الحرب الأهلية الإسبانية

الحرب الأهلية الإسبانية

 

عاشت "الجمهورية الإسبانية الثانية" (1931 ـ 1936) ظروفا عالمية دقيقة غشيتها ظلال فاشية نازية, وكان طابعها البرلماني الليبرالي الديمقراطي يبدو ناشزا وسط أوربا, هيمنت عليها الدكتاتورية في تلك الفترة. فقد كفلت الجمهورية حرية العمل السياسي والنقابي لجميع الاتجاهات والأحزاب من اشتراكيين وراديكاليين ومحافظين وفوضويين وشيوعيين وملكيين وكتائب, وكانت لكل حزب أو تنظيم مؤسساته وميليشياته الخاصة.

في ظل اللاتجانس الداخلي هذا, وأمام الهزات الاجتماعية الناجمة عن البطالة, وسط انهيار اقتصادي ـ لا تتحمل الحكومة مسئوليته ـ أصبحت الديمقراطية ضربا من التيه وعملا رومانسيا تعصف به نوايا العسكريين المحافظين الانقلابية, واتخذ الصراع طابعا طبقيا أيديولوجيا, إذ تطلعت النقابات العمالية والأحزاب اليسارية ـ عند وصول الجبهة الشعبية للسلطة بانتخابات 1931, إلى تحقيق ثورة جماهيرية تلغي الفوارق الطبقية الصارخة بين المواطنين, إلا أن الحكومة حاولت ـ دون جدوى ـ التخفيف من حدة هذه التطلعات وحفظ التوازن تجنبا لإثارة حفيظة القوى المحافظة التي راحت ـ بنفوذها القوي داخل الجيش وبالعون الفاشي النازي ـ تتصدى للمد الثوري الشعبي. منذ اللحظة الأولى تحلت الحكومة الجمهورية بالنزاهة الديمقراطية, وتعاملت مع جميع الاتجاهات في إطار القوانين الدستورية, فاستغل المحافظون هذا التسامح وراحوا يدبرون للانفراد بالسلطة من خلال انقلاب عسكري يهدم مؤسسات البلاد الدستورية. عندما شعرت الحكومة بذلك ـ وكإجراء احتياطي ـ شتت شمل كبار جنرالات الجيش الموجودين في محميتي المغرب, فنقلت الجنرال فرانشيسكو فرانكو إلى جزر الكناري, والجنرال غوديد إلى جزر البليار, والجنرال مولا إلى بمبلونة. ومع ذلك فإن إجراءات النقل تلك جمعاء لم تمنع الجنرالات المنقولين من الاجتماع وبحث خطة انقلاب يتولى رعايتها من مدريد الجنرالان باريلا وأورغاث بقيادة مرحلية للجنرال سان خورخو الذي كان يعيش في المنفى منذ فشل محاولته الانقلابية في أغسطس من سنة 1932.

