الفنون الإسلامية في بلاط الحكام

الفنون الإسلامية في بلاط الحكام

قـراءة فـي التـراث العـربـي

يرتبط تقدم الفنون في أي دولة أو مجتمع بالتطور الحضاري، والاستقرار السياسي، والرخاء الاقتصادي. وإذا كان الفن عملاً عقلياً بحتاً يمثل أعلى مستويات الإبداع في ميدان الجمال، فما من شك في أنه يخضع لأدق التأثيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية.

ما إن استقرت دولة الإسلام، وبدأت تأخذ بأسباب الحضارة، وألقى الجنود أثقالهم من عناء الحروب حتى ابتدأ العطاء الفني المتواصل، وجرى العقل في ميدان الإبداع، فأنهك من بعده. ولعل الروابط الوثيقة بين الفنانين والحكام هي من أهم أسباب ارتقاء هذا الفن وبقائه، مما شجع على تطوّر هذه الفنون وأتاح للأجيال التالية تراثاً فريداً وذخيرة عظيمة، وفنوناً بديعة. ولم تكن مواقف أولئك الحكام إلا استجابة بسيطة لما تمليه الفطرة السليمة والطبع المتأصل في نفوس العقلاء من ميل إلى الجمال، والتماس للسكينة بين ظلاله الوارفة، ويمكن لنا أن نلخص الأسباب التي من أجلها واجه الحكام المسلمون عنايتهم وصرفوا عنان جهودهم للفن وأهله في أربعة:

الأول: الذوق رفيع، والحس مرهف، والافتتان بكل جميل في الوجود، فالفطرة السليمة تميل - بالطبع - إلى الجمال. وفي الإنسان كما قال الفلاسفة قوى ثلاث: قوة طبيعية، وقوة نفسية وقوة حيوانية، فالنظر إلى صور المودة ومجالس الطرب يقوّي القوة النفسية، وتأمل صور القتال والحرب والصيد يقوي القوة الحيوانية، ومشاهد الصور الطبيعية من بساتين وأشجار وأزهار تقوي القوة الطبيعية. وأما النصوص، ومن الشواهد التي تساق في معرض الحديث عن الفنون والجمال فقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما عن عبدالله بن مسعود: (إن الله جميل يحب الجمال)، لكن يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن للإسلام مفهوماً للجمال نفسياً راقياً، ينأى عن المعايير الحسّية، فمعايير الحسن والقبح مرتبطة بمبادئ الإسلام والأخلاق.

الثاني: ما رأوه في هذه القطع الفنية والتحف النادرة من آثار قدرة الله تعالى، فما ينظر أحد منهم إلى تحفة إلا يسبّح الله تعالى ويشكره أن وهب الإنسان هذا العقل المبدع، واليد الرشيقة، والإحساس المرهف، وأن ألان له كل شيء في هذا الوجود وسخّره له، وجعله طوع بنانه، وليس في شيء من ذلك الصنع مضاهاة لخلق الله - وهي إحدى أقوى العلل الشرعية للمنع من التصوير - بل على النقيض من ذلك، كانت تلك المصنوعات الفريدة والمزوقات العجيبة تحمل شحنة قوية من الإيمان، بل إن ما في القرآن الكريم من وصف معجز بديع للجنة وما فيها من نعيم بأسلوب لا يمكن أن يرقى إليه أي بيان بشري كان من جملة الروافد الكبرى التي أمدّت خيال المصوّر والمزوّق بالمعاني والمواضيع التي كان يختارها لصوره.

والثالث: حاجة الخلفاء والأمراء للظهور بأبّهة الملك، بعد أن ازدادت موارد بيت المال، وما ورد في كتب التاريخ من وصف للقصور العباسية في بغداد وسامراء (سُرّ مَنْ رأى)، وقصور الأمويين في الأندلس يعطينا لمحة عن المستوى الرفيع الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية، وما كان ذلك يتطلبه من تشغيل للأيدي العاملة والعقول المبدعة لصنع ما يليق بسرير الملك وعرش الخلافة.

