حيدر حيدر وإبراهيم صموئيل

 حيدر حيدر وإبراهيم صموئيل

ـ الثقافة العربية المعاصرة، برغم الاستبداد، تظل الأكثر إشعاعا.

ـ في تاريخنا أعمال نثرية ترقى إلى مصاف الشعر.

حيدر حيدر أحد الروائيين والقصاصين العرب الكبار. بزغ نجمه الأدبي مع مجموعته القصصية الأولى "حكايا النورس المهاجر" أواسط الستينيات في سوريا، ثم تلألأ، ولا يزال، في فضاء الإبداع العربي عبر عشرة أعمال، بين قصص وروايات، لعل أكثرها شهرة لدى القارىء العربي "وليمة لأعشاب البحر" 1984، تلك الرواية ـ العلامة مع مجموعة أعمال مهمة صدرت قبلها وبعدها منها: "الومض"، و"الزمن الموحش"، و"مرايا النار"، وأخيرا مجموعته القصصية: "غسق الآلهة". ومن الحق القول إن أعمال هذا الكاتب قد أسهمت إسهاما بينا في تجديد دم الرواية العربية، تلك التي إذ تسمو بأغصانها نحو فضاء المغايرة والتطور مستفيدة ـ في نصوصها الإبداعية ـ من المنجزات البشرية في العلوم الإنسانية ومختلف الفنون الحديثة، فإنها لا تبتر جذورها عما تحقق وتم إنجازه في تراثنا على صعيد النثر الإبداعي الرفيع. وحيدر حيدر من مواليد بلدة حصن البحر بمحافظة طرطوس ويبلغ من العمر الآن ستين عاما بالتمام والكمال وقد تخرج في معهد المعلمين عام 1954، وعمل بالتدريس في العديد من البلدان، دمشق وبيروت والجزائر، وقد احتلت الأخيرة بؤرة تجربته التي جسدها في روايته "وليمة لأعشاب البحر". وقد أجرى معه الحوار قصاص سوري بارز هو إبراهيم صموئيل الذي يحمل أدبه مذاقا خاصا. يحمل السعي الدائم للحرية والتوحد، وقد جسد من خلال قصصه القصيرة أشواق السجناء وسعيهم للخلاص في كتابه "رائحة الخطو الثقيل" عام 1988 والمنمنمات في 1990 وهو يستمد معظم شخصياته من تجربته الشخصية التي تمثل في حد ذاتها معاناة إنسانية رائعة.

* أنت واحد من الأدباء المبدعين الذين أنتجتهم مرحلة الستينيات في الحياة الثقافية في سوريا. ما الذي ميز تلك المرحلة وجعلها علامة بارزة في مسيرة الأدب السوري حتى اليوم؟

ـ الستينيات كانت مرحلة ازدهار فعلا. عدد من المثقفين الحقيقيين كانوا يشرفون على الدوريات والمنابر الثقافية، بمعنى أن الثقافة كانت في أيدي مبدعيها، لا في أيدي أشباه المثقفين كما هو الحال الآن. وأذكر ـ مثلا ـ أنني حين كتبت قصة "حالة طلق" قرأتها لأصدقائي الكتّاب في المقهى الذي كنا نلتقي فيه، ثم دار حولها نقاش جاد وعميق لا مجاملة فيه ولا مداراة، كذا، مثلما كان يفعل محمد الماغوط في قصيدة جديدة كتبها. النقد، يومذاك، لا يكتفي بالقول: جميل.. مدهش.. إلخ بل تراه يبحث عن موطن الجمال ويفتش عن الجدة في النص. ولأقل بأنه ساد في تلك المرحة نوع من المحاسبة الدقيقة والصارمة سواء من المتلقي "كاتبا كان أم قارئا" أو من المبدع ذاته، وهذا يشير إلى مدى الجدية في الكتابة وعدم استسهالها إطلاقا. ويمكنني أن أضيف فيما يتعلق بالمرحلة عموما، مرحلة الستينيات، بأن شعورا قويا كان يطغى لدينا مفاده أن ما نكتبه له تأثير مصيري يمكن أن يغير على طريقة شعلة برومثيوس، أي أن الكتابة آنذاك كانت ذات هدف تغييري، لا بمعنى تغيير الكون، بل بما يمكن للنص أن يحدثه في القارئ وأن يؤثر فيه ويبقى معه طويلا بالتالي. من هنا جاءت الأهمية الكبرى للثقافة في تلك المرحلة: عمقها ووعيها المتقدم والموازي للمرحلة السياسية الناهضة آنذاك، ولذا فإنني أسميها مرحلة النهوضين: الثقافي والسياسي، لكأنها استمرار لعصر النهضة الأول.

