مع التاريخ على جناح طائر!

مع التاريخ على جناح طائر!

تعبنا من القول إننا نعيش في الزمن العربي الرديء.. فهل من ضرورة لذكر مراحل هذا الخط المنحدر?.. هذه بضعة من تساؤلات أستاذنا المؤرخ العريق د. شاكر مصطفى وهو يلقي بنظرة طائر على مجمل التاريخ العربي, ويشاركه في هذه التساؤلات بقية كتاب هذا الملف الذين لا يريدون وضع الملح على الجرح العربي بقدر ما يبحثون عن بلسم يصلح لانقاذ ما يمكن إنقاذه. إن "العربي" تفتح بهذا الملف ثغرة في أغوار اللاوعي العربي لعله يفيق من استغراقه الطويل في البكاء على الماضي مديرا ظهره للحاضر. إننا نعيش الزمن الرديء لأننا نفكر في كل شيء بصورة رديئة ونتعامل مع كل شيء تعاملا رديئا, لذلك فإن علينا تصفية كل حساباتنا مع الماضي حتى يمكن إن نتحمل إقدارنا الجديدة, ونكف عن القول برداءة الزمن.

الملحمة العربية الكبرى مع التاريخ بدأت إذن وباسمها الذي نعرفها به إلى اليوم. بعد أن حملت من قبل عدداً من الأسماء! لانعرف اليوم هذا الجندب العربي ولا جماله. ولكنا نعرف أن هناك في عصر قريب منه:

ـ ركن حضارة عربيا في منطقة حائل من ملكاته المحاربات شمسو وزينب. والآشوريون يزعمون أنهم خزموا أنوف الملوك في هذه المنطقة وربطوهم على أبوابهم 35 سنة!

ـ ركن حضارة في اليمن استمر أكثر من ألف ومائتي سنة: له لغته العربية وكتابته الخاصة, وزراعات كالجنات, وسدود للمياه, وأقنيه ممدودة, ومعابد مشيدة وعلم وصل إلى التحنيط وتجارة في البر والبحر إلى الشام وإلى شرقي إفريقية والهند, وعلاقات مع مصر والعراق وقد عرف المسيحية واليهودية. هناك قامت حضارة سبأ ومعين وحمير وقتبان.

ـ حضارة ثمود حول تيماء ومدين في أعالي الحجاز تركت لنا 12ألف نقش في الصخور وبقيت فيها المساكن والمقابر ولها التجارة الواسعة مع اليمن والشام ومثلها ددان ولحيان.

ـ المثلث الحضاري الضخم الممتد بين أقصى جنوب الشام وأعلى شمال العراق قبل الميلاد وبعده, بمراكزه التجارية المشهورة: بطرا الأنباط, وتدمر الزباء, وحضر في غربي الموصل ـ ولكل بلد في هذا المحور الثلاثي آثاره المنقورة في الوادي ومخازن مياهه, وقبوره وتماثيله ومسارحه وهياكله الممردة المتأثرة بالطراز الروماني ـ الإغريقي السائد يومذاك.

وكان في حضر أيضا كعبة يحج إليها العرب. ولاتزال أسوارها ومعابدها وكعبتها المهجورة قائمة.

ـ وكان اليطوريون ملوك "مجدل عين جر" في سهل البقاع وآل شمس الكرام في حمص وبنو الأبجر في الرها "أو رفد في شرق الأناضول" من ديار بكر في العهد الهلينستي.

ـ ثم كان آل الجلندي في عمان يحملون التجارة للهند وكان ملوك كندا مابين الأحساء وجنوب فلسطين. ولعل من هؤلاء الملوك امرؤ القيس, لا الشاعر ولكن الذي وجد نقش باسمه في اللجاه "أواسط الشام". وكان المناذرة والغساسنة في جنوب العراق "الحيرة" وأواسط الشام "في بصرى" الذين حملوا عبء الخلاف في المنطقة مابين الفرس والروم قرناً من الزمن.

ـ وكانت أخيراً نهضة الجاهلية المظلومة التي أوصلت إلينا من لغاتها: اللغة العربية القرشية مكتملة, والشعر العربي تام الموسيقى والوزن والقافية. ومعابد الحج في مكة ونجران وغيرهما وتنظيم مواسمها والاتجاه للإله الواحد واعتناق الأديان السماوية وتنظيم أسواق التجارة السنوي والاحتساب في الأسواق وتنظيم المباريات الشعرية والرأي السياسي العربي الذي تجلى في حروب الردة بين الحجاز ونجد واليمن وشمال الحجاز. وتجلى في ذي قار وفي أيام العرب الحربية.. بالإضافة إلى معلومات العرب الفلكية ومعارفهم الطبية.

من مجموع هذه الحضارات وعناصرها المتفاعلة تكاملت في نهاية العصر الجاهلي, أواخر القرن السابع للميلاد عوامل ظهور عقيدة الإسلام. بعد طول إرهاص وتجارب. كانت وقدتها الأولى يوم الوحي الأول. إذ أوحى للرسول الأعظم أن:سورة العلق الآيات 1-5اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان مالم يعلم.

وتألقت الرسالة المحمدية. وكان عصر الرسالة بداية القدر التاريخي للعرب أجمعين. ارتبطوا برباط قدسي واحد مع تراثهم العريق وحضاراتهم المحلية. ومع ماأتقنوا من الفكر واللغة والشعر والتنظيم الاقتصادي وماشعروا به من التزايد الديمغرافي "بدليل أيام العرب والحروب الداخلية" ومن الرغبة في الحياة الأفضل بالفتوح الإسلامية "كان ذلك بدء القوة السياسية التي اندفعت كالسيول في شرايين العالم المتمدن حول البحر المتوسط وغرب آسيا وراء صيحة واحدة: الله أكبر"!

