أرقام

 أرقام

أفول الحكومات!

هل تتحول الحكومات في عصرنا الحالي إلى مجرد "ديكور"? ..شكل بلا مضمون.. وكيان بلا سلطة? وهل يدخل ذلك التنظيم الاجتماعي الذي اتفقت عليه البشرية منذ آلاف السنوات إلى حيز النسيان, أو الإهمال, أو (تنظيم الدرجة الثانية) لتحل محله الشركات والأعمال والأموال? والسؤال تبرره هذه السطوة المتزايدة لأموال وشركات عابرة للحدود, تسيطر على معظم دخل العالم وتمتد يدها الآن لوظائف أساسية بل وظائف سيادية للدولة مثل: القضاء, والشرطة, وإصدار النقود? أما البداية فهي حركة الأموال بعيداً عن الحدود الإقليمية, أو بما يعرف باسم الاستثمار الأجنبي المباشر.

في النصف الثاني من عام 1996 صدر تقرير من مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الانكتاد", موضوعه: الاستثمار العالمي.. وأرقامه تتعامل مع ماحدث خلال عام 1995. في ذلك العام, حدثت قفزة تاريخية غير مسبوقة في مجال الاستثمار الأجنبي المباشر.. فقد زادت التدفقات في هذا المجال بنسبة 39% تقريبا.. وكانت أعلى نسبة نمو في الدول المتقدمة والتي زاد فيها استقبال رءوس الأموال بنسبة 53% عام 95 مقارنة بـ 3% فقط في العام السابق له.. أيضا, فقد زاد تصدير الأموال من هذه المجموعة بنسبة 42% مقابل 1% في العام الذي سبقه. خرج للاستثمار في ذلك العام 318 مليار دولار.. وكان نصيب الدول النامية منها 15% فقط.. وبقية الأموال من الدول المتقدمة. و.. على العكس في حالة الاستقبال "315 مليار دولار" فقد كان نصيب الدول المتقدمة الكثير والدول النامية نحو ثلث التدفقات.. وحظيت دول شرق ووسط أوربا بـ "4%"من التدفقات.

أضاف عام (95) تراكما جديدا للأموال عابرة الحدود ليصل إجمالي حجم الاستثمار الأجنبي المباشر إلى "1.9" تريليون دولار في الدول المتقدمة.. و "2.5" تريليون كاستثمارات مملوكة لهذه الدول خارج حدودها. وفي التفاصيل, تبرز الأهمية النسبية للأسواق العملاقة, فتمثل الشركات ذات المراكز في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا واليابان وفرنسا ثلثي التدفقات الاستثمارية في العالم. أمريكا هي الأولى دائما.. وأموال شركاتها تتطلع للسوق الأوربية.. وبريطانيا هي الثانية وأموالها تتطلع للاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية, وهو نفس الأمر بالنسبة لغالبية الاستثمارات الأوربية. واليابان حالة خاصة, سوقها الواسعة في آسيا.. و21.3% من استثمارات 95 الأجنبية كانت من نصيبها.. لكنها غير قادرة على استقبال رءوس الأموال وما اتجه إليها لايتجاوز 0.04% خلال العام الماضي.

أيضا, وفي التفاصيل تبرز مجالات جديدة جاذبة للأموال. تاريخيا كانت مشروعات البنية الأساسية من نصيب الحكومات, وكانت الشركات تنظر لها كمشروعات غير ذات ربحية. الآن وكما تشير الأرقام, تتغير الخريطة, وتدخل المرافق ومشروعات البنية الأساسية في صلب أرقام الاستثمارات الأجنبية المباشرة.. أما السبب فهو اتجاه اقتصاديات العالم للتحرير والخصخصة فكل شيء, في النظام الجديد, خاضع لأن يتحول إلى سلعة.. والسلعة عرض وطلب, مكسب وخسارة.

حديث العمالقة

السؤال: ماذا تصنع هذه الأموال الزاحفة والعابرة للحدود والقارات?

والجواب أنها تصنع عالما جديداً لا يعرف الحدود القطرية.. فالأموال موطنها حيث تربح, والاستثمارات بوصلتها السوق.. وتقرير الانكتاد عن الاستثمار يشرح هذه الحقيقة في عبارة موجزة تليها سلسة الأرقام غير العادية. يقول التقرير: "يعتبر الاستثمار الأجنبي هو القوة الرئيسية التي تشكل الكوكبة "أو العولمة".. أما آلية ذلك فهي الشركات متعدية الجنسية. وطبقا للإحصاءات التي تنشرها مجلة "فورتشن" عن الخمسمائة شركة الكبرى المتعدية الجنسية "أو المتعددة الجنسيات كما هو شائع" فإن الأصول المملوكة لهذه الشركات قد بلغت عام 5991: "32.2" تريليون دولار.. والإيرادات "11.4" تريليون دولار وكانت هذه الإيرادات تعادل 45% من الناتج القومي للعالم في ذلك العام! والأرقام على هذا النحو تقول إن الدول الأكثر تقدما قد غزت العالم خلال القرون الثلاثة الأخيرة مرتين: مرة بالاستعمار عن طريق الجيوش, وكان الجند يحرسون طرق المواصلات ومنابع الثروات, ويوفرون للدولة الأم الخامات واليد العاملة بأرخص الأسعار, ومما جعل كثيرين يقولون إن رفاهة الشمال قد جاءت على حساب شعوب الجنوب.

