرية الشخصية التي تنسب الحروب كعمل مشئوم لشخصيات شريرة كهتلر وموسوليني, وأمثالهما في التاريخ.

7 ـ النظرية الأيديولوجية, التي تعتبر أن الأيديولوجيات هي سبب الحروب لأنها تدافع منهجيا عن العنف والفتوحات والقتل والحقد.

8 ـ النظرية الثقافية التي ترى أن الحروب امتداد لبعض التقاليد الاجتماعية ـ الثقافية كالنزعة العسكرية البروسية والنزعة الاستعمارية البريطانية.

9 ـ النظرية القومية أو الاجتماعية التي تعتبر الحروب امتدادا لجذور العدوانية في بعض القوميات والمجتمعات مثل أهالي أسبرطة أو البروسيين.

لقد أورد "كوهر" هذه النظريات لتفسير الحرب, أو العنف الجماعي, أو البؤس الاجتماعي ـ على حد تعبيره, لكنه دحض معظمها كسبب منفرد لهذا البؤس البشري, وأوجز كوهر سبب الحروب في أنها تكمن في ثنائية: البحث عن السلطة, واستخدامها الجائر! وإذا وسعنا مفهوم كل من طرفي الثنائية بأن تكون السلطة شاملة كل أنواع التسلط أو التحكم الاقتصادي, الاجتماعي, السياسي, الثقافي, وكذلك الجور, فإن هذا الطرح يمكن أن يوفر إطارا شاملا للأسباب تدخل فيه أسباب أخرى لعنف الجماعة أو العدوانية الجماعية, ومنها الحروب بالطبع, وأشكال الصراعات العنيفة الأخرى.

في هذا الإطار يمكن أن يدرج التزايد السكاني كعامل تفجير للعنف, والمقصود بذلك التزايد تحديدا التزاحم مع ضيق الرقعة المكانية وتناقص الموارد, ينطبق هذا على الأسرة والبيت كما ينطبق على الأمة والدولة. كما يمكننا أن ندرج أيضا استشعار الفرد ـ نفسيا ـ بالتشوه الرمزي عندما يدخل الجماعة, أي جماعة. والمقصود بالتشوه النفسي هنا فقد بعض الفطرة نتيجة تخلي الفرد عن جزء من ذاته كضرورة للذوبان في الجماعة, ومن ثم معاناة شيء من الإحباط الذي يجد تعويضه في العدوانية, والعدوانية هنا يمارسها الفرد بتعزيز الجماعة, وهي لازمة لتعزيز الروابط داخل الجماعة أيضا, فكل عدوان تمارسه الجماعة "سواء كانت عصابة, أو فئة أو تنظيما, أو طائفة, أو مجتمعا" يمتن الأواصر بين أفرادها. وهكذا تدور العجلة الشريرة.

من كل ما سلف نجد أن إيراد سبب واحد منفرد أو نظرية واحدة لتفسير العنف الجماعي أو العدوانية الجماعية هو محض افتراض إن لم يكن افتراء. فالعدوانية الجماعية ظاهرة معقدة التركيب إلى أبعد حد, وتكاد تكون تعقيدا داخل تعقيد. فالإنسان الفرد ودوافعه العدوانية حالة معقدة, والجماعة التي تمارس العدوانية وداخلها أفراد هذا شأنهم هي تعقيد أكبر, محاط بتعقيدات عديدة أصغر في داخله.

حرب البشر

نحن إذن بصدد ظاهرة سلبية, قد لا يكون هناك اتفاق محدد على أسبابها وتبرير دوافعها, لكن لا شك أن هناك اتفاقا بديهيا على رفض الآثار التدميرية لها, أي لعدوانية الجماعة, أي جماعة, في السلطة, أو المجتمع, داخل الحدود, أو خارجها.

بالضبط نجد أنفسنا كما لو كنا في مواجهة مرض, وثمة اقتراحات للعلاج, من بينها دواء مجرّب, هو باختصار الأشكال التمثيلية (الديمقراطية) على المستوى الوطني وأشكال مؤسسات الضبط الدولي (كالأمم المتحدة) على مستوى العالم, ولكن الأمر ليس بهذه السهولة في التطبيق. وأن يجري الكاتب محاولة لتقنين هذا الدواء مع فتح باب البحث في فهم آليات عمله وهذا بدوره قد يكون كفيلا بالكشف عن أسباب محددة للداء. وهذا يوشك أن يكون منهج الكتاب المهم الذي أشرت إليه في السطور الأولى لعالم الاجتماع السياسي "رالف جولدمان" من الحرب إلى سياسة الأحزاب.

