لحظات الإنتصاروالإنكسار في التاريخ العربي

لحظات الإنتصاروالإنكسار في التاريخ العربي


النهوض والهبوط
في تاريخ منطقة الخليج العربي

تتداخل فترات النهوض والهبوط في تاريخ أي مجتمع وتتقاطع، وهنا تحتاج المعالجة إلى أن نلقي الضلوء على أهم ملامح كل منهما ووضع اليد على أهم أسبابها والإشارة إلى نتائجها.

إن من طبيعة حركة التاريخ أن تنمو المجتمعات وتتطور حتى في لحظات السكونية بصورة مباشرة أو غير مباشرة على كل المستويات، وإن التخلف يستشري إذا تعارضت إرادة الشعوب مع إدارتها. ومن. طبيعة التطور البشري أن يكون هناك تحد واستجابة، وتحد ومواجهة، وكذلك فعل ورد فعل، هذه الثنائية كثيراً ما ينتج عن احتكاكها وتضادها تطور أو نهضة أو تخلف وانتكاسة في مسيرة الشعوب. ومنطقة الخليج العربي ذات موقع استراتيجي مهم إقليمياً وعربياً وعالمياً، وهذه الأهمية لم تقتصر على عصر معين كعصر النفط مثلاً وإنما اكتسبت تلك الأهمية عبر العصور منذ التاريخ القديم ومنذ القرن الرابع قبل الميلاد عندما مخرت سفن الإسكندر الأكبر مياه الخليج في طريقها إلى المحيط الهادي. لقد توافرت ولاتزال لهذه المنطقة موارد مهمة لشعوبها والشعوب الأخرى المتعاملة معها، وكانت مجالاً للتنافس والصراع عبر تاريخها الطويل، وبخاصة في التاريخ الحديث والمعاصر منذ مجيء المستعمرين البرتغاليين بعد الكشوف الجغرافية وصراعهم مع الأتراك والقوى المحلية، ثم توجه الصفويين إلى المنطقة ودخول القوى الأوربية بعد الثورة الصناعية، مثل الهولنديين والإنجليز والفرنسين، وانفراد بريطانيا بالهيمنة على منطقة الخليج، كذلك فإن القوى المحلية قد لعبت دوراً مهماً تجاه كل تلك القوى وتنافسها وصراعها طوال مراحل تاريخ المنطقة مما يدل على الأهمية الاستراتيجية الحيوية لها ولمواردها.

إن تلك الأحداث التي كانت تجري على مياه الخليج وشواطئه قد سجلت صعوداً وهبوطاً في تاريخ المنطقة الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وأحدثت تقدماً وتأخراً. وعندما نتكلم عن هذا التاريخ فنحن لانتكلم عن أحداثه بصورة مجردة، وكأنها جزر منعزلة دانما عن تفاعلها وانعكاش بعضها على البعض الآخر. إن شعب المنطقة ممثلاً في قواه المحلية قد لعب دوراً مهماً في الأحداث، السؤال هو: كيف نرى ونقوم فترات النهضة والهبوط أو التراجع في تاريخ الخليج العربي وعلى الأخص تاريخه الحديث مثلما يتناوب الموج على شواطىء الخليج تناوب التاريخ العربي صعودا وهبوطا. المعاصر، وإن نظرة كهذه لتفحص أحداث الماضي تجاربه، الهدف منها معرفة مدى تأثيرها في الحاضر، الاستفادة من دراستها كدروس للمستقبل أيضاً، لتاريخ ليس معنياً بالماضي فحسب إنما الحاضر المستقبل أيضاً.