الجنرالات ينقلبون

وفي الوقت المناسب تضع الحكومة يدها ـ من جديد ـ على خيوط النوايا الانقلابية فتنقل أورغاث إلى الكناري وباريلا إلى قادش, إلا أن هذا الأخير يتمكن ـ قبل نقله ـ من تهريب وثائق الانقلاب إلى الجنرال مولا الذي وجد في بمبلونة الكاثوليكية المحافظة مرتعا خصبا لاحتضان نواياه الانقلابية فأصبح من حينها العقل المدبر للمؤامرة, حتى سنحت الفرصة للجنرالات الانقلابيين والتقوا ـ أثناء المناورات التي أجراها الجيش الإسباني في أوائل يوليو من سنة 1936, على التراب المغربي ـ فحددوا الثامن عشر من الشهر نفسه موعدا للقيام بالانقلاب. ويمكن القول ـ بلا تردد ـ إن تلكؤ الحكومة في ردع العسكريين الانقلابيين كان عاملا قويا ساق البلاد إلى جحيم الحرب الأهلية ولم يُجد استدراك الحكومة للأمر بعد فوات الأوان عندما راح هؤلاء يكشفون بوضوح عن نواياهم, حتى أعلن الجنرال روميراليس ـ بسبب انكشاف دوره ـ في 71 يوليو 1936 عصيانه في مدينة مليلة المغربية, وما كادت الحكومة تعتقله وتسيطر على المدينة حتى أعلنت مدينة سبتة المجاورة تمردها الذي امتد إلى جميع الثكنات الإسبانية على أرض المغرب, ومنها ـ في اليوم التالي ـ إلى ثكنات شبه الجزيرة الإيبيرية. وبهذا استولى عسكريو القوات البرية والبحرية على المرافق العامة وفرضوا الأحكام العرفية, في حين حافظت القوات الجوية على ولائها للحكومة التي راحت أمام هذه المعطيات تجمع ـ على عجل ـ صفوف ميليشياتها المفتقدة للتنظيم والتدريب والقيادة الموحدة, فتوافر لديها ستون ألف مقاتل تحملوا عبء مواجهة قوات جبهة الانقلاب التي تركز معاقلها في قشتالة القديمة, وليون, وجاليقيا, وجزر الكناري والبليار, ومحميتي المغرب, بينما ظلت بقية التراب الإسباني ـ ومنها المدن الكبرى الثلاث: مدريد وبرشلونة وبلنسية ـ تحت السيطرة الحكومية.

وسارت قوات "الجبهة الوطنية" قدما في تنفيذ مخططاتها ولم يمنعها مقتل الجنرال سان خورخو ـ بحادث طائرة أثناء قدومه من استوريل لقيادة الانقلاب ـ من الزحف على العاصمة مدريد, فمن الشمال تقدم مولا بقواته, ومن الجنوب عبر فرانكو في 3/8/1936 مضيق جبل طارق بقوات أخرى ـ تضم فرقا مغربية ـ تمركزت في محور قرطبة ـ غرناطة ـ إشبيلية, محكمة بذلك قبضتها ـ كفكي كماشة ـ على الوادي الكبير وفارضة حصارا خانقا على مدينة مالقة. ومن هذه القوات نفسها تفرعت شعبة أخرى اتجهت ـ بقيادة الجنرال ياغي ـ إلى إكستريمادورا في الغرب فسيطرت على وادي حوف في 10/2/1937 وميريدا فاتحة بذلك طريقا موصلا بين منطقتي وجود قوات الانقلاب في إقليمي قشتالة والأندلس.

وفي طريقها إلى مدريد اجتاحت قوات الجنرال ياغي ـ في 72/9/1936 ـ مدينة طليطلة وعاثت بأهلها قتلا وتشريدا حتى وصلت إلى قصرها ـ مقر مدرسة المشاة العسكرية ـ وفكت حصار المدافعين عنه من الوطنيين بقيادة العقيد موسكاردو الذي ضحى ـ بابنه المعتقل لدى الجمهوريين في مدريد ـ دون أن يستسلم.

وتتويجا للاستعدادات الوطنية لمهاجمة مدريد توحدت القيادتان العسكرية والسياسية تحت قيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو الذي نصب نفسه ـ أثناء ترؤسه استعراضا عسكريا لقواته في برغس, في 1/10/1936 ـ "رئيسا قائدا لحكومة البلاد وجنرالا أعظم".

تحسبا لذلك شهد شهر نوفمبر تشكيل حكومة ائتلاف جمهورية موسعة ـ يرأسها لارغو كابيرو ـ أسندت مهمة الدفاع عن العاصمة لمجلس عسكري يرأسه العميد مياخا المشهور بالأحمر, بعد أن نقلت مقرها إلى مدينة بلنسية.