إنه كتاب "عملي" وإن استند إلى منهج تجريبي أكاديمي, يستخدم آليات البحث الاسترجاعي ودراسة الحالة, يستنبط الأسباب من قراءة حوادث الصراع والنزاع, ويمنهج العلاج بتقصي التجربة, ولا يرفع يده عن الواقع الملموس. لهذا لا يضيع كثيرا في متاهات التنظير, ومن ثم يستخدم مصطلحات يومية سهلة لصياغة الأفكار المركبة, ويصل بهذه المصطلحات إلى حد نحتها من مصطلحات السوق فهو يتكلم ـ على سبيل المثال ـ عن عملية التحول التي تجري في المجتمعات لإعادة ترتيب النفوذ بين قادة فئاتها أو تجمعاتها المختلفة بأنها "صفقات" يجري عقدها بين النخب المتنافسة باستخدام أنواع "العملات السياسية المتداولة"!

في هذا الكتاب يرى المؤلف أن الصراع بين البشر أو الصراعات التي تقوم بها قيادات الجماعات المختلفة ونخبها هو مظهر مستمر ومحتوم في تاريخ البشرية, غالبا ما يكون مظهرا بنّاء من مظاهر التجربة الإنسانية في حدودها السوية. النزاع بين البشر في المجتمع الواحد أو بين المجتمعات المختلفة ينشأ بسبب حدوث شكوك وعدم ثقة بين النخب القائدة في المجتمع الواحد أو بين هذه النخب في المجتمعات المختلفة, وقد يدفع هذا التخوف وعدم الثقة والشكوك المتراكمة إلى تكتيكات العنف مثل الحروب الأهلية والخارجية بل حتى سباق التسلح والتهديد النووي.

الحروب تقع عندما لا تحاول المؤسسات السياسية, أو لا تستطيع ـ سواء كانت محلية أو دولية ـ الحد من النزاع بصورة كافية, أو حين تفشل في توفير البديل المناسب لحل تلك الصراعات, ويعتبر الكاتب أن التحول الحرج في تطور المؤسسات السياسية يكون في قدرتها على الانتقال بالمجتمع من حالة الصراع العنيف إلى حالة الصراع السياسي السلمي, ومن ثم تطوير كفاءة خاصة من أجل التقليل من اللجوء إلى العنف أو تجنبه كواحد من التكتيكات المتبعة في صياغة القرار الجماعي.

النقاش حول شكل القيادة السياسية ومهماتها ليس نقاشا حديثا بل هو قديم, بدأه أفلاطون عندما لفت النظر إلى حقيقة أن كل جماعة تحتاج إلى طبقة خاصة "عليا" ممن سماهم "بالأوصياء" تمثل وظيفتهم حماية الجماعة من الأعداء الغرباء والحفاظ على السلام بين المواطنين, ويقابل هذه الوظيفة في العصر الحديث ما يمكن أن يسمى تحقيق الأمن القومي واستتباب الأمن, ومع حلول القرن التاسع عشر أخذ المنظرون الغربيون يدعون هؤلاء الحراس (الأوصياء) بالطبقات الحاكمة أو النُخب, وقد وضحت بعد ذلك العلاقة بين النخب الحاكمة أو صاحبة السلطة وبين القوة المادية في النظرية السياسية, ومن ثم صاروا هم الذين يحافظون على السلطة ماداموا متمكنين من استخدام القوة المادية, وإذا ما حصل وفقدت نخبة منهم قدرتها أو رغبتها في استخدام القوة, فإن نخبة أخرى سوف تزيحها من السلطة وتحل محلها.

