رمضان وتأسيس التنوير الإسلامي

رمضان وتأسيس التنوير الإسلامي

في القرآن الكريم, يأتي تعريف شهر رمضان بأنهسورة البقرة آية 185الذي أنزل فيه القرآن.. وليس بأنه "شهر الصيام".. بل إن السبب في اختيار هذا الشهر ـ وهو ليس من الأشهر الحرم ـ ليكون ميقاتا لهذا الركن من أركان الإسلام ـ فريضة الصيام ـ هو نزول القرآن الكريم فيه.. فكأنه الاحتفال الديني ـ الجماعي ـ باللحظة التي نزل فيها الروح الأمين ـ جبريل عليه السلام ـ على قلب نبي الإسلام ورسوله, صلى الله عليه وسلم, ببواكير الوحي والتنزيلسورة العلق الآيات 1-5اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان مالم يعلم.

وإذا كان الوحي إلى رسول الله, صلى الله عليه وسلم, قد تمثل في "النور.. والصوت" .. "لقد رأيت نورا, وسمعت صوتا.." فلقد كان هذا "النور" هو حامل القرآن الكريم, رسالة السماء إلى الأرض, وجماع الدين والدنيا, وديوان العقيدة والشريعة والقيم والأخلاق والأمة والدولة والحضارة, الذي أتم الله به دينه الواحد, واكتملت فيه مكارم الأخلاق..سورة البقرة آية 185شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ماهداكم ولعلكم تشكرون. ولقد كان انبثاق "النور ـ الملائكي" بهذا "النور ـ القرآني" في الليلة المباركة من هذا الشهر العظيم.. ليلة القدر والشرف والعظمة.. وفي لحظة مطلع الفجر منها على وجه التحديدسورة الدخان الآيات 1-6حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة, إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم. أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين. رحمة من ربك, إنه هو السميع العليم بل لقد أفرد القرآن الكريم لميقات هذا الميلاد.. ميلاد النور القرآني, في هذه الليلة من شهر رمضان, سورة تحدثت عن قدرها وشرفها وعظمتها ـ بل وحملت اسم هذا القدر وهذه العظمة ـسورة القدر الآيات 1-5إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ماليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. سلام هي حتى مطلع الفجر.

نور من الله

وإذا كان الله, سبحانه وتعالى, بنص القرآن الكريم, هوسورة النور آية 35نور السموات والأرض. وإذا كان هذا التنزيل ـ الذي بدأ نزوله في رمضان ـ هو أيضا نور من اللهسورة الأعراف آية 157الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم, فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحونسورة التغابن آية 8فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا, والله بما تعملون خبيرسورة النساء آية 174يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا

إذا كان الرسول, الذي أوحي إليه هذا النور, قد غدا ـ بتلقي هذا النور ـ نورا يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيراسورة المائدة آية 15يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير, قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين..

إذا كان "النور" الملائكي, قد حمل "النور" القرآني, إلى الرسول, الذي غدا ـ لذلك ـ "نورا وسراجا منيرا".. فإن هذه الثمرة التي تمثلت في الوحي والنبوة والرسالة قد تجسدت في هذا الدين ـ الإسلام ـ الذي أصبح ـ كذلك.. ولذلك ـ "نورا وتنويرا".. نورا يهدي به الله من اتبع رضوانه, وتنويرا إلهيا لكل من يستنير بنوره, فيخرج من الظلمات إلى النورسورة البقرة الآيات 256-260لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي, فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لاانفصام لها, والله سميع عليم. الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات, أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر, والله لايهدي القوم الظالمين. أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت, قال لبثت يوما أو بعض يوم, قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما, فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير. وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا, واعلم أن الله عزيز حكيمسورة الزمر آية 22أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله, أولئك في ضلال مبين

فالله سبحانه وتعالى, الذي هو نور السموات والأرض, قد أوحى بالنور القرآني, فحمله النور الملائكي, إلى النور النبوي والرسالي, فكانت الثمرة هي النور الإسلامي, الذي يخرج المستنيرين به من الظلمات إلى النور.

