هل هلالك شهر مبارك.. رمضان في الحرم المكي

ترفع أعناقها في وجهي حروف لغتي, تتمرد على الشفاه ولا تدخل في طاعة السطور, لا بالكلام ولا بالكتابة ولا بالإشارة يمكن أن أصفها, يعجز العاشق عند وصف المحبوب, طائعاً مختاراً يدخل في طاعة الصمت. يصف العاشق الحبيبة بعينين صامتتين, بشفتين متوسلتين, ورجفة حب, فأبقى صامتة.. متوسلة بشفتين.

لأن حروف لغتي تذهب عند وصف الحبيبة.. تهرب! أتقنتها أكثر من ثلاثين عاماً, وعند وصف الحبيبة تمردت على السطور, فكيف أصف مدينة بشفتين صامتتين?

أطلق صوتي ياحمام الحمى, نقَّره سكراً فاته أن يكون حلوا!, وملحاً كان بيننا عشرة وخبزاً, أعد لي صوتي يا حمام الحمى, أطلقه في فضاءات مكة.. بين جبلين, في ساحة الحرم المكي, فوق جبل النور.. في طريق "حراء", في حي "العتيبية", وفي شارع "الستين".

يسير الحمام هادئاً.. هانئاً في سطور!, حمامة تنقر جناحي فراشة كما نقرت صوتي, تتقافز الفراشة فتطاردها الحمامة, تكر عليها ثم تطير على ارتفاعات منخفضة تحلق فوق الرءوس آمنة, وأنا أبحث في حروف اللغة عن وصف مناسب لحالة حب بيني وبين المدينة.

يعلمني حمام الحمى أن أعد الفراشات, يعلمني أن أقبل أطرافها المذهبة والمفضضة, لكنه لم يعلمني كيف أصف الحب بين المرء ومدينة.

حسناً.. بعينين صامتتين, وشفتين متوسلتين أصفها.أغلقت المحال أبوابها, لملم صاحب الجوهر أصدافه, وجمع كل صاحب ذهب ماصاغه, الآن هجعت الأساور النفيسة في علب القطيفة, وذهب كل عطر إلى قارورته مستكيناً, الياسمين في زجاجة كالسيف!, و"الفلوريا" في قنينة صغيرة, و"الليالي" في قارورة محكمة, و"الفواكه" على سطح "فواحة "مبتردة وبقيت وحدي. حانت لحظة المغرب من رمضان ويممت وجهي ناحية المسجد الحرام.

أحبك.. يبدأ بها العاشق سلسلة العبارات التي ينظمها في سره, فإذا واجه الحبيبة انفرطت العبارة, للعبارات رحيقها الخاص, لكل عبارة زجاجة عطر مختومة بالشهد, لكنها لاتعطي نفسها منيعة متمنعة فبقيت وحدي, لا أتقن المرور من ضيق العبارة, وانطوت على نفسها في ألف زجاجة من عطر.

ثلاثون اسما للحبيبة, فبأي الأسماء أناديها يامكة الرب, يا بلد الله, يا بيته العتيق, سأناديك "يا بلد الله".

امتكت الناس.. جذبتهم من جميع الأطراف, يزحمون بعضهم بعضا, تبك الأقدام أقدام في زحام الشوق, وأنت يا بلد الله "معاد", نائمة بين الجبال ياجميلة, نام الخليون وخلا كل حبيب بحبيبه, وأنت نائمة بين الجبال, ياعروس المدن, يا أم القرى.

"إنك لأحب أرض الله إلى الله", وأحب البلاد إلى رسول الله, وإليك يشد الرحال, يأتونك من كل فج عميق.

وأنت ياجميلة نائمة بين الجبال, وفي دعة أنفاسك المعطرة تجعل للأفق رائحة القمح والتمر والقهوة والحبهان حتى في شهر "السنبلة" القائظ.

وفي حبك المقيم كالمسافر كلاهما يخشى أن تفوته منك ساعة, أن يغلبه النعاس ولم يرسم لك صورة في القلب جديدة كي يتم في ذاكرته زمنا سعيداً. كل التفاصيل الصغيرة لها قيمة, الطريق المسقوفة إلى الحرم المكي الشريف, السير تحت "البواكي", دكاكين القرائين, والعطور, والعاديات المعلقة في واجهة المتاجر تبرق تحت الضوء, فصوص العقيق الحمراء المشغولة كالقلوب, العقود البراقة, المكاحل الهندية, والسيوف الصغيرة المطلية, أثواب الحرير, الفواحات الفخارية بثقوبها الجانبية. والشموع المضوأة بداخلها كالمشكاوات, والعطر السابح من فوق أغطيتها تذوب حتى يتصاعد عطر الفواكه والمسك.