الأدب والواقع السياسي

* أشرت إلى الوهن الذي تعيشه ثقافتنا اليوم بالمقارنة مع مرحلة الستينيات.. هل ترى أن الهبوط السياسي العربي قد جر معه الأدب وأنواع الفنون الإبداعية الأخرى؟

ـ الهبوط السياسي في بلاد العرب الراهن انعكس من دون شك على المسألة الثقافية. والثقافة قد أنيطت بالوضع العربي المتردي بحيث بات من النادر أن تقرأ نصا أدبيا يرقى إلى ما رقى إليه أدب الستينيات.

إن ما هو سياسي يمكن أن يكون أشبه برافعة، فالمثقفون آنذاك كانوا يمتلكون وعيا سياسيا متقدما. بل إن تلك المرحلة كانت مرحلة استيقاظ في العالم الثالث عموما:أمريكا اللاتينية، آسيا، وإفريقيا، وما نقرأه اليوم من إبداع ما هو إلا نتاج التخمر الذي تم في تلك المرحلة. فالثقافة، بما هي حضارة، سلسلة متصلة بين كل الشعوب، وليست وقفا على شعب واحد. وكما تعلم فإن تلك المرحلة كانت مرحلة حركات تحرر وطني ومرحلة نهوض في مختلف تلك البلدان.

ما ينتج ويعاد إنتاجه الآن هو الخطاب السياسي، لأن السياسة في مفهومها الدوغمائي الانتهازي هي التي تسيطر على الحياة برمتها وعلى مختلف أصعدتها. من هنا هذه الصحراء المجدبة التي نعيشها الآن بعيدا عن أية ثقافة ونشاط ثقافي فعال وعميق كما كان عليه الحال في الستينيات.

الحب والموت

*على قطبي الحب والموت، وجدلهما، شيدت أعمالك القصصية والروائية الأخيرة (غسق الآلهة، ومرايا النار).. من أين ولدت هذه الرؤية في أعمالك? ما الذي دفع بها لتتغلغل بصورة كاملة في نسيج كتاباتك الأخيرة؟

ـ إن جدل الحب والموت هو أحد الأعمدة الأساسية فيما أكتب. الحب بما هو حالة ذاتية مولدة للحياة بما هو أيضا إشراق في عالم أراه ـ موضوعيا ـ مليئا بالموت والظلام، أعني العالم الخارجي.

هناك حالة جدلية بين الداخل والخارج.. بين الشوق إلى حياة صحية، طليقة وحرة.. يقابلها في العالم الموضوعي قمع وإرهاب واستبداد وموت. وهذه الثنائية تحديدا تشكل نسيج العنصر التراجيدي في رواياتي وقصصي.. بالطبع، فإن هذه الحالة ليست جديدة، فهي معروفة منذ زمن الإغريق.. غير أن الاختلاف هو في صراع الإنسان مع القدر عند الإغريق، في حين أن الصراع في عصرنا الحالي هو بين الإنسان والقوى القمعية الخارجية، بعيدا عن موضوع القدر، وهذا ما يخالف التراجيديا الإغريقي.

ملحمة جديدة

* بهذا المعنى، هل تسعى لكتابة ملحمة جديدة لها نكهة عصرنا وملامح حياتنا الراهنة عبر صراعنا كبشر مع بشر آخرين يمثلون الشر وأدوات القمع ويعيشون بيننا مسيطرين علينا؟

ـ هذا طموحي الكبير في نهاية المطاف، وآمل أن أحقق جزءا منه. ذلك أن هذا الطموح لا يحققه كاتب أو أديب واحد، بل ربما لا يتم في عصر واحد إذ لابد له من عصور ومراحل. إنما لدي حاسة ملحمية في أي حدث أراه. هذه الحاسة تعطيني شعورا ـ ربما كان مرده إلى وعيي بالتاريخ العربي ـ بأن تاريخ العرب منذ بدايته حتى الآن هو هذا الصراع التراجيدي والملحمي داخليا وخارجيا. صراع مع الذات من خلال الحروب الأهلية.. وصراع مع الآخر من خلال العدوان الخارجي. لكأن الزمن العربي يدور حول ذاته وينتج نفسه بنفسه مع تغيير الأشكال فقط دون أن يتقدم إلى الأمام، وهذا يفسر الاستمرار الحضاري القديم وعجزنا حتى الآن عن خلق حضارة جديدة كما فعلت بلدان وشعوب أخرى في العالم.