أولا: على مستوى الاقتصادي

كانت منطقة الخليج العربي مجالاً خصباً للنشاط التجاري عبر العصور المختلفة لما تتمتع به من موقع مهم، فالخليج العربي ذاعي المحيط الهندي الذي حملت مياهه موارد البلاد العربية، وشرق إفريقيا وشبه القارة الهنديةإلى العالم، كما حملت المنتوجات المصنعة في الغرب إلى هذه المناطق المحيطة بها، ولعب التجار المحليون دوراً مهماً في نقل التجارة قبل النفط، وساهمت المعيشة في المنطقة، وكانت فترة صعود ونهوض عندما لعب قطاع مهم من سكان المنطقة دورا في التجارة العالمية في تلك الفترات، بيد أن وصول الشركات الأوربية التجارية وعملها على احتكار هذا النشاط في هذه المنطقة ودخولها في المنافسة عليها فيما بينها وبين القوى المحلية، أدى إلى تهميش دور التجار، وقادت تلك الممارسات إلى هبوط وتدهور في الدور الذي كان يلعبه التجار المحليون بفعل عوامل موضوعية لايمكن تجاهلها، فالوسائل التي كان يستخدمها التجار المحليون كانت تقليدية، بينما أنتجت الثورة الصناعية تقدماً في وسائل المواصلات وفي نمو رأس المال المستثمر في خارج بلدانها. كذلك كانت الحرف الصناعية التقليدية توفر للسكان حاجاتهم الأساسية في المرحلة السابقة على النفط، وتوفر كذلك مجالاً للعمل لقطاع من السكان وكان عملا منتجا. تدريجياً تدهورت الصناعات الحرفية المحلية أمام المنتجات الصناعية للدول المتقدمة، وبأسعار تنافسية فسجلت في هذا المجال هبوطاً لم يقابله نهوض في مجالات اقتصادية أخرى، أو تطور لتلك الصناعات التقليدية بوسائل الصناعة المعاصرة فتحولنا إلى مستهلكين لمنتجات الغير الصناعية في العصر النفطي. ولانتفق مع الذين ينظرون إلى تراث المنطقة بصورة رومانسية ويتباكون على الماضي. إن ذلك الماضي وبخاصة قبل النفط قد شهد تخلفاً وفقراً ومعاناة لأغلب سكان المنطقة، ولم تكن الحياة سهلة كانت منطقة الخليج العربي مجالاً خصباً للنشاط التجاري عبر العصور المختلفة لما تتمتع به من موقع مهم، فالخليج العربي أحد ذراعي المحيط الهندي الذي حملت مياهه موارد البلاد العربية، وشرق إفريقيا وشبه القارة الهندية إلى العالم، كما حملت المنتوجات المصنعة في الغرب إلى هذه المناطق المحيطة بها، ولعب التجار المحليون دوراً مهماً في نقل التجارة قبل النفط، وساهمت عائدات النشاط التجاري البحري والبري في رفع مستوى المعيشة في المنطقة، وكانت فترة صعود ونهوض عندما لعب قطاع مهم من سكان المنطقة دورا في التجارة العالمية في تلك الفترات، بيد أن وصول الشركات الأوربية التجارية وعملها على احتكار هذا النشاط في هذه المنطقة ودخولها في المنافسة عليها فيما ميسرة.

أما العصر النفطي فقد شهد في المجال الاقتصادي نهوضاً وهبوطاً في آن واحد. النهوض في استخدام جزء من عائدات النفط في النهضة والبناء، وارتفع مستوى معيشة الناس وقامت صناعات على مشتقات النفط، وفي المقابل فإن هذه الطفرة كان لها ثمنها على المستوى الاقتصادي وغيره، فهناك اتساع الهوة بين ثلاث فئات مجتمعة، الأثرياء والطبقة الوسطى والفقراء وهناك عدم حماية الصناعات الوطنية، وهناك هدر في الثروة، وعدم وجود استراتيجية اقتصادية على مستوى البلد الواحد وعلى مستوى المنطقة، وهناك حلم لم يتحقق بعد أكثر من نصف قرن من عمر النفط وهو السوق الخليجية المشتركة، وهناك دور ثانوي لطبقة التجار في الاقتصاد فلا يتعدى دور أغلبهم وكلاء الشركات والمصنوعات المستوردة. أنه نهوض وهبوط له إيجابياته وسلبياته.

