شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

الكواكبي يموت.. بالسم في الدسم

"إذا كان كبار الأمة قد ألفوا النفاق والرياء مرضاة للمستبد.. فعامة الناس سيألفونها أيضا.. حتى يضطر أكثر الناس إلى إباحة الكذب والتحايل والخداع والنفاق والتذلل وإهانة النفس, حتى يصبح من القيم المعترف بها: اعتبار التصاغر أدبا, والتذلل لطفا, والتملق فصاحة, وترك الحقوق سماحة, وقبول حرية القول وقاحة, وحرية الفكر كفرا".

فهل كان عبد الرحمن الكواكبي على حق وهو يعلن ذلك للناس.. وهل كان يستحق على ذلك أن يكون مصيره هو القتل.. بالسم يوضع في الدسم?

الحق.. أن اضطهاد الاستعمار التركي للقومية العربية بلغ الذروة إبان حكم السلطان عبدالحميد. فلم يكن بد أمام العرب إلا أن ينشئوا الجمعيات السرية لمقاومة طغيانه وأعوانه من أمثال أبو الهدى الصيادي رئيس وزرائه, ولم يكن بد من أن ينزح فريق من الأحرار إلى أوربا لدراسة النظم السائدة فيها, لمحاولة تطبيقها في بلادهم, وأخذوا يكتبون في الصحف التي أنشأوها هناك ما يتعذر عليهم كتابته في صحف بلادهم الخاضعة للرقابة التركية.

طبائع الاستبداد

في هذا الجو ظهر الكواكبي, رافعا قلمه ضد أعداء القومية العربية, غير هياب من بطش الأتراك الذين كانوا يأخذون الناس بالظنة والشبهة في هذا الأمر.. وأخرج للشعوب العربية كتابيه "طبائع الاستبداد" و "أم القرى" المطبوعين في مصر, بعد استقراره بأرضها التي كانت ملاذ الأحرار العرب من ربقة الاستعمار التركي البغيض.

نشأ عبدالرحمن في حلب إحدى مدن الشام, من أسرة كانت فيها نقابة الأشراف, ولها مدرسة تنسب إليها هي المدرسة الكواكبية, وعلم والده فيها العلوم الشرعية التي كان يعلمها قبل ذلك في الجامع الأموي بالبلدة. فخلقت البيئة الصالحة منه شخصية تشع شجاعة في الحق, وأدبا زائدا في الحديث, ورفقا أصيلا بالفقراء. وبعد إتمام دراسته في المدرسة الكواكبية أحضر له والده أساتذة علموه الفارسية والتركية والتاريخ. وأضاف هو إليها باطلاعه الخاص ودراسته بعض العلوم الرياضية والطبيعية, وكذا قوانين الدولة العثمانية المختلفة. وانغمس بعد ذلك في الحياة العملية إذ اشتغل محررا في الجريدة الرسمية, ثم عمل رئيسا لكتاب المحكمة الشرعية وقاضيا لها. وضاق ذرعا بعد أن أصبح رئيسا للبلدية بالوظائف الحكومية. ففي كل هذه الأعمال كان يصطدم بنظام الدولة, وباستبداد الحكام, وفساد رجال الإدارة, فينازلهم وينازلونه, ويحاربهم ويحاربونه, وينتصر عليهم حينا وينتصرون عليه حينا.. وسلاحه دائما النزاهة والعدل والاستقامة, وسلاحهم دائما الدسائس واتهامه بخروجه على النظام ودعوته للشغب مما هو عادة الظالمين.

وهكذا لم يجد الكواكبي أمامه إلا أن يدع الوظائف الحكومية, وينشىء لنفسه صحيفة في حلب باسم (الشهباء). وفي هذه الفترة اكتسب خبرة بطبائع الظلم التركي, أكدت له ضرورة العمل الجدي على الخلاص منه. وكانت آراؤه للجميع تتسم بالصراحة التامة التي لاتقر ظالما على ظلمه, ولا جائرا مستعينا بمنصبه وجاهه على جوره.

وراح الكواكبي يدافع في مقالاته المتحررة عن عقيدته وقوميته, وعن عروبته وإسلامه, وينتقد العيوب والأخطاء التي تقع هنا وهناك. ولم يطق الوالي العثماني كل ذلك فعطل (الشهباء) لأن الكواكبي كان يكتب في نقد الاستبداد ويهاجم المستبدين ويعرض بالسلطان عبد الحميد من قريب أو من بعيد.. وهو السلطان الذي كان المنافقون ينعتونه بأوصاف لا تليق إلا بالخالق جل جلاله, مثل قولهم عنه (ملك الملوك) و (الذات الأقدس) و (باني الدنيا والسلطان الأعظم).