بناء الفن ومعماريته

* هل بسبب من هذه الرؤية لديك اشتغلت فيما يخص بناء أعمالك فنيا معماريا، على تقطيع برهتي الحب والموت، إحداهما بالأخرى، بحيث جاءت نصوصك هاجسة بالموت تارة ولائذة بالحب أخرى؟

ـ النسيج البنائي لأعمالي مسكون بثنائية الحب والموت كنقيضين، كما هو مسكون بالتوق الشديد للنجاة من الموت إلى الحياة، وهذا يتجلى في لحظة التضام بين الرجل والمرأة. إن الحب هو بذرة الحياة وبذرة الحرية والانطلاق الرحب في العالم، في حين أن الموت والقتل هو الإعدام والعدم. هذه الثنائية المانوية بين النور والظلمة، أو الخير والشر، تتجلى في تضاعيف كل عمل أدبي كتبته في المعنى أو المبنى، وهذه الثنائية تعطي كتاباتي، كما أظن، بعدا إنسانيا، هذا البعد الذي يمكن أن يوجد في أي وطن آخر وعند أي شعب آخر. وهي، في النهاية، لحظة وجودية من لحظات الإنسان. وفي جميع ما أكتب لاتوجد هناك مدرسة واحدة: وجودية، أو نفسية، أو اجتماعية.. إلخ. لأن البنية الأسلوبية للعمل الأدبي، في نظري، هي التي تمتد في اتجاهات متعددة: رمزية، وجودية، نفسية، وواقعية.. بمعنى أنني أمزج لك هذه المدارس وأنتج منها خزفية قد تكون مغايرة للروايات والقصص التي يكتبها الآخرون. وأعتقد أن هذا النوع من المزج الصلصالي هو واحد من الإشكالات التي تدخل فيما يمكن أن نسميه الرواية الجديدة المغايرة لرواية القرن التاسع عشر في أوربا الغرب وتقليدها في البلاد العربية.

شعر أم نثر رفيع؟

* لطالما شكوت، كما أعلم، من كتابات نقدية تقول إنك تكتب "بلغة شعرية".. هلا أوضحت شكواك هذه وبينت الإشكالية الحاصلة بين مفهوم لغتك وتوصيفها من قبل النقاد، ومفهومها لديك؟

ـ في أعمالي القصصية والروائية لا أكتب شعرا. إنما لغتي ـ أسلوبي ـ قد تقترب من حافة الشعرية، بل وربما أتت صور ومفردات يستخدمها الشعر.. غير أن هذا الأسلوب الذي يسمونه "شعريا".. إنما يدخل في علم الجمال ولا يدخل في التأثر الشعري. هناك ثنائية خاطئة في ذهن القارىء والناقد العربي مفادها أن الكتابة إما أن تكون نثرا وإما أن تكون شعرا. هذه الثنائية الخاطئة هي التي تسم أسلوبي أو لغتي بالشعر والشعرية. وفي تاريخنا الكثير من الأعمال النثرية للجاحظ ولأبي حيان التوحيدي ولابن حزم ولغيرهم ترقى إلى مصاف الشعر. إذا أردنا أن نقول عن بعض الروايات إنها شعرية يمكن أن نأخذ مثال سليم بركات أو إبراهيم نصرالله.. الشعر في هذه الروايات هو الأساس والعمود الفقري بحيث يطغى طغيانا كاملا على الأحداث والوقائع ويغيب بنيان الشخصية، لأن التركيز في هذه الروايات ينهض على اللغة الشعرية. أما بالنسبة لأسلوبي في الرواية فالعنصر الشعري يأتي من المغايرة لكتابة الرواية الاجتماعية أو الرواية الواقعية في عصر النهضة، كما يأتي من الكثافة المركزة والإيحائية في العبارة والجملة. وهذه الرواية جديدة على القارىء والناقد أيضا، بحيث يرى أن من الأسهل القول إن هذه اللغة شعرية وهو يعني بذلك مديحا (!!) بدلا من بحثه عن البنية الأسلوبية العامة والجديدة التي تظهر في العمل وفي بنية هذا النثر.

