قصة عربية.. زمن للحب

قصة عربية.. زمن للحب

 

مع الدوران المنتظم لأضلاع المروحة المدلاة من السقف كان الهواء يرف فوق الجالسين إلى السفرة بفسحة شقة من الطابق الثالث بالمنزل 22 بشارع حبشي بحدائق القبة عندما جاش صدر محمد فتحي بانفعال شديد وأطبق شفتيه بصمت على قلبه ثم شملته رعدة على الكرسي ارتجف لها جسمه كله بشدة مرة، ومرة ثانية. وفتح الجميع عيونهم إلى آخرها منتفضين من أماكنهم يتابعون بنظرات الدهشة جسمه المضطرب وهو يهوى متخضبا على الأرض.

ووقعت المعجزة التي لم يكن لأحد أن يتخيل إمكان حدوثها: فقد اختفى محمد فتحي دون أن يترك وراءه أثرا: في البداية تبخرت ذراعاه وساقاه ثم بطنه فصدره ورأسه في عمود رقيق من الدخان، ولم يبق منه على الأرض أمام الجميع فوق البلاط سوى وشاح من الرماد كالظل الخفيف لم يلبث أن تبدد تحت دفقة عابرة مرت فوقه من هواء المروحة المدلاة من السقف. وتطلعت أم نوال لأعلى بنظرة جمدها الذعر الأبكم، ولحقها يحيى مبهوتا بعينين بيضاوين من الذهول.

لكن قصة هذه الظهيرة من أبريل نشأت قبل ذلك: حينما كان محمد فتحي في طريقه لبلدته كفر محمود فتعمقت دهشته لأنها كانت تقطر بسمرة المغيب إن زارها صباحا أو ظهرا أو ليلا ـ كأنها لم تعد تعرف وقتا آخر سوى لحظة المغيب، ولأنه وهو يقطع الطريق بمحاذاة الترعة صوب الدار كان يلتقي بفوزي كل مرة بقامته الطويلة المسحوبة ومشيته المسالمة ومن ورائه جاموسته التي ترفع إليه عينين واسعتين معذبتين بصبر راضخ رقيق. ولا يلبث بعد ذلك مباشرة أن يصادف الشيخ حمدي ـ مهرولا كل مرة في الاتجاه الآخر تحت الجميزة الضخمة التي تحتضن المسجد ـ فيلقي الشيخ السلام عليه دون أن يتطلع نحوه. وفي هذه المرة، والمرات السابقة كلها، كان يلمح نعمة وهو يدور يمينا مع الطريق الضيق المترب منحنية تضخ الماء دائما من طلمبة الحوش في نفس الدورق النحاسي. وكانت ترفع رأسها لحظة فتبتسم له كل مرة نفس البسمة الملغزة المفعمة بالدفء، ثم تنحني ثانية على الطلمبة. وسيمشي قليلا بعد ذلك فلا يلتقي بأحد إلى أن يهف عليه نفس المزيج الأسطوري من مخاض الطين وأسرار اللقاح الهائمة تحت قمر مكتمل، فيواصل سيره وحده بين الأرض والسماء حتى ليشعر كأنه ظل لحقيقة أخرى سرعان ما يزول. ثم ينبح كلب بعيدا مرة، ومرة، ثم يرقد ضجرا تحت شجرة مهملا المغربية للسكون. وفي هذه اللحظة سيجد نفسه كما في المرات السابقة واقفا أمام الباب الخشبي القديم لدارهم فيتريث ثواني قبل أن يدلف: الآن سوف يستقبله والده الحاج عبدالرسول كما لاقاه أربع مرات متتالية من قبل دون أن يبدل شيئا من جلسته أو حديثه أو حركات يديه في الهواء. متربعا بنفس الجلباب على نفس الكنبة تتوالى كلماته بنفس التسلسل عن الشوطة التي التهمت نصف فراخ المزرعة. وحينما ينتهي من شكواه سيلتفت لعمق الدار ويصيح مستعجلا العشاء بعين التعبير الملول.

