الإيدز تحت السيطرة

الإيدز تحت السيطرة

ربما تكون صورة هذا المرض اليوم أكلح من أي وقت مضى, عشرات الملايين مصابون بالعدوى في جميع أنحاء العالم, ومئات الآلاف قد بلغوا المرحلة النهائىة المميتة من المرض. دول كاملة في مختلف أنحاء العالم يبتلع هذا المرض جميع مواردها المادية والبشرية, ومناطق أخرى بلغت فيها نسبة العدوى أرقاما خيالية. يزيد الصورة سوادا أنه برغم كل الحديث الجاري عن تجرية لقاحات فعالة وأدوية قاتلة للفيروس فإن التطبيق الواسع والناجح لهذه المركبات لايزال في منظور المستقبل البعيد. ويسود الاعتقاد في الأوساط العلمية اليوم بأن هذا المرض لن يكون مشكلة صحية طارئة. إن هذا الفيروس سيرافقنا لفترة طويلة قادمة, فهل من متسع وسط كل هذا للتفاؤل? للغرابة نعم, بل ربما نكون قادرين على القول بثقة, وللمرة الأولى منذ بدء التعرف على هذا الداء في أوائل الثمانينيات, بأننا نرى بصيص الضوء في آخر النفق. فكيف هذا?

فتوح علمية:

ينجم مرض الإيدز (AIDS) أو مايعرف تفصيلا بمتلازمة العوز المناعي المكتسب عن خمج فيروس العوز المناعي الإنساني (HIV) لخلايا محورية في جهاز المناعة وتدميرها. تدعى هذه الخلايا بالتائيات المساعدة T4 أو (CD4) , والتي تكون بمنزلة قائد الأوركسترا بالنسبة للجهاز المناعي تنسق وتناغم مابين الاستجابات المناعية المختلفة. يؤدي تناقص تعداد هذه الخلايا التدريجي إلى هبوط الوظيفة المناعية, ليدخل المريض في آخر الأمر مرحلة العوز المناعي الوخيم ويصبح عرضة لمختلف الإنتانات والأورام.

خلال العامين الماضيين حقق الباحثون اكتشافات علمية مكنت من إلقاء الضوء على سير العملية الإمراضية للخمج بفيروس (HIV) المسبب في نهاية الأمر لمرض الإيدز. فقد تبين وخلافا لما كان يعتقد سابقا أن الفيروس وخلال مرحلة الكمون الطويلة "المرحلة الفاصلة مابين العدوى وظهور الأعراض النهائىة والتي تمتد لسنوات عديدة لايشعر خلالها معظم المرضى بأية أعراض" يكون منهمكا بممارسة لعبته المفضلة في التكاثر والطفور السريعين. أمكن الوصول إلى هذه المعارف عن طريق استخدام طرق فائقة الحساسية تستفيد من تقنية التفاعل السلسلي للبوليميراز(PCR) لقياس الرنا الفيروسي "أو ما أصبح يدعى لاحقا بالحمل الفيروسي viral Load " في الدم المحيطي والأنسجة. ليتبين لاحقا أن الحمل الفيروسي يرتبط بشكل وثيق بمدى تقدم المرض, ويمكن استعماله كمشعر حساس للدلالة على مدى تطور المرض وبالتالي الإنذار, وأيضا لقياس فعالية الأدوية المضادة للفيروسات. أضاف هذا القياس الجديد بعدا جديدا للتقييم السريري لهؤلاء المرضى إضافة لتعداد الخلايا التائية (CD4) والذي كان لفترة قريبة المشعر الأهم الدال على تطور المرض وإنذاره. في هذا الصدد يقول عالم الفيروسات الشهير جون كوفين: "يمكن تشبيه تطور مرض الإيدز باصطدام قطار موشك على الوقوع, حيث يمثل الحمل الفيروسي السرعة التي يتوجه بها القطار نحو مكان الكارثة, بينما يعبر تعداد التائىات المساعدة عن المسافة التي تفصله عن هذا الموقع". إن استمرار الفيروس في التكاثر وقتل الخلايا وعدوى خلايا جديدة خلال الفترة اللاعرضية المديدة يعني أنه لاتوجد مرحلة كمون حقيقية للخمج بهذا الفيروس كما اعتقد سابقا, على شاكلة بعض الأمراض الإنتانية الأخرى التي يظل العامل الممرض فيها قابعا لفترة دون أي نشاط يذكر لينشط في نهاية الأمر ويسبب بدء الأعراض وحدوث المرض.