كانت هذه هي الغزوة الأولى التي ساهمت فيها دول مثل بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإيطاليا. الغزوة الثانية تحدث الآن, لكنها بلا جيوش ولاجنود ولاقمع عسكري.. والمنطق الذي تقدمه الدول المتقدمة بسيط للغاية: "العالم شيء واحد.. ونحن نملكه!" أما الأداة فهي مانتحدث عنه: أموال طائرة.. وشركات عملاقة.. ونفوذ يفوق نفوذ الحكومات والدول. وفيما عدا البنوك والمؤسسات المالية فقد رصد تقرير الاستثمار الأجنبي السابق الإشارة إليه أكبر مائة شركة متعدية للجنسية في الدول المتقدمة. الأصول المملوكة لها (1.4) تريليون دولار.. وبين المائة شركة عملاقة "32" شركة أمريكية, لكن الأسرع نموا هي الشركات اليابانية والتي برزت في مجال الإلكترونيات بينما برزت الشركات الأوربية في مجال الكيماويات والأدوية والصناعات الغذائية. والشركات الصناعية وذات التكنولوجيا المتقدمة هي الأولى دائما, أما الشركات التجارية فتأتي في ذيل القائمة.

بدلاً من الحكومات

أحجام الاستثمار وحركتها تمثل انقلابا في الاقتصاد العالمي .. لكن نفوذ هذه الشركات واتجاهاتها هي الأهم. إنها بديل الحكومة في كثير من الأحيان.. فقد حلت لجان التحكيم بدلا من المحاكم, وحلت شركات الأمن الخاصة مكان الشرطة حتى أصبحت إدارة بعض السجون "قطاعاً خاصاً". أيضا, وهذا هو الجديد فإن بطاقات الائتمان التي تصدرها شركات خاصة "مثل الفيزا" قد أصبحت تلعب دور البنوك المركزية في إصدار النقود والتي كان لها وحدها حق الإصدار, أو خلق ما يسمى نقدا. الآن, يستطيع أي بنك كبير أن يفعل نفس الشيء فيخلق نقودا ـ من خلال البطاقات ـ دون رقابة أي بنك مركزي! و.. ليس ذلك هو الأثر الوحيد, فالآثار السالبة ـ بخلاف تراجع وظيفة الدولة ـ تمتد إلى الهياكل الاجتماعية في العالم. لقد صحب انتشار الشركات متعدية الجنسية ثلاث ظواهر: الأولى, المزيد من تركز الثروة, ووفقا لتقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائى عام "96" فإن هناك الآن في العالم (358) شخصا يحملون لقب ملياردير.. وتساوي الأصول المملوكة لهم مجموع الدخول السنوية لبلدان تمثل (45%) من سكان العالم!

أما الظاهرة الثانية, وفي نفس الوقت فهي انتشار الفقر, ويسجل نفس التقرير أن "89" بلدا قد تراجعت اقتصادياتها خلال السنوات العشر الأخيرة.. و "1.6" مليار نسمة في العالم قد تدهورت أموالهم عما كانت عليه منذ خمسة عشر عاما. وتبقى الظاهرة الثالثة, وهي انتشار البطالة فالآليات الحديثة للاقتصاد العالمي أكثر عجزا عن توليد فرص العمل, ووفقا لدراسة حالة أكبر خمسمائة شركة في العالم (مجلة فورتشن) فإن هذه الشركات التي تملك معظم الأصول لا توظف أكثر من (35.2) مليون عامل.. فقط لا غير! إنه التحول الهائل.. النقود تصنع النقود والسلطة والهيمنة. أصحاب المال هم الذين يحكمون, والحكومات تتراجع بالضرورة.! وكما يقول بعض الاقتصاديين فإننا في عصر جديد يصبح فيه المركز ـ والذي يقع في الشمال ـ أكثر قوة وخطورة وهيمنة وثروة.. بينما تزداد حقيقة المهمشين في العالم. الجنوب كله على الهامش "تقريبا".. وفقراء الشمال أيضا ينضمون تحت هذه الصفة.

هل فهمنا ماذا تعني العولمة, وعالم بلا حدود?

أظن ذلك, والشهادات السابقة أصدرتها مؤسسات تنتمي للشمال أكثر من انتمائها للجنوب.

 

 

محمود المراغي