ذاكرة الشاعر التقليدي

ذاكرة الشاعر التقليدي

ترى أستاذتنا الدكتورة سهير القلماوي (في مقال قديم نشرته في مجلة "المجلة" ديسمبر 1986 بعنوان: متى ندرس فن شوقي?) أن أهم الخصائص المكونة للنزعة الكلاسيكية في شعر شوقي هي الاعتماد على مخزون ثقافى واسع متنوع أكثر من الاعتماد على المعاناة الآنية أو التأثر الحالي. وتوضح ذلك بقولها إن مفجر الوحي الشعري عند شوقي لم يكن هو الأساس, وإنما المفجر يثير في نفسه شحنات من العواطف التي سرعان ما تريد إلى مخزون يناثلها في الذاكرة الواعية, فإذن الربط بين هذا وذاك هو الذي يملي عليه الشعر في أكثره. وهذه ملاحظة سلمية في إجمالها, دقيقة في توصيفها لا يعيبها سوى أمرين: أولهما - أنها تصدر عن نظرية التعبير بالدرجة الأولى, فترد الشعر إلى نبع الانفعالات الفردية على نحو مباشر, تأكيدا للمعنى الذي قصد إليه عبدالرحمن شكري عندما قال بيته الشهير:

إلا يا طائر الفردو س إن الشعر وجدان

وتلك نظرية عفا عليها الزمن الذي استبدل بها النظريات الموضوعية في الفن بوجه عام, وأحل عبارة ت.س. إليوت الشهيرة عن الشعر الذي هو فرار من الشخصية محل العبارات التعبيرية التي لم تر من الشعر إلا ما يدل على شخصية صاحبه. وثانيهما - أن ملاحظة أستاذتنا لم تحرر معنى "الذاكرة" بما يميز بين أنواع من الذاكرة, ويكشف عن الفارق بين الذاكرة الاستحضارية التي هي قرينة التقليد الذي يراوح في دائرة الأصل, والذاكرة الابتكارية التي تقوم بوظائف بالغة الفاعلية, وظائف دفعت الشاعر ستيفن سبندر, على سبيل المثال إلى القول إن الخيال عمل من أعمال الذاكرة, وإن قدرة الشاعر على التخيل ليست إلا قدرته على تذكر ما مر به من قبل وتطبيقه على موقف مختلف.

دور الذاكرة

ولكن تبقى ملاحظة أستاذتنا عن الدور الذي يلعبة المخزون الثقافي للذاكرة في النزعة الكلاسيكية بوجه عام, وشعر شوقي وأقرانه الإحيائيين بوجه خاص, ملاحظة سلمية في إجمالها دقيقة في توصيفها. وآية ذلك ما تقرأه في الشعر الإحيائي من عبارات تؤكد دور الذاكرة في هذا الشعر, على نحو ما نجد عند البارودي الذي قال: "إن التذكر للنفوس غرام". وغرام النفوس الإحيائية واتحدت معه. والواقع أن أهم خصائص النزعة الكلاسيكية في شعر الإحيائيين بوجه عام هي الاعتماد على ذاكرة استوعبت الميراث الشعري القديم, وتمثلته التمثل الذي أفاد الشاعر الإحيائي في نظم كل خاطر ومعنى. ولكن يبدو أن علينا إضافة تمييز آخر عند هذا المستوى, ونقابل بين الشعراء عموما من المنظور الخاص بالذاكرة, فمن المؤكد أن هناك فارقا بين الشاعر الذي يسلم قيادة إلى هذه الذاكرة, أو ينظم شعره معتمدا على ما فيها من محفوظ لاغير.

هذا الفارق هو ما يميز بين الشاعر التقليدي والشاعر المبدع, في النزعة الكلاسيكية أو في غيره من أنواع الشعر, فالذاكرة وحدها لا تميز الشاعر الكلاسيكي عن غيره, ولاتميز الشاعر التقليدي في ذاتها, لأنها القاسم المشترك في كل إبداع أيا كانت المدرسة التي ينتمي إليها هذا الإبداع. ولاتتمايز عند الشاعر التقليدي إلا باقتصارها على المحفوظ من شعر أسلافه, وخوائها من تجارب الحياة الحية, وتقلص دورها في الاستعادة التراثية التي تدني بأطراف الماضي والحاضر إلى حال من الاتحاد. ويعني ذلك أن الفارق بين الشاعر التقليدي (الذي لا يستحق تسمية الشاعر إلا نجازا) والشاعر المبدع, من منظور الذاكرة,ليس فارقا يرجع إلى معنى المدرسة الأدبية الذي لا ينطبق بتمامه إلا على المبدع متوسط القامة, فالمبدع المتفرد هو الذي يتأبى على أي تصنيف مدرسي أو مذهبي, وإنما يرجع إلى الدور الذي يقوم به الشاعر في علاقته بهذه الذاكرة من ناحية ثانية.