والتاريخ ليس تطابق أزمان بعضها فوق بعض أو تراكم طبقات صخرية كالطبقات الجيولوجية. إنه تركيب عضوي حي مستمر الحركة والتطور, لأنه الإنسان في تحولاته وفكره وأحداثه. وهذا يعني أنه في منتهى التعقيد, وفي الغاية من التوازن الدقيق. وإذا كنا نبحث في التاريخ فيجب أن نلغي كلمة "سبب" من مفرداتنا, ونتحدث عن مركب عضوي من الأسباب! ففي هذه الهبة العربية الإسلامية اجتمعت وتفاعلت أعداد من الأسباب والعوامل من كل نوع.. بعضها نفسي روحي ـ ولعله أهمها ـ يقوم على تفجر الإسلام وعقيدته السمحاء في القلوب ومايتبع ذلك من الإيمان بعقيدة واحدة جعلت للعرب قلباً واحداً ورسالة عالمية. ومن اليقين بالجهاد المؤدي إلى الجنة, وهو أن الموت في سبيل العقيدة والقول بكلمة "جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة" والرغبة في التحرر من ربقة العبودية الفارسية والبيزنطية. ومن العوامل ماهو اقتصادي يقوم على رفض الفقر وشح الموارد وارتفاع مستوى الأمل بالغد الأفضل والرغبة في التحول من نقل البضاعة إلى ملكها والمتاجرة بها. ومنها الاجتماعي الذي يقوم على ظهور جيل من القادة والأبطال أبناء مدرسة الرسالة وجدوا السبيل لإبراز مواهبهم الحربية والإدارية, مع التكاثر الديمغرافي الذي استطاع أن يحشد مئات الألوف من الجند بعد المئات. ومنها السياسي الذي يتصل باتحاد القوى بدل تصادمها, وتوجيهها نحو هدف أسمى بدل التفاني فيما بينها في الداخل بالحروب القبلية والأيام.. ومنها المادي البحت كاستغلال حركة الجمال والخيل السريعة والتكتيك العسكري المتقدم. وأخيراً ـ وليس آخراً ـ ماطوق كل ذلك من وعي للقدر التاريخي للعرب ولقدرة الأمة على التحدي والاستجابة.هذا المركب المشتبك من العوامل قد يكون مما ساعده, شيخوخة القوتين العالميتين في ذلك الوقت من الفرس والروم. ولكنهما ـ وهما العريقتان في الحروب والميادين ماادخرتا وسعا في صد الاندفاع العربي. القادسية واليرموك شاهدان عدلان. ولكن موجة العرب الإسلامية سحقت الطرفين سحقاً. هنا كانت اللحظة الانقلابية في التاريخ لأن الفتوح العربية لم تكن حروب تدمير كحروب الأمم الأخرى "من فرس وروم وغربيين ومغول" ولكن ما إن تنتصر حتى تنشر التسامح والمساواة والإسلامية.

ما من أحد يماري في أن هذه اللحظة التاريخية كانت لحظة الصعود الكبرى التي تجمعت فيها حصيلة كل تلك الحضارات العربية السابقة وتراثاتها الدهرية وتطلعاتها من خلال إطار واحد هو: الإسلام لابوصفه ديناً إلهياً فقط ولكن بوصفه أسلوب حياة كاملة, ومنهج حضارة وفكر للعالمين. كل الخطوط الصغيرة من المخزون الحضاري تجمعت في خط ضخم واحد.

مقاتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأوائل لم يكن لها أي تأثير على هذه اللحظة.كانت في عقيدتها أقوى من أن تهتز سواء كان القتل بفعل خارجي أو داخلي أو نتيجة تعصب لرأي. ولم تهتز بعد ذلك في أزمة الحكم الأموي بعد يزيد بن معاوية. بقيت ثابتة. وبدأت الحضارة العربية الإسلامية تبرعم على الفور. وتتفتح بشكل مذهل.

وكانت لحظة الصعود لاتزال قائمة في مركز الدولة دمشق, وعطاؤها الحضاري قد أخذ يثمر وخطها التاريخي يسير في القمة مستوياً. وقد ارتفع قليلاً بالتوسع الكبير الذي أصابته الدولة في الشرق والغرب. وإن كانت بعض العوامل الداخلية تحفزه. كان العرب في ظل الأمويين يعتبرون كل حد وصلوه بداية لانطلاقة جديدة حتى وصلوا أعماق فرنسا وسويسرا من جهة وأطراف تركستان واحتضنوا حوض السند من جهة أخرى. وتطابقت ثلاثة مفاهيم بعضها فوق بعض. فالدولة الإسلامية هي نفسها الخلافة الإسلامية. وهي ذاتها دار الإسلام. وهذه الدولة الأموية هي الدولة الكبرى والأولى والوحيدة في العالم.

أول شرخ حصل في هذه المفاهيم كان في ثورة العباسيين العربية ضد الأمويين. كانت ثورة عرب مبعدين محرومين ضد عرب المركز المتورمين بالسلطة والمال لاثورة فرس ضد عرب أبداً. ونقلت العاصمة من دمشق إلى بغداد التي بناها العباسيون في العراق. ولم يكن ذلك رمزاً لاتجاه الدولة نحو الشرق فقط, ولكن كان أيضاً ابتعاداً عن الاهتمام بالبحر والانصراف للبر وإشارة لاختلاف عصبية الدولة من العرب إلى الفرس.