زودت هذه التقنيات المبتكرة العلماء بصورة دقيقة عن دورة حياة الفيروس, ففي تجارب أجريت على مرضى مصابين أمكن ـ وباستعمال أدوية مضادة لفيروس (HIV) ـ تقدير نصف عمر الفيروس وسرعة تكاثره وتعويضه. فقد تبين أن الفيروس يستغرق من حين غزوه للخلية إلى حين توليده لجسيمات فيروسية جديدة تغزو خلايا أخرى حوالي 2.6 يوم. كما يقدر عدد الجسيمات الفيروسية المتولدة يوميا عند هؤلاء المرضى بحوالي العشرة بلايين جزئية فيروسية. أي أن معدل تكاثر الفيروس وتدميره للخلايا عال جدا وعلى امتداد فترة طويلة. ولكن ماذا يعني هذا? وكيف يمكن أن تكون هذه المعطيات مصدرا للتفاؤل?! في الواقع إنها كذلك! فإذا كانت القوى الدفاعية قادرة على تحقيق توازن ما مع هذا الفيروس وإبقائه تحت سيطرتها لفترة قد تفوق السنوات العشر, برغم استعمال الفيروس خلال كل هذه الفترة لأمضى سلاحين لديه (التكاثر ـ الطفور), فإننا قد نستطيع قلب التوازن نهائىا لصالح قوى المناعة وذلك بإحدى طريقتين: تقوية دفاعات الجسم بشكل يجعلها أكثر قدرة على توليد استجابات فعالة نحو الفيروس, أو إضعاف الفيروس بشكل يجعله أكثر عرضة لهذه القوى, أو مزيجا من كلتا الاستراتيجيتين. أي ربما كان علينا أن نغير العقلية التي كنا نتعامل فيها مع هذا العامل الممرض بشكل يخالف ماتعودنا عليه حتى الآن خلال تعاملنا مع الأمراض الإنتانية الأخرى, فبدلا من البحث عن دواء شاف قاطع أو لقاح وقائي فعال, قد يكفي استعمال عقاقير مثبطة للفيروس أو استخدام تدابير رافعة للقدرة المناعية أو كليهما لإبقاء هذا العامل الممرض تحت السيطرة ولفترات غير محدودة. أي قد لايكون المطلوب هنا إيجاد عقار كالبنسلين نستعمله لفترة محدودة لنتخلص من الجراثيم التي تغزو البلعوم بشكل كامل, بل ربما كان مثال تعاملنا مع داء ارتفاع التوتر الشرياني هو الأقرب للطريقة التي يجب أن نتعامل بها مع هذا الداء, إذ يمكننا استعمال خافضات الضغط باستمرار من الحفاظ على المريض بصحة جيدة ومنع اختلاطات المرض دون أن نزيل مصدر العلة نهائيا. أما السيناريو الآخر فيقضي بمنابلة جهاز المناعة بشكل يجعله أكثر فعالية في مكافحة الفيروس مما يؤدي إلى تحويل هذا العامل الممرض إلى طفيلي متعايش نحمله معنا دون أن يشكل خطرا حقيقيا علينا في الأحوال العادية كما هو الحال في فيروسات الحلأ أو إبشتين بار.

