التحليل النفسي والسينما

التحليل النفسي والسينما

عرض: إبراهيم عبد المجيد

هذا الكتاب صادر ضمن منشورات "معهد الفيلم الأمريكي" "A.F.I", أصدرته دار نشر روتلدج بأمريكا وإنجلترا معا عام 1990, لكاتبة معروفة بدراساتها في الإنسانيات, فهي مديرة معهد الدراسات الإنسانية في سني ستوني بروك, وسبق لها أن ألفت كتابا نال شهرة كبيرة هو "النساء والفيلم" أصدرته أيضا دار النشر ذاتها. والمؤلفة هنا في الحقيقة هي محررة الكتاب الذي كتب مقالاته عدد كبير من الكاتبات ـ لاحظ ذلك ـ وللمؤلفة فيه ـ فضلا عن الإعداد والتحرير ـ مقال مميز.

هذا الكتاب الذي يقع في مائتين وخمسين صفحة من القطع المتوسط يتناول علاقة التحليل النفسي بالسينما, وفي سبيل ذلك يتناول دائما مناهج التحليل النفسي في الدراسات الأدبية باعتبارها الميدان الأسبق للتحليل النفسي, ومن ثم فهناك دائما مقارنة بين عمل التحليل النفسي هنا, في الأدب, وهناك في السينما ومقارنة بين الميدانين.

الكتاب مقسم إلى أربعة أقسام, كل قسم يدور حول موضوع محدد من خلال عدد من المقالات.

القسم الأول من الكتاب مكرس للحديث عن النظرية النسوية تجاه الآخر, إذ نادرا ما تجد مختارات من التحليل النفسي للأدب تشتمل على مقالات عن الفيلم السينمائي, بينما في حقيقة الأمر فالحوار بين الفريقين مفيد, بل إن مقارنة موجزة بين نمو مناهج التحليل النفسي في كل من الأدب والسينما تثير أسئلة مهمة على عدة مستويات, كالفرق بين الأدب والفيلم كموضوع جمالي, والخطاب العقلي والثقافي لكل منهما. ومعروف أن مناهج التحليل النفسي للأدب كانت أسبق في الظهور, حيث بدأت في ألمانيا في الثلاثينيات, ومنها انتقلت إلى أمريكا في الأربعينيات, وكانت كلها جهودا مبكرة اعتمدت على مقالات فرويد عن الإبداع والأحلام, ودراساته المختلفة عن الفنانين أمثال سوفوكليس وشكسبير ودافنشي ودوستويفسكي. وربما كانت دراسة ماري بونابرت تلميذة فرويد وصديقته, عن "إدجار آلان بو" في مقدمة تلك الكتابات. لقد قال فرويد عن هذه الدراسة التي كان عنوانها "حياة وأعمال إدجار آلان بو" قال فرويد إنه "الآن نرى ونتحقق كيف أن العديد من خصائص أعمال "بو" وشخصياته مشتقة من التجارب العاطفية العميقة والخبرات الطفولية المؤلمة".

لقد جاءت تحليلات المؤلفين فيما بعد لتجعل هذه العبارة في القلب من النصوص الأدبية, وبدا أن الناقد يواجه المبدع كما يواجه المحلل النفساني مريضه وجهاً لوجه. لكن هذه الدراسات التي ارتكزت على فرويد لم تمنع إبرام كاردينر من وجهة نظر أخرى في التحليل النفسي بعيدا عن الوساوس والأحلام والمركب الأوديبي وغير ذلك من أدوات فرويد. لقد كان كاردينر عضوا جامعيا في معهد التحليل النفسي في نيويورك, وزميلا في قسم الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا, حيث كتب كتابه "الفرد ومجتمعه الذي فيه انتقد بعض المفاهيم الفرويدية, وظهر ميله إلى دمج التحليل النفسي بمناهج علم الاجتماع والانثروبولوجيا. إن الإنسان لا يمكن تفسيره فقط بالدوافع أو الأحاسيس "القضيبية" أو "الإستية" لكن من الضروري الإشارة إلى المؤسسات أو النظم والقوانين. وهكذا ظهر جيل جديد من النقاد والمحللين منهم ليونيل تريلنج الذي أعطى أهمية للغة الخاصة ومركز العمل وطبيعته الجمالية, وكذلك ستيفن ماركوز الذي يرى أن الأدب ودروس التحليل النفسي هما شيء واحد, والمحلل النفسي هو في الحقيقة روائي.