شرخ سياسي

هذا الشرخ السياسي رافقه أن العباسيين اعتبروا الحدود نهايات لدولتهم. وأقبلوا يدعمونها في الأناضول وتركستان والسند وجبال القفقاس بالحصون والقلاع. ومالبثوا أن أقاموا بينهم وبين المغرب دولة حاجزة في تونس هي دولة الأغالبة! فحددوا بذلك حدود دولتهم نهائياً. وتحولوا حتى في جبهة الروم من الهجوم إلى الدفاع ثم مالبثت المنطقة المغاربية أن شهدت دولة ثالثة لابن عم للعباسيين هارب منهم إلى أقصى المغرب هي دولة الأدارسة. وظهر التباين في السياسة وظهر الخصام بين هذه الدول الإسلامية وبين العباسيين. على أن تمزق الوحدة الإسلامية سياسيا لم يؤثر في شيء على الخط الحضاري الذي أخذ في التصاعد السريع منذ العصر الأموي. بل ازداد تسارعه ونشاطه بعد أن توسعت بغداد وصارت رمز الازدهار الحضاري العربي, وموقع التلاقي والامتزاج والترجمة لعلوم الأوائل من الأمم الأخرى "يونانية كانت أم هلينستية أم هندية أم فارسية" صارت بلداً جامعاً لكل الثقافات بالإضافة إلى الثقافة العربية ثم مركزا للمزيج الفكري من كل هذه الثقافات وتكونت فيه الثقافة العربية الجديدة التي هضمت ثقافات العالم المتمدن يومذاك. ولاشك أن علينا إضافة شيء مهم هو أن النهضة الحضارية العربية الإسلامية بسبب قوتها ووصولها أوج التطور غطت على التمزق السياسي بل على الانهيار السياسي الذي وقع فيه العباسيون أيضاً منذ أواسط القرن الثالث الهجري. فقد كانت الدول الإسلامية كافة يجمعها أمر واحد هو نشر العقيدة الإسلامية والدفاع عنها, كل منها في موقعه. اختلفت فيما بينها. ولكن لم تختلف في الهدف من وجودها. وساد مبدأ التسامح الإسلامي البشري على حساب العصبيات.

توسع بلا سيف

كل هذه الملحمة التوسعية للإسلام كانت انتشاراً ذاتياً مع التجار والدعاة وبالأسوة الحسنة, لم يرفع فيها سيف ولا أريقت نقطة من دماء. في تلك القصور وبين هذه الأقدام (الوثنية) ظلت العقيدة الدينية وحدها تنتشر برغم توقف الفتوح نهائياً. بل في فترات الضعف السياسي لدول الإسلام الأساسية, كان الدين أقوى ما في عناصر الحضارة العربية يومذاك من العوامل وأشدها حيوية. على أن ذلك كله لم يكن له أي تأثير واضح على مسيرة التاريخ العربي وإن كان أعطاه التألق العالمي. ولا على تصحيح خطه السياسي الذي مال إلى الاستبداد والظلم وعدم مسئولية الحاكم إلا أمام الله.

صحيح أن العرب ومن اعتنق الإسلام معهم في الديار التي استعربت حاولوا في نوع من الوعي التاريخي الغامض "الذي ظهر بشكل سياسي" إبراز فكرة العدالة الاجتماعية والمساواة القرآنية. وحمل ذلك بعض الجماعات من الموجة البشرية الثانية التي خرجت من الجزيرة العربية منذ أواخر القرن الثالث للهجرة واتجهت ذؤاباتها على وادي الفرات إلى الجزيرة واتجه بعضها "بنو هلال" إلى مصر ثم دفعهم الفاطميون إلى المغارب يعيثون فيها فساداً. واندثرت الموجة واندثرت معها فكرة العدالة الاجتماعية. ولعلها لم تنفع في غير معونة الحمدانيين للوقوف في وجه الروم, وفي تخريب المغرب البربري مع الزيادة في تعريبه في وقت معاً. على أن الخط الحضاري لم يتأثر بل سجل, في تلك الفترة تألقاً واضحاً في بغداد كما في القاهرة الفاطمية وفي قرطبة الأموية. وكان هذا الثالوث من المدن في القرن الرابع للهجرة هو ثالوث الحضارة والخصب الفكري والترف في العالم كله. لكنه كان يحمل في الوقت نفسه عوامل ضعفه في داخله في نوع من التناقض الديالكتيكي. فقد كان يتجه بالحضارة العربية الإسلامية إلى تقنين الفكر والحياة في حدود المناهج التي وصل إليها والمسالك التي ابتكر, وألف. كان قد بدأ بعد المرونة والحيوية يتيبس في أطر محددة. وبخاصة من تلك العلوم والمعارض ونماذج الحياة المتصلة بالدين. فعلى الرغم من أنه يتقبل المتصوفة بل والملحدين إلا أنه كان يكرههم, ويرتضي الفلسفة إلا إنه ينظر بالشك إليها, ويمارس الكيمياء والعلوم لكنه يستريب في أصحابها ويقبل على الموسيقى والغناء لكنه يعتبر ذلك لهواً وانصرافاً عن الطريق القويم, ويجادل في الدين لكنه يفضل التمذهب ويسعى إليه, ويطرب للأدب والشعر وينكمش عنهما. كان المجتمع العربي الإسلامي قد أخذ يحيا نوعين من الحياة معاً حياة الجد وحياة اللهو ويتأرجح في صراع بينهما. وهمدت فيه تماماً القيم الكبرى التي كانت السبب في نهضته الإسلامية الأولى. صارت بعيدة في التاريخ وفي الذاكرة. في حين استراح الناس إلى قيم أخرى تتفق مع مباهج الحياة التي يعيشون مع مآسيها!

ازدهار الأفكار

استمر ذلك يترسخ مع مسيرة الحياة الرتيبة التي لاتهددها الأخطار. وانفصل الخط السياسي عن الخط الحضاري منصرفاً لشئونه ومعاركه ومؤامراته المسكينة. ولم يكن للصراع مع الروم إلا أضعف الصدى لدى الناس, لأنهم في شغل شاغل عنه! لكن التآكل الداخلي في خطي السياسة والحضارة كان يفعل فعله. وكان يترك تأثيره الحتمي والمتبادل على الخطين في وقت معاً حتى إذا جاء القرن الخامس كانت الأوضاع التاريخية والفكرية في المجتمع العربي الإسلامي قد تغيرت كل التغير:

ـ فازدهار الأفكار في الطبقات المثقفة "من فلسفة وأدب وتاريخ وعقائد دينية" قد تحول لدى الجماهير إلى عقليات مستقرة بالتسليم لله والرضا الاجتماعي والفناء في الحاكم والطاعة لأولي الأمر وقدرية الغنى والفقر بأمر الله.