والناظرون المتدبرون لهذه الآيات القرانية ـ التي أوردناها ـ شاهدا على هذا "التنوير الإسلامي" والتي تحدثت عن "نورالإسلام" سيجدون فيها مبادىء وقواعد وسمات وقسمات لهذا التنوير الإسلامي المبثوثة ملامحه في آيات القرآن الكريم.. سيجدون في هذه الآيات:

1 - تحرير الإرادة والضمير من العبودية لكل الطواغيت, بإفراد الله, سبحانه وتعالى, بالعبودية ـ وفي ذلك قمة التحرير للإنسان.

2 - واعتبار القرآن ـ أي "النقل" ـ والدين والشرع نورا للبصر والبصيرة ـ أي "للعقل " الإنساني ـ الأمر الذي ينفي التناقض بينهما.. حتى لا يصبح غناء ولا استغناء لأحدهما عن الآخر.

3 -والاستدلال والبرهنة والاعتبار على الحقائق الإيمانية والعقائد الدينية بالآيات الكونية المبثوثة في الآفاق ـ الشروق والغروب ـ وبآيات الأنفس ـ الخلق والإحياء والإماتة والبعث ـ وليس بآيات النقل والغيبيات.

4 - والحوار ـ حتى مع الله ـ وذلك طلبا لليقين الديني الذي يطمئن به وإليه القلب, وذلك بواسطة التجربة الحسية ـ كما في حوار الخليل إبراهيم الخليل, عليه السلام, مع الله.

نعم, من هذه الآيات ـ وهي مجرد شاهد ـ يمكن للمتدبر أن يستخلص هذه القواعد للتنوير الإسلامي.. المحرر للضمير والإرادة.. والمؤاخى بين العقل والنقل.. والجاعل من الآيات الكونية والتجربة الحسية الطريق إلى اليقين الديني.

ولهذه الحقيقة من حقائق امتياز وتميز "التنوير الإسلامي" بالتوازن الجامع بين أنوار الشرع وأنوار العقل ـ كانت الوسطية الإسلامية, التي رفضت ـ منذ قرون ـ غلو الإفراط, الذي وقف أهله عند ظواهر النصوص والمأثورات, متنكرين للعقل والعقلانية ـ والذين مثلوا في ثقافتنا تيار الجمود والتقليد ـ كما رفضت هذه الوسطية, كذلك, غلو التفريط, الذي توهم أصحابه تناقض المعقول مع المنقول, فانحازوا للعقل وحده دون النصوص والمأثورات.

ووجدنا حجة الإسلام الغزالي "450 ـ 505 هـ 1058 ـ 1111م" يعبر عن هذه الوسطية الإسلامية الجامعة, وهذا "التنوير الإسلامي" ـ الرافض لغلوى الإفراط والتفريط ـ والذي يجمع بين نوري الشرع والعقل, اللذين هما نور على نور: وجدنا الغزالي يعبر عن هذا "التنوير الإسلامي", فيقول: "إن أهل السنة قد تحققوا أن لامعاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول, وعرفوا أن من ظن وجود الجمود على التقليد, واتباع الظواهر, ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر. وأن من تغلغل في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع, ما أتوا به إلا من خبث الضمائر. فميل أولئك إلى التفريط, وميل هؤلاء إلى الإفراط, وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط, فمثال العقل البصر السليم من الآفات والآذاء, ومثال القرآن: الشمس المنتشرة الضياء, فأخلق بأن يكون طالب الاهتداء المستغنى إذا استغنى بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء. فالمعرض عن العقل, مكتفيا بنور القرآن, مثاله: المتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان, فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور".

فبهذا "التنوير ـ الإسلامي" ـ المؤمن بالعقل والنقل ـ والجامع بين نورهما جميعا ـ صنعت الأمة الإسلامية حضارتها, المتميزة بين الحضارات, التي ـ لذلك التميز ـ تدينت فيها الفلسفة, كما تفلسف الدين!.. وغدا "العقل" ـ فيها: الأفق الذي يشرق فيه "الإيمان".

خيارات النهضة

لكن أمتنا قد أتى عليها حين من الدهر, غابت عن حياتها الفكرية هذه الموازنة بين العقل والنقل, بين البرهان والشرع, بين آيات الله في كتاب الكون المنظور وآياته في كتاب الوحي المسطور, فركنت الأمة إلى ظواهر النصوص, وجمدت عند حرفية المأثورات, واسترابت في أنوار العقل العقلانية.