النخب أمر معروف ومشهود في معظم المجتمعات, فثمة مجتمعات تعتبر كبار السن من النخب وأخرى تعتبر الكهنة من النخب, وظلت النخبة تتبوأ مكانها في المجتمعات المختلفة تبعا لصلات القرابة أو إمكانات الثروة أو المهنة أو اللغة, ومع التطور في المجتمعات الأكثر حداثة, فإن الارتقاء إلى مكانة النخب بين الشعوب صار يتحدد بالمواهب والمميزات التي يمثلها الشخص, مما يعكس الطبيعة المنظمة والمتخصصة للمجتمعات الغربية الصناعية الحديثة. وقد عرفت النخب الجديدة بسبب مؤهلاتها السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية, ويختلف أعضاء هذه النخب بينهم ـ شأن البشر جميعا ـ وتعدد مصادر النزاع نتيجة الاختلاف في الرأي حول رؤية الواقع, أو حول ندرة المصادر الاقتصادية الناضبة, أو حول الأولويات التي يجب أن يتوجه إليها المجتمع, أو من الخوف والقلق من النخب الأخرى, أو الدفاع عن الذات أو حتى الكراهية الشخصية, هذه بعض أسباب النزاعات وليس كلها, فالرصد السياسي الاجتماعي شأن التفسير النفسي السياسي لا يستطيع أن يشمل بالتحديد كل أسباب الصراع بالعنف لتعدد وتنوع منابع هذا الصراع.

لقد وصفت السياسة بأنها عملية نزاع مستمر بين النخب في المجتمع, وتعالج الاستراتيجية السياسية أشكال استغلال هذا النزاع أواستخدامه لأغراض سياسية أو إخماده إن كان يهدد بقاء النسيج الاجتماعي, والسياسة العامة لإدارة النزاع هي سياسة السياسات, هي السياسة المطلقة.

تطرح سياسة النزاع بين النخب سؤالا مركزيا هو لماذا يحدث هذا النزاع ميلا نحو العنف?, والإجابة العامة هي أن هذه النخب المتخاصمة تميل بقوة إلى عدم الثقة في بعضها, ويكون احتواء عدم الثقة هو المقصد السياسي من بناء المؤسسات السياسية, فإن أنشأنا مؤسسة تعزز الثقة بين فئات المجتمع المختلفة ممثلة بنخبها, فإن ذلك يقلل من النتائج السلبية (العنيفة) التي تنشأ من النزاع بين النخب. الوسائل والتكتيكات التي تستخدم في نزاع النخب تنقسم إلى تكتيكات عنف وتكتيكات سلام. وتكتيكات العنف تشمل الأسلحة بأشكالها المختلفة أو التهديد بهذه الأسلحة, أما تكتيكات السلام فهي لا تعتمد السلاح ولا تهدد به بل تعتمد الحوار والإقناع. كل هذه التكتيكات تحاول التأثير في القرار السياسي في المجتمع, واستخدام العنف أو التهديد بالعنف هو السلاح الذي عرفته البشرية لفترة طويلة من الزمن ولا يزال هذا السلاح مستخدما أو مهددا باستخدامه, أما الحوار بالكلمات التي تأخذ شكل القوانين, والأحكام الدستورية والحجج المقننة والدعاية فهي أدوات التحول عن العنف في المجتمع الديمقراطي, ولقد غدا النقاش الحر والإقناع وتوصيل المعلومات من المتطلبات الضرورية للديمقراطية الدستورية الحديثة, كما أن الأرقام التي يعتبرها الكاتب من أكثر وسائل الإقناع الديمقراطي حداثة عهد, يستخدمها السياسيون في بعض المراحل ضمن تكتيكات السلام لإقناع الناخبين بصلاحية برامجهم أو فشل برامج المنافسين السياسيين.

