بيكار.. الفنان الذي علم أجيالاً

بيكار.. الفنان الذي علم أجيالاً

بفوز الفنان الكبير حسين بيكار (87 عاماً) بجائزة مبارك في الفنون لعام 2000 وهي أكبر وأهم جائزة مصرية.. يتوج على عرش الفنون الجميلة في مصر.. وكان على الدوام في هذه المكانة الرفيعة، حيث وصلت رسالته الفنية إلى كل أرجاء الوطن العربي من خلال رسومه وكتاباته.

لقد تعلم على يد هذا الفنان أجيال وراء أجيال منذ ترك التدريس في كلية الفنون الجميلة منذ خمسين عاماً وتفرغ للعمل في الصحافة.. وكأنه ترك المدرسة الصغيرة المحدودة إلى المدرسة الكبيرة المنتشرة في أرجاء الوطن العربي ليكون المعلم الأول لأجيال من فناني مصر والمنطقة ومازال يؤدي رسالته النبيلة.. بيكار واحد من عمالقة الإبداع في حياتنا.

حين تود أن تكتب عن بيكار.. عليك أن تغلق كل المراجع التي تتخيل إمكان الاستعانة بها في تحرير موضوعك، افتح قلبك فقط ودعه يتدفق بالحب. اشطب على كل الألقاب والأوصاف مثل (الفنان الكبير)، (الفنان الرائد)، (الفنان الإنسان) وغيرها، واغلق مناهج النقد، ومداخل التعريف النمطية، كلها بديهيات نعرفها جيداً عن بيكار، وهو شخصياً في تواضعه، وزهده، في غنى عن هذا كله.

يبقى لقب واحد كبير، خليق به، وهو لقب (الأب) لنا جميعاً المشتغلين بالفنون الجميلة، فإن كان يحيى حقي هو (الأب) في القصة القصيرة، فإن بيكار هو (الأب) في عالم الرسم والتلوين والنقد الفني والأخلاق الحميدة. ومع كل ما أعطانا من نصائح وتوجيهات وتعاليم أعطانا أهم شئ (الحب) ومازال يمنحه لنا، من خلال حضوره الإيجابي، وابتسامته الطيبة التي تزيل عنك أي ظلم أو إحباط أو تعثر أو ضيق أو غرور.. يأخذ بيدك ويدفعك برفق للأمام، وستتقدم وسيكون معك دائماً، ولم تغفل عيناه اليقظة عنك.

وسأكتب عن بيكار من منظور ذاتي.. سأفتح قلبي، وأتركه يتدفق، فبالحب أدخلنا بيكار في إطار قلبه، وسيبقى معنا وسنبقى معه إلى النهاية.

طفولة ناطقة

حسين بيكار (87 سنة) من مواليد مدينة الإسكندرية، ننتمي معا إلى قبيلة (الجرتلية) التي تعود جذورها إلى جزيرة كريت التي أنجبت أيضاً الفنان العالمي (الجريكو) أي (الجريتلش) فنان الرومانتيكية التعبيرية الأول في القرن التاسع عشر.

والكبار من أهلى يعرفون بيكار جيداً، ويكلمونني عنه، ولكني لم أعرف بيكار شخصياً إلا أخيرا، بالتحديد عام 1975، ولكني كنت أعرفه وأتتلمذ عليه منذ صغري، من خلال رسومه في مجلة الأطفال الشهيرة (سندباد) والتي يعاد إصدارها الآن ضمن مجلة أكتوبر القاهرية.

