(رؤية فلسفية في علم جمال الفن الإسلامي)

(رؤية فلسفية في علم جمال الفن الإسلامي)

تأكيد الهوية... أو الضياع!

أهمية الهوية الثقافية تكمن في الربط بين إحساسنا المتأصل باليقين لديني والاجتماعي والشخصي والطمأنينة الفكرية فيما يتصل بمن نحن في الحقيقة? وما الغرض من وجودنا?!

ظلت قضية الهوية موضوعاً للجدل في العالم الإسلامي، ولكن على مستوى سطحي من حيث الرؤية أو مستوى سياسي يتسم بالتعميم، وفي النادر القليل على مستوى فلسفي عميق، على أنه مهما اتسمت هذه النقاشات بالذكاء، فإن لبّ القضية الكامن لن يمكن الوصول إليه، في تصوّري، إذا ما ظلت محصورة في وضع الإنسانية في إطار منظور ثقافي محدد أو أيديولوجيا بشرية مستحدثة، إذ الأمر يستلزم أيضاً أن نفهم من خلال بُعد أكثر اتساعاً وكونية، ولن يتوافر هذا إلا من خلال المنظور الإسلامي الكوني.

وإذا كان المبدأ الذي أصبح سائداً في نهايات هذا القرن، هو مبدأ فتح الأبواب للمعلومات والآراء وليس إغلاقها، وقبول تعددية التيارات السياسية والاجتماعية وليس حصرها، والاعتراف بالآخر وليس رفضه، أي أصبح السائد هو عدم عزل المجتمع عن مجتمعات الدنيا ووضعه ضمن سور، بل صار من المتعذّر عزله، فقد أتاح التطوّر تمهيد طريق تأمين الحريات الفردية للأفراد وممارسة الديمقراطية للجماعات، وأعطى للجميع الحق في الحصول على المعلومات ومقارنتها والاستفادة منها في بلورة الرأي وتكوين الموقف.

إن الوجه المثير للجدل، في هذا المقام، هو تحوّل الإعلام إلى قوة أيديولوجية ضارية، هذه الأيديولوجية تتولى بدورها عمليات إقناع واسعة النطاق وبما لا يمت لمصلحة الإنسان في شيء.

ويجب أن ندرك أن أي غزو في مجال الفنون سواء كان ذلك في مجال الآداب أو الموسيقى أو العمارة أو الفنون المرئية يحمل معه تغلغلاً عقدياً، ومن ثم فإن إيجاد جمهور متيقظ للفنون الإسلامية وعلى دراية بها أصبح أمراً ضرورياً. ففي غياب هذا الجمهور الواعي سيصبح الميدان مفتوحاً أمام الفنانين يدسّون على الناس أي رسالة زائفة موهمين إياهم أنها الحقيقة الأصلية.

ولن يكون بإمكان أي فرد في مثل هذا الموقف أن يتذوق ما يعرض له من فنون أو أن يحكم عليها وسنكون غافلين عمّا وراء بعضها من منفعة أو ما تجرّه من ضرر. إن الفنون تشكّل دعامات جوهرية للهوية الثقافية لأي شعب. ولعل الفنون الإسلامية أكثر تكاملاً من أي فنون أخرى وأكثر تأثيراً بجوهرها الديني من تأثير فنون أي ثقافة بنظامها الديني.

وهذا يتطلب منا القدرة على استنهاض العبق فينا، في زمننا الصعب، والمحاط بشتى الأزمات، والظامئ، للأمن الثقافي والفني والاجتماعي. على كل حال لسنا وحدنا في نهاية هذا القرن نعيش قلق الإبداع، ورغبة البحث عن الأصيل والرائع والخلودي في ظل الغزو التكنولوجي والكمبيوتر ورسائل الاتصال الفضائي.