نظرة جديدة للتحليل

لكن في السبعينيات بزغ وجه جديد لمعالجة التحليل النفسي للأدب. إنها جهود جاك لاكان المنظر الفرنسي الكبير. لقد طور دارسو الأفلام دروسه فيما بعد وصارت لهم استخداماتهم الخاصة. لكن كانت دراسته عن هاملت, وبو, وبصفة خاصة "الرسالة المسروقة التي نشرت عام 1956 بداية مناقشة كبيرة. ثم كانت أعمال لاكان جزءا من حركة كبيرة بدأت في فرنسا في السبعينيات لكسر التمييز الكلاسيكي بين الأدب والمجالات الأخرى.

لقد كانت "شوشانا فيلمان" من الذين وضعوا التحليل النفسي في مستوى واحد مع الأدب في دراسة رائدة نشرتها عام 1977. لقد قررت أن كليهما مرتبطان, بمعنى أن كليهما ينشىء الآخر لاشعوريا. إن الشاعر بالنسبة لـ لاكان ـ تقول شوشانا ـ لم يعد ذلك المريض بل ذلك المحلل. وطبعا يمكن ضم بيتر بروك لقائمة الباحثين عن الروابط الداخلية بين الأدب والتحليل النفسي, والقائمة كبيرة تضم باربارا جونسون وجاك ديريدا وغيرهما. هذا عن الأدب والتحليل النفسي فماذا عن السينما?

تأثير فرويد

هذا هو موضوع الكتاب الرئيسي, ولقد ظهرت المقاربات التحليلية للأفلام بشكل تقريبي أواخر الستينيات, وهنا نلاحظ الأثر الفرويدي بشكل مبكر جدا في دراسة لرايموند دورجنات عن فيلم لوي بونويل "كلب أندلسي" الذي أخرجه عام 1928, واستمرار الأثر الفرويدي في دراسة لدونالد سبوتو عن هيتشكوك يقدم فيها مثالا على السيرة النفسية الفرويدية لمخرج. لكن خليطا معقدا من الأفكار السيميوطيقا, ما بعد البنيوية ـ الشكليين الروس ـ الفيميز أو النسوية, البريختية, الماركسية, الفرويدية, الالتوسيرية, اللاكانية إلخ. كان له أثره في المقاربات المختلفة للأفلام خصوصا الإنجليزية والفرنسية, حيث ظل لأمريكا النصيب الأكبر من الفرويدية بعد الحرب الثانية حتى الستينيات. وظهور السينما الجديدة التي كانت في أحد جوانبها رد فعل لهذه الفرويدية صارت مسئولة عن النظرة الرجعية السيئة للمرأة. لقد صار لنظرية "وجه المرآة" لـ "لاكان" كأساس للتحليل النفسي للفيلم أثر كبير في المقاربات النفسية للسينما خاصة في أوربا, وعليها تركز لورا مولفاي في المقالة الأولى "المتعة البصرية والسينما السردية" إن نظرية وجه المرآة هي التطبيق السينمائي لنظرية "لاكان" عن مرحلة المرآة في التحليل النفسي للأدب. ويعطي لاكان أهمية كبيرة على رد الفعل الأول للطفل إزاء صورته المنعكسة على المرآة. عادة ما يكون هو الفرح, وعادة ما يحدث هذا ما بين الشهرين السادس والثامن عشر من الولادة. إن استجابة الطفل, واللحظة التي تنطوي عليها هذه الاستجابة هي بداية تعرف الطفل نفسه من حيث هو كائن عضوي حي, ومن حيث هو كائن له علاقة بالآخرين. تتحدث لورا مولفاي عن علاقة المتعة البصرية بالتحديق في الفيلم كمرآة. إن ذلك يخلق نوعا من التوحد. وإذا كان المشاهد امرأة نجد في المرآة الفرصة في اكتشاف الجانب المفقود في ذاتيتها الجنسية. وهكذا حين يكون الممثل الرئيسي امرأة يصبح الفيلم, الهوليودي, ميلودراما عن معاناة المرأة في إيجاد هوية جنسية مستقرة. إن المشاهدين من النساء يكتشفن في صراعات البطلة ذاتيتهم الجنسية غير المستقرة. لكن في المقالة التالية ترى "آن فرايبورج" أن واقعية هوليوود هي اشتباك مع الحالة الراهنة, والتوحد هو عملية ذات أيديولوجيات داخلية, وعملية تراتبية, هيراركية, ف التوحد درجات, وبالمناسبة عنوان المقالة "نظريات التوحد السينمائي" وأعلى هذه الدرجات هو التوحد السينمائي الأعلى. في المقالة الثالثة لـ "مار آن دوان" عن المرأة المتذكرة, يدخل عنصر التاريخ فتقول إن الروابط بين التحليل النفسي والتاريخ عبر مفهوم الذاكرة هي التي تأخذنا وراء الطريق المسدود.