فلما كان وتحسست أمتنا ـ في عصرنا الحديث ـ طريقها إلى اليقظة والنهضة والإحياء والتجديد ـ وكانت قد حدثت صلات بينها وبين الحضارة الغربية الناهضة ـ وجدت نفسها أمام خيارين في النهضة, ونموذجين للتنوير:

أ ـ التنوير الغربي ـ الوضعى, وأحيانا المادي ـ الذي أقام قطيعة معرفية مع الموروث الديني, وذلك عندما أحل فلاسفته العقل والعلم والفلسفة محل الله والكنيسة واللاهوت, وأعلنوا أنه لاسلطان على العقل إلا للعقل وحده, وجاهروا بأن استخدام المصطلحات الدينية لايعني التخلي عن هذه القطيعة المعرفية مع الدين. "فبعد أن كان المسيحي حريصا على طاعة الله وكتابه, لم يعد الإنسان يخضع إلا لعقله, فأيديولوجية التنوير قد أقامت القطيعة الابستمولوجية "المعرفية" الكبرى التي تفصل بين عصرين من الروح البشرية: عصر الخلاصة اللاهوتية للقديس توما الأكويني, وعصر الموسوعة لفلاسفة التنوير, فمنذ الآن فصاعدا راح الأمل بمملكة الله ينزاح لكي يخلي المكان لتقدم عصر العقل وهيمنته. وهكذا راح نظام النعمة الإلهية ينمحي ويتلاشى أمام نظام الطبيعة, لقد أصبح الإنسان وحده مقياسا للإنسان, وأصبح حكم الله خاضعا لحكم الوعي البشري, الذي يطلق الحكم الأخير باسم الحرية, ويمكن للمعجم اللاهوتي القديم أن يستمر, ولكنه لم يعد يوهم أحدا, فنفس الكلمات لم يعد لها نفس المعاني" (أميل بولا "نقلا عن هاشم صالح")

وجدت أمتنا ـ وهي تتحسس طريقها لليقظة والنهوض ـ نفسها أمام هذا الخيال للتنوير الغربي ـ الوضعي, العلماني ـ الذي يقيم قطيعة معرفية مع الدين, ويفرغ مصطلحات المعجم الديني ـ إذا هو استخدمها ـ مما لها من مضامين!

ب ـ وبين "التنوير الإسلامي" ـ الجامع بين الشرع والعقل, بين الحكمة والشريعة, بين آيات الله المنزلة وآياته المبثوثة في الأنفس والآفاق.

لقد اختارت مدرسة الإحياء والتجديد التي تبلورت من حول موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام جمال الدين الأفغاني "1254 ـ 1314 هـ 1838 ـ 1897م" اختارت لأمتنا هذا الطريق, طريق الاستنارة والتنوير بالإسلام, وليس بالقطيعة المعرفية مع الإسلام. فهي قد رفضت غلو الجمود والتقليد, حتى ولو كان أصحابه قد امتازوا بتنقية العقيدة من البدع والإضافات والخرافات, لأنهم بمعاداة العقلانية الإسلامية لم يتجاوزوا مواقع التقليد, الذي جنى على حضارتنا العربية الإسلامية "فهذا الدين يطالب المتدينين أن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم, وكلما خاطب خاطب العقل, وكلما حاكم حاكم إلى العقل, تنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة, وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل وانطفاء نور البصيرة, فالعقل مشرق الإيمان, ومن تحول عنه فقد دابر الإيمان".

وفي نفس الوقت, رفضت هذه المدرسة الإحيائية التجديدية عقلانية التنوير الغربي, تلك التي تأسست على النزعة الوضعية والمادية, فوجهت شديد النقد لفلاسفة التنوير الغربي ـ من مثل فولتير "1964 ـ 1778م" ورسو "1712 ـ 1778م" ـ وقالت عن هذا التنوير: إنه قد بعث مذهب اللذة, والدهرية وبعبارة الأفغاني: فلقد ظهر وولتير وروسو, يزعمان حماية العدل ومغالبة الظلم, والقيام بإنارة الأفكار وهداية العقول, فنبشا قبر "أبيقور" الكلبي "341 ـ 270 ق.م" وأحييا مايلي من عظام الدهريين, ونبذا كل تكليف ديني, وغرسا بذور الإباحية والاشتراك, وزعما أن الآداب الإلهية جعليات خرافية, كما زعما أن الأديان مخترعات أحدثها نقص العقل الإنساني, وجهر كلاهما بإنكار الألوهية, ورفع كل عقيرته بالتشنيع على الأنبياء, فأخذت هذه الأباطيل من نفوس الفرنساويين, فنبذوا الديانة العيسوية, وفتحوا على أنفسهم أبواب الشريعة المقدسة ـ في زعمهم ـ شريعة الطبيعة, ولقد بذل نابليون الأول جهده في إعادة الديانة المسيحية إلى ذلك الشعب, استدراكا لشأنه, لكنه لم يستطع محو آثار تلك الأضاليل".