مع العلم أنه لايوجد إلى الآن عقار فعال بمفرده في استئصال شأفة هذا الفيروس نهائىا كما أسلفت, فإن معرفتنا المتزايدة بهذا العامل المراوغ مكنتنا من استنباط عقاقير وأنظمة علاجية فعالة. ففي السنوات الأخيرة تم تطوير زمرة جديدة من الأدوية تدعى مضادات البروتياز, وتعمل عن طريق تثبيط أنزيم ضروري من أجل تجميع الجسيمات الفيروسية الجديدة تميهدا لانطلاقها من الخلية المخموجة وغزوها لخلايا أخرى. وقد وجد أن هذه العقاقير التي تحمل أسماء مختلفة كالريتونافير, إندينافير, ساكوينافير فعالة جدا في إنقاص الحمل الفيروسي. ولكن بما أن سلاح فيروس (HIV) الأمضى حتى الآن خلال تعامله مع البشر يكمن في قدرته الفائقة على الطفور Mutation "تغيير مادته الوراثية بشكل فجائي" وبالتالي تجنب الأدوية ودفاعات الجسم النوعية بتغييره لشكل الجزئىات التي تستهدفها هذه الوسائط, فإن الفيروس سيتمكن من الالتفاف حول أي دواء مهما كانت فعاليته إذا ما أعطى الفرصة.

وبالفعل تقدم هذه المعالجات الواعدة نتائج مثيرة, ففي إحدى التجارب التي تتضمن استخدام ريجيم علاجي مركب من ثلاثة أدوية هي ريتونافير, زيدوفودين ولاميفودين تمكن الباحثون من خفض منسوب الحمل الفيرسي لأقل من 1% من مستواه السابق لمدة تزيد على 42 أسبوعا, كما أصبح الفيروس غير قابل للكشف في دماء 58% من هؤلاء المرضى حتى باستعمال أكثر الطرق حساسية. فإذا تذكرنا أنه من الثابت الآن أن منسوب الفيروس بالدم "الحمل الفيروسي" يرتبط بشكل وثيق بسرعة تطور المرض وحصول الموت, أمكننا أن ندرك أهمية هذه الأنظمة العلاجية. يقول دافيد هو أحد العلماء البارزين في هذا المجال: "إذا أمكننا المحافظة على تثبيط الفيروس لفترة طويلة, فإن هؤلاء المرضي المعالجين بهذه المجموعة من الأدوية سوف يمثلون فرصة فريدة لتعرف العتبة التي إذا ما حافظنا على منسوب الفيروس تحتها لايتطور المرض بتاتا".

الجبهة الثانية التي نستطيع من خلال العمل عليها قلب التوازن الحرج مابين جهاز المناعة والفيروس لصالح جهاز المناعة, هي دعم وتقوية هذا الجهاز بالذات. توجد الآن استراتيجيات عديدة لتحقيق هذا الغرض تخضع لتجارب مكثفة بغية تحديد إمكانات كل منها وحدود استخدامها, ومن هذه الطرق, اغتراس غدة التوتة (Thymus), ومعالجة الخلايا التائية جينيا لجعلها أكثر مقاومة لغزو فيروس (HIV), وإعطاء خلايا تائية قاتلة للفيروس مكثرة مخبريا, ومعالجة الخلايا الجذعية (Stem Cells) في النقي العظمي مصابة فإن البحث جار الآن لتطوير العلاج باغتراس خلايا جذعية معدلة جينيا سليمة لدى هؤلاء المرضى. إن تطوير زمر جديدة فعالة من العقاقير كمثبطات البروتياز يجعل هذه المعالجات, التي كان يعيقها سابقا استطاعة الفيروس. خمج التوتة أو الخلايا المعدلة جينيا المغترسة في المحصلة, على قدر من الأهمية.