شيوعيون وفاشيون ونازيون

منذ ذلك الحين راحت إسبانيا تحترق بنيران المساعدات التقنية السوفييتية المشروطة لحكومة البلاد الشرعية وبنيران المساعدات الإيطالية الفاشية والألمانية النازية المطلقة للمتمردين, تحت ستار المعونات التطوعية, دون أن تفلح جهود بريطانيا وفرنسا في الحد من تدويل الصراع. فقد اشترط الشيوعيون الموالون للاتحاد السوفييتي ـ والذين عليهم كان يعتمد وصول العتاد الحربي وبخاصة الطيران ـ على لارغو كابييرو إيداع رصيد بنك إسبانيا المركزي من الذهب في موسكو, مقابل مشاركتهم في تنفيذ مخطط الهجوم على إكستريمادورا الذي وضعه لارغو نفسه بالتعاون مع إندليثيو برييتو, وزير دفاعه والعميد روخو رئيس مجلس دفاع مدريد, الأمر الذي دفع كابييرو للاستقالة تاركا منصبه لخوان نيغرين الأستاذ بكلية الطب بجامعة مدريد, أملا في أن يستطيع هذا الأخير ـ بالتعاون مع برييتو ـ التفاهم مع الاتحاد السوفييتي. لكن الأحداث كشفت فيما بعد عن أن برييتو لم يكن متحمسا حماس نيغرين لمجاراة ستالين فاستقال.

وبينما راحت "ألوية المتطوعين العالمية" تتوافد على مدريد لدعم حكومتها اليسارية, وضعت إيطاليا وألمانيا كل إمكاناتها إلى جانب المتمردين اليمينيين متوجتين ذلك باعترافهما رسميا بحكومتهم الانقلابية. وفي نوفمبر 1936 اكتسح الأسطول الإيطالي ـ بستة آلاف رجل ـ جزيرة ميورقة ومنها اتجه إلى مالقة فاحتلها في 10/2/1937 إثر قصف بحري كشف من خلاله عن عزم قواته على التوغل إلى جبهة مدريد التي كانت خطوط مواصلاتها العالمية مهددة باحتلال الوطنيين لبعض ضواحيها الجنوبية. وعلى الرغم من سيطرتها على بعض المواقع فقد تجرعت القوات الإيطالية هزيمة مرة في معركة الخرامة (22/2/1937) بوادي الحجارة, الأمر الذي رفع من معنويات الجمهوريين واعتبروا ذلك هزيمة لموسوليني نفسه ولفرانكو الذي كان ينكر مشاركة القوات الحكومية الإيطالية له في الحرب, وردا على الهجوم الإيطالي الفاشل على وادي الحجارة حاول الجمهوريون في 24 ـ 26/6/1937 كسر الحصار الذي فرضه الوطنيون على جنوب مدريد, فكانت معركة برونيتي التي أخذت الوطنيين على حين غرة وتقدم الجمهوريون كيلومترين اثنين نحو الجنوب, إلا أن الوطنيين استعادوا زمام المبادرة وأوقفوا زحف العد في أشرس قتال لم تشهد الحرب الأهلية مثيلا له إلا في معركة الإبرو.

ويبدو أن الوطنيين كانوا واثقين من اعتمادهم على مساعدات الفاشية والنازية والكنيسة لهم, فبفشل اقتحام مدريد ـ في الخزامة ـ لم يضيعوا الوقت في الانتظار وإنما تحولوا بثقلهم إلى جبهة الشمال, وبعد معارك طاحنة في 19/6/1937 دخلوا بلباو كبرى مدن إسبانيا الصناعية, وبذلك كسروا واحدا من أقوى الخطوط الدفاعية الجمهورية في شمال البلاد. بسقوط بلباو أعلنت الكنيسة تأييدها لفرانكو محولة ـ بذلك ـ الحرب إلى حملة صليبية تشجع الوطنيين على اجتياح الشمال, فيقوم الجنرال دافيلا ـ الذي خلف مولا في قيادة الشمال إثر مقتله في حادث سقوط طائرة أثناء حصار بلباو ـ باجتياح مدينة سانتندير في 26/8/1937 والكشف عن جبروته ـ بالتعاون مع سلاح الجو النازي في 26/4/1938 ـ بمحو بلدة غيرنيكا البشكنسية عن الوجود, بقنابل حارقة ومدمرة بلغ وزن بعضها مائتي كيلوجرام, الأمر الذي لم يترك لشعب البشكنس خيارا غير الاستسلام أو لقاء مصير غيرنيكا. كل ذلك زاد من ثقة فرانكو في إحراز النصر على الجمهوريين ورفض عرضا ـ في مايو 1938 ـ من حكومتهم بالتفاوض وطالبهم بالاستسلام دون شروط. ويسهل على المطلع على أحداث الحرب الأهلية الإسبانية اكتشاف الطابع الأيديولوجي القبلي الانتقامي الذي اتسمت به, وكرد على محاولة الجمهوريين بقيادة برييتو في معركة بيلشيتي حصار سرقسطة قبل يومين من سقوط سانتندير, شدد الوطنيون الخناق على الشمال حتى أكملوا سيطرتهم عليه بسقوط خيخون في 21 أكتوبر 1937.