والفنون الإسلامية يجمعها الهدف إلى تحقيق رسالة واحدة، وتلك الحقيقة تجعل أشكال التعبير فيها متماثلة، وسواء كان فن العمارة أو فن التزيين والزخرفة أو فن الأرابيسك وأشغال المعادن، أو فن السجاد والنسيج، فإن تلك الفنون الإسلامية كلها تؤكد على محتوى مجرّد تنقله بطريقة غير روائية، وتظهر صورا مقتبسة من الطبيعة أو وفق نموذجها مما يؤدي إلى التركيز على فن الخط، وعلى الأنماط الهندسية، والأشكال النباتية المنمذجة وفق ما في الطبيعة.

تنظيم تراكمي

وبغض النظر عن شكل التعبير الفني أو وسيلته، فإن الفنون الإسلامية يلزمها لتحقيق ذلك وجود تكوينات نماذجية موحّدة ذات طبيعة قياسية، تجمع فيها وحدات التصميم المختلفة بطريقة تراكمية، ففي القصة والقصيدة، وفي المزهرية والأعمال الخشبية، وفي القصر أو تخطيط المدن الكاملة، نجد ما يعطينا انطباعاً بالاستمرار الأبدي.

وكل هذه الفنون نرى فيها كل الأنماط التي يتحدث عنها مؤرخو الفنون، كما أن أي عمل فني إسلامي لا يمثل تركيباً يقتصر على اهتمام واحد يتمركز حوله ويتأثر به، وإنما نجد فيه تنظيماً تراكمياً يجمع الأجزاء المكوّنة له، أو الكاملة بذاتها المتكاملة مع بعضها، كل منها ينقل رأياً واحداً ونمطاً واحداً وفكرة واحدة، ورواية واحدة عن الكيان الكلي.

وأي نموذج من هذه النماذج تستمتع به بمفرده أو مع واحد أو أكثر من النماذج الأخرى لا يلغي ما يحدثه العمل الفني بذاته من تأثير جمالي، أو ينتقص من قدر هذا التأثير، فكل نموذج يحمل هويته الخاصة به ونسقه الذاتي في إحداث التوتر أو تخفيفه، وتتسم تفاصيل العمل الفني الإسلامي بالتعقيد المتماسك، فهو يشد أسماعنا وأبصارنا ويأخذ بألبابنا من خلال سلسلة متشابكة من الأحداث والحركات والخطوات والفراغات.

وكل هذه السمات المميزة للفنون الإسلامية هي ذاتها التي تميّز الصفات الأدبية للقرآن الكريم، ولذا، فإنه من الواضح أن أفضل ما أبدعته الشعوب المسلمة من فنون قد تشكّل على هدى من البناء الأدبي للقرآن، ومن الأفكار الواردة به، وعندما نستطيع من خلال التحليل والبحث المتمعن أن نوضح مدى تغلغل أثر القرآن باعتباره كتاباً مقدساً، وكذلك باعتباره إعجازاً أدبياً، فإننا سنكتشف أن الاهتمام بالفنون الإسلامية أمر يحتّمه القرآن الكريم ذاته.

والفن الإسلامي - من ثم - ينبغي أن يصدر عن فنان مسلم، أي (إنسان) تكيّفت نفسه ذلك التكيّف الخاص الذي يعطيها حساسية شعورية تجاه الكون والحياة، والواقع، بمعناه الكبير، وزوّد بالقدرة على جمال التعبير، وهو في الوقت ذاته إنسان يتلقى الحياة كلها من خلال التصوّر الإسلامي، وينفعل بها ويعانيها من خلال هذا التصوّر، ثم يقص علينا هذه التجربة الخاصة التي عاناها في صورة جميلة موحية.

هكذا تجسّدت الرؤية الإسلامية في التراث الفني الإسلامي، وعبّر هذا التراث عن حقيقة الهوية العربية والإسلامية، التي لا مناص من اكتشافها والتعرّف عليها، والتوحّد بها في عالم متسارع من طوفان المتغيرات المتلاحقة التي تجتاح في طريقها كل شيء، ولا تتردد في تدمير كل ما يقف أمام أعاصيرها متسلحة بثورة المعلومات وبتكنولوجيا الفضاء.