سحرتني رسومه لرحلات السندباد البحري، كما سحرت آلاف الأطفال مثلي على امتداد الوطن العربي في الخمسينيات، في منتصف القرن العشرين كنت أنقلها، ثم أقلدها، ثم أبتكر قصصا وأرسمها، مثل رسومه التي كنت أعرفها من شخصية خطوط الفنان التي تتميز بالوضوح لمعالم موضوعه، وبساطة المعالجة، وسحر الخيال، ودفء الألوان، وروح الشرق العربي في لمساته، وهي بعض من ملامح إبداعه الذي لازمه طوال رحلته الفنية والتي نراها في لوحاته بموضوعاتها المختلفة، وخاصة في رسومه في جريدة (الأخبار) مع أبيات منظومة من أشعاره، والتي جُمع جزء منها في كتاب اليوم العدد 123 بعنوان (صور ناطقة) صدر عام 1977 ـ والعدد 184 بعنوان (رسم بالكلمات) صدر عام 1981 وقدمه الكاتب الكبير مصطفى أمين: (عرفت بيكار من خطوطه قبل أن أعرفه من ملامحه. هذه الخطوط الأنيقة والظلال الرائعة جعلتني أرى فيه فارساً من القرون الماضية لا يحمل سيفاً وإنما يحمل ريشة.. يغزو بها كل يوم آفاقا جديدة وعوالم جديدة. هذا الرسام ليس فناناً في فن واحد. إنه أستاذ متفوق في عدة فنون. أستاذ في الرسم وأستاذ في الأدب، وأستاذ في البزق والطمبور والعود. مزيج من الرسام والمصور والشاعر والموسيقي والفيلسوف. أعطاه الله قلبا كبيراً يحب به كل الناس ولا يكره أحداً. وأعطاه الله نفساً عالية لا تنزل إلى الحقد والغيرة والضغينة. وأعطاه الله إباء لا تذله المناصب. ولا يخضعه المال ولا يضعفه النفوذ والسلطان).

وقدمه أحمد رجب في (صور ناطقة) بأسلوبه الساخر الضاحك الشهير: (أستاذنا الكبير بيكار فنان مهذب جداً، إذا ألقى التحية على أحد قال له: من فضلك صباح الخير.. ولم أره مرة واحدة إلا باسم الوجه. ولم أشاهده عمري فقد أعصابه مرة.. ويقال ـ وهي رواية غير مؤكدة ـ انه (اتنرفز) للمرة الأولى في حياته منذ 21 سنة، ولكن صوته لم يرتفع، ولم يفقد ابتسامته الهادئة. وكل ما قاله للشخص الذي استفز أعصابه يومها: من فضلك عيب كده. وعيب كده ـ هي أكبر شتمه في قاموس بيكار).

وهكذا وفي طفولتي كان بيكار بمثابة الأب لي في طريقي للفن.. ومازال حتى الآن من خلال جوهره الأصيل النقي.

ولعلي أكثر أفراد جيلي ممن شغلوا أنفسهم بعالم الفن المصري المعاصر. وضعت على عاتقي توثيقه وتسجيله وقد أفادني في هذا المجال اثنان التقيتهما في مرحلة الدراسة بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية. الأول هو الناقد والفنان الكبير (صدقي الجباخنجي) رحمه الله (توفي في نوفمبر 1992).

أما أستاذي الثاني فهو حسين بيكار من خلال مقاله الأسبوعي بجريدة (الأخبار) (عدد الجمعة وحاليا عدد يوم الخميس) والذي يغطي فيه معارض الفنانين ويشرح من خلاله الاتجاهات الفنية ومدارس الفن المختلفة ويكتب عن أعلامه في مصر وفي العالم، هذه المقالات حتى بعد أن طُبع جزء منها في كتاب تحت عنوان (لكل فنان قصة) من مطبوعات كتابي في أول إصداراتها الجديدة عام 1984 ويكتب بيكار في تقديمه للكتاب صورة شعرية طريفة:

"أكتب إليك من تحت أكوام الورق..

ورق.. ورق.. ورق.. ورق..!!

أكتب على الورق.. ارسم على الورق.. أجلس على الورق.. أمشي على الورق.. آكل الورق.. أشرب الورق.. استنشق الورق.