المدن تتساقط

لما توافر للوطنيين باحتلال بلباو مصدر اقتصادي وصناعي مهم زاد من تطلعاتهم لاحتلال مدريد, اعتبر الجمهوريون ذلك تحديا لهم لم يسبق له مثيل فقام برييتو في 31 أكتوبر ـ كضربة وقائية ـ باحتلال ترويل التي لم يتمكن الوطنيون من استردادها, بسبب غزارة الثلوج الساقطة عليها, إلا بعد انتصارهم في الفاميرا. وانتقاما لاحتلال ترويل استغل الوطنيون فرصة تمركز القوات الجمهورية في المدينة وشنوا في أبريل 1938 هجوما مباغتا, بقيادة الجنرالين كاميلو ألفونسو بيغا وبابلو مارتين الونصو, على إقليم ليبنطي حتى احتلا بلدتي بيناروث وبينيكارلو على ساحل البحر المتوسط, وعلى بعد مائة وعشرين كيلومترا فقط إلى الشمال من بلنسية, العاصمة الجمهورية. وكانت القوات الوطنية المتركزة على الضفة الشمالية لنهر الإبرو قد اجتازت نهر سيغري شرقا من المنطقة الواقعة بين مدينتي ليريدا وميكينيث. وباحتلال أجزاء من ليبنطي على الضفة الجنوبية لنهر الإبرو, حاصر الوطنيون إقليم بلنسية وعزلوا قطلونيا عن بقية المناطق الجمهورية. وردا على هذه المحاولة الوطنية الهادفة إلى الوصول عبر ترويل إلى بلنسية التي كانت تختنق بالقصف البري والبحري للوطنيين, اخترق الجمهوريون نهر الإبرو إلى الجنوب في محاولة لإطباق الطوق على القوات المعادية التي وصلت إلى ساحل المتوسط, غير أنهم لم يتمكنوا من ذلك وانحسرت مهمتهم في التشبث بالمواقع التي سيطروا عليها خلف النهر في "شبه جزيرة" غانديسا, لمدة ثلاثة أشهر والقيام ـ كما كتب عن ذلك في وقت لاحق الوزير الجمهوري الشيوعي السابق حيسوس إرناندث ـ بعمليات استنزاف للعدو عرفت بمعركة الإبرو. وهي دون شك, أشد معارك هذه الحرب دموية, إذ إن ضعف إمكانات الجمهوريين وتحديهم الوطنيين دفعهم إلى تقديم مقاتليهم في عمليات انتحارية جماعية متلاحقة ضد العدو, دامت شهرين وانتهت بانهيار جيشهم بعد أن فقد تسعين ألف قتيل في هذه المعركة وحدها. مما جعل البعض يذهب إلى أنها أوحت للجنرال فون بولس, بعد أربع سنوات, بالصمود في مدينة ستالينجراد في وجه الحصار النازي.