وحينئذ سينهض هو مستأذنا مستغربا كل ذلك لينصرف. غابت عيناه في الباب الخشبي العتيق ثم استدار عائدا على نفس الطريق إلى مخارج البلدة ومنها لموقف الميكروباص على سكة السفر، مقررا ألا يعود للكفر قبل أن يدرك السر فيما يتراءى له من صور تعيد خلق نفسها.

واستغرقه التأمل فيما جرى له ـ أثناء جلسته أمام التلفزيون بشقته وخلال أحاديثه مع زوجته نوال وابنهما محمود، وفي فترات الراحة التي تخللت عمله بإدارة المبعوثين.

وانتبهت نوال وهي تعقص شعرها أمام مرآة الحمام إلى أنه على غير عادته. تأملته باستغراب لكنها لم تعقب بشيء. أما هو فانزلق بجسمه إلى ماء الحمام الدافىء منصرفا إلى نفسه يظن أنه قد يجد تفسيرا للقرية الناعسة المتكررة إن هو أمعن الفكر في ذلك. لكنه أفاق بعد أيام معدودة وهو في طريقه لشغله بمجمع التحرير إلى أن وجوه ركاب الأوتوبيس "44" لم تعد تتبدل صباحا بعد الآخر على مدى أسبوع كامل، لاحظ ذلك بتشكك في البداية، وخال أول الأمر أن شيئا قد اختلط عليه، فحد من ذاكرته يحفظ ملامح الوجوه من حوله كل مرة إلى أن يراها أمامه وهو مغمض العينين حتى أيقن أنها نفس الوجوه التي تعاود الظهور له في اليوم التالي. ثم أعيته تفاصيل أكثر دقة كتلك المرأة التي تزاحمه كل يوم بين نفس المقعدين بلحمها المكتنز وفستانها الأصفر الفاقع.

ربما كانت المصادفة وحدها وراء كل ذلك. ولكن أكانت مصادفة أيضا أن يبدأ عمله كل يوم باستدعاء المدير له، ودخوله إلى مكتبه فإذا بالرجل منتفخ في مقعده قابض على سماعة التليفون وهو يجزم: "إدارتنا ـ أقسم بالله ـ في أمس الحاجة لخبرة رجال كهذا الرجل". كم تتابعت هذه الكلمات بنصها ما إن تصل قدماه لمنتصف السجادة. وقد جرب ذات يوم أن يتلكأ عند استدعاء المدير له، فتمشى ببطء بين ممرات الطوابق التي عجت بأصحاب المصالح، ثم عرج على قسم المالية واتصل بنوال من مكتب عزت، ومر بعد ذلك علي دورة المياه ومنها إلى مكتب البريد فظل برهة به ليكسب بعض الوقت، وبعد ذلك فقط صعد إلى غرفة المدير بثبات وتصميم، لكن نفس العبارة بنفس النبرة دوت في أذنيه ما إن وطأ منتصف السجادة العتيقة.

كانت وجوه المترددين على المكاتب وحدها تتغير وتتجدد معها أمام عينيه الأوراق والملفات بأسماء المبعوثين لمنح دراسية في الخارج: ملف المطلوب وضعهم تحت الإشراف العلمي للدولة، وملف الذين أنهوا دراستهم، وملف المستحقات. وكان يتشبث بتلك اللحظات بكل قوته ويستعيدها إشارة إلى بقاء العقل. لكنه كان إذا نهض من وراء مكتبه ليدخن سيجارة ظهرا، نهض معه على الفور زميله مصطفى سلامة وهو يغمز له بعينه اليسرى ضاحكا. فينسلان من الغرفة واحدا وراء الآخر ويهبطان معا إلى ممر الطابق السادس ويستندان بظهريهما إلى الجدار بالقرب من البوفيه فيقدم مصطفى السيجارة إليه شاكيا: "لو خبط الواحد رأسه في الحائط لكان ذلك شوية على ما يحدث. الهانم عارفة ظروفي كلها، ولما شجعتني بضحكاتها ونظراتها تقدت إلى أهلها أطلب يدها. أتصدق أنهم أفحموني بالرفض. أتصدق؟".

