التشيك.. ينابيع لا تعرف الحدود

 التشيك.. ينابيع لا تعرف الحدود

تصوير: طالب الحسيني

بلمسة ديمقراطية هادئة وراقية صار البلد الواحد بلدين, ومن تشيكوسلوفاكيا السابقة ولدت جمهوريتان جديدتان هما جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا, لكن رحلتنا عبر الجمهوريتين ظلت تصحبها تفجرات الينابيع الدافئة من كارلوفيفاري التشيكية حتى بشتني السلوفاكية, وكأن الينابيع تتدفق آتية من أعماق واحدة متصلة بين البلدين. وليست ينابيع المياه الدافئة وحدها التي تعرف هذا الاتصال, فثمة ينابيع أخرى للثقافة والفن ظلت على هذا الاتصال برغم وجود الحدود.

الطائرة التي خرجت بنا من الكويت في غبش ما قبل الفجر, راحت تتجه إلى وسط أوربا بينما النهار في أول ازدهاره, وفي ضوء الشمس المشتد كانت بحار وخيوط الأنهار. إنه قلب أوربا الأخضر, والطائرة وهي لشركة الخطوط الجوية التشيكية تتهيأ للهبوط في براغ التي تحمل ـ ضمن اسمائها العديدة ـ اسم: "قلب أوربا" وهي بالفعل قلب أوربا ومركزها الجغرافي, حتى أن هناك بيتا في أحد شوارعها يعتبر النقطة المركزية للقارة الأوربية كلها. وعدا المعنى الجغرافي فإن براغ تعتبر القلب الإنساني والثقافي لهذه القارة, فهي نقطة تقاطع وبوتقة انصهار للتيارات الثقافية التي اجتاحت القارة الأوربية, ويقال إن "براغ" عانت على مدى أربعة عقود نوبات القلب المريض في زمن الشيوعية, لكن هذا القلب عاد إلى العافية بعد سقوط الشيوعية, وعاد نبض براغ يخفق بتاريخ أوربا الإنساني والثقافي دون أحادية في الرؤية أو تحديد أيديولوجي, ونحن العرب نربط دائماً التشيك بالرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر وقضية تزويد العرب بالأسلحة وماتلاها من أحداث وسيارة شكودا المعروفة وربيع براغ, والاجتياح السوفييتي. ولكن التشيك أكثر من ذلك هذا ما ذهبنا نبحث عنه. ولقد كنا على موعد مع هذه المدينة القلب في رائعة النهار, وإن كان برنامجنا لايطيل المكث فيها.

خرجنا من المطار إلى أبهاء براغ الساحرة, حقاً, بصحبة الأستاذ عبد الوكيل سلفيني المدير الإقليمي لشركة الصوان التي نظمت لنا رحلة تاريخية ومفيدة. وبرغم أن هدفنا كان هو تتبع ظاهرة الينابيع الحارة التي تمتد بين الجمهوريتين الجارتين, فإنه لم يكن ممكنا تجاهل ينابيع الجمال التي تتدفق في كل ركن من أركان براغ التي تستحق كل النعوت التي نعتت بها فهي "الساحرة" و "الذهبية" و "ذات الأبراج المائة". ولم تعد أبراج براغ هي أبراج الأبنية والكاتدرائيات القديمة. فعندما وقفنا نطل على جزء من قلب براغ في ممر "سان جورج" كانت الأبراج السكنية الحديثة تظاهر الأبراج القديمة وتصنع خلفية شديدة المعاصرة للوحة البنايات العتيقة فكأن الماضي والحاضر يصعدان معاً لملامسة سماء اللحظة صافية الزرقة.

مايكل جاكسون لا ستالين

كل تواريخ الفن تتدفق ينابيعها في براغ التي لم نر فيها ينابيع الماء, حتى ليصدق عليها من أسمائها الكثيرة وصف "روما الشمال". وبين المكان والمكان بدا لنا أننا نتجول عبر طرقات تاريخ الفن. فثمة ملامح معمارية قوطية قوية الألوان, وأخرى من عصر النهضة, وثالثة من مرحلة الباروك, ورابعة من إبداعات الفن الطليعي الحديث.