الجيش الأحمر

وتواصلت عمليات الانتقام فاستغل الوطنيون انهيار الجيش الجمهوري ـ المعروف بالأحمر لغلبة العناصر الشيوعية فيه ـ وانطلقوا من جبهة سيغري, بسبع فرق من جيشهم فاكتسحوا ساحل قطلونيا في 23/12/1938 بهجوم تنبعث منه رائحة الثأر, حيث ظلت برشلونة تحترق بالقصف الوطني حتى استسلمت للجنرال ياغي في 26/1/1939 فعين عليها الجنرال ألباريث أريناس حاكما عسكريا فقام ـ هذا الأخير ـ بإعادة ترتيب أمور المدينة بما يتماشى مع سياسة الجبهة الوطنية, فأعاد تخصيص الشركات المؤممة وأصدر أوراق نقد جديدة وتحية جديدة ـ بالذراع ممدودة على الطريقة الهتلرية ـ وصادر الكتب الماركسية والوطنية وفرض اللغة الإسبانية لغة رسمية فأصبحت القطلونية مجرد لهجة محلية, وأصبحت صحيفة الطليعة طليعة إسبانية, وحدد الجنرال الباريث مهمته العاجلة في إعادة ترميم مذابح الكنائس في المدينة, وجعل الكتاب المقدس حدا يقع على "المدينة الحمراء"!

هنا أدرك مانويل أثانيا رئيس الجمهورية عدم جدوى المواجهة فاجتاز ورجال حكومته الحدود الفرنسية الإسبانية, وسط بحر من الأطفال والنساء والعجائز والجرحى ورجال الفكر والأدب الذين فروا توجسا لانتقام المنتصرين. ويقدر البعض عدد هؤلاء النازحين بنصف مليون نازح, عاد بعضهم إلى البلاد سرا وظل البعض الآخر منفيا في جنوب فرنسا ومنه إلى الاتحاد السوفييتي والمكسيك والأرجنتين وكولومبيا والدومينيكان وغيرها. وفي المنفى مات غيظا من ثقلت عليه وطأة الهزيمة, وتجلد بالصبر من استطاع إلى ذلك سبيلا, ليظل ـ حتى اليوم ـ شاهدا على شراسة تلك الحرب التي ظلت تغذيها روح الانتقام حتى بعد انتهائها بسيطرة الوطنيين على كل التراب الإسباني, حيث شارك النازحون الإسبان ـ كنوع من الانتقام ـ في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي, وكانت التصفية الجسدية مصير من وقع منهم في قبضة المحتل. عندما قبضت قوات الاحتلال النازي في فرنسا على لويس كومبانس رئيس حكومة قطلونيا المحلية السابق سلمته لفرانكو فأعدمه رميا بالرصاص.

ولم يجتمع شمل اليسار الإسباني ـ مؤقتا ـ إلا عندما بدأ هجوم الوطنيين الكاسح على مدريد بقيادة الجنرال ياغي حيث تجمعوا تحت زعامة لارغو كابييرو.

ويذكر البعض أن الكنيسة قد عاشت منذ 1931, في جميع أرجاء إسبانيا ـ باستثناء إقليم البشكنس ـ وضعا حرجا, حيث تحول التطرف في معاداة الكنيسة إلى اضطهاد مبرمج للمشاعر الدينية وتحولت كنائس وكاتدرائيات إلى أسواق ومخازن ومسالك لعربات يجرها الحيوان, ولقي قساوسة حتفهم على يد محاكم استثنائية كانت كفطر نبت في المنطقة الجمهورية أو على يد ثوريين جعلوا من أنفسهم ـ بين ليلة وضحاها ـ جلادين محترفين.

