الفطريات الغروية.. جمال هش على حافة الحياة
يقول عالم البيولوجي إدوارد ويلسون: إن انقراض الأنواع تفاقم بصورة أسوأ بكثير مما يفوق تصور البيولوجيين أنفسهم, ولقد أصبح الانقراض أوسع نطاقا عما هو شائع حتى بين الكائنات الكبيرة الحجم والمعروفة أكثر للبيولوجيين. إن مشكلة الانقراض تعتبر من أكثر المشاكل أهمية وإلحاحا بالنسبة للبشرية كلها, حيث إنه بالرغم من التقدم العلمي المذهل فإننا لا نعرف إلا القليل عن التنوع الحيوي, فالانقراض من أكثر العمليات البيولوجية غموضا, كما أنه يتصف بالمحلية الشديدة. إن هناك عددا محدودا من البيئات الطبيعية في العالم والتي لا تتجاوز مساحته كيلومترا مربعا واحدا يحتوي على ألف نوع من الأنواع النباتية والحيوانية, لذا يشدد دعاة الحفاظ على البيئة بأهمية الحفاظ على المواطن الطبيعية بكاملها وليس فقط الأنواع المعروفة لنا والموجودة بداخلها لأن هذه المواطن الطبيعية بداخلها الكثير الذي مازلنا في حاجة لأن نعرفه, فهناك ما ينقرض ويراه المتخصصون وبجواره آلاف من الكائنات الدقيقة التي تنقرض ولا يشعر بها أحد. وتعتبر الفطريات الغروية Silme Molds من الكائنات غير المألوفة بين الأحياء فهي ليست نباتات ولاحيوانات ولا حتى فطريات مثل المتعارف عليها, إنها شيء آخر, فهي تجمع صفة من كل نوع منها له مكانته في الطبيعة. ولقد بدأت معرفة الفطريات الغروية ودراستها في عام 1892, ولكن تم ذلك بشكل شخصي ومنفصل من علماء النبات والحيوان, وبعد حوالي مائة عام من الدراسة مازال موقع الفطريات الغروية في سلسلة الحياة الكبيرة ناقصا لم يكتمل. القطط تحرس المختبر في أوائل القرن العشرين قام أحد اليابانيين من هواة جمع الكائنات الحية الدقيقة ويسمى "ميتا كاتا" بالاحتفاظ وإكثار الفطريات الغروية في حديقة منزله, وكانت مشكلة "ميتا كاتا" هي كيفية حماية هذه الكائنات أثناء نموها, فكان يقوم كل ساعتين بمراقبتها وحمايتها واستطاع بواسطة اقتناء القطط أن يبعد الطيور والحشرات عنها. ومنذ حوالي 40 عاما استطاعت سيدة تدعى "روث ناوس" عمل حديقة من الفطريات الغروية وذلك بتربيتها في أوان زجاجية وأطباق داخل غرفة المعيشة في منزلها, وكانت تقوم بتغذيتها بدقيق الشوفان. وفي إحدى المرات اضطرت إلى السفر فأخذت معها الآنية التي تحتوي على الفطريات الغروية شديدة الصغر, وكانت في الليالي الباردة تقوم بوضع زجاجة ماء دافىء على الآنية لتوفير الحرارة المناسبة لها. أما الفطريات التي تركتها في المنزل فإنها منعت عنها الغذاء, فقامت هذه الفطريات بالتجمع مع بعضها البعض في شكل عنقود العنب من أجل مواجهة الظروف القاسية, وكانت هذه الطريقة هي التي تضمن للسيدة "روث" احتفاظها بهذه الفطريات. ولقد احتفظت السيدة روث بهذه الطريقة بأحد الفطريات الغروية في حالة جيدة لمدة تسع سنوات, ولكن في صيف 1973, في إحدى ضواحي مدينة دالاس الأمريكية, لاحظ الناس وجود نقاط صفراء سائلة تشبه الشمع, تزحف على حشائش الحدائق والشرفات, وعندما تذبل هذه النقاط فإنها تتكسر إلى قطع صغيرة, وعندما تصل إليها المياه فإنها تنمو وتعيد دورة حياتها, ولم تكن هذه النقاط الصفراء كائنا غريبا من الفضاء الخارجي كما ظن الناس في بداية الأمر, ولم تكن أيضا نوعا من البكتيريا أو الميكروبات التي تشكل خطرا أو تهدد حياة الناس. "إنها فطريات غروية" هذا ما قاله العلماء عند ظهورها, فقد قاموا بدراستها ومعرفة طرق نموها, وتم نشر بحث للناس يقول: إنها مجرد كائنات أرضية لها دورة حياة غريبة يتم معرفتها. إن الفطريات الغروية في طور من أطوار حياتها تكون ممتعة للنظر حتى أن بعض الناس أصبحت تحتفظ بها