ثانيا:على المستوى السياسي

تعرضت منطقة الخليج العربي عبر تاريخها إلى موجات استعمارية استهدفت ثرواتها وموقعها الاستراتيجي، فجاء الأوربيون ليتنافسوا ويتصارعوا على مياه وأرض الخليج منذ القرن السادس عشر بدءاً بالبرتغالين وانتهاء باحتكار السيطرة على المنطقة من قبل الإنجليز، فعلى المستوى السياسي كانت تلك الفترات فترات تدهور وهبوط في أوضاعهم السياسية، بيد أن القوى المحلية من يعاربة وبوسعيديين والقواسم قد لعبوا دوراً في مواجهة تلك القوى، وكانت فترات المقاومة العربية في المنطقة فترات نهوض وصعود مثلتها تلك المقاومة برغم إمكاناتها المحدودة وغير المتكافئة مع إمكانات القوى الاستعمارية، وتجدر الإشارة إلى أن ذلك النهوض والصعود قد شابه الكثير من النكوص والتشويه عندما قام الصراع بين تلك القوى المحلية مما فتح الباب لتسلل القوى الأجنبية واستغلالها للأوضاع وتأليب طرف ضد الآخر.

أما في العصر النفطي فإن إمارات الخليج قد تهيأت لها الظروف لتتحول إلى دول، ومن مقومات الكيان السياسي السيطرة على مصادر الثروة في كل بلد من بلدان المنطقة، وتوجيه عائداتها نحو التنمية، وأن ذلك قد شهد أيضاً نمواً وهبوطاً. لقد ظلت العقلية العشائرية التي كانت سائدة قبل قيام الدولة تسحب نفسها على الأوضاع بعد قيامها، والتعامل مع المستجدات كان بصورة نمطية تقليدية قاصرة لاتملك بعداً استراتيجياً في فكرها وخططها وممارساتها لكن ذلك لم يكن على الدوام القاعدة المستمرة حيث شهدت المنطقة تفاعلاً سياسياً إيجابياً في بعض المراحل مابعد قيام الدولة والاستقلال بالانتقال من الإمارة إلى الدولة، ومن المجتمع القبلي التقليدي إلى المجتمع المدني المعاصر القائم على المؤسسات، وشهدت هذه الدول الناشئة في المنطقة صعوداً وهبوطاً في نهجها وممارستها السياسية، ففي الكويت على سبيل المثال شهدت نهوضاً سياسياً في الستينيات من هذا القرن بعد الاستقلال حيث بدأت التجربة الديمقراطية بوضع دستور دائم متطور للبلاد، وانتخاب مجلس أمة بالاقتراع الحر المباشر، وقيام المجتمع المدني، فإن هذه التجربة قد واجهت هبوطاً في بعض الأحيان ساهمت فيها ظروف وقوى عديدة، وأخطر ما واجه الكويت من هبوط سياسي هو ما أحدثه الغزو العراقي عام 1990م لكن إصرار الشعب الكويتي على ثوابته، وعودة الأوضاع الدستورية بعد التحرير يعد نهوضاً سياسياً. أما تجربة القوى السياسية والأحزاب في المنطقة فهي وأن كانت ظاهرة صحية سياسياً من حيث المبدأ، إلا أنها عاشت مشكلات فكرية وأيديولوجية شكلت هبوطاً ولم تنضج بعد إلى الحد الذي يمكنها أن تساهم في التطور السياسي في المنطقة. هذا لا يعني أنه لا يواكب ذلك وعي سياسي شعبي، يمثل صعوداً أو نهوضاً نفخر ونعتز به.