أسبوع كامل أم شهر أم أكثر ومصطفى يردد نفس الحديث على ذات البسطة بنفس البذلة الرمادية إلى أن صاح فيه ساخطا بنظرة حانقة: "ما هذا؟ أما من شيء آخر تقوله؟". وتطلع إليه مصطفى متراجعا بارتباك واضح متلعثما: "شيء آخر من أي نوع؟ أنت تعرف المشكلة، وأن الكثيرات يرفضن الزواج لمجرد أن والدتي تعيش معي في نفس الشقة؟! فهل ألقي بها إلى الشارع في هذه السن؟!". فشاع في وجهه تكذيب مرير واحتد عليه مستاء: "لقد قلت لي كل ذلك من قبل وكررته بحذافيره وأكثر من مرة". وعندما عاد إلى مكتبه أكربه خاطر أسود ملح أمسك بخناقه: "لابد من تقديم طلب إجازة مرضية".

تردد في البداية، لكنه حسم الأمر حينما تذكر أنه عند عودته للبيت كان يرتطم كل يوم قرب مدخل العمارة بقدمين ثابتتين في حذاء كاوتشوك أبيض لصبي لا يبدل موقعه بوجه شارد في الهواء. ولم يكن يدري من أي بيت أو أسرة في الحي نجم له هذا الطارىء الشيطاني. وتضاعف بين جوانحه إحساس كئيب بأن وجوده أمسى وهو في السابعة والثلاثين دورانا لا ينتهي في حلقة مفرغة.

رأى نفسه وهو يكتب طلب الإجازة، ورأى نفسه وهو يوقعه، ثم شاهد كيف أنه مشى إلى غرفة المدير في غيابه ووضع الطلب على مكتبه. وودعه زملاؤه بحرارة وهم يشدون على يده متمنين له سرعة الشفاء، ورافقه عزت ومصطفى إلى باب المصعد وهبطا معه حتى مخرج مجمع التحرير يكرران: قدها وقدود.

ولازم شقته في الطابق الثالث من المنزل 22 بشارع حبشي في حدائق القبة، وعندما مر عليه يومان في بيته دون أن يحلق ذقنه أو يأكل شيئا قالت له نوال: "ليتك ترى وجهك في المرآة، إنك تضمر أمام عيني من لحظة لأخرى فاعرض نفسك على طبيب". هل يصدق الأطباء ويكذب عقله الذي يعي وعينيه اللتين تريان? وهل من دواء يطرد ما تثيره أحداث الأيام الأخيرة من شعور غريب بأنه يعيش حياة مستخدمة وقعت في زمن سابق لرجل آخر استنفدها ثم خلعها يائسا لأول قادم على الطريق؟.

مساء اليوم الثالث أصرت نوال على أن تشده إلى الحمام وهي تقول له متفائلة: "أنا متأكدة أنك ستغدو كالحصان إذا قمت واستحممت وحلقت ذقنك ونفضت عنك هذه الحالة. قم يا رجل". واحتواها في الليل بين ذراعيه لكن بعنف غير مسبوق كأنما تاق إلى إحراق نفسه فيها، لعل طاقة تنفتح من ذلك الجحيم. وبعد أن صهرته ألسنة اللهب فغيبته ذوبا كف عنها وقد غشيت خياشيمه رائحة نفس العرق الساخن التي انبعثت مرارا من قبل. وفرد جذعه معتمدا على ركبتيه المغروستين في السرير بين ظلال الغرفة المعتمة يسأل نفسه بيأس عميق إن كان ما يدور من حوله حقيقة أم موجا من الصور يظنه حقيقة؟.

وكان سامقا ببيجامته في المطبخ أمام إبريق الشاي الذي يصفر بخاره، ينظر إليه ولا يراه حين فوجىء بنوال التي عادت من شغلها دون أن يدري بها وهي تحملق فيه بذهول حتى قالت له: "ألا تقل لي ما بك؟ أم أنك لا تحس بنفسك؟ دعنا نستشر طبيبا ربما تكون حالة نفسية؟". تطلع إليها ببصر زائغ، ثم أشاح بيده أن لا.. أي طبيب يجد فيه علة الشعور الذي يتخلله بأنه يذوي وحده في فضاء عريض أصم خال من كل شيء؟

واستفسر منها: "كيف حال محمود؟ هل بدأ ينتظم في مجموعة اللغة الإنجليزية؟". تفرست فيه بغضب ثم غادرت المطبخ وهو خلفها إلى الشرفة وهناك غمغمت وهي تجمع بين يديها من الشمس طرفي ملاءة بيضاء تفوح بعطر غسيل طازج: "لكم أخشى عليه من الرسوب هذه السنة".