البحث عن جسور الثقة

اختيار أي التكتيكات السياسية التي تستخدم يتأثر بالدرجات المختلفة من حجم الثقة أو عدمها التي تسود بين الجماعة, فحالة عدم الثقة المفرطة تؤدي إلى استخدام العنف المفرط, وتزايد وجود الثقة يؤدي إلى استخدام تكتيكات سياسية مرنة, العنف وما جاوره من التكتيكات معادلة صفرية تهدف لدى كل طرف إما إلى تحقيق كل شيء أو لاشيء, بينما التكتيكات السلمية السياسية مبنية على تحقيق بعض المساومات وأنصاف الحلول. لقد صُوِّر العنف لآلاف من السنين بوصفه الوسيلة الوحيدة الحاسمة للسيادة, خصوصا بين الشعوب, ولكن التاريخ أثبت بعد ذلك بما لا يحتمل الجدل الكثير أن استخدام العنف هو في الحقيقة فشل أو نقص في كفاءة المؤسسات السياسية. المؤسسة السياسية تنمو من خلال تكرار أنماط من الفعاليات, فهي مكان لتكرار الأفعال السياسية التي تتشكل بطريقة تتحكم في سلوك الأعضاء الذين ينتمون إلى تلك المؤسسة, وتصير بعد التراكم قيما تؤمن بها الجماعة, وتنعكس هذه القيم ضمن النظام الاجتماعي والثقافي في لغة الأفعال والمواقف. فالمؤسسة السياسية مجموعة من العادات والمواقف والوظائف, يمكننا التنبؤ بأدائها لوظائفها بكثير من الثقة, تلك هي المؤسسة السياسية الحقة, أما تلك التي لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تقوم به فهي ليست مؤسسة بالمعنى العلمي والعملي, لأنها تفتقد إلى ميزة إمكانية التنبؤ بالسلوك الإنساني الموصل إلى الثقة. ويمكن ضرب الكثير من الأمثلة في نقص كفاءة المؤسسة السياسية في تواريخ الشعوب المختلفة, على رأسها في التاريخ الأمريكي ما كان سببا في حدوث الحرب الأهلية الأمريكية. ففي سنة 1860 وعندما لم يعد الكونجرس الأمريكي قادرا على تمثيل مصالح الشمال أو الجنوب الأمريكي في موضوع العبودية (الرق), وعندما لم تعد الأحزاب السياسية الأمريكية قادرة على انتخاب مرشحها لمنصب الرئيس, وعندما أصبح الجيش الفيدرالي قوة هزيلة, قامت الحرب الأهلية الأمريكية واستبدل سلاح الكلام بسلاح الرصاص والمدفع. ويمكن ملاحظة هذا المثال في تاريخنا العربي المعاصر في لبنان في سبعينيات هذا القرن. استبدال الحوار بالسلاح حدث أيضا على المستوى الدولي وأبرز صوره الحربان العالميتان الأولى والثانية, فقد وقعت الحرب الأولى بعد انهيار نظام حل المنازعات الدولية الذي ظهر إلى الوجود في مؤتمر فيينا بعد عام 1814 وهزيمة نابليون في أوربا. أما الحرب العالمية الثانية فقد حدثت بعد الفشل المؤسسي لعصبة الأمم, وبالمقابل فإن إمكانات الأمم المتحدة اليوم وإن كانت ضعيفة قد استطاعت إلى حد ما أن تحد من التخريب والدمار الذي تسببه النزاعات الدولية.

على المستوى الدولي أو الإقليمي أو في البلد الواحد فإن عجز المؤسسات, وخصوصا عجز المؤسسات السياسية, هو ما يفجر الوضع ويدفع باتجاه العودة إلى استخدام أسلوب الحرب أو الحرب الأهلية, لأن النخب المتنافسة تعجز عن اقتناص الفرص المناسبة للتفاوض حول عملية التحول التي لابد أن تشهدها المجتمعات المختلفة.

المؤسسات المعنية بنزاعات النخب أساسا وبصورة مباشرة هي المؤسسات العسكرية والتمثلية والحزبية, لقد اتسمت المؤسسة العسكرية في العديد من الحالات بأنها الأكثر تنظيما وأنها أكثر قدرة على التدمير وذات طبيعة استبدادية, أما المؤسسات التمثيلية فهي التي تعمل على توزيع وحدات امتياز اتخاذ القرار المجتمعي بين الناخبين المشاركين, والتي تعمل في الوقت نفسه على تقليص حالات عدم الثقة بين النخب المتنافسة, وعندما تكون هذه الجمعيات المنتخبة فعالة تصبح منظمات تتقاسم النخب المتنافسة في إطارها سيادة الشعب (الامتياز الجماعي), أما الأحزاب السياسية فإنها في الغالب منظمات غير حكومية تحشد ممثلي الهيئات التشريعية وتعبىء الناخبين من أجل احتلال المناصب الحكومية.