روي أن الخليفة المقتدر بالله لما وفد عليه رسل ملك الروم سنة 205 هـ زين قصره ورتب آلته فيه، ثم أدخلهم إليه، فرأى الرسل فيه العجب، ثم أخرجوا إلى (الجوسق المحدث) وكان دارا بين بساتين، في وسطها بركة رصاص، حولها نهر رصاص (أحسن من الفضة المجلوّة)، وطول البركة ثلاثون ذراعاً، وكان فيها أربع طيارات لطاف مذهّبة مزيّنة بالدبيقي المطرز، وأغشيتها دبيقي مذهّب، وكان في دار الشجرة من قصر المقتدر بالله شجرة من الفضة وزنها خمسمائة ألف درهم، وهي تقوم وسط بركة مدوّرة صافية الماء، وللشجرة ثمانية عشر غصناً، لكل غصن شاخات كثيرة، عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهّبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهّب، وهي تتمايل في أوقات لها، وللشجرة ورق مختلف الألوان يتحرّك كما تحرّك الريح ورق الشجر، وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر، وقد أدخل الخليفة رسل الروم إلى هذه الدار، فكان تعجبهم منها أكثر من تعجبهم من جميع ما شاهدوه.

الرابع: اختلاط الملوك بالأمم الأخرى عن طريق السفارات والهدايا التي كان يرسلها ملوك الأمم الأخرى، وقد كانت هدية الخليفة هارون الرشيد للإمبراطور شارلمان (742-814م) من الغرابة في الصنعة والإبداع في الزخرفة بمكان جعلها تذكر في التاريخ إلى هذا اليوم، فقد أهداه الرشيد في جملة ما أهداه ساعة مائية وصفها كاتم سر شرلمان فقال: (إنها مصنوعة من النحاس الأحمر المطلي بالذهب، بها عدة تروس، تبين الوقت على ميناء، وتدق الساعات على جرس عند سقوط كرات صغيرة من الحديد يساوي عددها عدد الساعات التي تدقها، ويبينها المؤشر، وأن بها اثنتي عشرة نافذة تفتح من تلقاء نفسها عند الدق، ويخرج من كل نافذة فارس يتحرك حركة عسكرية حول نفسه، ويعود مرة أخرى فيختفي داخل جهاز الساعة).

تذهيب وزخرفة

وقد كان فن الخط قد لقي قبل العصر الأموي عناية مبكّرة منذ عهد الخليفة علي بن أبي طالب، فقد روت المصادر أنه كان يمر على كُتاب المصاحف فينظر إليهم ويسرّه خطهم، وقال لأحدهم مرة: (أجل قلمك) أي اجعله جليّاً واضحاً، فلما قطّه، أي قطع موضع الكتابة منه على هيئة حسنة قال: (هكذا نوّروا ما نوّر الله)، وكان من عادة الخلفاء والولاة في العصور الأولى الأمر بكتابة مصحف كامل مدقق مضبوط حسن الخط، يوضع في كل مسجد جامع، ويكون إماماً للناس ينقلون عنه متى شاءوا اقتداء بصنيع سيدنا عثمان، وقد أمر والي مصر عبدالعزيز بن مروان بكتابة مصحف ليوضع في جامع عمرو بن العاص، فتسارع النساخ إلى كتابته ثم اشتغل المزوّقون بزخرفته وتذهيبه، فأراد بعد أن قدم إليه أن يستوثق من صحته، فجعل جائزة لمن يستخرج فيه أي خطأ إملائي، فكان ذلك سبباً في إقبال القرّاء على تدقيقه، إلى أن استخرج زُرعة بن سهيل أحد قرّاء الكوفة خطأ إملائياً واحداً، فات النساخ تصحيحه، وهو كلمة (نعجة) في الآية الكريمة (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة) حيث كتبت نجعة بتقديم الجيم على العين، وفاز بالجائزة وكانت جملاً وثلاثين ديناراً.

وكان للوليد بن عبدالملك خطاط يكتب له المصاحف هو خالد بن أبي الهياج، يقول عنه ابن النديم: أول مَن كتب المصاحف في الصدر الأول، ويوصف بحسن الخط خالد بن أبي الهياج، رأيت مصحفاً بخطه، وكان سعد المصحفي خازن مكتبة الوليد نصبه لكتب المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبدالملك).