والواضح أن هذه الأعمال لم تكن موجهة للكنيسة نفسها بقدر ما كانت موجهة لسياستها العامة. وما تمتعت به كنائس إقليم البشكنس من حرية العمل واحترام الجماهير لها دليل واضح على ذلك. واضطهاد رجال الدين وهتك حرمة دور العبادة لم يكن مقتصرا على جماعات غير ملتزمة من اليسار وإنما هي ممارسة قام بها اليمين المنضبط تحت قيادة فرانكو, فقد دمر طيران اليمين كنيسة سانتا ماريا التي عمد فيها الكاتب الشهير ثربانتس ومثلها مواقع أثرية كثيرة وتعرض رجال الدين دون سبب لاضطهاد الانقلابيين, فقد حكم الجنرال مييان أستراي على الدكتور موخيكا أسقف بيتوريا بالإعدام لأن هذا الأخير كان قد صوت في استفتاء نوفمبر 1933 لصالح تحقيق الحكم الذاتي في إقليم البشكنس ولم ينجه من الموت إلا فضيحة مقتل أسقف آخر في المناطق الخاضعة للانقلابيين, فنفي إلى روما. هكذا تواترت الأعمال الانتقامية حتى بلغ عدد الجمهوريين الذين قتلهم الوطنيون بين 1939 و 1945, تعذيبا أو رميا بالرصاص مائة ألف شخص.

فرانكو يصفي الخصوم

وقد قام نظام فرانكو بتصفيات جسدية عشوائية بين المواطنين في كل منطقة كان يحتلها, ومرت عمليات التصفية بثلاث مراحل تاريخية. أولها اتسمت بالتسيب الكامل وكانت خلالها تقوم بعمليات القتل, الميليشيات والأحزاب اليمينية وقوات الأمن, وفي الثانية انتشرت مجالس الحرب دون رقابة, وفي الثالثة أصبح الأمر ـ لسنوات طويلة ـ بيد محاكم التأديب الخاصة. وإن كنا نتحدث عن مراحل متعددة فالهدف كان واحدا: "تصفية أطر أحزاب الجبهة الشعبية ونقاباتها العمالية تصفية جسدية.. ونالت التصفيات الأحزاب الديمقراطية الأكثر اعتدالا والشخصيات المستقلة التي تمتعت في مجالها الفكري أو الوظيفي بسمعة يسارية أو حتى ليبرالية" ولم ينج الناس العاديون من سواد الشعب من الذبح, حيث يصف الكاتب الفرنسي الكاثوليكي برنانوس في كتابه: "مقابر شاسعة تحت القمر" كيف كانت كتائب فرانكو وحرسه المدني في ميورقة تشحن الفلاحين الأبرياء ـ أثناء عودتهم من حقولهم في المساء أو من أحضان عائلاتهم ـ في شاحنات إلى ساحات الإعدام رميا بالرصاص. فإذا حدث هذا في ميورقة المعروفة بعدم وجود صراع طبقي فيها, فما بالك بما حدث في مدن احتدم فيها الصراع بين الطبقات"?!