بعد ذلك ندخل في ثلاثة تطبيقات لنظريات التحليل النفسي على أفلام لجاك تورنيه فتبحث مقالة كلير جونستون عن النزوع النسوي لأفلام هوليوود. إن فيلم لتورنيه في رأي كلير جونستون يوضح واحدة من أعظم المحاولات راديكالية لاكتشاف حقيقة الاختلاف الجنسي في سينما هوليوود الكلاسية ممهدا الأرض لقمع النسوية. إن أفلام تورنيه تجسد أسطورة السيطرة الذكرية في السينما الهوليوودية, ولكن Anne of the indies يمتلك إمكان الميل الخنثوي, برغم استمرار الأسطورة الذكرية. وتدرس ديبورا ليندرمان فيلم تورنيه المنتج عام 1942 ويدرس رايموند بيللور فيلم تورنيه "لعنة الشيطان" بعد ذلك ليوضح مدى الافتتان غير الواعي للمشاهد بالصورة حيث يرى هو/هي, ويشعر ويخاف!. ويبحث بيللور العلاقة بين المشاهد وصورة السينما نفسها على أساس من نظرية لاكان وجه المرآة ويصل إلى أن للسينما فتنتها الذاتية وقدرتها على جعلنا "نؤمن" بها, وإن فيلم "تورنيه" هو باختصار عن "فتنة" السينما وعن "إيمان" المشاهد.

قراءة نفسية

موضوعات القسم الثالث تبحث عن التاريخ والتحليل النفسي في قراءة بعض الأقلام. تبدؤها مقالة كاجا سيلفرمان عن العطب التاريخي والذاتية الذكرية. إن التكوين الاجتماعي, مثله مثل التكوين النفسي, ينمي درعا به تحمي النفس ذاتها, أمام المثيرات الخارجية. إنه ينمي خيالا مسيطرا. والتاريخ يجعل حضوره في الأزمات التي يخلقها وفي التغيرات في الخيال المسيطر. وتختبر سيلفرمان العلاقة بين التاريخ والتصوير, في فيلم ويليام وايلر "أحسن سنوات عمرنا", المنتج عام 1946, وهو الفيلم الذي تميز بفقدان الإيمان بالعائلة وحياة المدينة الصغيرة وموضوع الذكورة. ثم تأتي مقالة المحررة آن كابلان عن الأمومة والتصوير من الأشكال الفرويدية بعد الحرب إلى أشكال ما بعد الحداثة, وتعرض الموضوع في فيلم "مسافر الآن" 1942 ومارني 1964 لتكشف عن الأفكار المسبقة في تكوين الفيلم الهوليوودي. إن الفيلم الأول يعبر عن أيام الحرب بينما يعبر الفيلم الثاني عن الحرب الباردة, وهكذا فالتاريخ هو إحدى الأفكار المسبقة أو الأسس المسبقة لبناء الفيلم وبين الفيلمين وفيهما نلمح التغيير الذي لحق بالأمومة ذاتها مع التطورات التكنولوجية للفيلم السينمائي والمقاربات المختلفة لها, ويحتوي على مقالات لكل من لورا مولفي وآن فرايدبرج ثم ماري آن دوان. بينما يدور القسم الثاني حول الاختلاف الجنسي, دراسة حالة لبعض أفلام جاك تورنيه, ويحوي مقالات لكل من كلير جونستون, وديبورا ليندرمان, ثم رايموند بيللور, وهو رجل بالطبع, لكن بترجمة دانا بولان عن الفرنسية.