وكان الخلفاء والولاة يختارون أمهر الخطاطين والمذهبين والمجلدين للعمل في دواوين الإنشاء، ومن مهامهم كتابة التواقيع على الرّقاع والطوامير، بل كانت بعض الكتب الصادرة باسم الخليفة تكتب بالذهب والفضة، وكان لهؤلاء الفنانين المقيمين رواتب معلومة، وكان التوقيع الخاص للخليفة أو الأمير، وهو الذي يعد الشعار الخاص لمراسيمه يسمى الطّغراء، وهي وظيفة كان يقوم بها عدد من أمهر الخطاطين، لأن الطغراء من أعقد التواقيع وأكثرها جمالاً. وممن عرف بكتابة الطغراء ونسب إليها الأديب الشاعر الحسين بن علي الطغرائي (-513 هـ). واتسعت صنعة الطغراء في بلاط السلاطين العثمانيين ولقيت رواجاً شديداً.

ولا ننسى أن بعض كبار الخطاطين كان في مراكز سياسية عليا، فالخليفة العباسي المستظهر بالله أحمد بن عبدالله (512 هـ) كان كما يروي ابن الأثير حسن الخط وكان السلطان العثماني مراد الثاني (855 هـ) والسلطان العثماني محمد عبدالمجيد خان (- 1258 هـ) من كبار الخطاطين، بل إن أول من ارتقى بفن الخط إلى درجات الكمال، وألبسه حلة من البهاء والجمال، وأسس قواعده، ووضع رسومه، حتى قيل فيه إنه كان نبياً في الخط، إنما هو وزير من وزراء العباسيين، وهو الخطاط الشهير أبو علي محمد بن علي بن مقلة (- 328 هـ) وقد وزر لثلاثة من الخلفاء هم المقتدر بالله والقاهر بالله والراضي بالله.

وثائق نفيسة

من أجل ذلك، بلغ فن الخط الذروة تحقيقاً وتجويداً وإتقاناً، وتنوّعت الخطوط، وكثرت النسخ المتقنة المذهّبة، حتى أننا نقرأ في ترجمة ياقوت المستعصي (- 698 هـ) أحد أعلام الخط أنه كتب ألف مصحف، وكتب الخطاط محمد بن عمر المتوفى سنة 1127 هـ ألف مصحف، ونقرأ في ترجمة ابن الخازن الحسين بن علي (- 502 هـ) أنه كان من أحسن الناس خطاً، وأنه كتب نحو خمسمائة مصحف، وكتب عمر أقته مصحفاً لتيمور بخط الغبار الدقيق يحويه فص خاتم فرفضه، فكتب له بعد ذلك مصحفاً طول سطره ذراع محمول في عربة، فاستقبله في جمع من العلماء وصاح عند رؤيته، هكذا يجـب أن يكون.

وكان الخلفاء يعرفون قدر هذه الخطوط وغيرها من الوثائق النفيسة مما ينسب إلى الصحابة والتابعين وكبار الخطاطين كابن مقلة، يحتفظون بها في خزائنهم، ويبذلون في تحصيلها الأثمان الباهظة، ولما أسس سابور بن أردشير (ت 416 هـ) وزير بهاء الدولة - وكان كاتباً محبّاً للعلم والعلماء - دار العلم في نيسابور سنة 381 هـ جمع فيها نفائس الكتب، فكان فيها مائة مصحف بخطوط بني مقلة، ولسبط ابن الجوزي فهرس لهذه المكتبة، ودار العلم هذه كانت أول مدرسة موقوفة في الإسلام، وكان أبو العلاء المعري من نزلائها، واحتـرقت سنة 451 هـ.

وقد صرف الخليفة الموحدي عبدالمؤمن ابن علي الذي حكم بين سنتي (524-558 هـ) همته إلى تجليد مصحف عثمان رضي الله عنه - أحد المصاحف التي أرسل بها إلى الأمصار - وقد أهداه إليه أهل قرطبة، وقد وصف ابن صاحب الصلاة في تاريخه صنيع هذا الخليفة فقال: (وجمع الصنّاع والمتفننين، من سائر بلاد المغرب والأندلس، والمهندسين، والصوّاغين، والنظامين، والنقّاشين، والزوّاقين، والمرصّعين، والنجّارين، والرسّامين، والمجلدين، وعرفاء البنّائين، وصنع له أغشية بعضها من السندس، وبعضها من الذهب والفضة، وحلاه بأنواع اليواقيت وأصناف الأحجار غريبة النوع).