ولو شئنا التوقف, لإمعان تأمل العراقة والجمال, لبدأنا من "برج البارود", فعلى جانبي هذا البرج ملامح لمراحل مختلفة من التاريخ التشيكي تجسدها تماثيل عدد من مشاهير ملوك ورعاة بلاد التشيك. فعلى قمة البرج يرتفع شعار الأمة التشيكية ومدنها على هيئة وردة ذهبية, وتحت هذه القمة تتعاقب نزولاً تماثيل للملك كارل الرابع والقديس فاتسلاف ثم بقية الملوك والقديسين تبعاً للأهمية. ولا نكتفي بالنظر إلى هذا البرج من خارجه إذ يغرينا بصعوده, فنصعد ونطل على براغ التي تمنحنا بهاء ملامحها المشرئبة من خضرة الأشجار الغامرة. في القريب نرى دار البلدية المزينة واجهتها بلوحة موزاييك هائلة ومجموعة من التماثيل المتقنة. ولقد رأينا قبل ذلك ما يزخر به داخل هذه الدار من لوحات الفنان التشيكي ألفونس موخا الذي كان صديقاً موقراً للفنان الشهير جوجان.

نترك برج البارود يحمل تماثيله القديمة فيذكرنا ذلك بتمثال صارخ الحداثة مرتفع فوق إحدى قمم المدينة في "لتنابارك".

إنه تمثال ملك موسيقى البوب الأمريكي "مايكل جاكسون" الذي تزامنت زيارته لبراغ مع وقت وصولنا إلى العاصمة التشيكية وقد كانت الشوارع مليئة بالإعلانات عن الحفلة اليتيمة التي أقامها. ويقارن التشيكيون بين شعبية مايكل جاكسون في بلادهم و.. شعبية البابا يوحنا بولس الثاني.

ويقول بعض المعلقين إن شعبية ملك أغنية "البوب" في الجمهورية التشيكية تفوق شعبية "ملك" الكنيسة الكاثوليكية, الذي خرج أهل العاصمة براغ بعشرات الألوف كي يستمعوا إلى كلمته التي وجهها إليهم عندما زار عاصمتهم في عام 1990. وفي المكان نفسه الذي تجمع فيه الناس ليتباركوا ويستمعوا إلى "ملك" الكنيسة الكاثوليكية, تجمع أيضا أكثر من 120 ألف تشيكي ليستمعوا إلى مايكل جاكسون يغني لهم أحدث أغنياته و.. أقدمها معا, فتسري فيهم الحماسة والإعجاب سريان.. الكهرباء.

كان المكان هو "لتنا بارك", والزمان هو السابع من سبتمبر, وكانت حفلة جاكسون هناك أول حفلة حية يقيمها بعد تبرئته من تهمة إساءة معاملة الأطفال التي وجهتها إليه إحدى المحاكم الأمريكية.

وقد ظهر مايكل جاكسون في براغ برفقة ثلاثة من الأطفال, وغنى تلك الليلة في "الحديقة" فيما انتصب تمثاله الذي يرتفع بعلو 12 مترا فوق إحدى قمم الحديقة, لقد أقامه منظمو الحفل في المكان الذي انتصب فيه يوما تمثال ستالين, ديكتاتور الاتحاد السوفييتي السابق.

قبل الحفل, كان جاكسون قد نزل في فندق انتركونتننتال القائم على ضفاف نهر فلاتا, حيث كان يتجمع يوميا المعجبون به, فيطل عليهم ويحييهم من شرفة جناحه الذي نزل فيه.

كان وقتاً من عمر براغ اختلطت فيه موسيقى البوب الصاخبة بموسيقى موزارت ـ ابن مدينة براغ ـ الشاعرية والملحمية. وبدا أن سماء براغ تتسع في زمن الحرية الجديد لكل أنواع الموسيقى.

مشينا على أقدامنا من "برج البارود" إلى ميدان "الساحة القديمة". كنا نريد أن نشاهد ونسمع, كآلاف السياح الذين تدفقوا على المكان, وقائع دقات ساعة "أورلوي" التي صنعها حرفي تشيكي قديم يدعى المعلم "هانوش". رفعنا وجوهنا إلى الساعة عند قمة البرج العتيق وأرهفنا سمعنا. ثم بدأت الدقات ومعها بدأت مسيرة التماثيل الخشبية الصغيرة للحواريين الذي يظهرون من نافذتين صغيرتين. ومع تتابع الدقات راحت التماثيل توالي الظهور.. تماثيل تجسد نماذج إنسانية مختلفة: النحيل, والمغرور, وملك الحصاد الذي قرع جرس الخاتمة فأعلن الديك نهاية العرض بجناحيه الخفاقين.