محو الحضور المستقبل

ويمكن التمييز بين الشعر الإحيائي نفسه من هذه الزاوية, لأن هناك فارقا بين الشاعر الإحيائي الذي يستغرقه تراثه إلى الدرجة التي تمحو حضوره المستقل, فيغدو شاعرا تقليديا لا يرى إلا بعيون السابقين, ولا يسمع إلا بآذانهم, وبين الشاعر الإحيائي نفسه حين ينتزع ذاته من قبضة التراث الطاغية, ليصوغ تجاربه على نحو مستقل, يفضي به إلى أفق الحضور الإبداعي, الأفق الذي يميز شوقي الذي يقول:

وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل ظمأ للسواد من "عين شمس"
شهد الله, لم يغب عن جفوني شخصه ساعة, ولم يخل حسي

عن شوقي الآخر الذي قال:

لعلاك المذاكرات عبيد خضع والمؤنثات إماء

فلم يفلح إلا في استعادة بيت أبي العلاء المعري:

للمليك المذاكرات عبيد وكذاك المؤنثات إما

وذاكرة شوقي الأخير أشبه بذاكرة حافظ إبراهيم الذي قال في إحدى مراثيه:

لست أدعوك بالتراب ولكن بخدود الملاح والأجياد
بقدود الحسان بالأعين النجـ ـل بتلك القلوب والأكياد

فلم يفعل شيئا سوى مسخ بيت أبي العلاء الشهير في رثاء الفقيه الحنفي:

خفف الوطء ما أظن أديـ ـم الأرض إلا من هذه الأجساد

كما تشبه ذاكرة البارودي الذي جرؤ على أن يقول

ومازاد ماء النيل إلا لأنني وقفت به أبكي فراق الحبائب

مستعينا بذاكرته التي استرجعت ميراثا كاملا من المبالغات الشعرية القديمة في أوصاف الدموع, ابتداء من امرئ القيس الذي قال:

فعيناك غربا جدول في مفاضة كمر الخليج في صفيح المصوب

مرورا بالبحتري القائل:

وسأستقيل لك الدموع صبابة ولو أن دجلة لي عليك دموع

انتهاء بالبهاء زهير الشاعر المصري الذي تأثر به البارودي تأثر لافتا, والذي أغرم بتكرار المبالغة في وصف الدموع, فمرة طاب له ماء النيل لأنه حل محل ريق الحبيبة:

وما طاب ماء النيل إلا لأنه يحل محل الريق من ذلكة الثغر

ومرة ثانية زاد ماء النيل بسبب دموع البهاء زهير:

ومازاد ماء النيل إلا بمدمعي لللقد مرج البحرين يلتقيان

إلى غير ذلك من المبالغات التي استرجعتها ذاكرة البارودي التقليدية, ودفعته إلى أن يضيف إلى ما فعل بيتا من قبيل:

وكفكفت دمعا لو أسلت شئونه على الأرض ما شك امرؤ أنه البحر

فذكرنا ببعض الأصل الذي اعتمدت عليه ذاكرة شوقي حينما انتقلت به من حرارة السؤال:

وسلا مصر: هل سلا القلب عنها أو أسا جرحه الزمان المؤسئ

إلى برودة التوليد التقليدي الذي يخاطب السفينة بشيء لا يقل عن قوله:

نفسي مرجل, وقلبي شراع بهما في الدموع سيري وأرسي

فدفعتنا إلى استرجاع مبالغة البارودي عن كفكفة الدمع الذي لو سال على الأرض ما شك إنسان أنه بحر, وهي المبالغة التي تستدعي أمثالها في ديوان شوقي, خصوصا في الجزء الثاني الخاص بالوصف, حيث نقرأ:

والخد من دمعي ومن فيضه يشرب من عين ومن جدول
وتواريت بدمعي عن عيون الرقباء

ويمكن أن نصف جانبا كبيرا من شعر الإحيائيين بالتقليدية من هذا المنظور الذي يعطف معنى الاستعادة على معنى التذكر الحكائي إذا جاز استخدام هذا الوصف, خصوصا حين نلمس ما يؤكده شعر أمثال البارودي وشوقي من احتشاد الذاكرة الحافظة بالمخزون التراثي الذي فرض المبالغة على هذا الشعر في حالات كثيرة, بعد أن دفع الشعراء إلى منافسة القدماء على النحو الذي نأى بهذا الشعر عن العيان المباشر لحدس الإبداع الذاتي, وأسلمه إلى تداعيات الذاكرة الحافظة التي جذبته إلى مخزونها غير النتجانس بالقدر الذي انتهى بالشاعر إلى أن يغدو شخصية من الشخصيات التي وصفها حافظ إبراهيم بقوله:

أمعن التقليد فيها فغدت لا ترى إلا بعين الكتب

ويعني ذلك أن ذاكرة الشاعر التقليدي أشبة بالمستودع الذي يختزن الشاعر فيه كل ما قرأه على وجه الخصوص. وكما يقوم المستودع بالحفاظ فحسب, دون أن يتدخل تدخلا جذريا في العلاقات المائزة بين المعطيات المحفوظة, كذلد ذاكرة الشاعر التقليدي لا تتدخل فيما تحفظه, وتظل سلبية في حفاظها على محتوياتها. وعلاقة الشاعر التقليدي بهذه الذاكرة لها الأولوية المهيمنة في نظمه, من حيث هي المبدأ الفاعل في هذا النظم ومصدره في آن. أقصد المصدر الذي لا تخرج عنه الصور أو التراكيب التي تستعد ما في الذاكرة استعادة السلب التي نصفها بالتقليد, والمبدأ الذي يفرض خاصية الاتباع على صور الشاعر وتراكيبة, مهما كانت درجة االتوليد التي تنبني بها هذه الصور والتراكيب التي لا تخرج عن محاكاة النمكاذج المختزنة في الذاكرة.

ويذكرني هذا النوع من الذاكرة بالقوة الحافظة التي وصفها حازم القرطاجني في كتابه "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" بأنها القوة التي تكون خيالات الفكر فيها منتظمة, ممتازا بعضها عن بعض, محفوظا كلها في نصابه, فإذا أراد الشاعر مثلا أن يقول غرضا ما في نسيب أو مديح أو غير ذلك, وجد خياله اللائق به قد أهبته له القوة الحافظة بكون صور الأشياء مترتبة فيها على حد ما وقعت عليه في الوجود فإذا أجال خاطره في تصورها فكأنه اجتلى حقائقها. والمنتظم الخيالات من الشعراء, فيما يقول حازم القرطاجني, كالناظم الذي تكون عنده أنماط الجواهر مجزأة المواضع عنده, فإذا أراد حجر شاء على أي مقدار شاء, عمد إلى الموضع الذي يعلم أنه فيه فيأخذه وينظمه. ووصف حازم لهذا النوع من الذاكرة (الحافظة) دالإلى حد كبير في هذا المقام, لأنه لا يكفي بالكشف عن أهمية مخزون هذه الذاكرة في عملية النظم, وإنما يجاوز ذلك إلى وصف خصائص هذا المخزون, من حيث ما يخضع به إلى مبدأ المحاكاة,/ سواء بالمعنى الذي يقرن سلامة المخزون بترتبه على حد ما وقعت عليه صورة في الوجود, أو المعنى الذي يقرن هذه السلامة بالترتيب على قواعد المنطق العقلي الذي يراعيه الشاعر الكلاسيكي بوجه عام. والإلحاح على هذه القوة الحافظة يعني, عند حازم, الإلحاح على الدور المهيمن الذي تقوم به ذاكرة المستودع في عملية النظم التي تتحول إلى عملية استعادة بمعنى أإو بآخر.هذه العملية, بدورها, هي ما يميز الشاعر التقليدي في المنطقة التي تعطف معنى الاستعادة على معنى الإحياء, وتقرن كليهما بصفة المبالغة التي تنأى بالنظم عن أن يكون شعرا بالمعنى الذي نفهمه من كلمة الشعر.

سجن الشاعر

وأتصور أن سببا رئيسيا من أسباب المبالغة المفتعلة في الشعر الإحيائي يرجع إلى الدور الطاغي للذاكرة الحافظة التي سجنت الشاعر الإحيائي بين جدرانها, وحجبت عنه نسائم التجارب الحية المتوترة التي عاشها بالفعل والتي كان يمكن أن يستبدل بها المعطيات الهامدة للذاكرة التي دفعته دفعا إلى التقليد. والتقليد استعادة لمحتويات هذه الذاكرة, ومحاكاة لصورها وتراكيبها, وخضوعا لمنطقها حتى في دائرة المنافسة التي أراد بها الشاعر التقليدي أن يتفوق على أسلافه. وإذا كانت عملية التوليد قد حققت للشاعر الإحيائي المقلد, في هذا السياق, ما قصد إليه من تصوره الخاص عن المعنى المبتكر وكيفية تكوينه, فإن هذه العملية كانت تنتهي في الغالب بشعر هذا الشاعر إلى الافتعال السقيم. وآية ذلك ما انتهى إليه شاعر الإحياء حين فصل الصور القديمة التي حفظهتها الذاكرة عن سياقها الإبداعي الذي تستمد منه حياتها, ففقدت هذه الصور ثراءها السياقي وتوترها الدلالي. وعندما حور هذا الشاعر في عناصرها وأضاف إليها من العناصر ما قصد به إلى إثبات البراعة والتفوق على الأصل, أو حتى التعمية على الأصل, كانت النتيجة مسخا شائها ينطق بالافتعال.