حالات أربع

لقد حاول مفكرون وكتاب النظر في العلاقة بين المؤسسات المختلفة لتقاسم السلطة ويذكر لنا التاريخ السياسي أن أول من فعل ذلك من المفكرين الغربيين هو توماس هوبز الذي بحث عملية التمثيل بوصفها علاقة سياسية بين القيادة والأتباع في كتاب صدر له سنة 1651, وبعد مائة عام كرس جون ستيوارت مل كتابا كاملا سنة 1861, سماه "بحث في الحكومة النيابية", وجرى التحول في التاريخ الحديث إلى التمثيل الشعبي عسيرا وطويلا ولفترة طويلة من الزمن. واستمرت محاولات النظر وإعادة النظر في العلاقة بين المؤسسات. ولعل كتاب رالف جولدمان الذي بين أيدينا يأتي في هذا السياق لكنه يستند إلى تراكم في خبرات ممارسة هذه العلاقة التي حاول تقصيها بدراسة حالات مختلفة هي حالات المجتمعات الإنجليزية والأمريكية والمكسيكية والأوربية. ومن ثم كان استنتاجه الذي بلوره في مفهوم التحول الحرج. أي تغيير التراتب بين المؤسسات الثلاث الأهم في تطور المجتمعات المدنية وهي: المؤسسة العسكرية, والهيئة التمثيلية, والأحزاب السياسية.

الحالات الأربع التي اختارها الكاتب الباحث لها ما يبررها لديه, وما يمكن تقبله بغير قسر لدى المتابع والمهتم, وإن كانت لا تمثل شمول كل التجارب في هذا الشأن, وعلى سبيل المثال نذكر أكبر الديمقراطيات, في الهند, وكذلك تجربة اليابان. لكن الحالات المختارة في الكتاب على أي حال تكفي لتقريب الاستنتاج الذي وصل إليه الكاتب بدلالات قوية. فإنجلترا هي لا جدال مهد التعددية السياسية وأول دولة يتحقق فيها نظام حزبي حديث قائم على التنافس, كما أنها عرفت بتاريخ الحروب الداخلية الطويل فيها, وأفكار "لوك" الخاصة بالتعاقدات الاجتماعية والسياسية والإجراءات السياسية التي أدت إلى تحولات أساسية في المؤسسات. ومن ثم فهي مثال أولي واضح, أو نموذج تقليدي للتحول الحرج.

أما الولايات المتحدة, وبرغم تحدرها من التجربة الإنجليزية, فإن لها خصوصية مهمة, على الأقل بحكم موقعها في عالم اليوم, إضافة إلى معطيات التجربة ذاتها, لأن نظام الحكم الدستوري فيها والجمهورية والفيدرالية قد نشأ عنهما ما يجعل الولايات المتحدة نموذجا خاصا في عملية التحول الحرج.

وكتنوع ثقافي, غير الحالتين الإنجلو ـ ساكسونيتين "إنجلترا والولايات المتحدة" تأتي المكسيك كحالة مميزة في عملية التحول الحرج ـ التي يدرسها الكاتب ـ من الحروب الداخلية إلى النظام التمثيلي. وأخيرا تمثل المجموعة الأوربية حالة إقليمية تطورت فيها المؤسسات بشكل متوازن تجاوز الحدود الوطنية.

المخاض.. إعادة ترتيب

في هذه الحالات الأربع حدث تحول مشهود من لغة الصدام بالسلاح بين النخب المتنافسة إلى لغة الصفقات السلمية أو التنافس السلمي المؤسسي, فإنجلترا التي خاضت النخب المتصارعة بجيوشها حروبا داخلية لألف سنة, وضعت حدا للنزاع بتسوية عام 1689, وتحول التصارع بالجيوش إلى تنافس بالأحزاب. أما الولايات المتحدة فإن الحرب الداخلية الأكثر تدميرا اشتعلت داخلها عام 1861, وانتهت عام 1865, وكادت تشتعل خلال حملة انتخابات هيزـ تيلدن عام 1876, لكن التنافس المؤسسي والصفقات السياسية أطفأت شرارة آخر احتمال للحروب الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المكسيك ما بين عامي 1820 و1920 قاتلت تحالفات زعماء "الكوديلوس" ضد بعضها البعض بدموية مكلفة, لكن في ثلاثينيات القرن العشرين أصبحت أحزاب الشعب والمؤسسات التمثيلية فعالة بصورة كافية لإعاقة استمرار الحرب الأهلية. ونأتي في النهاية إلى أوربا التي أدمتها واشتعلت فيها الحربان العالميتان الأولى والثانية, فنجد أن البرلمان الأوربي تجربة مهمة في التحول غير المسبوق من التناحر بالحرب إلى التآزر عبر المؤسسة التمثيلية على المستوى الإقليمي. ففي عام 1979 تم انتخاب أعضاء البرلمان الأوربي لأول مرة بصورة مباشرة من قبل المقترعين في البلدان التسعة المشاركة في هذه المؤسسة التمثيلية آنذاك, والتي توسعت المشاركة فيها بعد ذلك لتصبح إحدى عشرة دولة أوربية, تحتضن تسع لغات مختلفة.