وبالطبع يمكن الاتفاق هنا مع سلبادور مادارياغا الديمقراطي الجمهوري على أن المساعدات الإيطالية الألمانية ـ على أهميتها ـ لم تكن قادرة على تحقيق النصر للوطنيين قدرة بعض الممارسات (الثورية) الشوفينية على تكبيد الجمهوريين هذه الخسارة وإلحاق الهزيمة بهم, فبينما راح الوطنيون يقوون أنفسهم بفضل المساعدات السخية التي تنهال عليهم, ظلت الخلافات الداخلية تنهش حكومة نيغرين وتحطم معنوياتها ـ إذ شهدت شوارع برشلونة خلال الأيام الأولى من سنة 1937 حربا حقيقية دامية بين كبرى المنظمات العمالية ـ حتى لم تعد قادرة على تنظيم حركة المقاومة الشعبية في المناطق التي كانت لاتزال تحت سيطرتها بعد سقوط قطلونيا, برغم توافر السلاح في يد الجماهير, وأخذ أعضاؤها ينجو الواحد تلو الآخر بنفسه إلى المنفى حتى انهارت تاركة لخوليان بيستيرو أصعب مهمة في التفاوض ـ عبر ممثليه في برغس ـ مع الجنرال فرانكو الذي لم يتردد في محاكمة العسكريين الذين ظلوا أوفياء للجمهورية ـ خلال الحرب ـ أمام محاكم عسكرية بتهمة الخيانة والتمرد العسكري! وامتدت خلافات الجمهوريين إلى صفوف المدافعين عن مدريد تحت الحصار الوطني لها, فبينما أراد أنصار كاسادو الاستسلام لفرانكو بعد أن فقدوا كل أمل في إمكانية التصدي له إثر اعتراف فرنسا وبريطانيا بحكومته, رأى الشيوعيون وجوب الاستفادة من إمكان المقاومة ـ بما لديهم من عتاد ومؤن يكفي لستة أشهر ـ بهدف مفاوضته وعدم الاستسلام له دون شروط, الأمر الذي أدى إلى خروج الكاساديين من المدينة قبل اجتياح الوطنيين لها في 28/3/1939. ومع ذلك يجمع شهود العيان على أن المدافعين عن مدريد من المتطوعين المسلحين بأسلحة الرفاق الذين سقطوا في المعارك كانت, تحت الحصار والقصف البري والجوي, تعوزهم الوسائل الدفاعية المناسبة, وتمثل شغلهم الشاغل في تهدئة الجماهير التي روعها قصف المحاصرين المتواصل لإرغام العاصمة على الاستسلام, حتى إذا بدأت عملية الاقتحام عبر نهار المانثنارس فقد المقتحمون خيرة مقاتليهم نتيجة لاستبسال القوات الجمهورية المدعمة بألوية المتطوعين العالمية تحت قيادة العميد روخو.

بسقوط العاصمة, تدافعت فلول المهزومين على موانىء المرية وليبنطي وقرطاجنة "استجارة بالبحر من البحر". وفي اليوم التالي استسلمت جيان وثيوداد ريال والبسيطي وكوينكا وساغونتو. وقبل أن تستسلم المرية ومرسية وقرطاجنة وميورقة, بيوم واحد, كانت بلنسية قد سقطت في يوم 30/3/1939.

فرانكو يسيطر

وفي 1/4/1939 أعلن الجنرال فرانكو ـ في برغس ـ سيطرته الكاملة على جميع أرجاء إسبانيا. وبهذا ينجح في تحقيق انقلاب عسكري دموي ضد حكومة شرعية منتخبة انتخابا شعبيا ديمقراطيا مباشرا.

ومع ذلك لم تكن أوضاع اليمين الإسباني ـ داخليا ـ أفضل حالا, كان يجمع تنظيمات متناحرة مثل منظمة اليمين الإسباني بزعامة خوسي ماريا خيل روبليس ومنظمة التجديد الإسباني بزعامة أنطونيو غايكوتشيا ومنظمة الكتائب الإسبانية بزعامة مانويل هيديا والكارليين بزعامة مانويل فال كوندي. لكن الجنرال فرانكو وبيده الجيش المسيطر على زمام الأمور, منذ البداية اتخذ من قصر الأسقفية ـ الذي قدمه له الأسقف بلا إي دانييل ـ بسلمنقة مقرا لقيادته, وضرب بيد من حديد كل من حاول النيل من سلطته المطلقة ولفق لكوندي زعيم الكارليين تهمة التمرد, لمجرد تجرئه على وضع صفة ملكية في اسم "مدرسة سان خابير الملكية للضباط الكارليين" وحكم عليه بالإعدام, ثم نفاه في 20/12/1936 إلى البرتغال ـ التي كان لنظامها علاقات طيبة مع نظامه ـ ليبقى تحت رقابته. وقام الحرس المدني والشرطة العسكرية باعتقال جميع قيادات الكتائب ذات الأهمية. فقد جمد فرانكو نشاط جميع القوى السياسية وجمد النظام الملكي. وفي 19/4/1937 أصدر قرارا وحد جميع المنظمات السياسية اليمنية تحت قيادته المباشرة ـ ولم يكن هو أصلا ينتمي لأي من تلك المنظمات ـ في منظمة "الكتائب الإسبانية التقليدية ولجان المثابة الوطنية النقابية". واتخذ من ميثاق الكتائب ميثاقا لمنظمته الجديدة بعد أن عدل بنوده الستة والعشرين. وبهذا كانت إسبانيا ـ الأرض والإنسان ـ هي الخاسرة الكبرى لهذه الحرب, عالميا ومحليا, فعلى الصعيد العالمي عاداها منتصرو الحرب العالمية الثانية باعتبار نظامها الحاكم من إرث النازية المهزومة وحليفتها الفاشية. وقرر المجتمعون في مؤتمر بوتسدام بألمانيا في أغسطس من سنة 1945 عزل إسبانيا عن العالم ولم يخرج عن هذا الموقف إلا الفاتيكان والبرتغال وسويسرا, وفي 12/12/1946, أوصت الأمم المتحدة كبار موظفيها بمغادرة إسبانيا التي لم تبدأ تتخلص من هذا الحصار ـ جزئيا ـ إلا بعد نشوب الحرب الباردة بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي فعقدت اتفاقا عسكريا مع الولايات المتحدة الأمريكية ثم انضمت للأمم المتحدة في 14/12/1955. وراحت الزعامات العالمية تزور مدريد ومن أهمها ـ على المستوى العربي ـ زيارة الزعيم جمال عبدالناصر لها في 23/9/1960. كما لم يرض مهزومو الحرب عنها لعدم وقوف نظامها الحاكم إلى جانبهم في الحرب ردا لما قدموه له في حربه الأهلية ضد الجمهوريين.