وكان لابد في ظل الحكم الاستبدادي أن يطارد الكواكبي من بلد إلى بلد, حتى وصلت قدماه أرض مصر. ومنذ تلك اللحظة فكر في تصوير ظلم الأتراك واستبدادهم. فأخذ يكتب مقالات بعنوان (طبائع الاستبداد). والحق إن كل كلمة فيها كانت انعكاسا لجور السلطان عبدالحميد وبطانته الفاسدة, مستوحاة مما عاملوا به الأحرار الذين كانوا يهتفون بالوحدة العربية الشاملة.

الحملة ضد الظلم

يقول الكواكبي: (الاستبداد داء أشد وطأة من الوباء. أكبر هولا من الحريق. أعظم تخريبا من السيل. أذل للنفوس من السؤال. داء إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي: القضاء.. القضاء. لقد اتبع الاستبداد تسمية النصح فضولا, والغيرة عداوة, والشهامة عتوا, والحمية جنونا. والإنسانية حماقة, والرحمة مرضا, واعتبر النفاق سياسة, والتحايل كياسة, والدناءة لطفا, والندامة دماثة.)

استمرت حملة الكواكبي ضد الظلم. وبعد إحساسه بما ترك في النفوس من كراهية فوق كراهيتها للاستبداد العثماني, أخذ يفكر طويلا في طريقة يعالج بها ما أصاب العالم العربي من فتور الهمة والتخاذل. وبرغم ترفع الكواكبي عن التعصب الممقوت, وبرغم إيمانه بالديمقراطية في الحكم وكل شئون الحياة, فقد كان في كل سطور كتابه يدعو إلى وحدة ليست بريئة من الأساس الديني, ويرجع ذلك لشدة كراهيته لحكام آل عثمان الخاضعين للاستعمار الأوربي الزاحف على العرب. فكان يريد خلافة جديدة تكون عربية وليست تركية, لأن الخلافة منذ وجدت كانت عربية, ويجب أن تعود إليهم.

لقد كان الكواكبي يكشف للأمة مواطن القوة ومواطن الضعف. ويدعو للصحو واليقظة والتمسك بالحق. هو يلحظ أيضا الظلم القائم على فطرة الإنسان. فالنظام الطبيعي في عالم الحيوان ـ حتى في السمك والهوام إلا أنثى العنكبوت ـ أن النوع الواحد منها لا يأكل بعضه بعضا, على حين أن الإنسان يأكل الإنسان, والإنسان كثيرا ما يخطف اللقمة من فم أخيه, والرزق من يد صاحبه, على حين أن الحيوان يلتمس الرزق من مورده الطبيعي.

السم في الدسم

تركت فصول (طبائع الاستبداد) أثراً عميقاً في نفوس العرب جميعا.. أحس به المسئولون في تركيا, فسعوا للانتقام من كاتبها, حتى أفلحوا آخر الأمر بأقسى صورة وحشية. فقد تكالبت الذئاب على الكواكبي, ليس من السلطان عبد الحميد فقط, ولكن أيضا من تجمع الغاشمين الذين ظلوا مع الأيام يلاحقونه حتى بعد أن ترك لهم حلب بالاضطهاد والتنكيل والدسائس وتكرار اتهامهم له وسجنهم إياه. وكان أبرز أعدائه الذي أقسم للسلطان أن يخلصه منه, هو عارف باشا والي حلب الذي راح يعدد سيئاته وينقم عليه تصرفاته ويدس له عند من يأوي إليهم, ثم زور عليه أوراقا اتهمه فيها بأنه كان يسعى لتسليم حلب لدولة أجنبية, وعمل على سجنه وطلب محاكمته. وظل السلطان يتربص به الدوائر لكثرة ماكان يكتبه الكواكبي أو يبثه من نقد وتحريض بالمفاسد والعيوب, وما كان يبثه من أفكار حرة تثير في القوم النخوة والعزة والإباء وتذكرهم بعقيدتهم عقيدة السيادة والقيادة. وفي صيف عام 1902 مات السيد عبدالرحمن الكواكبي.. مات مسموما بالسم في الدسم بأيدي الطغاة من أعدائه.. ولكن صوته الجهير بقي يتردد دافعا إلى الحرية والعزة.

 

سليمان مظهر
  




الكواكبي