هذا التراث يحمل في طياته قيم الأمة وفلسفتها في الحياة، ومزاجها الفني، ويعبّر عنها بصور متعددة، كالحكايات، والملاحم والسير والأمثال والرسوم والعمارة والزخرفة والموسيقى، وبقية الفنون التي لا تخلو منها حضارة حيّة من الحضارات.

لقد أضحى هذا التراث - خاصة منه الفني - قيمة جمالية تاريخية يلح في التواصل معه، نظراً إلى حضوره المهم في كل ماهيتنا البصرية والبصيرية للانطلاق من كنه قوانينه الداخلية، من أجل تكوين خطاب جمالي مستقبلي، يؤكد لمن أراد في عصر ابتلاع الهويات والماهيات، هويتنا وماهيتنا العربية والإسلامية، ويفتح لنا آفاق فن المستقبل بكونه خطاباً جمالياً فنياً لمجتمع العدالة المنشود، لكن العودة إليه ينبغي ألا تفهم كعودة سلفوية تلفيقية لاستعارة أشكال وأساليب أو رموز فنية على أهميتها، بل العودة لفهم آلية العلاقة التي تربطه كشكل من أشكال الوعي بالمستوى الحضاري للمجتمع العادل، صاحب منظومة الفن المطلقة، وخلق أشكال من الوعي للعالم جديدة ومبتكرة تتناسب مع مكتسبات الحضارة الحديثة، دون أن تفقد ذاتيتها وأصالتها وتميّزها.

وليست الأصالة هنا دعوة طارئة، بل هي هوية لابد أن تلازم العمل الفني الأدبي المبدع. إن مسألة الأصالة وجدت مكانها الصحيح على الأرض العربية، ليس فقط بفعل ظروف الوجود السياسي المتحرر، بل كأساس لتحديد شخصية متفرّدة للثقافة الجديدة في البلاد العربية، وفي مجال الفكر والفن، وهما مظهرا الحضارة، كانت الأصالة هي الشرط اللازم لتحقيق الوحدة الحضارية ومن ثم لتحقيق الوجود القومي الجديد.

سؤال الهوية

إن الأصالة الفنية هي (تحقيق عمل فني ينتمي إلى شخصية تراثية متميّزة بأسسها الجمالية)، وهذا التحقيق يمر بثلاث مراحل: رفض الفن الغريب أولاً والكشف عن معالم الشخصية الذاتية ثانياً. ثم مرحلة تمثل هذه الشخصية في الأعمال الفنية.

إن زوال الذكريات الحضارية المتمثلة بالتراث المعماري - على سبيل المثال - في أكثر العواصم العربية والإسلامية، أفقد الجيل الجديد فرصة التعايش مع هذا التراث مباشرة، كما أن إهمال ما تبقى منه مهلهلاً أورث نفور المعماريين من تمثل أنقاض وأطلال في عمارة لن تلبي حاجات جديدة جداً ومختلفة عن حاجات الماضي، ولم يبق أمام المعمار الحديث إلا المتاحف والكتب التي أصدرها المستشرقون عن أوابدنا المعمارية، وعن المفهوم الجمالي في هذه الأوابد، ومنها عرف - ومع الأسف - أن هذه الأوابد لا تصلح إلا للماضي الذي انقرض.

لم يفطن المعمار الحديث إلى التعرّف على أساس هذه الجمالية من خلال التمييز بين مفهومي الجمال في الشرق الإسلامي والغرب، فالجمال الإسلامي يقوم على التوحيد الإلهي والكمال المطلق، أما الجمال الغربي، فإنه يقوم على الكمال الإنساني والجمال الأبولوني الرياضي.