آفاق المستقبل

حقق الباحثون أخيراً العديد من الاكتشافات المهمة التي يمكن أن يكون لها تأثير كبير على الاستراتيجيات المستقبلية خصوصا في مجالي الوقاية والعلاج, فلقد تم التعرف على فئة من الناس تقاوم العدوى على الرغم من التعرض عالي التواتر للفيروس, وتتم حاليا في مراكز مراقبة الأمراض CDC بأتلانتا دراسة عينات من هؤلاء الأشخاص لتحري ما إذا كانت هذه المقاومة ناتجة عن سمة مناعية مشتركة بين هؤلاء, أم أنها ناتجة عن عدة عوامل, وبديهي أن كشف عوامل المقاومة هذه يحمل فوائد جمة للأبحاث المستقبلية التي تهدف إلى تحري الطرق المختلفة التي يتعامل فيها الفيروس مع جهاز المناعة, وبالتالي استنباط وسائل رائدة لمنع العدوى. كما تجرى الآن دراسة عينة أخرى من الناس الذين لم تظهر عليهم أية أعراض للمرض برغم حصول العدوى لديهم لفترات تفوق السنوات العشر, وهنا يبرز سؤالان مهمان: هل تعود هذه الظاهرة إلى ظهور ذرار فيروسية قليلة الفوعة "الإمراضية"? أم أن الاستجابة المناعية لدى هؤلاء من الكفاءة بحيث تبقي الفيروسات تحت السيطرة لفترات طويلة.? وبديهي أن لكلتا الإجابتين تطبيقات وفوائد عملية.

كما تم أخيرا الكشف عن "المستقبل المساعد" على تأمين دخول الفيروس إلى داخل الخلية وعدواها فقد عرف ولفترة طويلة أن مستقبلCD4 الموجود على سطح التائيات المساعدة T4 هو الذي يرتبط مع بروتينات الفيروس السطحية, إلا إن هذا الارتباط لايكفي لغزو الخلية على مايبدو "دخول الفيروس إلى داخل الخلية وبدء دورة حياته", ولفترة طويلة شغل هذا المستقبل المؤهب لعملية دخول العلماء في مختلف أنحاء العالم إلى أن تم اكتشافه أخيرا على يد فريق بحثي من المعهد القومي للحساسية والأمراض المعدية (Niaid) في بيثيزدا بولاية ماريلاند بقيادة إد بيرجر. سمي "المستقبل الجديد", ويعتقد أن هذا المستقبل هو أحد العديد من المركبات المشابهة والتي تقوم بنفس الدور في خلايا مختلفة وبالنسبة لسلالات فيروسية مختلفة.

كشف آخر الحيل

لقد بدأنا بالتعامل مع هذا الفيروس على المستوى الجزئى, أي على مستوى الوحدات البنائىة الأساسية والشيفرة الوراثية التي ترمز لها, وأصبح بمقدورنا دراسة أي تغير في الفيروس أو في مادته الوراثية حتى ولو اشتملت على تبدل في موقع واحد ضمن آلاف من المواقع. كما تغير الباحثون في الوسط العلمي أنفسهم تبعا لهذا الفيروس, فبدلا من التنافس من أجل تحقيق السبق العلمي أولا, أعطيت الأولوية للتعاون وتبادل المعلومات المفتوح تماما, فالعدو واحد وهو على قدر من الخبث والمراوغة والتدمير بحيث يجعل أي جهد فردي عبثيا.

بدأت الحرب مع فيروس (HIV) مرحلتها الأخيرة برغم أنها لاتزال بعيدة عن الحسم, وبينما كان الفيروس يحير العلماء في السابق بسلوكه غير المفهوم وبلجوئه إلى حيل غير مألوفة, أصبح الآن وكأنه يحمل كيس دقيق مثقوبا ويترك آثارا في كل خطوة يخطوها. ولو تصورتم الحشد الهائل من العقول والمعدات الذي يقتفي هذه الآثار, لأيقنتم أن أيام نجومية هذا الفيروس آيلة إلى الزوال.

 

 

 

وسيم مزيك
 




جهاز المناعة





الطريقة التي يتعرف بها جهاز المناعة علي الفيروس





رسم تخطيطي لدورة حياة فيروس الإيدز





العوامل المفرزة من قبل الخلايا التائية





مخطط عام للتطور الفيروسي والمناعي





فيروسات HIV البنفسجية