ـ والسيكولوجية التاريخية المتطورة والوعي التاريخي للحياة ومعطياتها قد تحولا لدى الجموع الشعبية إلى مفاهيم سكونية فلا محاولة للسيطرة على الطبيعة ولكن علينا الإفادة منها فقط. ومما تعطي.سورة البقرة آية 172كلوا من طيبات مارزقناكم. ولا حركة تحرر لتغيير نظام الحكم أو تصحيحه. ولا مبادرة لتجديد في الحياة الرتيبة. فليس في الإمكان أبدع مما كان! وساد التواكل كمثل أعلى للحياة التقية النقية وقاعدة للفكر والرزق.

ـ وقد تحولت البنية الاجتماعية التحتية وانتهت إلى الغياب فيها أفكار الوحدة في غير الإطار العام للإسلام وضمرت فكرة الدفاع عن العقيدة, فما يذكرها إلا أرباب السياسة العليا ضمن مآربهم. ولم يعد هناك تفكير في رد الظلم والطغيان ولا الجهاد في سبيل الله. صار ذلك من منسيات التاريخ بعد أن تولى ذلك كله العبيد المماليك والجنود المرتزقة. الأمر الوحيد الذي اتسع هو عقلية التسامح والمساواة بين البشر.

ـ وانصرفت الطبقات الاجتماعية التي ظهرت في المجتمع كل منها إلى سبيله, فحركة التجارة العالمية وسيل الذهب لطبقة التجار العليا. والصناعة والعمارة لأصحابها وأهل الفنون لما انصرفوا إليه والفلاحون لبؤسهم القروي مع التراب والدين لشيوخه والقضاء لأهله.. كأنما تفتت المجتمع فهو مجموعة مجتمعات متباينة متفرقة في وعاء الإسلام الكبير. ففي أواسط القرن الخامس كان خط القوة السياسية قد بلغ الحضيض على كل الجبهات: صارت بغداد داراً لخصومات مذهبية متناحرة وتقمست أملاكها بين عدة دول أقامها المتنفذون والمغامرون حتى في بغداد نفسها مع إعطاء الولاء الشكلي للخلافة العباسية. وكانت الخلافة الفاطمية التي انتقلت قبل قرن إلى مصر وادعت لنفسها حق حكم العالم كله قد بلغت من الضعف حد المجاعة حتى في عاصمتها "القاهرة". وانسلخت عنها أرض المغرب لدولة أخرى. ووقع الأندلس في عصر ملوك الطوائف بعد انهيار الخلافة الأموية التي وصلت أوجها من الرونق والغنى والحضارة في القرن السابق فهي الآن فسيفساء من الإمارات المتناحرة وبلاطات صغيرة تحمل:

ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد!

حتى دولة البيزنطيين الروم كانت في ذلك الوقت في أسوأ أحوالها. وكانت هذه فرصة لبعض القوى البدوية على الأطراف أن تنقض على دار الإسلام لابوصفها عدوة لهذه الدار ولكن بوصفها مساعدة ومصححة للأوضاع فيها فقد كانت هذه القوى "الأطرافية" قد أوغل فيها الإسلام. وكان لها خزانان ضخمان من البشر واحد على الحدود التركستانية هم الغز أو التفزغز وآخر في أقصى المغرب من البربر. وانقض الطرفان في وقت واحد تقريباً على البلاد الإسلامية.

ظهور المماليك

كانت أوربا تبيع العبيد الصقالبة والخشب والحديد للدول الإسلامية على طول الساحل الإفريقي مقابل الذهب الذي كان يأتي هذه الدول من السودان العربي بخاصة. واغتنت أوربا بهذا الذهب وتكاثرت أساطيل مدنها التجارية على البحر المتوسط وقويت لدرجة صارت معها تناجز الأساطيل الإسلامية في هذا البحر. وترنو بأعينها إلى مصادر التجارة العالمية القادمة من أقصى الشرق بالتوابل والحرير والعاج إلى موانىء المتوسط في الشام ومصر. وتحركت في أوربا حركة من النهضة "عرفت بنهضة القرن 12 م/6هـ". رافقها تكاثر سكاني ترك كثيراً من القوى الأوربية عاطلة عن العمل. كما أوجد مجاعات ماحقة في بعض المواقع. ولما كانت هذه النهضة في تلك الفترة دينية الطابع فقد انتهزها الباباوات لتوجيه القوى ضد المسلمين بدلاً من إفناء بعضها لبعض. كانوا يريدون تطهير أوربا حتى من اللصوص والمفسدين وتثبيت زعامة البابوية حتى على الملوك الذين بدأت قواهم في البروز. فما أن أعلن البابا أوربان الثاني الحرب ضد الإسلام مقتبساً فكرة الجهاد من المسلمين حتى استجاب لندائه ولدعائه مئات الألوف من فرنسا خاصة وساروا وراء الصيحة التي أطلقها البابا: هكذا أراد الله!

وبدأت بذلك الحملات الصليبية الرسمية بعد أن كانت قد بدأت في إسبانيا من قبل بتحريض من البابوية ذاتها, فأخذت نصف الأندلس, ثم أخذت صقلية من المسلمين. وتوجهت الآن إلى المشرق بحجة استرداد القبر المقدس من أيدي الكفرة المسلمين! سيول من البشر اندفعت. كانت هجرة بشرية أكثر منها حملة حربية وغزوة مصالح تجارية أكثر بكثير منها حركة دينية.