لقد وجد المعمار الحديث نفسه محاطا بهذه الموانع التي تحجبه عن الارتباط الصحيح بالتراث المعماري، ومع ذلك فهو مسئول عن هذه العمارة الهجينة التي تنتشر سرطانياً في جسم المدينة العربية الحديثة لأنه لم يشارك بإيجاد الحلول والأسس على الرغم من كفاءته لذلك، واكتفى خلال عقدين من زمن الستينيات والسبعينيات، بتقديم مخططات صمّاء لا تجيب إلا عن سؤال واحد: أين الوظيفية? ولم يستطع الإجابة عن سؤال أهم: أين الهوية?

إن الجماليتين الدينيتين، اللاتينية المشيّدة بالتمثيل المنظور، والشرقية/العربية/المائلة إلى تحريم كل إحضار مادي، سوي، تتجابهان من خلال حرب الأيقونات الشهيرة التي نجم عنها تنديد ينتصر للروح الشرقية مؤقتاً ويشهّر بـ (الفنان الجاهل.. مدنس القدسيات) الذي يمثّل مالا ينبغي تمثيله ويريد بيديه النجستين إعطاء شكل لما يجب ألا يؤمن به إلا القلب.

لكن التغيير (التطور) المتوالي الذي لحق باللوحة الغربية ابتداء من (جيوتو) كان يشدد على وثنية الأشكال والدخول في أجزاء مادتها ولو لم يعد الموضوع دينياً، فقد عبّر ذلك عن الحسّ الامتلاكي لمكوّناتها المادية أولاً، ولما تمثّل ثانياً، كما أن النور أضحى حتى في اللوحات الدينية يمثله مصدر فيزيائي محدد، ولم يعد شاملاً.

لذلك عندما استنبط فنانو الغرب اللوحة التجريدية، فإنهم كانوا يحاولون العودة إلى اللوحة الأصل اللامادي/العربية، لكن النزعة الفردية العميقة التي رافقت ذلك أحبطت هذا المسعى، وأعادته إلى الاتجاه عينه، لكن بحلول تشكيلية حديثة، فهي (لوحة الحامل) قد تحوّلت إلى هاجس شخصي له علاقة بالمكوّنات الأساسية الذاتية للفنان الغربي، لذلك فهي لوحة فوق مادية، ولم تصل يوماً إلى اللامادية التي فُهمت عربياً على أنها نور يلف الأشكال والفضاء ويغيّب الحسّ والأبعاد، وما الرمز إلا المثال الذي يرسم معالم الكون والإنسان حيث يغيب التشريح والبناء المادي للعالم، ويتألق المشهد ضمن نظام (توحيدي) خاص، إنها (طريق الوحدة) التي يحدّثنا عنها ابن عربي.

جدل منطقي

ومن هنا، فنحن مطالبون اليوم بأن نستكنه النور مرة بل مرات أخرى، ونبني أعمالنا الفنية على أساس منه، باعتبار ما شكّل لنا نحن العرب والمسلمين الموضّحين من خلاله هويتنا المتقدمين به إلى العالم على أنه أهم مميزات ثقافتنا الفنية، شكّل لنا النور الذي قامت عليه هواجسنا الجمعية الحضارية، وإبداعاتنا لأنه مازال أي تحوّل أسلوبي عام في تصويره، يعكس تحوّلاً في الحضارة كلها.

فالنور الذي اشتقت منه الحضارة الأوربية في عصر النهضة كان نوعاً من نور فيزيائي كوني: وعندما وصل إلى ريشة (رامبرانت) حاول الانتقال به إلى الجوهري، من خلال تركيزه وتبقيعه، لكنه بقي فيزيائياً، ونحن إذ قطعنا شوطاً كبيراً بحضوره وتجليّاته الروحانية، أكان في الرقش أم الخط أم المنمنمات والترقينات، مطلوب منا أن نتجاوز اللامرئي الميتافيزيقي الروحاني فيه، ونحاول في اللامرئي الروحي والواقعي، ومن دون الارتكاز إلى فيزيائيته فحسب، لأن الغرب قد سبقنا في لوحته التجريدية إلى ذلك، بل كتعاطف وتواصل إنسانيين روحيين كما هي منطلقات، نورنا الأصلي.