لمحة عذبة من لمحات براغ الفنانة, وهي لمحة من لمحات التشيك الصناع المهرة الذين مازالت إبداعاتهم التقنية محل ثقة واسعة في العالم حتى اليوم. ومن أشهر هذه اللمحات التي كانت تتعاقب متألقة خلف واجهات المحال على امتداد طريقنا, مصنوعات الكريستال التشيكي الشهير. ولم يكن الكريستال وحده هو الذي يتألق ويسحر تألقه, فبراغ كلها كانت تتألق على جانبي نهر "الفلنافا" الذي يسري في قلبها, وفي تعاقب الجسور البديعة فوق هذا النهر.

براغ ينبوع من الألق والموسيقى والفن, وقبل أن نبتعد عن هذا الينبوع توقفنا أمام رافد آخر يتدفق منذ زمن بعيد, في هدوء ودفء برغم أنه يكاد يكون مجهولاً لدى الكثيرين.. إنه ينبوع الاهتمام التشيكي بالثقافة العربية.

لورانس التشيكي

في مكتبات براغ لفت نظري العديد من الكتب التي تحمل أغلفتها طابعاً عربياً سواء في الإخراج أو العناوين, أذكر منها "مختارات من القصة العربية" ترجمة سفيتوزار بانتوشيك. و"جوانب من علاقة الإنسان بالبيئة في العالم الإسلامي" تأليف "أديلاكر بكاكوفا". و"ينابيع ثلاثة للحكمة" و"الإسلام, العالم العربي, وإفريقيا" "أوراق بحثية على شرف المستعرب التشيكي إيفان هربك". ولم تكف مثل هذه الكتب عن مفاجأتي في المكتبات التشيكية. فبحثت عن الجهة أو الجهات التي تقف خلفها. فمن يولينا الاهتمام لابد أن نهتم به. وكان ذلك هو معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم التشيكية. وبرغم اهتمام المعهد بالثقافات الشرقية عموماً فإنه يولي الثقافة العربية اهتماماً خاصاً سواء في عطاءاتها القديمة أو الحديثة.

يعود تاريخ إنشاء معهد الاستشراق إلى العام 1918 مواكبا لقيام جمهورية تشيكوسلوفاكيا ككيان مستقل عن الإمبراطورية النمساوية الهنغارية. واستمر المعهد في نشاطاته الدءوب تجاه الشرق والعرب خاصة بعد ذلك وعبر كل الظروف التي تبدلت على تشيكوسلوفاكيا حتى استقر في جمهورية التشيك, وإن لم يفقد اتصاله بأنشطة الاستشراق في جمهورية سلوفاكيا.

وفي زيارة لمعهد الاستشراق في براغ وجدنا اللغة العربية تتدفق بطلاقة على كثير من ألسنة الأساتذة والدارسين, وكان مسرد المخطوطات العربية في المكتبات التشيكية يشير إلى كنوز جمعتها بلاد التشيك من أصول الثقافة العربية عبر المستشرقين الذين كانوا يتجولون في البلاد العربية ويشترون ما يعرض عليهم من مخطوطات نفيسة منها 702 مجلد تضم 200 مخطوطة عربية في كل مناحي العلم والفقه والفلسفة والأدب والسير والتصوف والتاريخ.

وفي معهد الاستشراق بالعاصمة التشيكية تعرفنا على سيرة الرجل الذي يعود إليه فضل إنشاء معهد الاستشراق في براغ ويدعى البروفيسور "ألويس موسيل" الذي ولد عام 1868 وتوفى عام 1944. وهو شخصية مثيرة للاهتمام, ويكاد يشكل ـ كرحالة مغامر ومستشرق عالم ـ نموذجاً موازيا للورانس على الطريقة التشيكية. فقد ظل عشرين عاماً يطوف بأرجاء العالم العربي ويجري أبحاثا أثرية وجغرافية وتاريخية. وأقام فترة طويلة عند قبيلة "روالة" البدوية وأصبح واحداً من أبنائها حتى أنه سميّ "موسى الرويلي" ورأينا له صوراً طريفة بالغترة والعقال وقد أطلق لحيته الكثيفة الداكنة.