ثالثاً: على المستوى الاجتماعي

إن التكوين السكاني في منطقة الخليج العربي معظمه من المهاجرين من المناطق المجاورة عبر فترات زمنية متفاوتة وطويلة نسبياً، وحدث اندماج سكاني فرضته ظروف الحياة التي عاشها شعب المنطقة، وقد كان عدد السكان قبل النفط مناسباً في حدود الموارد المتاحة حينها، والمعتمدة على بيئتي البحر والصحراء، أما في العصر النفطي فالأمر مختلف، حيث حدث تغير في حجم السكان بعد أن شهدت المنطقة نهضة في مختلف المجالات، ترتب عليها استقدام المهاجرين المؤهلين وغيرالمؤهلين للعمل، وزاد عدد السكان الوافدين على عدد المواطنين، وأصبحت المشكلة السكانية تؤرق المثقفين وأصحاب القرار في المنطقة. إن نسبة عالية من القادمين إلى المنطقة هامشية وفائضة على الحاجة، وقد لعبت عوامل عديدة في وجود هذا الكم الهائل ميط الوافدين منها: تجارة استيراد العمالة التي تمارسها وكالات الاستيراد، وسوق العمل لدينا الذي يبحث وسط هذه الكثافة المهاجرة على يد عاملة رخيصة، كذلك فإن هذا الحشد من البشر في نظر البعض يوفر القوة الشرائية.. إلخ.. أيضاً عدم وجود سياسة واضحة لدى دول المنطقة تحدد الحاجة الفعلية إلى القادمين للعمل. إن تلك العوامل وغيرها تعتبر معوقات أساسية لمواجهة هذا الفائض الذي ترتبت عليه، ولاتزال، أزمات ومشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية.

إن منطقة الخليج تشكو من خلخلة سكانية، وحاجة إلى إليد العاملة والمتخصصين لكن ليس الحل في أسلوب الاستقدام المفتوح للوافدين دون ضابط وتخطيط. كان ينبغي منذ عقود أن تخضع عملية الاستاقدام للتخطيط في حدود الحاجة الفعلية والمهمة وفي الوقت نفسه تنمية الموارد البشرية المواطنة. لقد جاء التعليم الحديث إلى المنطقة منذ ثلاثة أرباع القرن، وتخرجي فى العصر النفطي عشرات الالآف من المتعلمين، والآلاف من التعليم التطبيقي والفني، أين هؤلاء جميعاً؟ وماذا ينتجون، وفي أي المجالات يعملون؟ وماهو دورهم في التنمية؟

صحيح من المنظور الكمي نستطيع أن نقوله إن هناك صعوداً في عدد المؤهلين وحملة الشهادات من مراحل التعليم المختلفة، لكن الأمر لا يقتصرعلى ذلك بل على المستوى النوعي والإنتاجي الفعلي، ومدى المساهمة في التطور والتنمية. إن الحقيقة التي لايمكن أن نهرب منها تقول إن الأداء والإنتاج متواضعان إلى. درجة أننا يمكن أن نقول إن هناك هبوطاً في هذا الاتجاه، فمعظم من تخرجوا لايعملون في مجال. تخصصاتهم، كما أن الغالبية يعملون في الوظائف الكتابية والإدارية.

ولنتناول قضية أخرى على المستوى الاجتماعي: القبيلة والقبلية. لقد كانت القبيلة مؤسسة اجتماعية هي في الحقيقة أساس التكوين الاجتماعي للمجتمع في منطقة الخليج العربي عبر عصور التاريخ، وقد لعبت دوراً مهماً في تاريخ المنطقة وفي المحافظة على قيمه وتقاليده، وكيانه ومصالحه، لكننا نعيش في نهاية القرن العشرين وعلى أبواب القرن الواحد والعشرين، وتعد هذه النهضة التي نشهدها ونشاهدها في مجالات الحياة المختلفة، وانتشار التعليم للجميع والوعي والتحضر، فإن منطق العصر والتطور يفرض التخلص من كثير من القيم والعادات والسلوك السابق الذي لاينسجم مع واقع الحال مثل: ضرورة التخلص من العصبية القبلية، والفكر القبلي التقليدي وماشابه من سلبيات في الماضي ساهمت في تخلف وجمود المجتمع في فترات تاريخية معينة، وأن نؤكد القيم الجيدة التي حملتها القبيلة ومارستها، وتنمية دورها الإيجابي في الحفاظ على تراثنا، وفي مقاومة الأجنبي ..إلخ.