ربما توصلنا هذه المنطلقات إلى صياغة الأشكال المادية ضمن منظومة نورانية جديدة، وقد نصل إلى تنظيم العالم الحسّي تنظيماً إطلاقياً بطريقة ما، وقد نصل إلى الذرية، أو قد نصل إلى الجميع معاً ضمن تجادل منطقي.

وتبقى التجريدية العربية والإسلامية أكثر تعبيراً عن فلسفة الفن العربي الإسلامي وأكثر تعبيراً عن بعض الاتجاهات التجريدية مثل تجريدية بول كلي ومانوسيه وبيسيه وهومز، لأنها تقوم على مبرر ثقافي عريق، في حين تقوم بعض التجارب التجريدية في الوطن العربي على تقليد الاتجاه التجريدي العدمي في الغرب، بعيداً عن المعنى والغرض والمسئولية.

والواقع أن حضور الغرب في إبداعات العرب في العصر الحديث كان واضحاً في الثلاثينيات، وحتى السبعينيات، فكانت يقظة عربية بدت معالمها في اتجاه الفنانين نحو الأصالة، أما حضور العرب في إبداعات الغرب، فلقد أصيب بنكسة لسوء العلاقات السياسية من جهة، ولإيغال الغرب في فرديته وسعي الفنان وراء ابتكارات تنسجم مع تطوّرات العلم والتقنية الخارقة في الغرب.

على أن الحديث عن حضور عربي في فن القرن العشرين له أهميته البالغة في بيان عالمية الفن العربي وضرورة النظر إليه بعين العصر، وإمكان تطويره على ضوء هذا العصر، إن هذا الحضور العالمي للعرب هو درس بليغ للفنان العربي والمسلم، ودرس مفيد للفنان الغربي الذي يعتبر حتى اليوم أن الفنانين الأكثر شهرة والأكبر تأثيراً في بناء فن القرن العشرين كانوا من المستشرقين.

ويجب أن نعي أنه لم تكن الأعمال الفنية الجمالية التي أفرزها الغرب هي وحدها التي غزت عالمنا الإسلامي - وأفضل دليل على ذلك تهافت الأثرياء من المسلمين على اقتناء الأعمال الفنية الغربية مهما ارتفع ثمنها - وإنما نجد ما يتعلق بالفن من أفكار هي الأخرى تتغلغل في المجتمع المسلم وتسري في ثقافته بكثافة متزايدة، وفي شمولية مطردة.

وما يثير الانتباه - وهذا ما أدركه كثير من النقّاد المحدثين - في اللوحة التشكيلية العربية ما يتعلق فيها بالخط والكتابة أو ما يرجع إلى الثقافة الشعبية، وبالرغم من أن الرسام العربي جرّب كل التقنيات وأساليب الغرب، فإنه اهتدى، في سياق ممارسته، إلى توظيف مفاهيم الخط والكتابة والحرف العربي لدرجة أن هذه العناصر أصبحت من المقومات الرمزية والثقافية التي تميّز اللوحة العربية بالقياس إلى التجارب العالمية.

بل إننا من الصعب أن نعثر على رسام عربي لم يدمج الخط أو الحرف العربي في فضاء لوحته، أولا لأنه يحيل إلى ذاكرة ثقافية متميّزة، وثانياً، لأنه عنصر تشكيلي وتجريدي يمكن تطويعه داخل اللوحة بكل الطرق الممكنة وبسبب قدرته الكبيرة على التشكيل، وإمكاناته الجمالية اللامحدودة.