وعلى غير ما فعل لورانس الذي أنهى حياته بحادث متعمد بعد عودته إلى بلده ـ إنجلترا, فإن "موسى الرويلي" أو "ألويس موسيل" أو لورانس التشيكي, عاد إلى بلده فلم يكف عن الاستمرار في اهتمامه بالعالم العربي والثقافة العربية وترك حشدا زاخراً من الكتب المتسقة مع ذلك, ومنها "الجزيرة العربية الجديدة" (1934) و"فلسطين الجديدة" (1937) و "سوريا الجديدة" (1940).

النهر الدافىء

كأننا من صفاء الماء إلى دفء الماء كنا نسعى في رحاب الأرض التشيكية, فقد غادرنا براغ منطلقين على امتداد شاطىء نهر الفلتافا الذي تترقرق تحت جسوره العديدة الجميلة مياه النهر شديدة الصفاء, مياه لم يعكرها شيء إذ هي من ذوبان الثلوج. وعلى طول الطريق من براغ إلى كارلو فيفاري لم تنقطع مشاهد الماء, أنهر وقنوات وبحيرات, وكانت الخضرة الغامرة رفيقة هذا الماء أبداً, والماء هبة تشيكية, وسلوفاكية أيضاً, لهذا لم يكن غريباً أن تنشأ في هذه الأرض ومنذ القرن التاسع عشر مصحات ومنتجعات العلاج بالماء, وإن قصد بالماء في هذا العلاج ذلك الماء الدافىء والحار الذي تتدفق به الينابيع في أرض التشيك والسلوفاك.

قبل أن نغادر براغ كان لنا أكثر من لقاء مع السفير الكويتي النشط في العاصمة التشيكية كاظم معرفي. لقد استطاع أن يحول السفارة إلى مركز إشعاع للثقافة والتقاليد العربية وسط هذه العاصمة الشمالية بحيث أصبحت نقطة جذب لكل المقيمين العرب فيها.. قال" تربطنا مع التشيك علاقة وثيقة. لقد كانت إحدى الدول التي أدانت العدوان العراقي برغم تحركات عاصمة هذا النظام ومحاولتها اختراق وسائل الإعلام التشيكية فإن الموقف الرسمي وقف دون ذلك. وقد حدث الغزو قبل أن يتم فصل تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين وقد قامت الدولة في هذا الحين بإرسال بعثة عسكرية للإنقاذ الطبي وكان معظم أفرادها من المتخصصين لمقاومة الحرب الكيماوية. وكذلك كان هناك العديد من الأفراد الكويتيين يقومون بالعلاج داخل المصحات التشيكية هنا وعندما حدث الغزو وانقطعت عنهم الأموال قررت الحكومة أن يستمروا في علاجهم المعتاد دون أي تغير يذكر وهو موقف يجب أن نعترف به لكل الدول التي ساندتنا أثناء محنة الغزو خاصة وهي لا تزال تساندنا في مطالبتنا برجوع الأسرى الكويتيين لدى النظام العراقي. إن علاقتنا مع التشيك في تزايد مستمر على أكثر من مستوى. فعلى المستوى التجاري نحن نستورد منها العديد من البضائع وخاصة الكريستال الشهير. وعلى المستوى الصحي فهناك العديد من الأفراد الذين يلجأون للعلاج في مصحاتها الشهيرة في كارلو فيفاري. وعلى المستوى الثقافي تعاونت الكويت في إصدار أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة التشيكية ومازالت هذه العلاقات في تزايد مستمر.

وعلى طريق الماء والخضرة إلى كارلوفيفاري رحت أقلب في أوراق التاريخ عن جذور المدينة التي نسعى إليها. إنها أشهر مدن الينابيع في أرض التشيك, أنشأها إمبراطور الرومان والتشيك كارلز الرابع عام 8531, لهذا فإن اسمها الأصلي "كارلز باد". وثمة اثنا عشر ينبوعاً للمياه المعدنية انبثقت بين أعطافها, ولاتزال هذه الينابيع تتدفق حارة تتراوح درجات حرارة مياهها بين 03 و 27 درجة مئوية. ومن هنا صارت شهرتها كمدينة للصحة والتعافي لكنها مدينة للثقافة والجمال أيضا. وقد قابلتنا فور دخولنا إليها بأكثر من لون من ألوان الجمال.