ولعله من المناسب ونحن نقوم بعملية تقويم لفترات النهوض والهبوط في تاريخ المنطقة أن نطرح قضية المؤسسات. نعم بحكم طبيعة هذا المجتمع التقليدية فإن نشاطاته كانت تقوم على أساس فردي، وهذا جزء من تراثه التاريخي لكن قطاعات هذا المجتمع حتى في فترة ماقبل النفط كانت تتجه نحو المجتمع المدني المؤسسي الحديث. كان العمل الجماعي بداية المؤسسات في هذا المجتمع في مجال التجارة البحرية والبرية، والعمل الجماعي التطوعي في مواجهة الأزمات والكوارث. وقبيل النفط ومنذ بداية تصديره بدأت النخبة المتعلمة المثقفة في هذا المجتمع تؤطر نفسها في كل إمارة خليجية في مؤسسات أهلية تطوعية مثل المدارس والجمعيات والنوادي إلى أن جاءت عائدات النفط الوفيرة. لتتحمل الحكومة مسئولية الإنفاق على مجالات البناء، فنشأت المؤسسات الحكومية أو الأهلية المدعومة من الحكومة، لكن ذلك لم يلغ دور العمل التطوعي الأهلي بل تغير نمطه ودوره. والمجتمع المدني المعاصر يعيش مشكلات عديدة لأن تعزيز مؤسساته هو السبيل إلى التقدم، وهذا ما شهدته المجتمعات المتطورة في عالمنا المعاصر، لكننا نعيش مرحلة الخلط برغم ذلك التطور الكبير بين دور الفرد ودور المؤسسة، وهذه الأوضاع قد أخذتنا صعوداً وهبوطاً على المستوى الاجتماعي.

رابعاً: على المستوى الثقافي

الثقافة في أي مجتمع تتأثر بعوامل داخلية وخارجية مباشرة وغير مباشرة، ففي مجتمع الخليج العربي حدثت تطورات مهمة في القرن العشرين كان لها تأثيرها الثننهافي في هذا المجتمع، وشهدت الثقافة شأنها شأن المجالات الأخرى، ظاهرة الصعود والهبوط بين الحين والاخر.

في بداية النهضة في المنطقة التي صاحبت دخول التعليم الحديث، ومع تصدير النفط كان المتعلمون يمثلون النخبة المثقفة في المجتمع، وكانت طموحاتهم في تطوير مجتمعهم كبيرة ربما تفوق إمكاناتهم، وتفوق حتى إمكان تحقيق حدها الأدنى، وهي بحكم طبيعة المرحلة وفكرها وظروفها كانت تطمح للنهوض والتطور لاختصار الزمن، وتعويض فترات التأخر. والتقويم الموضوعي لمستوى الثقافة ودورها في نهضة مجتمع الخليج العربي يفرض علينا أن نقف على إيجابيات وسلبيات هذه القضية وهي مهمة وأساسية في نهضة الشعوب.

إذا كان- و لايزال- التعليم مفتاح الثقافة وأساسها فإن ارتباط الجانب المعرفي بالجانب الثقافي في التعليم أمر مهم، فنحن لانريد أن نخرج أناساً يحملون الشهادات دون وعي ثقافي بوا قع مجتمعهم، وإدراك دورهم المجتمعي، وقدرتهم على استشراف مستقبل بلدهم، ورسم معالم صورة ذلك المستقبل.

لقد انتشر التعليم المجاني الحكومي في المنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان غرضه تخريج مواطنين يحملون المؤهلات من المراحل التعليمية المختلفة لمجالات العمل في المجتمع، ومعظم هؤلاء قد امتصتهم الوظيفة الحكومية إلى درجة التشبع في الفترة الأخيرة، والسؤال: ماذا بعد؟ لقد كان هؤلاء في معظمهم كتبة وموظفين، وعدد قليل منهم في مجالات إنتاجية مهمة، فكان هناك صعود كمي في عدد المتعلمين، ومحو الأمية، وفي الوقت نفسه هبوط في ثقافة المتعلمين وتأهيلهم الجيد، ومستوى إنتاجيتهم، ولذلك أسباب عديدة تتعلق بسياسات الدول وهدفها من التعليم، وبالظروف المجتمعية والاقتصادية في العصر النفطي؟. كما أن تحول المجتمع السريع إلى مجتمع استهلاكي، وتوفر الثروة قد شغل هذا الجيل عن الثقافة، وجعلت اهتمامه يتركز على الجوانب المادية في الحياة، لذا اتجهت الثقافة هنا نحو التسطيح والضعف ثم جرى تهميش لدورها في التنمية، ماعدا قلة من المثقفين الذين استطاعوا أن يحفروا طريقهم- وفي الأغلب بجهودهم الذاتية- ليكونوا مثقفين حقيقيين، يبذلون جهوداً غير عادية في التنوير وسط واقع لايعي بعد أهمية وخطورة الثقافة في بناء المجتمعات وتطورها.