داخل المنازل مثل الحيوانات الأليفة المدللة, ففي طور النضج الكامل أو Fruiting Bodies تكون الفطريات الغروية ذات جمال مذهل لافت للنظر. إنها ثروة من ثروات جمال الطبيعة. ولقد كانت أولى المرات التي يلاحظ فيها علماء النبات الفطريات الغروية, وهي في طور انتشار الجراثيم, مما جعلهم يعتقدون خطأ أنها من الفطريات العادية كروية الشكل, التي أحيانا تطلق جراثيمها على هيئة سحابة من الدخان, ومن هنا أصبحت الفطريات الغروية من اختصاص علماء الميكروبيولوجي وليس علماء النبات. وفي الوقت الذي كان الخبراء في عام 1973, يدرسون فيه هذا الزائر الغامض للكشف عنه قال علماء الميكروبيولوجي: إن هذه الفطريات غروية وقد تمت دراستها من قبل ووجدوا أنها في جزء من حياتها تماثل الفطريات العادية, وفي جزء آخر من حياتها تبدو مثل الكائنات الحية الحيوانية الأولية وتريد حصتها من الطعام, وأحيانا تظهر في شكل فقاقيع رغوية مؤهلة للحركة مثل يرقة حيوان رخوي. ويعتقد العلماء أن الفطريات الغروية في نموها مثل دكتور: "جيكل ومستر هايد" في رواية "روبرت ستيفنسون" الشهيرة. وما زالت هناك صعوبة في تصنيف هذه الفطريات ضمن مجموعة في إطار التصنيف العلمي الكلي للكائنات وإن كانت تصنف الآن تحت مجموعة تسمى Protoctista, وذلك على الرغم من أن الطور النهائي في حياتها, أي طور تكوين الجراثيم أو الثمار ـ إن صح التعبير ـ يشبه الفطريات أكثر من أي كائن حي آخر بين باقي الكائنات. أشكال عديدة للتكاثر عندما تتوافر الظروف المناسبة من حرارة ورطوبة تنمو جراثيم الفطريات الغروية وتتحول إلى نوعين من الخلايا التي لكل منها القدرة على التحول إلى الآخر حسب الظروف البيئية: ـ النوع الأول يسمى "ميكسا ميبا" Myxamaoeba ـ النوع الثاني يسمى الخلايا المتسلقة Swarm Cell وكلاهما من الخلايا الأحادية التي يتغير شكلها باستمرار, فإذا نمت الجراثيم في التربة فإنها تتحول إلى ميكسا ميبا, أما إذا نمت في الماء فإنها تتحول إلى خلايا متسلقة, وبعد وجودها في الماء بدقائق ينمو لها سوط وتتحول إلى خلايا سابحة, وعندما تتوافر الظروف المناسبة حول الخلايا المتسلقة السابحة ـ أي تجف المياه ـ فإنها تمتص السوط الذي كان يساعدها على السباحة, وتأخذ شكل الميكسا ميبا التي تنمو على التربة, ويقول العلماء: إن هذا التحول في جراثيم الفطريات الغروية يحدث عدة مرات خلال نمو الفطريات الغروية وتتغذى الميكسا ميبا والخلايا المتسلقة على المواد العضوية الضئيلة والبكتيريا والكائنات الدقيقة, وإذا حدث جفاف في البيئة التي تعيش فيها الميكسا ميبا وأصبح الغذاء غير متوافر فإن الميكسا ميبا تفرز خلايا كثيرة حول نفسها وهذه الخلايا لها القدرة على مقاومة ظروف البيئة غير المناسبة لفترة طويلة, وعندما تصبح الظروف البيئية مناسبة مرة أخرى, فإن الميكسا ميبا تنشط وتبدأ في استكمال دورة حياة الفطر الغروي. وتقول الباحثة "سيلفيا دوران" وهي متخصصة في الفطريات وبالتحديد في الفطريات الغروية: إن تكاثر الفطريات الغروية من الأمور شديدة الغرابة التي تحدث في الطبيعة ـ وذلك في صراعها من أجل البقاء ـ ويعتبر ذلك الاستثناء الوحيد بين الكائنات, فخلايا الميكسا ميبا والخلايا المتسلقة لا تأخذ شكلا واحدا فقط للتكاثر, ولكنها تأخذ عدة أشكال مختلفة تؤدي كلها في نهاية الأمر للحفاظ على الحياة. وقد فسرت الباحثة ذلك الاختلاف في طريقة التكاثر في النوع الواحد بالاختلاف في عدد الجينات في الكائن الواحد من نفس النوع. ولقد عرف لنوع واحد من الفطريات الغروية حوالي 18 طريقة للتكاثر! والتكاثر يكون: إما باتحاد خليتين من خلايا الميكسا ميبا, أو باتحاد