كان الموحدون يحاربون ضمن الأراضي الإسلامية الأوربية. وهم الذين سعوا إليها ولكن قواهم لم تكن لتتساوى مع القوى الأوربية التي اجتمعت ضدهم ومن ورائها البابوية والحقد الديني. فلم تحقق سوى معركة الأرك. أما في المشرق فما كانت القوى السلجوقية تنتظر هذه الهجمة. ولقد حسبتها أول الأمر من حملات "الروم" البيزنطيين برغم كثافتها البشرية وعناصرها المسلحة بالسيف الحديدي ولغاتها الغربية. وكانت هذه القوى نفسها متنابذة متفرقة الأهواء فيما بين الأناضول وإمارات الشام. وكان من ورائها في الساحل الشامي وجنوب فلسطين القوة الفاطمية المعادية بدورها لها. هزمت قوى السلاجقة على طول الطريق في الأناضول وإنطاكية والقدس. وأخذت وقتاً طويلاً "أكثر من نصف قرن" حتى وعت الموقف كل الوعي. في هذه الفترة انهار الخط السياسي هبوطاً وتعثر في المعارك الحربية الصغيرة يدافع عما بقي في يد المسلمين من الشام وكان رد فعل الخلافة في بغداد وسلاطين السلاجقة في أصبهان فاتراً حتى درجة الغياب. القوى المحلية هي التي تولت التصدي الضعيف وكان ميزان القوى غالباً في جانب الفرنجة الصليبيين. حتى ظهر زنكي ثم ابنه محمود نور الدين فاعتدل الميزان وأخذ الخط السياسي الحربي في الصعود, بعد الصمود ولكن في بطء. أخذ حوالي نصف قرن حتى عاد إليه التماسك وشعر بضرورة وحدته وترابطه الدفاعي عن ممتلكاته ومنجزات حضارته وساد التعصب مقابل التعصب الآخر. واتخذ الخط الحضاري بدوره مواقع الدفاع, ولكن في نهضة أخذت المنحى الديني, فازدادت مدارس الدين وكثر شيوخه, وصاروا القوة الروحية الخلفية للجيوش في المشرق والمغرب, بل دخلوا المعارك وقاتلوا وقتلوا تنفيذاً لفريضة الجهاد. واسترد الناس إلى حين أفكار الوحدة الإسلامية وتوحيد القوى وتحرير الأرض من الكفار الفرنجة وصد عدوانهم المتمادي وغابت عقلية التسامح الإسلامي لمصلحة التعصب الديني الدفاعي.

في الأندلس تحالفت أوربا ضد الموحدين وسحقت الجيش الموحدي في معركة العقاب سنة 1209 فانسحب من الجزيرة الأيبيرية كلها تاركاً الأندلس وأهلها لمصيرهم الأسود مع محاكم التفتيش ووسائلها في التعذيب ومع التنصير القهري ثم الاقتلاع القسري من البلاد. قرناً وبعض القرن استمر ذلك حتى اندثر الظل الإسلامي منها.. فلم يبق إلا الأبنية الرائعة الفارغة وتفرق أهلوها لاجئين إلى المغارب أما في المشرق فكانت المصيبة أعظم بكثير. لم يكن نصر صلاح الدين في حطين نصراً حاسماً استأصل الفرنجة الصليبيين. وتوفي وهم لايزالون في الشام. وظلوا مائة سنة من بعده حتى اقتلعوا سنة 1291. الخطر لم يكن منهم فحسب وقد كان خطراً موصولاً بحملات بعد حملات من الغرب, ولكنه كان خطراً فاجأ دار الإسلام من الشرق. انحطت جموع المغول من صحاريها القصية كالسيول على العالم الإسلامي "والأوربي أيضا" في تركستان وإيران ثم العراق. ولم تكن هجمة حرب, هذه الهجمة البشرية الضخمة, ولكن هجمة إبادة وتخريب تركت مدن المشرق يباباً, وسكانها أهرامات من الجماجم وميادين للجثث حتى إذا وصلت بغداد ومرت المركز البارز للحضارة العربية الإسلامية وألقت الخليفة العباسي الأخير المستعصم في كيس وقتلته بالأرجل (سنة 656 / 1258). كانت أشباح المغول تتراءى للناس كالجن!

المرعبون ينتصرون

كانت تلك الفترة أشد الفترات التي مرت بالتاريخ العربي رعباً وتهديداً وهولاً. حصرت المنطقة العربية الإسلامية بين فكي كماشة غربية شرقية وفي ضغط شديد من الطرفين. الأيوبيون حكام المنطقة تمزقوا أمامها وساوموا على مقدساتها مع الفرنجة. وتسلم مماليكهم حكم مصر والشام, وهم الجيش المدافع, ولكنهم لايدرون مايفعلون. وبعث المغول من غزة, بعد أن اكتسحوا الشام. إلى كبيرهم في مصر يهددونه بالتسليم, وقادته يتخاذلون من حوله وتصطك ركبهم رعباً. واتخذ قراره بالصمود, وخرج بجيشه فإذا به يحقق لأول مرة نصراً حاسماً في معركة عين جالوت سنة 1260. رد المغول عن بلاد الشام إلى العراق. واشتدت عزائم المماليك بالنصر فجعلوه حجتهم الشرعية للحكم لاسيما حين ردوا المغول مرات عن محاولاتهم الهجمومية من بعد وتوجوا ذلك باقتلاع آخر الصليبيين من عكا سنة 1291. أزالوا الخطرين معاً, فقبلهم الناس حكاماً, ولو كانوا في الأصل عبيداً. وعاد الخط البياني السياسي إلى اعتداله وارتفع.. أما الخط البياني الحضاري فانحرف انحرافاً واسعاً بحجة الدفاع. ازداد طابعه الديني زيادة كبيرة وساد التعصب الشديد. وتسلم الشيوخ قيادة الفكر في المجتمع وتوجهوا به إلى تكوين النواة المتينة المتماسكة. وأخذت الحضارة العربية الإسلامية بالتدريج شكل القوقعة الصلبة دفاعاً عن الذات ضد الذبح, وعن الدين ـ وهو القيمة الكبرى ـ ضد الاندثار.