قلبي وأم القرى

في حبك المقيم كالمسافر كلاهما يسعى مع السارين في ليل أم القرى إلى بيت الله الحرام, وإذ يتراءى من بعيد يخفق القلب, تتسع الرؤية, يفتح ألف باب, ويبدو الكون أرحب.. أرحب, نسعى لنكون جزءاً من هذا النور الساطع الذي يغمر كل شيء, "رب اجعل لي نورا.. عظم لي نورا" فأصبح قطرة من ضوء في هذا اللجين الذي يتلألأ كأنه كوكب دري, بحيرات من البللور الصافي تحت أقدامنا, ناعمة تكاد من نداها أن تترقرق نهراً, مشعشعة بالنور. نسير على بساط من رخام ناصع البياض, ترسم الأضواء الفيروزية واللازوردية والوردية ظلالها من فوقه, تنعكس في العيون بحاراً من لبن صاف, ومرايا لايرى المرء فيها وجهه فقط بل يرى خطوه جميعا, ماضيه ولحظته, مامر به وما يعيش فيه. في هذه الساحة اللألاءة يحسد المرء الحمام الذي يعيش بجوار الحرم, يحسد البيوت التي تطل عليه, الشرفات, المشربيات الخشبية القديمة, يتمنى المرء أن يبقى.. أن يعيش في جوار البيت العتيق, أن لاتنقضي أسبابه وأن يقضي العمر بجوار البيت الذي إليه تأوي الأفئدة ويغمر النفوس بالنور.

أن تصبح قطرة من هذا الضياء.. من هذا اللجين سرباً من الحمام الذي يسعى متبتلاً مسبحاً.. أن تصبح طفلاً في ساحة الحرم تلاعب الحمام تسعى خلفه فيطير أو لايطير, أن تقف بأبواب البيت العتيق فتندم لأنك لست رساماً ولا شاعراً فتسجل ما تشعر به, ذلك الجمال الروحي الخالص, وذاك الجمال المعماري الفخم?, ومن يدري ربما لو كنت شاعراً لتمردت عليك حروف اللغة تتقنها ثلاثين عاماً فتهرب في لحظة! وقفت بباب "السلام", وقلبي اليوم مثل كل يوم متبول, لأن ملايين المحبين وآلاف العاشقين لنور البيت العتيق يخامرهم نفس الشعور, تلك اللوعة التي يحس بها المرء لو خالجه الإحساس بأنه قد يفارق المحبوب, لوعة تجعل حلم البقاء إلى جوار البيت العتيق حلم العمر. هل مر بخيالك أن تتمنى لو كنت حمامة من هذا الحمام? يسعـى ولايفارق ساحة الحرم? يشرب من ماء زمزم, وينقر الفراشات وحبات القمح?

وفوق ذلك كله صيده حرام? فلماذا لايكون المرء حمامة? قلوبنا كأفئدة الطير ترفرف ندخل من باب "السلام", نعبر المسعى إلى أروقة المسجد الحرام حيث التبتل والسعي والطواف وتلبية نداء القلوب, الأفئدة التي اشتاقت إلى الله تحاول أن ترتوي, بأدعية الاستغفار والتوبة, البشر الذين يتحدثون إلى الله بكل اللغات يتوحدون في دعاء واحد "رب اغفر وارحم, واعف وتكرم وتجاوز عما تعلم يا قديم الإحسان".

الناس من كل جنس, من كل لون يعتذرون إلى الله, يأتي الاعتذار بكاء, مناجاة, همساً متواصلاً خفيضاً, أو حواراً كاملاً يديره صاحبه مع نفسه في صمت كامل, وأدعية خاشعة تطلب الرحمة والمغفرة, وعندما تأملت دعائي وجدته ملحاً في طلب الدنيا, رغاباً في سعة الرزق, وطلب المال والولد فواصلت اعتذاري, أعتذر عن الدنيا التي أحملها فوق ظهري, فأنوء بها وتنوء بي.

تعلق بصري بالحبيبة, على أستارها الجليلة آيات من القرآن الكريم مكتوبة بخيوط مذهبة, أطوف بها سبعة أشواط.. وأودعها إلى لقاء وبعد كل فراق أعود وقلبي مثل كل يوم متبول.

 

عزة بدر