القسم الثالث يدور حول التاريخ والتحليل النفسي في قراءة الأفلام, ويحوي مقالات لمحررة الكتاب آن كابلان, وجانيت ووكر ثم جانيت بيرجستروم. وأخيرا يأتي القسم الرابع والأخير وهو عبارة عن مقالتين حول الأفلام الطليعية, الأولى لـ "ليندا بيكهام" والثانية لـ "إيفون راينر".

بعد هذه الأقسام الأربعة للكتاب يأتي حوار طويل يجريه المنظر السينمائي رايموند بيللور مع المحلل النفساني الفرنسي جاي روزولاتو يترجمه عن الفرنسية توماس ليفين.

هكذا فالكتاب كبير ومتنوع يعالج موضوعه من أكثر من زاوية وبأكثر من منهج.

اختفاء خطاب الأمومة

في المقدمة التي كرستها آن كابلان للكتاب تتحدث عن التباعد بين دارسي الأدب أو الدراسات التحليلية للأدب وبين الدراسات التحليلية للسينما. فمن سوء الحظ أن الدارسين في المجالين لم يظهروا أي ميول كل منهما, التي انعكست على جسد المرأة نفسه. إن القرن العشرين سينتهي باختفاء وموت خطاب الأمومة الخالد للقرن التاسع عشر فاتحا الطريق لأساطير أحدث وصور فنية أخرى وخطاب تحليلي جديد.. وفي مقالة جانيت ووكر عن المرأة والفيلم والعلاج النفسي بعد الحرب الثانية تتملق الكاتبة نظريات التحليل النفسي المرتكزة على الخطاب النسوي وتدين العلاج النفسي الأمريكي الذي يرد الاضطهاد النسوي إلى مرجعية اجتماعية وبعد دراسة وتحليل فيلمي "الشجرة تواجه حواء" 1957, و"رقيق في الليل" 1962, تعتبر العلاج النفسي الأمريكي المؤسس على اختبار الخطاب التاريخي, نظاما متناقضا. وفي نهاية هذا القسم من الكتاب دراسة ممتعة تكاد تلخص الاتجاهين اللذين ظهرا في المقالات السابقة, وفي الكتاب كله, أعني دراسة جانيت بيرجستروم عن التفسير النفسي لأفلام فريتزلانج وبابيست المخرجين الألمانيين الشهيرين في النصف الأول من هذا القرن, لتكشف لنا كيف كان بابيست يهتم بالحالات الداخلية ـ ما هو نفسي ـ بينما لانج يتحرك بسرعة إلى الخارج, إلى التجريد, إلى المؤسسات. تتبقى مقالات القسم الرابع والأخير عن الأفلام الطليعية, النظرية والتطبيقية, المقالة الأولى لليندا بيكهام عنوانها "لا تتحدث باللغة, تحدث بلا لغة" وتدرس فيلم أديناتا لليسي تورنتون المنتج عام 1983, تصل في تحليلها للفيلم أنه يقدم مشكلة كيف تتعامل مع سيطرة لغة. إن مشاهدة الفيلم لا تكون من أجل التوحد, ولكن من أجل تشبيك المستحيلات معا كوسيلة للكلام, وفي مقالة إيفون راينر عن الحضارات السينمائية تكشف عن أهمية التطبيقات المختلفة للنظرية النسوية في التحليل السينمائي وتعتبر فيلم "الرجل الذي حسد النساء" بطريقة ما فيلما عن النظرية النسوية يكشف بعض أفكارها ويقرها.

لا ينتهي الكتاب إلا بعد حوار طويل كما أسلفت بين رايموند بيللور, المفكر السينمائي, وجاي روزولاتو المحلل النفسي ليعيدنا تقريبا إلى معظم القضايا التي تضمنها الكتاب, ونصل معها إلى أن السينما وهم سرعان ما يمحى من الذاكرة, وأن التحليل النفسي أداة معرفية في تحليل الأفلام, وأن موضوع السينما, ويسميه روزولاتو موضوع المنظور يجذب المشاهد إلى التوحد معه, وتتحول الشاشة إلى شاشة ذاكرة فاتحة الطريق إلى خبرة الطفولة العمياء.. وفي النهاية يصلان إلى أن السينما هروب من الحياة كما هي شكل له تأثيره الكثيف على الذاكرة.

 

إي. آن كابلان