تلك كانت الفترة المماليكية في المشرق والتي دامت قرنين ونصف القرن, واهتمت بحركة التجارة العالمية والتمتع بخيراتها الذهبية أكثر بكثير من اهتمامها بالجماهير المستسلمة للعيش الضيق واللهو المسكين وللأساطير. كانت هذه الجماهير بحر السكون. كل تراث القرنين الرابع والخامس من العقليات التسليمية والوعي التاريخي السكوني والتقبل الطبقي والانصراف للشئون الفردية المسكينة أخذ في ظل المماليك حده الأعلى لاسيما بعد أن تمزق المشرق العربي بين فسيفساء من الدول في الأناضول والعراق وفارس. وصار الحكم في الشام ومصر إلى مجموعة من المماليك يتوارثونه مملوكا بعد مملوك, غرباء عن البلاد وأهلها. كل ميزتهم أنهم أتقنوا فن الحرب, وأنهم دخلوا في حلف ثلاثي غير مكتوب لتبادل المنافع مابينهم وبين رجال الدين الذين صاروا يتوارثون المناصب الدينية, وأوقافها, وبين كبار التجار الذين يتملقون بالأموال الطرفين! أما المغرب فظل ثلاثة قرون يتلقى الهجمات الأوربية على سواحله ويفني قواته في دفعها. وهذا يعني أن خطي السياسة والحضارة في الشرق والغرب قد توقفا عند نقطة متدنية فلم يبرحاها. شيء واحد برز في هذه الفترة في العالم الإسلامي هو الفرق الصوفية. وإذا كانت في الأصل امتداداً للفكر الديني في منتهى تهجده فإنها كانت منفذاً للتعبير عن حركية الجماهير وحيويتها الروحية. وهكذا تكاثرت هذه الفرق تكاثراً كبيراً في المشرق كما في المغرب تعويضاً عن الجمود الفكري العام. والطريف أن هذه الطرق أخذت في تنظيمها شكل الدولة داخل الدولة فهناك الأقطاب وهم كالسلاطين وهناك المريدون من بعدهم والأتباع الأخيرون وهناك التقاليد للقيام بالرسوم الصوفية ولكل طريقة أساليبها في القبول والتعبير الصوفي بالمزاهر والطبول وبالسناجق والمواكب التي تشبه مواكب أهل الدولة. وأنفقت هذه الجماعات على السلاطين والعامة سواء بسواء وصارت أحد مظاهر الحياة المألوفة! العقيدة الدينية نفسها صار لها طقوسها ومراسمها المحددة.

ولم يمت العهد المماليكي الموت الطبيعي ولكن قوتين داهمتاه معاً فقضتا عليه: اكتشف البرتغاليون في زحفهم على سواحل المغرب إلى الذهب السوداني وتوغلهم وراءه طريق رأس الرجاء الصالح الذي نفذ بهم إلى المحيط الهندي وإذا بهم يقعون دون أن يحتسبوا على مصادر الأفاويه والتوابل ونسج الهند وهي قوائم تجارة المماليك العالمية فاستولوا على هذه المصادر وقطعوا بذلك الحبل السري الذي كان يحمل الثروة لتغذية النظام المملوكي.

صعود آل عثمان

من جهة أخرى تضخمت إحدى الدول التركية المسلمة في الأناضول من بني عثمان فابتلعت أمثالها من الدويلات التركية الأخرى وقطعاً من الدولة البيزنطية في الأناضول والبلقان ثم مالبثت أن احتلت القسطنطينية سنة 3541. ثم اتجهت إلى الشرق ودخلت في خصومة مع دولة المماليك التي سرعان ماانهارت أمامها في معركة مرج دابق سنة 6151 شمالي الشام ثم احتل العثمانيون مصر في السنة التالية وشنقوا آخر المماليك.

انتهى بذلك الخط السياسي العربي ليحل محله الخط السياسي العثماني التركي. الخطان كان يتصل أحدهما بالآخر عن طريق الإسلام فقط. وإذ أدخلت البلاد العربية ملحقة في الظل العثماني ثم دخل المغرب إلا أن هم السلطة العثمانية كان متجهاً إلى أوربا وقد احتلت جنوبها الشرقي كله وضربت الحصار على فيينا. وحسب الأوربيون أن خط الإسلام السياسي قد تصاعد وصار الخطر الداهم فتكاثرت التحالفات الأوربية ضده حتى هزمته وأضعفت قوته. ولم تكن هذه القوة تركية حتى في القادة ولكنها كانت جيشاً من أبناء البلقان الذين أخذتهم الدولة صغاراً دربتهم على الإسلام والولاء للسلطان. وعرفوا باسم الانكشارية "يني شيري ـ الجيش الجديد". وكانوا يحشدون منهم بمئات الألوف. لكن هذه القوة العثمانية مالبثت أن فسدت بالتدريج وهبط معها الخط السياسي حتى صارت عبئاً على الدولة بدل أن تكون قوة دفاع وهجوم وضعفت بضعفها قوى السلاطين السياسية. وانفتح بذلك باب التدخل الأوربي في شئون الدولة الداخلية, والزحام على الامتيازات واقتطاع الأملاك بالعدوان الحربي.