لقد استعمل الرسّامون العرب الحرف العربي بكل الأشكال داخل لوحاتهم، بل إننا نجد فيهم مَن يلجأ إلى الكتابة من خلال تداخل بين النصوص والتخطيطات أو ضمن تشكيلات زخرفية تضفي على اللوحة مضموناً أدبياً وجمالياً في الآن نفسه.

فضلاً عن استلهام مجموعة كبيرة من الرسّامين العرب للتراث التصويري العربي من منظور جديد، أو إدخال المنمنمات بوصفها تصويراً عربياً يستمد مقوماته من الأشكال الزخرفية والخطية المختلفة. إلى جانب الخط العربي والكتابة، فإن الرسم العربي المعاصر يتميّز باستيحائه للعلامات والرموز الثقافية المختلفة، وعلى إشارات تحيل إلى التصوّرات التقليدية للإنسان العربي، بل إن الرسام العربي يتخلى، أحياناً، عن الأسلوب المسندي ليضع تشكيلات جديدة بأدوات ووسائل شعبية حافظت عليها المخيلة العربية طوال العصور.

وحتى لا تتيه مؤشراتنا، يمكن لنا الاتكاء على أيقونولوجيا أساسية، بقدر ما هي محلية في الأصل أضحت منذ زمن بعيد عالمية، فهي لا تخبو بإمكاناتها بخبو الحضارات، بل تظل تمنحنا قدراً هائلاً من الحلول التشكيلية. فالدائرة (نبع النور والطاقة) - المثلث (نبع الخصب والعطاء) - الشجرة (نبع لدوام الحياة) - الإنسان (نبع الخلق والفعل).. هذه العناصر مازالت الحسّي المطلق في عصر العلم وفيزياء الكم. وهي بحاجة إلى نقلة جمالية يمكن أن ينجزها عصرنا، بتحويل قيمتها الإدراكية المتأصلة بشكل ما في الفن الإسلامي/آخر إنجازاتنا الجمالية الحضارية/، وشحنها أكثر بعناصر شعورية يطبعها الصفاء الإنساني العذب، من أجل أن تصبح/نوراً على نور/لا في العمارة وحدها، المكان الأكثر جمعية لتكوين الذائقة الجمالية والتواصل الإنساني، بل من أجل المشاركة اليوم في رفع سوية اللوحة وطبعها بماهيتنا، أي/لوحة الحامل/التي أضحت برسم الفعل الإبداعي العالمي، مثل السينما والمسرح، والتي حوّلها التجريد الشخصي الذاتي السكوني الغربي الذي يستدرك ويستنتج اللامرئي مادياً إلى نزوة فردية عابرة أو إلى مجرد توقيع كما فعل (ماتيو) الذي وضع توقيعه بطول لوحته البالغة عدة أمتار.

ولذلك ومن أجل السمو بالنور وبالأشياء الفنية إلى مستوى العاطفة الإنسانية الجمعية والارتقاء بشمولية المكان المعماري، وأنسنته عن طريق تقديمه على أنه فعل تواصل لا فعل قهر، تصبح على هذا النحو رسالة الفن العربي وهذه مقومات كونه ذا هوية.

نقد توجيهي

ومهما يكن، فإن أغلب الرسّامين والنقّاد من العرب والمسلمين، بل من المستشرقين الأجانب يتفقون على أن الاستعمالات المتنوّعة للخط وللحرف العربي من طرف التشكيليين العرب أنتجت تيارا مهماً في سياق الرسم المعاصر، وإذا كان العرب قد استلهموا أكثر من تجربة وأكثر من اتجاه، سواء منطلقين في ذلك من محيطهم الثقافي الخاص أو من التجارب العالمية، فإن التشكيلات المختلفة التي خضع لها الخط والكتابة العربيان تمثل التيار الأكثر أهمية في الرسم العربي المعاصر.