هناك حدائق كثيرة في المدن, لكن كارلو فيفاري تبدو مدينة في حديقة غناء يشقها متعرجاً نهر "التيبلا" الرائق الدافىء, وعلى جانبي النهر تتكاثف بيوت المدينة وأبنيتها ذات السقوف المثلثة والعليات المغطاة بحمرة القرميد. نهر صاف, وبيوت بيضاء, وسقوف وردية, والخضرة عميقة اللون تتخلل كل الألوان وتتحول شيئا فشيئا إلى لون بنفسجي على التلال التي تشرئب ذراها نحو سماء فسيحة الزرقة.

اتجهنا شيئا فشيئا نحو مركز المدينة حيث يقع فندق ومصح "تيرمال". كان الفندق الذي اشتق اسمه من معني الدفء يتوسط متنزهات دفورجاك الجميلة على مبعدة عشر دقائق من "الجداول الشفائية". وبرغم أن هذا الفندق عديد الطوابق فإن رحابه الداخلي يوحي بأنه يفضي دائما إلى المتنزهات والجداول.

ألقينا بحقائبنا في الفندق المنتجع الذي سنعود إليه مادمنا نقيم فيه وخرجنا إلى سحر المدينة الحديقة, وكانت نقطة انطلاقنا على الأقدام عبر وادي ينابيع الربيع هي مكتب البريد الرئيسي بالمدينة, ذلك البناء ذو الواجهة المستديرة والمعمار العتيق الذي يفصل بين المركز التجاري للمدينة من ناحية ومقاطعة الينابيع من الناحية الأخرى. لقد شيد هذا البناء عام 3091 ليكون أحدث مكتب بريد وتلغراف في الإمبراطورية النمساوية المجرية آنذاك, وبرغم طرازه المعتق الجميل فإنه مستمر في تحديث طاقاته. لون أصفر دافىء وأطر ناصعة البياض من الجص تؤطر الأبواب والنوافذ ذات الأقواس. وبين نوافذ الطابق الرابع تنتصب على منصات مرمرية أربعة تماثيل ناصعة وبرغم أنها لشخوص بشرية فإنها تمثل على التوالي رجل التلغراف, ورجل السكك الحديدية, ورجل النقل البحري, ورجل البريد!

عبرنا إلى الجهة المقابلة لمكتب البريد الرئيسي فأوغلنا في "حديقة القشدة" ـ هكذا اسمها ـ وهنا أطللنا على مبنى الينبوع "الخامس" وهو قصر شيد على الينبوع عام 1906 وتم تحديثه عام 1970 ليكون مركزا متقدما للعلاج بالمياه Balneology وعن هذا العلاج تقول "هورنات هانا" المديرة العامة لإحدى مصحات كارلو فيفاري: إن الماء الدافىء يعمل على تنشيط تدفق الدم إلى الأعضاء كما أنه يزيل حالات التصلب العضلي. وقائمة الأمراض التي تستجيب للعلاج بمياه الينابيع الدافئة منها أمراض الجهاز الهضمي: المعدة, الاثنى عشر, الأمعاء, المرارة, الكبد, البنكرياس. مرض السكر. والأمراض المتعلقة بالسمنة وزيادة ترسب الدهون الضارة على جدران الأوعية الدموية "الكوليسترول الضار". إضافة للأمراض الحركية. وتقول الدكتورة هورنات: "من المهم ملاحظة أن مصحات الينابيع ليست مستشفيات لهذا يجب ألا يأتي إليها المريض وهو في حالة متأخرة من المرض. ففي هذه الحالة نضطر إلى إرسال المريض إلى المستشفيات في براغ" والطريقة المثلى للحصول على علاج ناجع في مصحات الينابيع هي تقييم حالة المريض قبل مجيئه عن طريق إرسال التقارير الطبية له بالفاكس إلى المصحة".

تركنا مصحة النبع الخامس ومضينا في مدينة الينابيع الدافئة والتلال الخضر يغمرنا شعور بديع بنقاء مزيج هذه المدينة المكون من الطبيعة البكر والقصور الفاتنة العتيقة والتجهيزات العصرية التي تحول تدفق مياه الينابيع الدافئة إلى ذهب بما يدفعه 58 ألف زائر طويل المكوث ومليونا زائر سائح يأتون سنويا للاستشفاء والاستجمام في كارلو فيفاري التي ينبثق بين ربوعها أكثر من 06 عيناً للمياه الدافئة يستخدم منها اثنا عشر ينبوعاً للعلاج بالمياه المعدنية والحارة.