أطوف العالم في سفن من ورق.. أجفف العرق بالورق. أتسلق جبال المعرفة بحبال من ورق.

أشتري غذائي وكسائي وراحتي، بل وعذابي بعملة من ورق.

أصبحت مثل حشرة (العثة) التي لا تعيش إلا في الورق وبالورق.

وترتفع تلال الورق من حولي لتصبح السكن والكفن والفراش واللحد.. وسجنا شاهق الجدران والقضبان والقلق.

وأكاد أختنق.. أطمع في طوق نجاة ينجيني من الغرق).

أتذكر أني اشتريت من هذا الكتاب العديد من النسخ.. كنت أوزعها على من أعرفهم من شباب الفنانين وأصدقائي، لما فيه من معرفة ومتعة، فقلم بيكار كفرشاته ومعزوفاته، يجمع بين السهل الممتنع، والقيمة الفنية العالية، مع البساطة وعمق التخصص، مع سهولة العرض، يعلمك دون أن يمسك لك العصا، فتحبه وتشعر بعظمته، دون أن يصرخ في وجهك بأنه أعظم الموجودين على الاطلاق.. كل هذا ولم أكن قد قابلته بعد.

اللقاء الأول

حتى عام 1974 كنت قد أقمت ستة معارض خاصة لأعمالي بالإسكندرية. لم يكتب عنها خبر ولم يرها إلا أصدقائي الذين يمكنهم أن يشاهدوا نفس الأعمال في مرسمي دون الحاجة لإقامة معرض.

كنت شابا متحمساً، طموحاً إلى أن يصل فني إلى الناس، لذلك كان إحباطي بعد هذه المعارض التي لم يرها أحد كبيراً، خمسة عشر عاماً من العمل الفني المتواصل. أنجزت خلالها مئات من الرسوم واللوحات والتماثيل. أعمالي تتراكم حولي وتزاحمني في معيشتي وأسرتي تنظر إلي بسخرية وإشفاق. ملأني الإحباط فقررت أن أقيم آخر معرض لأعمالي وكانت مجموعة جديدة بعنوان (الكف)، ثم أتوقف عن إقامة المعارض، وإن كنت سأستمر في الإبداع كأمر لا مفر منه، ودعوت لمشاركتي المعرض كضيف شرف أستاذي في فن النحت محمود موسى (87 عاماً)، وأرسلت الدعوة كعادتي للجميع وخاصة أجهزة الإعلام ونقاد الفن، وأنا على ثقة من أنه معرض آخر لن يشعر به أحد، ثم أتوقف عن هذا العمل الاستعراضي غير المجدي.

وافتتح المعرض، فوجئت في جريدة (الأخبار) الصادرة في 21 مايو 1974، بمقال (بيكار) الأسبوعي (ألوان وظلال) مكتوب بالكامل عن معرضي هذا تحت عنوان (انتحار فني) أو (إضراب حتى الموت).. دون أن يراه، فالمعرض بالإسكندرية، وبيكار في القاهرة، وإنما كتب بناء على الدعوة والكتالوج الذي أرسلته له، وقد أنهى المقال بذكر اسم إحدى لوحاتي قائلاً:

(ومهما كانت درجة الشاعرية التي تقطر من هذه العناوين، فإنني أحب أن أذكر الفنان بأهم عناوينه جميعاً وأحب أن يتأمله جيداً، ويعمل به (تحية للإنسان المهزوز، الذي لن يستسلم!!).