من الأسلحة, إلى الكلمات

في الحالات الأربع السابقة حدث تحول مشهود من الاعتماد على قرقعة السلاح في حسم تنافس النُخب المجتمعية (سواء في البلد الواحد أو عبر عدة بلدان), إلى اعتماد الرأي والتمثيل البرلماني والحزبي كبديل. حدث انتقال من سفك الدماء إلى حوار الكلمات. واستبدلت الحروب التي ثبت أنها لا تحرز انتصارا حاسما دائما, بما يعني أن نتيجتها الحقيقية صفر, بصفقات سياسية بين المتنافسين تحسمها لغة الأرقام, وتحرسها مؤسسات يحترمها الجميع ويساهمون في صنعها.

هذا التحول الحرج, الذي تم عبوره على جسر من النار والدم والألم والدموع, بما يمكن أن يثير الدهشة عند تلخيصه, فهذا التحول الحرج جوهره إعادة ترتيب أولويات النفوذ بين المؤسسات الثلاث (العسكرية والتمثيلية والحزبية), في المجتمع الواحد أو عبر الحدود (كما في حالة البرلمان الأوربي).

ولإيضاح هذا التحول الضخم, خطير النتائج, أكرر ماذهب إلى تلخيصه الكتاب نفسه لتقريب مفهوم التحول الحرج بشكل توضيحي يبين أن:

تراتبية نفوذ المؤسسات قبل نشوء نموذج التحول الحرج كانت كما يلي:

المرتبة الأعلى: المؤسسات العسكرية (المتعددة)

المرتبة الوسطى: الهيئة التمثيلية

المرتبة الأدنى: الأحزاب السياسية "إن وجدت"

وتراتبية نفوذ المؤسسات بعد نشوء النموذج الحرج صارت على الصورة التالية:

المرتبة الأعلى: الأحزاب السياسية.

المرتبة الوسطى: الهيئة التمثيلية.

المرتبة الأدنى: المؤسسة العسكرية (المركزية)

هذا الترتيب الجديد لنفوذ المؤسسات في المجتمعات المدنية الديمقراطية الحديثة لم يعن أبدا الحط من شأن المؤسسة العسكرية, بل جاء إدراكا لطبيعتها وصونا لدورها الحقيقي, ونأيا بها عن منافسات الخصوم في النخب السياسية, وهو وضع أفضل للجيوش والمجتمعات على السواء. بل إن العلاقة بين المؤسسات الثلاث بعد هذا التحول الحرج صارت تسمح بالتنافس بين الخصوم السياسيين مع استبعاد إمكان حدوث العنف, وعززت عوامل الثقة السياسية وسهلت دمج الجماعة السياسية واستيعابها بمعنى إشاعة تكتيكات السلام في السياسة, وهذا لاشك أجدى للبناء والتنمية وتقوية المؤسسة العسكرية أيضا كمؤسسة متخصصة.

قضية تطور

التحول الحرج, الذي استبدل الحرب بالسلام داخل البلد الواحد (إنجلترا, الولايات المتحدة, المكسيك, كأمثلة), وعبر بلدان عديدة (أوربا), لم يكن مجرد اختيار عقلاني (وقد كان كذلك), للبحث عن معادلة أخرى غير المعادلة الصفرية الملوثة بالأحقاد والدم. بل كان أيضا نتيجة تطور في المجتمع المدني وتطور في تفكير النخبة.