عصر اليوم التالي قال لها وهو راقد في فراشه بغرفة النوم: "دعيني أرى الولد الآن". فدخل عليه محمود بعوده الناشىء وجثا على ركبتيه عند حافة السرير ثم طوق خصره بذراعه اليمنى مطأطئا: "سلامتك يا بابا". فمر بيده على شعره: "لا تقلق. فقط أريدك أن تلتفت لدراستك هذا العام". وعندما خرج من الغرفة استفهم: "هل يشكو منه المدرسون؟". نهضت واقفة تقول له وهي تجمع بين يديها طرفي ملاءة بيضاء: "كم أخشى عليه من الرسوب هذه السنة". تأملها مخاطبا نفسه: "ترى أتقول ذلك الآن؟".

وحز في نفسه أن نوال وهو بتلك الحالة كانت تقدم له ظهر كل يوم نفس صحن البامية وشوربة اللحم. وحين قال لها: "أما من طعام آخر يا نوال؟" هرولت إلى المطبخ وعادت إليه تحمل بين يديها طبق الملوخية بالأرانب التي أكل منها من قبل فصاح بها مستغربا: "هذا طعام بايت!". فانصرفت. وقام متجها إلى الصالة، فرجعت إليه نوال بعد قليل وفرشت السفرة بأطباق الأرز والسمك المشوي بينما أقبل محمود يحمل طبق سلطة خضراء ووضعه أمامه. حينئذ رأى ابن عمه وصديق عمره يحيى جالسا على مقعد مواجه له وراء السفرة وقد فاض لحمه المتكتل على الكرسي وضحكته المجلجلة تملأ شدقيه. عن يمين يحيى جلس أبونوال بملامحه التي تقطر طيبة وهو يهمس بشيء لأم نوال التي قالت له باستنكار وهي تدق على صدرها: "لا أبدا. بعد الشر".

وتطلع إلى من حوله وما حوله، واسترق النظر إلى التلفزيون: كانت "كيتي" ترقص خصرها في فيلم قديم معروف لإسماعيل يس بينما يهز يحيى رأسه طربا وعيناه تلمعان بنشوة وسرور. وتعجب لكل هذا وأحس أن شيئا قد خبطه على رأسه: كل ذلك لم يقع اليوم، بل كان منذ فترة. وخاطب نوال وهي تغرف الأرز من الحلة إلى الأطباق: ألم نشاهد نفس الفيلم من قبل؟ ويحيى؟ والساعة الثانية ظهرا؟ والطعام والجو الحار؟! ووالدي؟ وستطرق أختك إحسان باب الشقة الآن فتقومين وتفتحين لها، فتدخل إحسان وتجلس معنا ثم تشكو أول ما تتكلم من حر الشارع؟

لكن نوال لم تسمعه، أو تظاهرت بأنها لم تسمع.

وساد الصمت لحظة ما لبث بعدها أن سمع دقا على الباب، فقامت نوال لتفتح. وإذا بإحسان واقفة في فتحة الباب كتمثال لآلهة الحسن كل ما فيها مشع آسر، زاخرة بحياة كظيمة طفرت كأنما أهاجها لحمها وعظمها، فتطاير شررها متألقا من فحم عينين سوداوين ضاحكتين، لولا قرط على شكل زهرة تأرجح في أذنيها ما قال ناظر إنها من بشر زائلين. دخلت وجلست تحت المروحة المدلاة من سقف الصالة وتنهدت: "يا إلهي على الحر في الشارع". وكان يعرف أن يحيى سيرتد الآن للخلف بكتفيه العريضتين محدقا في طبق السمك وقد تحلب ريقه للأكل، ثم يرفع يده بالشوكة إلى أعلى وقبل أن ينقض على الطعام سيهلل مثنيا على نوال: "الله. ما هذه المتعة!". وخطر له ـ ما أن ارتد يحيى للخلف بكتفيه العريضتين ـ أنه لا يستطيع أن يشكو ما به لأحد، لأن أحدا لن يفهمه. ولم يعد من سهام النور إلا أمل أن يكون ما ألم به وعكة بسيطة سرعان ما تبرأ روحه منها.