قارىء داخل كاتب

* في سياق ذكرك للقارىء يخطر لي أن أسألك عن موقعه لديك وعن ملاحظاته. ما المساحة التي يشغلها في ذهنك وفي نصك الإبداعي بالتالي، أثناء تخمره ولحظة ولادته؟

ـ لأقل صراحة، وبصدق مطلق، إنني عندما أكتب أنقسم إلى شخصين: كاتب وقارىء، فأضع نفسي في موقع القارىء من هذا العمل الذي أكتبه، ثم أتركه بعيدا عني، لأعيد قراءته من جديد فأحذف ما أراه زائدا وأضيف ما أراه مفيدا إلى أن يستقيم هذا العمل بشكل نهائي. أتركه طويلا لأعود إليه كقارىء وكاتب في الآن نفسه إلى أن أشعر (كقارىء) أنه أعجبني وأصبح ناجزا للطباعة. ولا أكتم عليك أنني أعيد كتابة العمل الأدبي لا أقل من ثلاث مرات، ولعل هذا واضح من المدة الزمنية الفاصلة بين كتاب وآخر. فعلى سبيل المثال استغرق العمل معي في "الزمن الموحش" نحو خمس سنوات، وكذلك استغرق العمل في "وليمة لأعشاب البحر" نحو عشر سنوات.. وهكذا أشعر أنني، بذلك، أحترم القارىء.

* ألاحظ أن القارىء يرغب في معظم الأحيان أن يطلع من الكاتب على تفاصيل كتابته: متى تشع الفكرة داخله؟.. كيف تنهض؟.. وكيف تظهر؟.. أي، باختصار، كل ما يتعلق بمراحل الحمل والولادة إن جاز التشبيه.

ـ هذا من أصعب الأسئلة، وعسير شرحه بدقة، ذلك أن فكرة عامة تلمع في الذاكرة، فتبدأ بالتخمر أثناء اليقظة نهارا أو في الليل. تكتب فقرات منها على مراحل. تشكل التخطيطات الأولى إلى أن تصبح هي الهاجس ومركز الاهتمام والبؤرة المغناطيسية التي تجذبك إليها دائما. تتحول أنت إلى أسير، فتأسرني الفكرة ويأسرني العمل أو هذا البنيان الذي أشيده. إذ ذاك أبدأ في جمع الخيوط التي سجلتها في وقت سابق، ثم أنهمك في العمل الأولي. عندما أبدأ في مرحلة الإنجاز الأولى أنعزل انعزالا كليا عن العالم الخارجي وأمركز حواسي فيما أكتب.

وكما لا يخفى عليك من تجربتك الكتابية، فإن العمل القصصي أو الروائي عمل مضن ومنهك، خاصة في الأسلوب الجديد الذي نكتب فيه.. وأنا أنحت من صخر كما يقول أبوتمام، ولا أغرف من بحر كما يقال عن البحتري. أحيانا التخطيطات الأولى لا يعجبني مسارها، فأغير الاتجاه في السرد وتعميق الفكرة وتغيير مسار الشخصية. وأحيانا بعد أن أنهي الكتابة الأولى أترك العمل طويلا، لمدة سنة أو سنتين، كما حدث في رواية "مرايا النار" مثلا. ثم أعيد الكتابة الثانية وهي تنجز في هذه المرحلة بنسبة 70 ـ 80 في المائة. أتركها مدة من الزمن. خلال هذه المدة من عملية الهجر والتواصل مع الرواية تتوالد أفكار وصيغ جديدة تتعلق بسير الأحداث أو بناء الشخصية وما إلى ذلك. غير أن الهاجس يظل مهيمنا: كيف سأنجز العمل نهائيا? في الصياغة الثالثة أو الرابعة ربما، وتكون الأخيرة، أصمم على الإكمال النهائي للعمل الروائي، وخلال ذلك يكون التلف قد دمر الأعصاب، أو يكون المرض قد حل بي جراء ذلك الإنهاك.