وعلى الصعيد المحلي راحت الحرب ـ بعد أن قامت على جبهات القتال بإزهاق مليون روح ـ تزهق الأحياء جوعا, إذ مرت إسبانيا الوطنية بظروف اقتصادية حرجة ولم يتجاوز نتاجها الزراعي سنة 1955 معدله بين سنتي 1930 و 1935. وعلى الصعيد الوطني راح المنتصرون على أشلاء إسبانيا يفرضون هويتهم وفكرهم على الآخرين ممجدين أنفسهم ومشوهين كل ما يمت للمهزومين بصلة, فارضين الرقابة على كل شيء, بما في ذلك إلزام المواطنين بوضع الرسائل في صناديق البريد مفتوحة لمراقبتها. وسن المنتصرون القوانين التي تحرم العمل السياسي وتقضي على آثار الماضي بشقيها الجمهوري والملكي. ومن أجل تحقيق نتائج فعالة لسياستهم ربوا النشء تربية أيديولوجية تتماشى مع المعطيات الجديدة من خلال المناهج التعليمية ذات التوجهات الكاثوليكية التقليدية, فصدر في 29/7/1939 قرار ألزم المدرسين بتفسير المناهج تفسيرا يتماشى مع هذه التوجهات الحكومية الكنسية.

وهكذا صودرت الحريات المدنية جميعها, وأصبحت عقيدة الكتائب هي الوحيدة المعمول بها داخل إسبانيا, فهدمت كل ما أنجزته الجمهورية وأعادت أراضي الإقطاعيين ـ المصادرة بموجب قانون الإصلاح الزراعي الصادر في 15/9/1932 ـ إلى أصحابها ورفعت ساعات العمل إلى أربع وأربعين ساعة أسبوعيا بعد أن خفضتها الحكومة الجمهورية إلى أربعين ساعة فقط. كما مكنت الكنيسة من الهيمنة على الحياة الثقافية والفكرية, فانتقلت بذلك سلبياتها ـ من تعال وشوفينية ومعاداة لغير الكاثوليك ـ إلى الحياة العامة. إنه في نهاية المطاف, انتصار قوة الباطل على دولة الدستور والحق, برغم استماتة هذه الأخيرة في الدفاع عن شرعيتها.

 

محمد عبدالله الجعيدي




أفراد الحزب الوطني اليميني وهم يقيمون يمين الولاء





قصف قرية جرينكا "بيكاسو"





ضحايا الغارات الجوية





أمام موجات المذابح المستمرة لم يكف السكان عن الهجرة