وكان ينتظر أن تهتف إحسان بصوتها الرنان: "احتفل إبراهيم ونبيلة بسبوع ولي العهد" لكي تدنو نوال وتقف بالقرب منه معتمدة بيدها اليسرى على حافة كرسي مجاور بينما يدها الأخرى تمسح ظهره بحنان غامر. وساد سكون تركزت فيه عيون الجميع عليه تنفث نحوه من قلوبها مودة وألفة مستفهمة، وكف نوال تمسح ظهره بمحبة وهي مستندة بيدها الأخرى إلى حافة كرسي.

وأحس بعرقه ينضح فمد يده بمنديل إلى رقبته جفف به عرقه الذي جففه من قبل. وتأمل صفحة وجه نوال المائل للطول بقسماته المستريحة وعينيها الصغيرتين الجميلتين وأنفها الدقيق. وقال لنفسه إنها لا تعرف بعد أنهما سيرزقان بعد عامين ونصف العام بطفلتهما بشرى، ولا تدري بعد أنها سيغشى عليها من الفرح والإنهاك حين يزفون إليها الخبر "بنت"، إلا أن الموت سيختطف بشرى قبل أن تبلغ الخامسة. لكنهما سيتذكرانها بعد سنوات طويلة في خضم الورد والسرور والأنوار المتألقة عند الاحتفال بخطوبة محمود إلى شوقية، وسط حشد من الأصدقاء والأقارب من القاهرة وكفر محمود، وفوزي واقف بقامته المسالمة في ركن يصفق بيديه مبتسما برقة، حينما يكون الجميع واثقين أن بشرى قد نسيت تماما، عندها ستقترب منه نوال وهي في عز فرحتها بخطوبة ابنها فتشده من مقعده وتنهضه وتقبله وتراقصه، ساعتها ستتبدى ملامح البنت من عالم مفقود تشق الظلمة إلى فتور العقل والقلب وتزول، سيلوح وجهها لحظة كالشهاب لسبب، حينما تشتبك عيناه بعيني نوال أثناء الرقصة، وتنبعث بشرى من حلكة غامرة. أما هو فسيخطر له بعد أن تقع هذه الأحداث أنه سبق أن رأى كل ذلك في زمن ما طواه النسيان دون أن يدري متى أو أين.

وكان الهواء يرف من أضلاع المروحة وهي تهس بحركتها الثابتة في جنبات الفسحة وفوق الجالسين إلى السفرة حينما توترت كل قواه ليتذكر زمنا كانت الوقائع فيه تشد بعضها إلى الأمام لكن دون جدوى، فجاش صدره بانفعال شديد وأطبق شفتيه بصمت على قلبه محدثا نفسه: "لم يعد سوى انتظار الأحداث الممضة التي انقضت ذات يوم، ومباهج الماضي التي ستنصرم فيما بعد صورا حميمة".