لم يعد للتاريخ العربي في الفترة العثمانية التي دامت 400 سنة من وجود. اندمج هذا التاريخ مع التاريخ العثماني لأول مرة. وكانت البلاد العربية مستعدة دينياً لمثل هذا الإلحاق. الجو الديني لم يترك فيها منفذاً للشعور بالذات العربية الخاصة, فالدين الإسلامي هو الجامع للبشر. ومادامت الدولة العثمانية تدافع عن الدين في فتراتها الأولى فهي تدافع أيضاً عن البلاد العربية في الوقت نفسه. نصرها كانوا يعتبرونه نصراً لهم, فلما ضعفت وبدأت الأطماع الاستعمارية تتناوشها, عاد العرب يفكرون في مصائرهم من جديد. عادوا يوقظون مثلهم العليا السابقة, وهي ليست إلا مثلاً دينية. وهكذا ظهرت أوائل حركات اليقظة حاملة شعار العودة إلى الإسلام. ظهرت الحركة الحنبلية الوهابية في نجد, والحركة السنوسية في المغارب وليبيا, ثم الحركة المهدية في السودان. وكانت حركات على الأطراف. ما اهتمت القسطنطينية بالبعيد منها كحركة أحمد بك والحاج عمر في شرق إفريقيا وإن حرصت على محاربة القريب منها "اتباع محمد بن عبد الوهاب" لأسباب سياسية وحاربت حركة فخر الدين المعني "المتصلة بأوربا" في الشام. ولم تفلح هذه التحركات الدينية في حمل عبء النهضة بالخط السياسي. ولا أفلحت مثلها حركة فخر الدين المعني الشامية. وحين جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 8971 لمزاحمة الإنجليز على طريق الهند مانجم عنها سوى انهيار المماليك الباقين بخيولهم المزركشة أمام المدفع الفرنسي. وظهرت بعدها نهضة "محمد علي" الوقتية. وقد حاول أن يقود خطي السياسة والحضارة في المشرق صعوداً معاً ولكنه فشل لسببين:

ـ تحالف القوى الأوربية "عدا فرنسا" ضده وهزيمتها له ثم هجومها الاستعماري على البلاد العربية.

ـ تهافت النظام السياسي العثماني, فالسلاطين كانوا كالمماليك غرباء عن البلاد وطريقتهم في الحكم كانت إدارة عسكرية كأنها إقطاع يعينون الباشا للولاية ويتقاضون منه في نهاية كل سنة ما اتفقوا معه عليه من "الصرة" للسلطان, وكفى. والباشا في ولاية سلطان صغير يفعل مايشاء حتى يعزله السلطان وكثيراً ماكان يفعل ليستفيد من تغيير الولاة! أما على الخط الحضاري فقد كان الوضع أسوأ بكثير. ضرب الحصار العثماني طوقاً من الجمود على الإمبراطورية باسم الدفاع عن الإسلام. وخنق بذلك كل مبادرة للتطلع خارج هذا الطوق. وانعدم الوعي التاريخي لدى السلاطين والناس. وماتت أفكار التحدي والجهاد وصار الآخر هو العدو المريب.

الافتراس الأوربي

في ذلك الحين كان الغرب كله في أوج جشعه الاستعماري يزداد عنفا في الهجوم على البلاد العربية. ولم يكن للسلطنة العثمانية من قوة تدافع عنها ولا كانت فيها قوى ذاتية للدفاع, فوقعت غنيمة سهلة للافتراس الأوربي. كانت أوربا فيما بين نهاية العهد المماليكي والقرن التاسع عشر قد اكتشفت الذهب الأمريكي الذي نقل إليها على السفن بالقناطير. وأبادت أهل أمريكا الأولين بالجدري والزهري والرصاص. واحتلت الأجزاء الغربية والجنوبية والشرقية من إفريقيا وجنوب شرقي آسيا مع الهند وفرضت نفوذها على الصين وحملت كل الثروات من أنحاء الدنيا إليها لتبني حضارتها الحديثة. كانت هذه القرون بالنسبة إليها قروناً ذهبية حاسمة قفزت بحضارتها إلى مقدمة العالم. والناس في باقي الأرض نيام مخدرون بالأوهام! نهبت في غفلة من الدهر القارات الأربع لتبني مدنها, وتطور فكرها, وتشرب شاي بعد الظهر!