وفعلاً لم استسلم ودفعني مقال بيكار إلى أن أتخلص نهائياً من تلك الهزة التي انتابتني وأنا في بداية أهم مراحلي الفنية، وواصلت عملي الفني دون أن يهمني الإعلام كثيراً، الذي حين أهملته أقبل علي، وفي العام التالي، أقمت بالقاهرة أول معارضي الخاصة. تحية إلى بيكار الذي أخرجني بهدوء ومنطق من أزمتي، وفوجئت به وهو الأب الذي قابلته للمرة الأولى في معرضي هذا، قد أفرد مساحة مقاله بالكامل بما في ذلك مساحة الرسم والشعر الخاصة به ليضع إحدى لوحاتي، ولعله لم يفعل هذا من قبل، وكتب في جريدة (الأخبار) عدد الجمعة 7 فبراير 1975 تحت عنوان (لم ينتحر.. ولن ينتحر): (لقد كان الفنان صادقاً في عزمه عندما ضاقت الدنيا في وجهه، ولكن العزم شيء والواقع شئ آخر، فقد غلبته طبيعة الفنان، وهزمته مغريات الخطوط والألوان، وها هو ذا يعود من جديد إلى الخلق والعطاء أكثر انطلاقاً وتفجراً، في معرضه الرائع بالقاهرة).

هذا هو بيكار.. إن أي حديث عنه كفنان وناقد يجب أن يبدأ من القلب، وينتهي بالقلب، وفي جو فني يسوده الحقد والتنافس والصراع الأحمق، نجد بيكار متألقاً دائماً بالأمل والفهم، يجعلك تتصالح مع نفسك ومع من حولك، وتضع طاقاتك كلها في إبداعك الفني، وليس في معارك جانبية. قالوا عنه إنه لا يكتب نقداً، ولكنه يجامل، هؤلاء لا يعرفون أصلا كيف يكتب النقد، أو كيف تكون المجاملة، إن ما يكتبه بيكار، فن له مكانته البارزة في تاريخ النثر المصري المعاصر، ليس فقط في تاريخ النقد الفني، يبني ولا يهدم، ويدفع للأمام بالتجربة الفنية، ولا يعمل على إحباطها. وإذا كنت تناولت بيكار في مقالي هذا من منظور شخصي، فلأن الفضل في مكانتي الفنية الراهنة، تعود إليه، وإلى اقتناعه بإبداعي وتشجيعه لي، رغم أنه لم يدرس لي الفن، ولقائي معه محدود. إلا أن تأثيره في إيجابي وعميق، ولست الوحيد في هذا.

افتح القلوب التي كانت غليظة ستجد لبيكار مقداراً كبيراً من الحب والعرفان داخلها، فالفن عنده حب وعطاء وجمال وحضارة وإيمان وتصوف، والفنان لديه مجرد إنسان متواضع يتعلم كل يوم، ويكتب في إحدى رباعياته بعنوان اعرف نفسك:

(أنا اللي بعضي من تراب الأرض. وبعضي من أثير

أنا الظلام والنور وجوايا الصغير والكبير

أنا اللي ممكن أزحف على بطني وممكن في الهوا أطير

أنا الشر لو أطاوع نفسي وكل الخير لو يصحى الضمير)

هكذا يستهل بيكار معظم موضوعاته النقدية بقصيدة نثرية رائعة تمثل مدخلاً مهما لفهم مفردات الفنان الذي يكتب عنه ويقدمه لجمهور جريدة يومية غير متخصصة في الفنون الجميلة.

فبيكار إذن رائد في مجال توصيل مفاهيم الفن إلى أكبر قطاع من الجماهير من خلال الصحافة الشعبية اليومية، وهو الشيء الإيجابي الذي يحتاج إليه الفنان لانتشار أعماله في مختلف الوسائل الإعلامية عندنا، لا أن تبقى أعماله محصورة بين صفوة المتذوقين والمتخصصين.

 

عصمت داوستاشي

 
  




الفنان حسين بيكار





لوحة لحن نوبي من أهم ما رسم بيكار





لوحة عن تلوين واجهة معبدابي سمبل حيث تمثال رمسيس الثاني





إحدى لوحات بيكار وتحمل عنوان لحن ريفي 1995





بورتريه لفتاة رسمه بيكار عام 1990





وجه شاب تم رسمها عام 1942





لوحة أخرى للفنان بيكار تحت عنوان فرع نوبي 1984