خذ مثلا صورة ابي فراس الشهيرة:

تكاد تضيء النار بين جوانحي إذا هي اذكتها الصبابة والفكر

تجدأن الصورة لا يمكن قدير توترها الدلالي إلا داخل سباق القصيدة التي استمد منه طاقتها, هذه الطاقة التي تتبدد على الفور عندما يعزلها البارودي, بعد تذكرها, عن سياقها الخاص, ويضيف إليها ما ينتهي بها إلى أن تصبح شيئا من قبيل:

ولكنه الحب الذي لو تعلقت شرارته بالجمر لاحترق الجمر
على انني كاتمت صدري حرقة من الوجد لا يقوى على مسها صدر

توليد الصورة الموروثة

ولم تكن صور التقليد في الشعر الإحيائي توليدا مباشرا على هذا النحو, إذ يحدث كثيرا ان يكون المصدر القديم الذي تولدت عنه الصور الإحيائية مولدا بدوره من مصادر اقدم منه. فذاكرة المقلدين من شعراء الإحياء ذاكرة هائلة في استيعاب عصور الموروث المختلفة وطبقات شعرائه المتباينين, وذلك على النحو الذي كان يبين لهذا الشاعر عن سلاسل متتابعة من توليدات الصورة البلاغيةالواحدة, وفي هذه الحالة كان الشاعر الإحيائي, إثباتا لبراعة التقليد, يكمل دورة التوليد التي مرت بها الصورة الواحدة عشرات المرات عبر عصور الموروث. قد ينطوي المصدر الأصلي الذي تفرعت منه كل عمليات التوليد المختلفة على قيمة شعرية. لكن تقبله من شاعر إلى آخر, أو من مقلد إلى مقلد إذا شئنا التحديد, فضلا عما ترتب على عملية الانتقال من تحوير في العناصر, كان ينتهي بهذا الصل إلى المبالغة التي غدت سمة عامة في أغلب الشعر المتأخر زمنيا. وطبيعي أن يزداد الطين بلة, عندما كان الشاعر الإحيائ يقوم بعمليات التوليد مما حفظته ذاكرته من هذا الشعر المتأخر المتولد, بدوره, عن شعر أقدم منه. ومثال ذلك قول البارودي في وصف الخمر:

ألاعاطنيها بنت كرم تزوجت على نغمات العود بابن سماء
إذا اتقدت في الكأس خلت وميضها على وترات الكف نضج دماء

حيث تجد أن الايحاء البشع الذي يثيره في نفوسنا "نضج الدماء" يتنافر تماما مع ما يفترض أنه سياق مبهج يستدعي الخمر. ولكن إتيان البارودي بمثل هذه الصور نتيجة ترتبت على محاولة توليد صور الخمر عند المقلدين من الشعراء المتأخرين أمثال السري الرفاء الذي أغرم بهذه الصورة البشعة الإحياء على نحو ما نجد في قوله:

يسيل فم الزق الروي كأنه جراحة زنجي يسيل نجيها

أو:

كأنها إذا مجها مقهقها يبكي دما

ومن المنطقي أن يكون التشبيهان في بيتي السري مولدين من تشبيهات قديمة, متولدة بدورها عن تشبيهات أقدم, وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى ما قد نحسبة المصدر الأصلي عند الأعشى:

وسبيئة مما تعتق بابل كدمن الذبيح سلبتها جريالها

وشبيه بذلك ما نجده عند شوقي التقليدي الذي كان له غرامه الشاذ هو الآخر ببعثرة الدم في كثير من تشبيهاته الوصفية, طرافة وابتكارا, إلى درجة أن نقرأ في إحدى قصائده عن الربيع:

والجلنار دم على أوراقه قاني الحروف كخاتم السفاح

أو نقرأوصفه لوجه عبد الرحمن الداخل على هذا النحو البشع

فمه القاني على لبته كبقايا الدم في نصل دقيق
مده فانشق منبته من رأى شقي مقص من عقيق

والسبب في هذه البشاعة أن مصادر شوقي المقلد, الذي يعول على الذاكرة الحافظة, في مثل هذه التشبيهات, تشبيهاتهم, طلبا للاستطراف أو الغرابة, على نحو ما فعل كشاجم الذي وصف شفة حبيبته على هذا النحو:

عذبت في الرشف منها شفة مصها أطيب من نيل القبل
وعليها حمرة في لعس تستعير اللون من صبغ الخجل
هي فيما خلت آثار دم من فؤادي عل فيه ونهل

 

جابر عصفور