ذلك هو رأي مدرسة التجديد الإسلامي في فلاسفة الأنوار الغربيين وفي تنويرهم المادي العلماني. ثم هي قد وجهت شديد النقد للمقلدين ـ من مثقفينا ـ لهذا التنوير الغربي, فالمقلدون لتمدن الأمم الأخرى ـ كما يقول الأفغاني: "ليسوا أرباب تلك العلوم التي ينقلونها, وإنما هم حملة, نقلة! لايراعون فيها النسبة بينها وبين مشارب الأمة وطباعها, وهم ربما لايقصدون إلا خيراً, إن كانوا من المخلصين! لكنهم يوسعون بذلك الخروق حتى تعود أبوابا, لتداخل الأجانب فيهم, فيذهبون بأمتهم إلى الفناء والاضمحلال, وبئس المصير"!

بل إن الاستعارة والتقليد للنموذج الأجنبي ـ إذا كان الأجنبي غازيا مستعمرا ـ قد تتحول إلى ثغرات اختراق للأمن الوطني والقومي والحضاري "فمتى طرق الأجانب أرضا لأية أمة, ترى هؤلاء المتعلمين المقلدين فيها أول من يقبلون عليهم ويعرضون أنفسهم لخدمتهم, كأنما هم منهم, ويعدون الغلبة الأجنبية في بلادهم أعظم بركة عليهم, ولقد علمتنا التجارب أن المقلدين من كل أمة, المنتحلين أطوار غيرها, يكونون فيها منافذ لتطرق الأعداء إليها, وطلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات, يمهدون لهم السبيل, ويفتحون الأبواب, ثم يثبتون أقدامهم".

وبعد النقد والنقض والرفض لفلسفة الأنوار الغربية, والإدانة لتقليدها واستعارتها سبيلا لنهضتنا قدمت مدرسة الإحياء والتجديد المذهب الإسلامي في النهضة, المستنير بالتنوير الإسلامي, بديلا عن غلوى الإفراط والتفريط ـ جمود المتنكرين للعقل والمنكرين للعقلانية, وأنصار التأليه للعقل, الذين استبدلوه بالدين.

الإسلام وحافز النهوض

فالإسلام هو الحافز على النهوض وليس عقبة في سبيله, ذلك "أن الدين قد أكسب عقول البشر ثلاث عقائد, وأودع نفوسهم ثلاث خصال, كل منها ركن لوجود الأمم وعماد لبناء هيئتها الاجتماعية وأساس محكم لمدنيتها, وفي كل منها سائق يحث الشعوب والقبائل على التقدم لغايات الكمال والرقي إلى ذرى السعادة:

العقيدة الأولى: التصديق بأن الإنسان ملك أرضي, وهو أشرف المخلوقات.

والثانية: يقين كل ذي دين بأن أمته أشرف الأمم.

والثالثة: جزمه بأن الإنسان إنما ورد هذه الحياة الدنيا لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي".

فعقائد الدين هي الحافز على التقدم والنهوض والتدافع والتسابق والارتقاء.

وهذا التقدم, الذي يحث عليه الدين ـ بسبب من توازنه وموازنته بين غرائز وملكات ومكونات الإنسان ـ هو وحده الكافل تحقيق السعادة لهذا الإنسان "فلم تبق ريبة أن الدين هو السبب المفرد لسعادة الإنسان السعادة التامة, يذهب بمعتقديه في جواد الكمال الصوري والمعنوي, ويصعد بهم إلى ذروة الفضل الظاهري والباطني, ويرفع أعلام المدنية لطلابها, بل يفيض على التمدن من ديم الكمال العقلي والنفسي مايظفرهم بسعادة الدارين".