فمن حيث ترتيب النشوء تبدو المؤسسة العسكرية هي الأقدم, تليها المؤسسات التمثيلية (النيابية) التي صارت ظاهرة مألوفة في البنى السياسية في العالم الحديث (وإن كان لها إرهاصات في الأشكال التمثيلية الأقدم". أما الأحزاب السياسية فهي الأكثر حداثة بين المنظمات الاجتماعية.

هذا التحديث جاء استجابة لمتغيرات حقيقية في المجتمعات الحديثة كالتطورات التكنولوجية التي عقدت تشابكات وتنافرات المصالح في المجتمع الواحد وعبر المجتمعات, وبالتالي تغير مصالح الجماعات, ومن ثم تغير مواقف المؤسسات. فالتغيرات الكمية في نظم المؤسسات وسلوكها جاءت نتيجة لعقد الصفقات السياسية بين النخب المتنافسة. وقد تضمنت هذه الصفقات تبادلا لأنماط متعددة من "العملة السياسية" ومن النتائج الفرعية المصاحبة للصفقات بين النخب. وكان أن قلصت تلك الصفقات من العنف أو الشعور بأهمية العنف لدى البعض, ووفرت "ربحا" جيدا لكلا الجانبين, وهو تطور مهم وفر ثقة بين المتنافسين, وهذه الثقة في استقرار ساحة التبادل السياسي السلمي هي من أهم ثمار ما بعد التحول الحرج.

التطور الذي أفرز إمكان التحول الحرج في النماذج الديمقراطية, الغربية خصوصا, قد يكون هو العنصر المفتقد في السعي الديمقراطي في منطقتنا العربية, وقد يكون اختلاف التجربة التاريخية والبنية الاقتصادية هو سبب فشل محاولات "الدمقرطة" التي تمت في بعض البلدان العربية فترة ما بين الحربين العالميتين, الأولى والثانية, والتجارب التي تلت ذلك. فهل يحول ذلك دون السعي لعبور جسر التحول الحرج?

الردع السلمي

لا شك أن محاولاتنا الديمقراطية المبكرة كانت نقلا ثقافيا وزرعا في أرض لم تمهد لنمو هذا النبت الجديد في ساحة تنسيق وتهذيب عمليات التنافس بين النخب العربية. لكن الآن, يبدو أن بحر الدماء والآلام الذي عبرته الديمقراطيات الغربية على جسر التحول الحرج نحو استقرار تراتب مؤسسي سياسي جديد لم يعد مما ينقصنا حتى نصطنعه ونخوضه ليتوافر عامل التطور المطلوب, فقد مررنا بتجارب قصيرة, ولكنها دموية ومدمرة سواء في القطر الواحد أو بين الأقطار العربية.

فحادثات وشواهد تفاعلات التنافس السياسي بين النخب العربية قد خاضت بالفعل لججا من الدم والألم لايزال بعضها مستمرا داخل بعض المجتمعات العربية, وكامنا فيما بين مجتمعات أخرى.

صحيح أن وجود إسرائيل, باستعداداتها العدوانية, وعامل افتقاد الثقة بين العرب وبينها, يمثل تعويقا ملموسا لعمليات التحول الحرج داخل المجتمعات العربية. لكن قد يكون هذا التحول في حد ذاته أدعى لردع النوايا الإسرائيلية العدوانية في مهدها. فمن يعرف إسرائيل معرفة عيانية, ولو من خلال بثها الفضائي ـ على سبيل المثال ـ يدرك فقرها الثقافي ومحدوديتها الحضارية, ويدرك بوضوح أن عامل التفوق الوحيد هو عبورها لجسر التحول الحرج بشكل خاص. فالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية برغم هيمنتها تأخذ في التراتب المؤسسي مكانا بعد الأحزاب والبرلمان.

إن مبررات عبور الجسر عربيا لم تعد ترفا ثقافيا, فقد تكون ضرورة مستقبلية. وليس النموذج لعبور جسر التحول الحرج وقفا على الديمقراطيات الغربية, كما أسلفت, فهناك ديمقراطيات أخرى مهمة, في الهند, وجنوب إفريقيا, عبرت الجسر نحو سلامها الداخلي ـ على الأقل ـ وهي أقرب للمقارنة والاعتبار, وإن لم يذكرها ذلك الكتاب المهم الذي كان محور موضوعنا.

 

 

محمد الرميحي

 




غلاف الكتاب