في تلك الظهيرة من أبريل شملته تلك الرعدة على مقعده خلف السفرة، وكان ما جرى أمام أعين الجميع: لكن أحدا من الحاضرين لم ينبس في اليوم التالي بحرف عما شاهده في فسحة الشقة بحدائق القبة، ولم يفتح أحد فمه بكلمة حين رأى محمد فتحي يواصل حياته فيما بعد كأن شيئا لم يحدث، أو وهو يتجه لزيارة كفر محمود. حينذاك كان الوقت ظهرا مشمسا وهو يقطع الطريق بمحاذاة الترعة صوب الدار، فالتقى بأم إبراهيم العرجاء التي سلمت عليه بحرارة تسأله إن كان قد كلم المسئولين بخصوص معاش زوجها الخفير، فوعدها خيرا. وعندما دار يمينا مع الطريق الضيق المترب صادفه أولاد الحاج سعيد وهم يتواثبون كالقردة أمام بيته يتراشقون بالأحجار. وحين دخل إلى داره وجد والده الحاج عبدالرسول منكفئا فوق سجادة الصلاة، فلما انتهى من صلاته قال له إن شوطة قصفت عمر نصف فراخ المزرعة وسرحت لفراخ الجيران. فدهش محمد فتحي وقال لأبيه: ألم أنبهك أن ترش مسحوق النمل على الحبوب؟ قال الحاج مغتما: يا الله. لا يمنع حذر من قدر. فضرب محمد كفا بكف وهو يردد: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وعندما عاد إلى القاهرة وحكى لنوال عن الشوطة تأسفت بغيظ: لكن لماذا تعيش فراخ الآخرين وتموت فراخ الحاج?. وفي المساء تربعت نوال أمام التلفزيون تتفرج معه على فيلم "ليه يا بنفسج" وهي تقزقز لبا وترمي قشره في صحن أمامها حين سألها إن كان محمود يدرس يوميا أم لا، فقالت له: يدي على قلبي من امتحانات هذه السنة. قال لها: يا شيخة. ما دمت تتابعين معه دروسه فلا تقلقي.

وفي صباح اليوم التالي اتجه إلى عمله وهناك انحنى مصطفى على أذنه هامسا وهو يرشف من قهوته: "دبرني يا محمد. الهانم عارفة ظروفي كلها، وهي التي شجعتني على التقدم لطلب يدها، فلما فعلت فوجئت بالرفض". فترك محمد ما بين يديه ورفع رأسه يقول له: "ملعون أبوها على أقدم حذاء، لم تكن لتصلح لك فاحمد ربنا أنهم رفضوا". لكن مصطفى تنهد بحزن قائلا: "أحبها فماذا أفعل؟.. الله يخرب بيت ضحكتها المايعة!".

وعندما عاد إلى بيته أكل وغفا ساعتين وفي المساء فوجىء بجرس الباب يدق وإذا بالقادم يحيي صديقه وابن عمه بضحكته التي تملأ شدقيه، فتورد وجهه بالسرور وهو يلقاه: "معقول أين كنت يا رجل يا هلاس؟ ألا تظهر ولو مرة في الشهر؟". وعانقه بترحاب وشوق. وعلى الفور وضع النرد على منضدة قصيرة توسطتهما، وفرك يديه حماسة. لكن يحيى بادره وهو يخبط جيب جاكتته بيده: "زهري معي يا حبيبي، فدع زهرك المقروص جانبا". وانهمكا ـ وهما يتناولان العشاء ـ في حديث طويل ساخر عن بيت إرث قديم من طابقين في الحوامدية تنازعته العائلة كلها، واختتم يحيى قائلا: "شاخ الرجال خلال سنوات الصراع الطويلة، لكن الأجيال الجديدة ولله الحمد على العهد تواصل القتال باستماتة من أجل شباك أو مرحاض"!.

وعندما انصرف يحيى مقهقها كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل فتثاءب محمد بصوت ممطوط ناهضا، وتبعته نوال تجر قدميها بالشبشب إلى غرفة النوم. وهناك جلست على حافة السرير تنزع من أذنيها قرطا على شكل زهرة، ثم نهضت تشد الجلابية عبر رقبتها لتخلعها، فبان لمحمد ظهر قميص نومها الداخلي سماوي اللون، ولم يكن قد رآه عليها من قبل، فمد أنامله إليها، متسائلا: أجديد هو؟ فالتفتت إليه كأنما تراه لأول مرة. ودفعة واحدة ضاء وجهها كالفجر من حب وفرح كبيرين، وغمغمت بأنفاس مبهورة من حنانها: "جديد يا محمد. جديد".

على الأرض الخلاء لم يكن سواهما تلك الليلة، لا زهر ولا أحياء، يسبحان في ضوء القمر المنسكب.

 

أحمد الخميسي