منهج الهبوط العربي

منهج الهبوط العربي

بهدوء شديد يجب أن نعترف بأننا نعاني من أزمة حضارية طاحنة وصلت آخر مراحلها, وأصبحت تهدد وجودنا على سجل التاريخ الآتي, في مرحلة فاصلة من تحولات هائلة آنية تحدث على كل المستويات في كوكبنا الأرضي وأن نقر ببساطة بأننا في القاع نتنفس الخرافة ونستحلب الأسطورة ونستطيب الهيام في العوالم السحرية. وإذا لم نلق الآن في الماء الراكد بكل حجر تصل إليه أيدينا بسرعة وبقوة ودون وجل أو خوف من سادة المنهج السائد وسدنته والمنتفعين ببقائه جاثما فوق صدورنا ومضببا لعقولنا, فربما لانكون بعدها أبدا. وإذا لم نفتح الآن كل النوافذ لتجديد هوائنا الآسن دون وجل من تحريمات ورعب من سيف التكفير المصلت على رءوسنا. فعلينا أن نكتب آخر الحلقات في يومياتنا قبل أن نذهب في طوايا القرون الغوابر, ويتلو التاريخ على الدنيا آياتنا عبرة مع عاد وثمود والهنود الحمر.

وإجمالا يمكن القول إن التاريخ العربي بعد ظهور الإسلام قد مر بمرحلتين متناقضتين, تحولنا في الثانية عن الأولى, عن الثقافة المتحركة المفتوحة المتجددة إلى الثقافة الثابتة المغلقة الواحدة. ومن الطبيعي أن ترتبط كل ثقافة منهما بالمرحلة التاريخية التي أفرزتها ارتباطا منطقيا واضحا ومتسقا. فعندما كانت الدولة الإسلامية إمبراطورية قوية عزيزة مقتدرة, لم تخش على نفسها من الآخر وثقافته, فانفتحت على كل علوم الدنيا وفلسفاتها ودياناتها, وقامت حركة ترجمة واسعة نشطة لمعارف الدنيا حتى ماكان منها كفرا صريحا من وجهة نظر دينية إسلامية. بل نجد بين كوكبة المفكرين الكبار الذين نحتفي اليوم بذكرى إبداعاتهم ونرفع راياتهم في وجه من يتهمنا بالتخلف على إطلاقه, من كان يعلن كفره وصريح إلحاده. كانت الدولة قوية والذات القومية متحققة فلم يرم أحد من هؤلاء بحجر, لأن التجربة حينها أوضحت بجلاء أن العلم لايترعرع إلا في بيئة حرة تماما وتخلو من كل ألوان التحريم, لذلك قبلوا ضريبة الحرية من أجل التحقق والتقدم, وقد وضح لديهم ضرورة تلك الضريبة لأنها أسهمت بدور عظيم في إثراء السجال الذي حدث آنذاك, ولم تكن كلها سلبا بل كان أغلبها دفعا لمزيد من حرية العلم والرأي وبالتالي الثقافة ثم تلت ذلك مرحلة التحريمات الكبرى بانتهاء زمن المأمون آخر الحكام المستنيرين, ومن يومها ونحن في انزلاقنا الكارثي نحو القاع, فإذا وعينا هذه الحقيقة البسيطة بدأنا أول كشوفنا, وهو أن السبب في توقف بلادنا عن إنتاج مفكرين وعلماء كبار, هو غياب مناخ الحرية, فالعلم لايتنفس مع القيود وأغلال التحريمات.

غياب مناخ الحرية

ولا شك أننا نفصح بجلاء أن منهج قراءة الدين الذي ساد بعد هذه المرحلة كان وراء تغييب مناخ الحرية في بلادنا, وقد تم استخدامه انتهازيا على ثلاثة مستويات انتهت بنا إلى مانحن فيه الآن.