فنادق الماء وقصوره

كارلو فيفاري التي احتضنتنا ربوعها أياما صافية يمكن أن تكون تمثيلاً نموذجيا لأرض التشيك التي هي هبة الماء, فالماء يجري في كل أعطافها ويتفجر في كل الحنايا, فيفجر بساتين وتلالا مثقلة بالفاكهة والخضرة. فكارلو فيفاري يجري عبرها نهران هما "تيبلا" و "أور" إضافة للينابيع والعيون ذات المياه الدافئة والمعدنية الشافية. ولقد اجتذبت هذه المياه والبساتين على مر التاريخ وجوها عالمية من مشاهير الدنيا وأثريائها وحكامها, صاروا زواراً دائمين لكارلو فيفاري منهم: إدوارد الثامن ملك بريطانيا, ومهراجات الهند, والكتاب كجوهان ولفجانج, والموسيقيون كريتشارد فاجنر وفريدريك شوبان, وغيرهم كثيرون.

هؤلاء المشاهير تدفقوا, ولا يزال الكثيرون منهم يتدفقون, على كارلو فيفاري, وأدى ذلك إلى نشوء حياة اجتماعية وفنية وثقافية من طراز فريد داخل المدينة. منها معارض فنية وفعاليات ثقافية لعل أشهرها مهرجان كارلو فيفاري الدولي للأفلام, الذي يعقد في مطلع شهر يوليو من كل عام وينتمي إلى الفئة الأولى من تقسيم درجات مهرجانات السينما الدولية. وهو مهرجان جيد السمعة يمتد إلى عشرة أيام, ويحتشد فيه صفوة نجوم وصناع السينما العالمية ويخصص له فندق ثيرمال خمسة طوابق كاملة تتنافس في قاعاتها عروض الأفلام المرشحة للفوز.

وفندق ثيرمال نفسه يعد نموذجاً فريداً بين الفنادق, فهو منتجع ترويحي وثقافي وصحي في آن معاً. والقادم إلى الفندق من جهة حمام السباحة الفسيح المفتوح أمامه ستدهشه أبخرة المياه الحرة وهي تتصاعد من المسبح. ففي هذا المسبح الممتد بطول 05 متراً تظل المياه حارة طوال العام, حرارة طبيعية, ومن ثم توظف حرارة المياه في الأغراض الاستشفائية وأغراض اكتساب مزيد من اللياقة البدنية, فثمة مركز صحي رياضي ملحق بالمسبح وحمامات بخارية وجافة "ساونا".

لقد أدهشنا, في البداية, وجود الأطباء وأفراد التمريض في معاطفهم وزيهم الأبيض, وهم يتحركون بين أروقة الفندق وطوابقه. وبعد أن اعتدنا ذلك, وتقصينا أسبابه اتضح لنا أن هناك مصحة حقيقية داخل الفندق, تتوافر فيها الفحوص الطبية المخبرية, والعلاجات التقليدية المعتمدة على الماء الطبيعي, سواء عن طريق شرب المياه المعدنية, أو الاسترخاء والتدليك, والحث الكهربي, والعلاج الطبيعي, واستنشاق أبخرة النباتات الطبية العطرية, والعلاج بالبارافين, والوخز الهوائي, والأكسجين المضغوط. إنها مجموعة من العلاجات التقليدية أساسها الحمامات والعلاجات المائية والعلاج بالطين الدافىء والأعشاب كل ذلك في إطار مقنن داخل المفاهيم الطبية الحديثة. والغاية من ذلك كله كما يشرح لنا أحد الأطباء: أن تسرع وتنشط الدورة الدموية العامة في مجمل الجسم والدورة الدموية الدقيقة في الأعضاء والأطراف, وابتعاث عناصر المقاومة في الجهاز المناعي حتى يقوم الجسم بمقاومة المرض بآلياته الذاتية. أي جعل الجسم يعالج نفسه بنفسه عن طريق تنشيط آلياته الدفاعية والهجومية ضد الأمراض والتأثير المدمر لنواتج الاستقلاب.