وإذا كانت الأمة العربية قد نهضت وعزت وسادت ـ قديما ـ بالتنوير الإسلامي, فإنه وحده, دون سواه, السبيل إلى إصلاح الخلل الحضاري الذي طرأ على مسيرتها. "أرسل فكرك إلى نشأة الأمة التي خملت بعد نباهة, واطلب أسباب نهوضها الأولى, إنه دين قويم الأصول, محكم القواعد, شامل لأنواع الحكم, باعث على الألفة, داع إلى المحبة, مزك للنفوس, مطهر للقلوب من أدران الخسائس, منور للعقول بإشراق الحق من مطالع قضاياه, كافل لكل مايحتاج إليه الإنسان من مباني الاجتماعات البشرية, وحافظ وجودها, ويتأدى بمعتقديه إلى جميع فروع المدنية, فإن كانت هذه شرعة تلك الأمة, ولها وردت وعنها صدرت, فما تراه من عارض خللها, وهبوط عن مكانتها, إنما يكون من طرح تلك الأصول ونبذها ظهريا, فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها, والأخذ بأحكامه على ماكان في بدايته".

وحتى بمنطق "المنفعة, والمصلحة, والجدوى, وفعالية النهضة, وسرعة الإقلاع الحضاري", فإن طريق التنوير الإسلامي أقرب وأفعل ـ لأنه الموروث, والمألوف, والحاضر, من ذلك "التنوير الغربي" الغريب والذي يستريب منه الجمهور.

وإذا كانت أمتنا قد جربت ـ عبر القرنين الماضيين ـ كل تجليات التنوير الغربي ـ من الليبرالية الرأسمالية, إلى الشمولية الشيوعية, إلى القومية الشيفونية, إلى الأخلاط التي اصطنعت المزج بين هذه التجليات ـ فإننا مدعوون إلى تأمل هذا الذي بشرت به مدرسة الإحياء الإسلامي ـ قبل هذه التجارب الفاشلة ـ من "أن جراثيم الدين متأصلة في النفوس, والقلوب مطمئنة إليه, وفي زواياها نور خفي من محبته, فلا يحتاج القائم بإحياء الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفسها في جميع الأرواح لأقرب وقت, فإذا قاموا, وجعلو أصول دينهم الحقة نصب أعينهم, فلا يعجزهم أن يبلغوا في سيرهم منتهى الكمال الإنساني".

بل لقد بلغ الاعتقاد ـ عند مدرسة الإحياء والتجديد ـ بأن التنوير الإسلامي هو السبيل المفرد والطريق الأوحد لنهوض هذه الأمة, بلغ هذا الاعتقاد حد اليقين, فقال الأفغاني "ومن طلب إصلاح أمة شأنها ماذكرنا بوسيلة سوى هذه, فقد ركب بها شططا, وجعل النهاية بداية, وانعكست التربية, وانعكس فيها نظام الوجود, فينعكس عليه القصد, ولايزيد الأمة إلا نحسا, ولايكسبها إلا تعسا"!

فهل كان الرجل يقرأ الحال الذي وصلنا إليه, بعد التجارب الفاشلة التي انزلقنا إليها?

إنه يواصل حديثه ـ متعجبا من هؤلاء الذين سلكوا كل الطرق, سوى طريق التنوير الإسلامي, والنهوض بالإسلام ـ فيقول: "ومن يعجب من قولي: إن الأصول الدينية الحقة تنشىء للأمم قوة الاتحاد, وائتلاف الشمل, وتفضيل الشرف على لذة الحياة, وتبعثها على اقتناء الفضائل, وتوسيع دائرة المعارف, وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية ـ فإن عجبي من عجبه أشد! ودونك تاريخ الأمة العربية, وما كانت عليه قبل الإسلام من الهمجية, حتى جاءها الدين فوحدها, وقواها, ونور عقلها, وقوم أخلاقها وسدد أحكامها, فسادت على العالم"!

فهو طريق التنويرالإسلامي, السبيل الطبيعي ـ والوحيد ـ لنهوض هذه الأمة, ولاطريق سواه.

إن اختلاف المناهج, ومن ثم الحضارات, سنة من سنن الله التي لاتبديل لها ولاتحويل, ولقد اختار الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة هذا المنهاج في النهضة والإحياء والتجديد, وذلك منذ اللحظة التاريخية والقدسية التي انفرجت فيها السماء عن "النور الملائكي" الحامل لوحي "النور القرآني" إلى "النورالنبوي", والذي اكتمل في "نورالإسلام", فمنذ هذه اللحظة القدسية, في مطلع فجر الليلة المباركة ـ ليلة القدر ـ من رمضان سنة 13 ق. هـ سنة 610م كان ميلاد "التنوير الإسلامي" الذي يستنير به كل المستنيرين بنور الإسلام.

 

محمد عمارة