المستوي الأول يتعلق بمنهج البحث في الدين ذاته, وبدأ باعتبار بعض مناطقه من المناطق الممنوعة من البحث, وانتهى إلى إسدال ستار كامل من التحريمات على كل مناطقه, وتم أثناء ذلك استبعاد كل ماوصل إليه البحث في المقدس وشئونه إبان القرون الإسلامية الأولى, وتحويله إلى تاريخ موقوف وغير فاعل, يتم درس أغلبه من وجهة نظر تخالفه وتكفره. بل ويتم أحيانا إفقاد الذاكرة المتعمد في المناهج التربوية وعبر وسائل تسمى وسائل التثقيف العام, بينما لم تعرف عصور الازدهار أي لون من التحريم المعرفي والبحثي, وتشهد بذلك علوم الكلام ومدارسه التي اجترأت على كل أمر وأخضعته للبحث والتدقيق العقليين, وعلوم التصوف التي اصطنعت أردية ظاهرة الإسلامية لتتخفى وراءها ثقافات وديانات البلاد المفتوحة, وعلوم الفلسفة التي لم تجد حرجا في مزج نظريات ـ تعد من الوثنيات ـ بأصول إسلامية لافروع, كما نجد في نظريات الفيض عند الفارابي وابن سينا, وعلوم إلحاد ناقشت بالحجة مارأته ليس من العقل في نصوص الدين وقامت تدحضه كما نجد عند الطبيب ابي بكر الرازي وعند المعري وعند الحجة الكبير في هذا الأمر ابن الراوندي صاحب مخاريق الأنبياء. ومن أجل ذلك وضعت ثلاث قواعد تأسيسية لعصور التخلف والتردي هي: رفض وتكفير ونفي واستبعاد وربما تصفية كل بحث ينتهي إلى إنكار معلوم من الدين بالضرورة, وأنه لا اجتهاد على الإطلاق مع نص, وأن العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب. هذا برغم أن التاريخ يشهد أن تلك التقعيدات الثلاثة قد تم كسرها لصالح البلاد والعباد بيد صحابة رسول الله أنفسهم إن قصدا مبيتا مع سبق إصرار وترصد, وإن سلوكا عفويا إنسانيا. فقد اجتهد ابن الخطاب إبان خلافته, ولما يمض على رحيل الرسول سنوات تعد على الأصابع, وكان اجتهاده مع نصوص واضحة بل وأوامر قدسية كما حدث في إلغائه سهم المؤلفة قلوبهم, ومن قبله كان ذات الاجتهاد عندما ألغى أبوبكر سهم آل البيت.

إلغاء "المتعة"

وأخذ ابن الخطاب بخصوص السبب لا بلفظ النص عندما فعل ذلك, وفي مواقف أخرى كما في إيقافه حد السرقة عام الرمادة, بل وأوقف حلالا كان معمولا به زمن النبوة عندما وقف على المنبر وقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما, متعة الحج ومتعة النساء, والباهر هنا أن إلغاء متعة الحج كان إلغاءً لفريضة حسبما جاء في الحديث النبوي, حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قد قال: ابدأوا بما بدأ به الله عز وجل, فأتى الصفا فبدأ به ثم طاف بين الصفا والمروة سبعا, فلما قضى طوافه عند المروة قام فخطب في أصحابه وأمرهم أن يحلوا ويجعلوها عمرة وأن يتمتعوا بالحج, والمتعة هنا هي اللذة بإباحة محظورات الإحرام في المدة المتخللة بين الإحرامين, حتى قال قائل ـ كما أخرجه أبوداود في سننه أننطلق وذكورنا تقطر? فقال النبي إذا استمتع الرجل بالعمرة فقد قضى ماعليه من فريضة المتعة, ثم إن عمر نفسه قد آل على نفسه أن يكون رجل الحراك والمتغيرات عندما ألغى ماكان مباحا, وعندما قال للحجر الأسعد أو الأسود: والله إني أعلم أنك حجر لاتضر ولاتنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.

هذا ما كان عن إنكار التقعيدات الثلاثة التي تأخذ بخناق البحث في شئون المقدس عن قصد وغرض, وكان هناك إنكار آخر بالسلوك الإنساني العفوي وصل إلى حد إنكار الدين كله, كما حدث في غزوة أحد, فبرغم الوعد بالنعمة وبجنة الخلد عند الاستشهاد في سبيل الله, وبرغم أن رسول الله بينهم, وبرغم أنهم عاينوا الأمر وعايشوه, فقد فر أجلة الصحابة من حول رسول الله بينما يناديهم "إليّ عباد الله أنا رسول الله" ولايغيثه أحد حتى أوقعه القرشيون في حفرة وأصابوه إصابات بالغة وضربه ابن قمئة ضربة شديدة ظل يشكو منها شهرا, وفر عثمان بن عفان مع رفقة له حتى أبعد عن المدينة حوالي خمسة وعشرين كيلو مترا, ووقف آخرون يحتمون بصخرة يقولون إن رسول الله قد قتل, وأن عليهم العودة إلى أهلهم أو أن يرسلوا لهم عبدالله بن أبي بن سلول ليستأمن لهم قريشا أليس في ذلك إنكار للأمر كله? ومع ذلك لم يتعرض هؤلاء للتكفير ومحاكمات التفريق وكانوا صحابة رسول الله المقربين.