ولا ضير أبداً من أن ننطلق في السعي لعصرنة فنون العرب الأساسية التي يشكّل الخط العربي عمادها، لكن خلال مفهوم نقدي خاص، مصدره ذاتنا وأفكارنا، متخّذاً مصداقيته من تطوّرنا التاريخي الفعلي، وواضعاً بالحسبان أيضاً حاجاتنا الجمالية الفعلية، وأن نقدمه إلى العالم على أنه نحن تماماً، لا تلاقح ذاتنا مع الذات الغربية، ولا أنه مثاقفة حضارية مختلة، مجانبين بذلك المفهوم النقدي الغربي، مؤمنين إيماناً تاماً بأن الخط العربي والزخرفة الإسلامية يمتلكان قيماً فنية وجمالية تتجاوز القيمة المعطاة لهما تبعاً لمفهوم النقد الغربي السائد.

إن الفنان العربي المسلم بحاجة إلى نقد توجيهي لا يغيب عنه أن الدلالات التي يخلقها الحرف والخط العربي وما يتيحه من جماليات بصرية كشكل مرسوم، قد تداخل منذ البدء في هيكل المظاهر المختلفة للحضارة العربية (الرسم - العمارة - الشعر) ومع تقادم الزمن ظلت الأبحاث المتنوعة لطريقة استخدام الحرف تستفيد من قدرة الحرف نفسه على الاختزال أو الإفاضة ضمن وجودها كعنصر تعبيري أولاً، وجمالي ثانيا.

وعندما اعترف (بيكاسو) مرة: (إن أقصى نقطة وصلت إليها في فن التصوير وجدت الخط الإسلامي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد)، وهو الفنان الذي لم يترك مدرسة فنية في التصوير إلا واشتغل بها، يكون قد وضع يده المبدعة، وبصره الثاقب الراقص بالألوان، على فن الفنون، وحينها لم يكن مستشرقاً ولا يأمل بهدية..? ليحاول الرفع من شأن تراثنا، إنه - كما يعلق على ذلك ناقد معاصر - (اعتراف محايد من فنان التزم التصوير حياة).

ويجب أن نعي حقيقتين أولاً: إن المعاني الأساسية للأعمال الفنية المرئية يمكن فهمها في الحال، في حين أن الأعمال الموسيقية، والكتب والمحاضرات تحتاج إلى بعض الوقت لعرضها وإيضاح معانيها.

ثانياً، فإن الفن الإسلامي مثل بعض الفنون الأخرى يقدم المعنى بطريقة ممتعة تجذب حتى أقل الناس ثقافة والأقل تعليماً، ويتم تحقيقه من خلال الشعور بالمتعة من جراء الإعجاب بعمل من أعمال الفن، فإن الحقائق الأبدية الحيوية للبشرية جمعاء توجه إلى قلوبهم وعقولهم بطريقة ماهرة وبارعة.

وأخيراً، ليس هناك في الفن مشكلة أمية أو اختلاف في اللغات، فالعمل الفني يمكن أن ينقل معناه إلى أي شخص في أي جزء من العالم حيث إن لغته لغة عالمية، لا تحتاج إلى تعليم أو تدريب لفهمها.

وحتى في المجتمعات غير الإسلامية، يمكن استخدام الفن الإسلامي نفسه كعامل مساعد في تحقيق إسلامية المجتمع بصورة شاملة، ومن خلال التعبير الذكي والممتع للمفاهيم الإسلامية يمكن للفن الإسلامي أن يؤثر بالتدريج على المجتمع لكي يرغب في انتهاج طريقة إسلامية كاملة من طرائق الحياة.

 

بركات محمد مراد

 
  




رؤية فلسفية في علم جمال الفن الإسلامي





آنية حولتها الأيادي الى لوحة فنية





الهوية العربية تظهر بوضوح في استخدام شكل النخلة في العمارة





السجاد تحول إلى لوحة تشكيلية