ولا يكاد يصدق المرء ما ورد في وصف خزائن الخلفاء: فقد حل بمصر أيام الخليفة المستنصر بالله قحط وغلاء استمر سبع سنين بين سنتي 457-464 هـ، قيل إن رغيف الخبز فيها وصل إلى أن بيع بخمسين ديناراً، ويروي المقريزي أن خزانة كتب العزيز بالله أخرج منها أيام تلك الشدة المستنصرية (ألفان وأربعمائة ختمة قرآن في ربعات، بخطوط منسوبة زائدة الحسن، محلاة بذهب وفضة وغيرهما) ويقول في موضع آخر: إنه في سنة 403 هـ (أنزل من القصر إلى الجامع العتيق بألف ومائتين وثمانية وتسعين مصحفاً، ما بين ختمات وربعات فيها ما هو مكتوب كله بالذهب).

وقد تبارى الحكام والأمراء ونساؤهم وحاشيتهم في بناء المساجد والمدارس والترب والمكتبات والخانات والبيمارستانات والخوانق (جمع خانقاه) والحمامات، وأفرغوا جهدهم في زخرفتها وتزيينها، ومن المبالغات ما رواه الخطيب البغدادي أنه كان ببغداد سـتون ألف حمام، وقدر أن بإزاء كل حمام خمسة مساجد، فيكون ببغداد ثلاثمائة ألف مسجـد، وأقل ما يكون في المسجد خمسة أنفس، فيكون أهلها ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان، وهي طريقة طريفة في الإحصاء.

ونقرأ في ترجمة أبي الفضل عز الدين الحسن بن الحسين النقّاش الموصلي (642-710هـ) أنه كان يتعاطى صنعة النقش وخياطة الزركش، يقول عنه تلميذه ابن الفوطي: (استخدمه السلاطين وقرّبوه إليهم طمعاً بما كان يتقنه من الصنعة الفائقة). ونقرأ أنه (اتصل بالخاتون بلغان زوجة محمود غازان ابن أرغون بن أباقا بن هولاكو، وحصل له منها جاه ومال كثير). وكان الحسن بن يمن الأنصاري المعروف بالأردخل بناء ماهراً، وكان نديماً للملك الأشرف نال منه جوائز عدة، وكان ابنه محمد أيضاً بناء، وقد رعاهما حاكم الموصل أو أتابك سوريا وبلاد الجزيرة بدر الدين لؤلؤ، الذي حكم الموصل بين سنتي 630-657هـ، وكان يجزل العطاء لهما، فقد كان مولعاً بتشييد الأبنية، ونقل المقريزي أن الحسن بن علي اليازوري (- 450 هـ) وزير المستنصر الفاطمي الملقب سيد الوزراء كان مغرماً بالتزويق، وكان القصير من أشهر مزوّقي مصر، وكان يشتط في أجرته، فأراد اليازوري أن يخفف من غلوائه، فاستدعى ابن عزيز من العراق ليكون منافساً له، وجمعهما يوماً في مجلسه، فقال ابن عزيز: (أنا أصوّر صورة فإذا رآها الناظر ظن أنها بارزة على الحائط)، فقال القصير: (لكن أنا أصوّرها فإذا رآها الناظر ظن أنها داخلة في الحائط) فقال الحاضرون: هذا أعجب، وأمر اليازوري المصوّرين أن يصوّرا باللون ما وعدا به، وكان رسم القصير راقصة بثياب بيض فوق أرضية دهنها باللون الأسود، فظهرت كأنها داخلة في الحائط، وكان رسم ابن عزيز راقصة بثياب حمر فوق أرضية دهنها باللون الأصفر، فظهرت كأنها بارزة، فاستحسن اليازوري عمليهما وخلع عليهما كثيراً من الذهب.

وهكذا رأينا الشواهد والأدلة على أن الفنون لم تكن لتصل إلى هذا المستوى الرفيع لولا الروابط الوثيقة بينها وبين السلاطين والأمراء والوزراء وغيرهم من ذوي النفوذ.

 

محمد اليعقوبي

 
 




بيت الدين في جبل لبنان أحد النماذج المهمة للعمارة الإسلامية القديمة





العمارة الإسلامية حيث الرسوم المنمقة زاهية وجميلة





فن السيراميك حيث ازدانت الجدران في قصور الملوك وبيوت علية القوم





التفنن في تزيين القباب