ولكن بمجيء القمع الفكري والسياسي وتضافره مع القمع التحريمي والتكفيري تم تقعيد القواعد الثلاث لعصور الانحطاط, وهو الأمر الذي هوى بنا إلى ذلك السقوط الأمثولة, وأضر في الوقت ذاته بالمقدس ضررا بليغا, بحيث تمكن ذوو النفوذ ووسطاء الدين المحترفون من التعامل مع نصوص الدين بانتهازية قبيحة, لتسخيره للمآرب والمنافع وتبرير أشنع المظالم لذوي السلطان, وبالأمس كان صدام حسين يغزو جارا عربيا بعد أن رفع لاءات الله أكبر على أعلامه, واستدعى رجال دين مشهوداً لهم بالكفاءة يقتطعون الآيات التي تبرر بل وتسوغ بل وتدفع إلى احترام نموذجه, وبالأمس القريب غنينا للاشتراكية بآيات قرآنية, ومع التحول إلى الاقتصاد المفتوح على السوق وجدنا أننا كنا خاطئين لأن الله قد فضل بعضنا على بعض في الرزق, والمدهش أن نجد بعض هؤلاء المحترفين هم بأشخاصهم في كلا الحالين, يستثمرون "العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب" من أجل دمار البلاد والعباد والإضرار البليغ بالمقدس ذاته.

تجريم البحث العلمي

هذا ماكان عن المستوى الأول لمنهج الهبوط العربي, أما المستوى الثاني فهو يرتبط بالأول ارتباطا وثيقا ويعبر بوضوح عن أسباب هذا السقوط المخيف, حيث تم تحريم أبحاث لاعلاقة لها البتة بالدين, أبحاث علمية بحتة, فقط لأنها تتناقض مع نصوص الدين فيما يتعلق بالتكوين الكوني والكائني, وقد اتخذ هذا المستوى سبيله على خط آخر يحاول التوفيق بين المنجز العلمي والنص القدسي, ليس من أجل العقل والعلم, ولكن من أجل تسفيه العقل والعلم, بالقول إن كل ثقافة ممكنة قد توافرت داخل مقدسنا وليس بنا حاجة إلى إعمال العقل أو البحث العلمي الذي قد يؤدي إلى نتائج مضللة وكافرة. وحتى الآن يمنع في بعض مدارسنا العربية تدريس نظريات النشوء والارتقاء والتكيف البيئي, وهي الأساس الأول لعلوم كالطب وفروعه جميعا, بل إن هناك فتوى صريحة صدرت بالأمس القريب بتكفير من يقول بكروية الأرض. وهكذا كان المستوى الثاني الذي اضطر شقه الثاني للتعامل مع المنتج العلمي الذي أصبح ذا أثر في الحياة الإنسانية الآن, ولايمكن رفضه فقام الوسطاء المحترفون والمتكسبون اللاعبون بمصير الأمة بالتعامل معه بعقلية قاطع الطريق, ليقولوا إننا قد اكتشفنا ذلك جميعه قبل أن يكتشفه العقل الإنساني القاصر, في مقدسنا التليد.

وعلى المستوى الثالث تمكن الإنسان خلال قرون طويلة من النضال والكفاح والصراع الدموي مع القهر والعسف والجور أن ينتزع لنفسه مزيدا من الحريات لم تكن قد تأكدت زمن الدعوة الإسلامية, فتم إلغاء وصمة العار الكبرى في جبين الإنسانية المتمثلة في استرقاق الإنسان لأخيه الإنسان, نعم قدم الإسلام في زمن الدعوة مساحات من الحريات تعد تقدما قياسا على زمنه كالتحبيب والترغيب في العتق, لكنه أبدا لم يلغ الرق أو يجرمه.

وضمن هذا المستوى تندرج حالات هي الكارثة بعينها, فنحن أبدا لم نحاول بل حاربنا وكفرنا أي محاولات لتحريك الثابت من أجل مصالح البلاد والعباد, كالموقف النصوصي من المرأة التي لم تزل حتى الآن نصف رجل جاهل بليد لاحاجة إليه وحتى لو كانت عالمة ذرة أو طبيبة أو مهندسة.

إننا نحاكم من حاول أن يقول رأيا جديدا لأنه خالف الثبات وأضر بالمصالح وأدانته محاكمنا الوقورة بالردة كما في حكاية نصر أبوزيد, وقبله قتلت وسفكت دماء برئية لخلاف في الرأي وفي التفسير, كما في حالة فرج فودة, لقد أصبح منهج الانحطاط والتردي لايملك الحجة الكافية, ولم يعد لديه سوى منطق القتل والتجريم, إنه منهج الهبوط العربي.

 

سيد القمني