خامساً: الاستشراف المستقبلي

الاستشراف المستقبلي أصبح مهماً في ثقافتنا وخططنا، وإنه من المنطقي والطبيعي أن تكون درجة الوعي ومستوى الثقافة في المجتمع هي التي تحدد إلى أي مدى نستطيع أن نستشرف مستقبل شعبنا بمعنى أن النضج الثقافي سيجعل استشرافنا للمستقبل جيداً، بحيث سيكون هناك نهوض لاشك فيه، وإن قصور وعينا وثقافتنا المعاصر يجعل هناك هبوطاً محتملاً ومتوقعاً.

إن النظرة الاستراتيجية التي تركز على قضايا المستقبل الأساسية بوعي ثاقب يخترق الحواجز النفسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة لاتوجد إلا في عقل وسلوك المثقفين النوعيين، وفي الثقافة العضوية لديهم.

ندرس التجارب الماضية حتى نستفيد منها للحاضر، ولنتفادى سلبيات ذلك الماضي والحاضر أيضاً في مسيرتنا المستقبلية، وأيضاً لنضيف الكثير لبناء مجتمعاتنا في الغد، وبتقويمنا للدور الذي نضطلع به على المستويين الرسمي والشعبي، وبالأخص الدور الذي يقوم به المثقفون، فهو دور متواضع يتعامل مع المشكلات القائمة، وتعيش الثقافة حالة من التشويش والاضطراب والتغييب أحياناً، والتسطيح أحياناً أخرى. والشواهد في واقعنا كثيرة، فالناس لايقرأون، والمثقفون محبطون، والثقافة مهملة، وكثر أدعياء الثقافة من حملة الشهادات ومن غيرهم، إنها مرحلة الهبوط والنكوص التي حتماً ستعقبها مرحلة النهوض مهما طالت. بيد أننا ينبغي أن نشير إلى أهمية الاهتمام بالمستقبل، وأن بصرنا ينبغي أن يمتد إلى أبعد من الواقع والحاضر، وأن استشراف المستقبل قضية مهمة. وربما يطرح البعض أن مسألة استشراف المستقبل هي في علم الغيب، وأنها تقع في إطار التنبؤ الذي يحتمل كل شيء وربما عكس المتوقع.

لقدأصبح هناك شيء اسمه علم المستقبل له مناهجه وأسسه، ويستند إلى فهم عميق للحاضر وتطوره، وكذلك لتجارب الماضي المؤثر في الحاضر. إذا لم نحاول استشراف المستقبل فإننا سوف نقع في الكوارث والأزمات دون سابق إنذار، أو أن الأزمات الماضية تعود لتقع ويعيد التاريخ نفسه مع تغير في طبيعة الحدث وظروفه.

حتى الآن الاستشراف المستقبلي في فكرنا وثقافتنا بالمفهوم الاستراتيجي قاصر، وليس بالمستوى المطلوب من مثقفينا. إن هذه المسألة بصراحة تمر في فترة هبوط، فهل فكرنا في مجتمع مابعد النفط؟ وهل فكرنا في أزمة الميهاه العذبة في منطقتنا في المستقبل؟ وهل فكرنا في المصادر المساعدة والبديلة للنفط؟ إلى آخر هذه الأسئلة المصيرية التي تتعلق بوجودنا ومستقبل أجيالنا، عندما لا نجد الإجابة الإيجابية عن مثل تلك الأسئلة، فنحن نمر بمرحلة الهبوط، وعكس ذلك سيكون صعوداً لاريب فيه.

 

عبدالمالك التميمي