ومن الأعراض التي تستجيب لهذه الطرق العلاجية يذكر المختصون في ثيرمال:

ـ أمراض الجهاز الهضمي: قرحة المعدة, والاثنى عشر, وضعف حركة الأمعاء, وضعف أداء البنكرياس والمرارة والكبد.

ـ أمراض التمثيل الغذائي "الأيض" كالسكري, وتصلب الشرايين والسمنة.

ـ أمراض الجهاز الحركي: كتيبس المفاصل, وخشونة العظام, والآلام الروماتيزمية.

وتمتد القائمة نحو أمراض أخرى, وإن بنسب أقل من حيث النتائج, وكل ذلك مؤسس على الماء الطبيعي.

إنها فنادق شيدت لاستثمار المياه الطبيعية, لكن هذا لا ينسي زائر كارلو فيفاري تلك القصور التي شيدت أيضا من أجل المياه, وهي قصور تحمل طابع الجمال المعتق العابق بأنفاس التاريخ وإذا كان القصر الأبيض ذو السقف القرميدي الأحمر للينبوع الخامس هو أول مارأينا من هذه القصور فإنه ليس آخرها.

نسق واحد عبر الحدود

في كارلو فيفاري يتأجل دائما الشعور بالتعب, فنقاء هواء هذه المدينة ليس محكوماً فقط برقرقة المياه وامتداد الخضرة من السهل إلى الجبل, بل هو أيضاً محكوم بقانون صارم يمنع التدخين في فضاءات هذه المدينة الحديقة.

ومن حديقة قصر الينبوع الخامس إلى حديقة كولوناد مشينا وتوقفنا نتأمل بساط الخضرة وأفاريز وأحواض الزهور, ومن خلف مشهد الحديقة كان قصر الينبوع "العسكري" يصعد أبيض ناصعاً بديعاً بطوابقه الأربعة, وثمة رواق طويل مغطى ومتوج بقبة عند بدايته ونهايته يقود إلى مدخل القصر. ويتكرر احتفال المياه الشافية. ومن الحديقة إلى النهر نمضي حتى نقف على مقربة من قصر الينبوع الثالث فكأننا أمام نموذج من نماذج اختلاط الثقافات في العمارة, فالواجهة ذات الأقواس المتوجة للأبواب والنوافذ تنتهي بعد طابقها الثاني بأعمدة تذكرك بالعمارة المغولية.

ونودع القصور المتناثرة في غمار البساتين بكارلو فيفاري, التي نصل إليها بعد ساعة ونتجه عائدين إلى براغ العاصمة في رحلة تمتد أكثر من 300 كيلو متر في طريق زراعي, تمتد على جوانبه بساتين خضراء من القمح والذرة والفواكه, إنها بداية الخريف, ونهاية فصل صيفي كان باردا هذا العام على غير العادة كما يقولون.

يقول رئيس تحرير القسم الدولي في مجلة تيلدن السيد ميلان سليزاك وهي من أوسع المجلات الأسبوعية السياسية انتشارا, إن بلدنا يتجه نحو اقتصاد السوق الحر بسرعة فائقة, وإن كان هناك من يعارض هذه السرعة في التغير, ولكنها تجربة ناجحة, فمستوى الدخل مرتفع والبطالة عندنا قليلة جداً قياساً بدول أخرى تفوقنا في الإمكانات والموارد, وما أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة من تفوق للحزب الحاكم برئاسة رئيس الوزراء دليل على النجاح الذي حققته فكرة الاعتماد على القطاع الخاص, بدلا من متاعب القطاع العام.

إن تجربة الانفصال المتحضر بين هذين البلدين يجب أن توضع كنموذج يحتذى به وسط عالم يضج بالأخطار والصراعات العرقية. فهل استفادوا من هذا الانفصال أم أنه كان صرعة مؤقتة سرعان ما استفاقوا منها على المتاعب الاقتصادية التي أحدثها هذا الانشقاق المر? إن رحلتنا القادمة إلى سلوفاكيا يمكن أن تجيب على هذا السؤال خاصة وأنها الدولة التي كانت تلح دائماً على الانفصال! لماذا ألحت وهي الأصغر? وكيف سوف تحدد ملامح الأيام القادمة? كنت أركب الطائرة من براغ إلى برتسلافا عاصمة سلوفاكيا وأنا أبحث في داخلي عن إجابة لكل هذه الأسئلة.

 

 

أنور الياسين