الإبداع العربي المعاصر

* المشهد القصصي والروائي العربي في وقتنا الراهن.. كيف تراه؟ منْ منَ المبدعين الروائيين والقصصيين جذبوا اهتمامك، وأحسست، عبر أعمالهم، بنكهة التجديد والأصالة والعمق؟

ـ بشكل عام، فإن الثقافة العربية المعاصرة ـ برغم ظلمات الاستبداد السياسي العربي ـ تظل هي الأكثر إشعاعا وارتفاعا في نوعيتها، وذلك من دون أن نصرف النظر عن واقع الانحطاط الثقافي العام الحاصل وذي الطابع الرسمي. ومع ذلك، فهناك نوعيات من المثقفين لايزالون يشقون أنوارا في هذه الظلمات، ويرون في الثقافة العميقة والجوهرية منارة حضارة المستقبل في الفكر والدراسات الأدبية والإبداع الأدبي والفني، وأذكر على سبيل المثال نجمنا نجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف، وغالب هلسا، وإدوار الخراط، ورشيد بوجدرة، والطيب صالح، والطاهر وطار، وإلياس خوري، وجمال الغيطاني، ويوسف القعيد، وهاني الراهب، ومؤنس الرزاز، وصنع الله إبراهيم، وهدى بركات.. كما أذكر في القصة القصيرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر: المعلم الأول يوسف إدريس، وسليمان فياض، وسميرة عزام، وزكريا تامر، ومحمد خضير، وبهاء طاهر، وإبراهيم أصلان، ومحمد المخزنجي، وسعيد الكفراوي، ومحمود الورداني، وإبراهيم صموئيل، ووديع اسمندر، وحسن م. يوسف، ومحمود عبد الواحد.. وغيرهم ممن لابد نسيت أسماءهم اللحظة، هؤلاء لايزالون منارات مضيئة في سماء ثقافتنا العربية ماضيا وحاضرا، وتشكل كتاباتهم وإبداعاتهم النبض الحي والعميق لجوهر الثقافة العربية المنبئة برمز حضاري مستقبلي جذوره في الأرض وفروعه في أعماق الناس.

وميض القصة وأمداء الرواية

* أخيرا، فلقد بدأت قاصا وارتبط اسمك مع ظهور مجموعتك "حكايا النورس المهاجر" بالقصة القصيرة في سوريا، ثم كتبت الرواية بعد ذلك. وسؤالي: مع أي من الجنسين الأدبيين تأتلق روحك أكثر? وعلى هامش السؤال: هل تتفق مع الذين يقولون إن القصة القصيرة عتبة النثر، يتوقف الكاتب عندها فترة ثم يتخطاها نحو الرواية؟

ـ أستطيع أن أقول إن القصة القصيرة هي الابن الأول الذي تحبه وتتعلم من خلاله كيف تجتاز العتبة الكبرى: الرواية، في البداية تقف مع القصة القصيرة ـ وهي أصعب الفنون الأدبية ـ ثم مع توسع مداركك ومعرفتك للعالم الأوسع والأعمق تدرك، وكأن الرواية هي العالم الشاسع الذي يستوعب مساحة معرفتك بالعالم تلك. وهذا يشبه ـ إذا أردنا التشبيه ـ السباحة في النهر الصغير ثم السباحة في النهر الكبير. القصة القصيرة، هذا الوميض الساحر يظل في الأعماق كحنين دائم.. لكن الرواية، هذه المساحة الشاسعة التي تستوعب التجربة الأوسع والأعمق تشدك إليها كجبل من المغناطيس.. فالعالم الصغير المفعم والخصب هو القصة القصيرة. أما الرواية فهي العالم الكبير الذي يعطيك حرية أكثر شمولية وإحاطة بالعالم والشخصيات والكون. هذا لا تستطيع أن تحققه في القصة القصيرة. وهذا يشبه الشوق إلى أكثر من امرأة لا بمعنى الشهوة بقدر ما هو الراحة والانطلاق والتوقف للإحاطة بالعالم. بين رواية ورواية، بالنسبة لي، يصعد الحنين إلى الطفل الأول: القصة القصيرة، فأعود إليها لأنها بداية التكوين الأدبي، أما أن تكون القصة هي العتبة إلى الرواية فهذا يختلف بين أديب وآخر. معظم الأدباء كتبوا في الجنسين الأدبيين، ونادرا ما كان هناك انقطاع بين الجنسين. فهما من خميرة واحدة. وفي ظني أن التجربة الحياتية في الإنسان بعمقها وتنوعها هي التي توجه البوصلة نحو الشمال: الروائي أو القصصي. بمعنى أن مقدار اكتساب التجربة وعمقها هو الذي يأخذك إلى فضاء الرواية. أنا أعتقد أن هناك عمقا ما. ففي كل قصة قصيرة بذرة روائية، وفي كل رواية هناك شجرة صغيرة وجميلة للقصة القصيرة. هما طفلان لأب واحد، وأنا لا أستغني عن أحدهما، إنهما يتناوبان بالنسبة لي على الدوام.