الصحوة العربية التي جاءت بشكل ديني تصوفي أو عن طريق الاتصال بالغرب في القرن التاسع عشر جاءت متأخرة, لا لأن الغرب سبقها بأشواط ولكن لأن ديار العرب وقعت فريسة الاستعمار المباشر منذ سنة 1830. وقعت الجزائر ثم مصر وتونس ثم المغرب ثم لحقتها في مطالع القرن الحالي ليبيا ثم العراق والشام. وصحا العرب بعد آمال النهضة والوعود الغربية الكاذبة فإذا بهم جميعاً في القفص الاستعماري: البلاد العربية احتلتها أربع إمبراطوريات استعمارية ورثت الأملاك العثمانية عنوة "بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا". لم يبق من آذان حر يسمع إلا في نجد والحجاز واليمن الشمالي. حتى عدن وعمان والخليج العربي كانت قد طويت بالأعلام الإنجليزية وسمى تجارها الملاحون بالقراصنة! وقسمونا أقاليم وحدودا ما وضعها عربي واحد ولا وقعها عربي فنحن لادولة ولا اثنتان ولكن 21 علماً ودولة. وشغلت البلاد العربية ثلاثين سنة على الأقل "1918 ـ 1948" بالنضال ضد الاستعمار تركت كل مهمة وتفرغت لهذا الهدف الأخطر الذي كان من مخططاته طيها السياسي والحضاري في قوالبه الاستعمارية وإلغاء لغتها ودينها وتقاليدها لتصبح نسخة ممسوخة للطبقة المسحوقة في بلاده نفسها. وماكاد الاستعمار يهتز حتى فوجىء العرب بتنفيذ المشروع الإنجليزي القديم وإقامة نقطة ارتكاز في قلب الأرض العربية بين البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي, في فلسطين, ودفعت إليها أوربا باليهود الذين كانوا يشكلون مشكلة دينية اقتصادية في أوربا وسمت هذه البقعة بإسرائيل. وتبنتها على الفور الإمبريالية الإمريكية تتعهدها بالمال "أعطتها حتى الآن 74 مليار دولار وتسببت في إعطائها مثل ذلك من التبرعات الحرة والتعويضات الألمانية" كما تعهدتها بالدعم الدولي وبالحماية الاستراتيجية, لتوقف المد العربي! وتؤمن بذلك نهب ثروات العرب النفطية واستقرار مصالحها ورقابتها. وللشيطان مايضيع على جدار مبكاها من القوى والجهود والأحلام! فأين بات الخط السياسي العربي في الحضيض? لقد تعبنا من القول إننا نعيش الزمن الرديء. فهل من ضرورة لذكر مراحل هذا الخط المنحدر? النظم السياسية كلها أضحت حبيسة الأطر التي ترسم لها بطوعها أو با لرغم عنها. عودت المواطن الخنوع وتعودت هي مثله. ماتت وحدة القوى العربية في عهد ملوك الطوائف الجدد. وفرغت كلمات التحرر والثورة والجهاد من معانيها. صار لها رجع أصداء الوديان. وصار السلم هو الاسم الآخر للاستسلام. حرية الفكر صارت تهمة تؤدي بصاحبها إلى القبر, والقول بالوحدة العربية صار من السخف والمطالبة بالعدالة الاجتماعية صار من الكبائر, وثرواتنا مهدورة للطغاة في الداخل والخارج. المثل النموذجي للعربي اليوم أن يكون كقرود الهند الثلاثة: لا أرى! لا أسمع! لا أتكلم! ولو أنه يرى كل شيء ويسمع كل شيء ولكنه مقطوع اللسان! أما على الجانب الحضاري فهناك المفارقة الصعبة: مضى قرابة القرنين على دخول العرب بعصر النهضة الحديثة "ونقصد عصر مابعد النهضة الدينية السابقة". ودخلت خلالهما الحضارة الغربية غازية حتى النخاع الشوكي في الطبقات العليا والمتوسطة ونفذ بعضها إلى الريف. بدلنا حتى ملابسنا. استخدمنا كل منجزات الغرب الحضارية. فتحنا مائة جامعة عربية تخرج كل سنة نصف مليون خريج. دخلنا الدوامة الاقتصادية العالمية بالنفط وبثروات فلكية الأرقام. قلدنا نظم الحكم الغربية "على طريقتنا". شيدنا العمارات الضخمة. ركبنا السيارات الفارهة والطائرات. أدخلنا منجزات التقنية الغربية إلى صدور بيوتنا. تعلمنا الرطانة الإنجليزية بعد الفرنسية. كتبنا القصص وأقمنا المسارح ونشرنا الصحف. بدلنا قيمنا والتقاليد. اقتلعنا أنفسنا من جذورنا حتى كأننا في المظهر خلق آخر. أدخلنا أفكار الحرية والوحدة القومية ومبادىء الاشتراكية في جماجمنا وتجادلنا فيها واختصمنا. تكلمنا في التنمية الصناعية والإصلاح الزراعي والعدل الاجتماعي. زحفنا على الركب لنطول التقدم الغربي ونجد أنفسنا بعد كل هذا نتراجع أو نراوح مكاننا والدنيا طائرة مع العنقاء.. فما الخطب? الخطب أننا لانشارك في إنتاج الحضارة الحديثة فبقينا على الهامش البعيد منها. ونزداد كل يوم بعداً. ولأننا لم نبذل أي جهد للإضافة إليها بقيت خارج نفوسنا. بقيت قشرة خارجية على سطح الفكر والحياة أما على مستوى الجماهير العربية الواسعة فكان الأمر مختلفاً جداً. وكأن المجتمع العربي يعيش في وقت معاً حياتين, فهذه الجماهير وهي الكتلة الكبرى بقيت تعيش خارج العصر, وبقيت عقلياتها السكونية تجتر ما اعتادت من الفكر الأعمى العثماني. بقيت على تقوقعها الصلب تستمسك به تجاه عنف الغزو الغربي العدواني كأنه خشب ة النجاة السحرية. ظلت على قناعاتها الموروثة عن قرون التخلف.. ألف سنة من العدوان الغربي المتصل محقت فيها عقلية التسامح والمساواة البشرية وجعلت العصبية الدينية طبيعة ثانية فيها. ومن جهة أخرى تسطح التاريخ وألغى الزمن لديها. لم يبق منه إلا قمة منصوبة للناس في الماضي البعيد هي قمة عهد الرسالة تتردد أخبارها المكرورة علينا صباح مساء للتماثل معها والتماهي. وأين نحن من ذاك? القمة كانت مهداً لأبطال وقد شد إليها الناس من العيون والآذان. فهم يلتمسون القرب منها دون طائل. ويعتقدون جازمين أن الدنيا من بعدها كانت سلسلة متصلة من الانحدار بعد الانحدار ومن الفساد الذي يزداد مع العصور. فالناس في سقوط متصل والمستقبل أسوأ من الحاضر وخسارة مستمرة للقيم والدين. تجمد الزمن جميعاً في تلك القمة الأولى. فالتاريخ كله ليس سيولة متوالية وعناصر متفاعلة ولاصورة حركية متطورة لكنه صورة سكونية, كصورة المصور, لماض بعيد قريب معاً. صار الناس يتعاملون مع الزمن على أنه ثابت كتعاملهم مع المكان. وصاروا يعيشون صراع الماضي متداخلا مع الحاضر. ويستهلكون معارف قديمة على أنها جديدة. ويحسبونها حية وهي ذات بعدين فقط اندمجت فينا واندمجنا فيها فهي حاضرة دوماً بنا كمثل أعلى. وليست حاضرة كواقع فاسد. جميع رموز الثقافة والحضارة العربية الإسلامية التي سلفت صارت تعيش معنا كما لو كنا جميعاً معاً على مسرح واحد وفي وقت واحد.

 

 

شاكر مصطفى