خليتين من الخلايا المتسلقة, أو باتحاد خلية من الميكسا ميبا مع خلية من الخلايا المتسلقة. وعندما تندمج الخليتان معا ويبدأ النمو فإن الطور التالي يكون مذهلا ومثيرا في شكله ويسمى بلازموديوم Plas mod iumوتقول الباحثة سيلفيا دوران: إن البلازموديوم يشبه فقاعة قادمة من الفضاء الخارجي وتبدو فقاعة البلازموديوم في بعض أنواع الفطريات الغروية مثل كرة صغيرة من الورق المجعد جميلة الشكل وفي بعض الأنواع تكون ذات لون باهت, وفي بعضها الآخر تكون كبيرة الحجم وألوانها زاهية, وبعضها يشبه الشعب المرجانية الموجودة في البحار والمحيطات, وتتعدد ألوانها بين البنفسجي والبني والوردي والأحمر, وإن كان اللون الأصفر هو اللون السائد بين ألوان الفطريات الغروية. وعادة ما يعيش البلازموديوم أسفل أوراق الأشجار التي تغطي الغابة, أو في جذوع الأشجار القديمة المتعفنة, حيث تتوافر كميات مناسبة من الرطوبة والغذاء. وتستطيع خلايا البلازموديوم مثلها مثل الميكسا ميبا أن تقاوم الظروف البيئية غير الملائمة لاكتمال نموها, وذلك بالتجمع بجوار بعضها, وهي تستطيع على الرغم من ضآلتها الشديدة أن تقاوم الظروف البيئية غير المناسبة لمدة تصل إلى سبع سنوات ويعتبر الشتاء البارد من الظروف غير الملائمة لاستمرار نمو خلايا البلازموديوم, ولكن الجو الدافىء يساعد هذه الخلايا على استكمال نشاطها. ميزات وراثية نادرة وتتميز خلايا البلازموديوم بأنها تحتوي على حمض نووي متعدد الجينات وهذا الحمض النووي ينقسم إلى ملايين الأجزاء في وقت واحد ويعتبر هذا من الميزات النادرة والفريدة الموجودة في الفطريات الغروية. وهذه الميزة المهمة والاستثنائية في الفطريات الغروية من بين الكائنات الأخرى جعلت علماء البيولوجي المهتمين بعلوم الخلايا شديدي الاهتمام بالفطريات الغروية, خاصة فيما يختص بعلوم الجينات والهندسة الوراثية. وتقول الباحثة سيلفيا دوران: إن العلماء الذين قاموا بدراسة الفطريات الغروية من قبل لم يستطيعوا فهم كيفية التغذية في الفطريات الغروية أو الدور الذي تلعبه الحرارة والرطوبة في أن تقوم البلازموديوم بتحويل نفسها إلى طور النضج الكامل dry-fruiting bodies وهو الطور الذي ينتج الجراثيم التي تعيد دورة الحياة. ويمكن العثور على الفطريات الغروية في بعض المناطق الصحراوية, فهي توجد على الأجزاء الخشبية للصبارات, كما أنها توجد في إخراجات الحيوانات التي تعيش في الصحراء, وغالبا ما يكون الفطر الغروي الموجود في الصحراء من نوعdry-cotton candy أو النوع المتكور الذي يطلق عليه اسم كرة الجولف. وشكل الفطريات الغروية التي تم التعرف عليها ثابت ـ أي لم تحدث فيه تحورات ـ والطور النهائي أو طور النضج الكامل ينتج الجراثيم التي تحملها الرياح أو تحملها مياه الأمطار إلى مكان آخر كما أنها تحمل بالحشرات التي تتغذى عليها مثل السوس وتستقر في مكان آخر وتبدأ في إعادة دورة الحياة. وتوجد من الفطريات الغروية بعض الأنواع الموسمية, وهي التي تنمو في موسم واحد فقط وليس طوال العام ـ في الشتاء فقط أو في الصيف فقط ـ وهذه الأنواع تكون كبيرة الحجم حيث يبلغ ارتفاع بعضها حوالي من 6-8 بوصات. وعلى الرغم من المشقة في البحث عن الفطريات الغروية في الغابة تحت أوراق الشجر المتساقط أو في جذوع الأشجار الميتة أو في الصحراء, فإنها تعتبر شيئا ثمينا يستحق عناء البحث عنه. إن أي كائن حي مهما كانت ضآلته قد يحمل في طياته أملا كثيرا للبشرية وإذا لم يكن فإنه يعتبر درسا من دروس فن البقاء. والسؤال الآن: هل يصبح ممكنا في يوم من الأيام مع كل تقدم للبشرية تقييم الخسارة المطردة في التنوع البيولوجي?