جمال العربية

جمال العربية

"الغد"
للشاعر إبراهيم ناجي

على الرغم من شاعرية ناجي ومكانته في الحركة الشعرية الرومانسية التي كانت جماعة أبولو عنوانا عليها, فإنه لم تتح له الشهرة الحقيقية إلا بعد أن تغنت أم كلثوم بمقاطع من قصيدته الأطلال, أضيف إليها مقطعان من قصيدة "الوداع".

وأتاح اللحن الجميل الأخاذ الذي وضعه رياض السنباطي والأداء المعجز لمعجزة الغناء العربي ـ أتاح لكلمات ناجي دورانا على كل لسان ورغبة جامحة في قراءة ناجي والتعرف على آثاره الشعرية. وقد سبق تلحين "الأطلال" لحن أبدعه الموسيقار محمد عبد الوهاب لمقاطع من قصيدة ناجي "الخريف" وسمى أغنيته "القيثارة" لتكون التسمية أكثر ملاءمة لروح الغناء, لكن أغنية القيثارة لم تنجح في جذب الاهتمام إلى شعر ناجي بالمقارنة إلى التأثير الهائل لأغنية الأطلال. وأتيح لناجي أن يخرج من الدائرة الضيقة التي كان ذكره مقصورا عليها ـ من الأدباء والنقاد والمهتمين بالشعر ـ إلى الجمهور العريض في كل مكان. واستراحت أخيرا روح ناجي التي رحلت عن عالمنا في الرابع والعشرين من مارس سنة 1953, فقد بدأت الأقلام تعكف على إبداعه الشعري دراسة وتأملا وتحليلا, وبدأ عشاق الطرب الأصيل يتخيرون من بين قصائده أكثرها ملاءمة للغناء, وكأن المتغنين بشعره يراهنون على الفوز بأطلال جديدة تذيع كما ذاعت الأطلال الأولى ويكتب لها من النجاح والذيوع ما كتب للأطلال, وسرعان ما بدا شعر ناجي في مرآة شعراء جماعة أبولو, على محمود طه ومحمود حسن إسماعيل والهمشري وغيرهم, باعتباره أكثر امتلاء بالحزن والشجن والانكسار, وأعمق تصويرا لحالات النفس الإنسانية حيرة وتقلبا وشكا واغترابا, وأدق افتنانا في تجسيد اللحظة الشعرية وتجسيم الحالات النفسية, من خلال انسياب موسيقاه وتدفق إيقاعاته وجيشان شحنته العاطفية.

كانت لغة ناجي المرهفة تفتح لشعره قلوب قارئيه, وكان خياله المحلق يفتن قراءه ومتأمليه, وكانت تجاربه المحيطة تثير موجات من التعاطف مع هذا الشاعر الذي عاش "وراء الغمام" وتصعلك طويلا في "ليالي القاهرة" وكان "الطائر الجريح" الذي ينزف قطرات من دمه الزكي كلما هزته قيثارة الألم وأشجاه المقعد الخالي وتقلب طويلا بين الظلام والحيرة والشك والفراق والسراب.

بوسع قارىء شعر ناجي أن يرسم له صورة من الضعف الإنساني, والشعور المرير بالوحدة والاغتراب, والتوقع القلق للمزيد من المحن واللحظات المفجرة للحزن والأسى. ويسهم في تجسيد هذه الصورة امتلاء شعره بالمقطوعات القصيرة ـ قد تكون من بيتين أو ثلاثة ـ تعبر عن مطاردات ناجي وغزلياته السريعة العابرة في جو صالونات القاهرة ولياليها الصاخبة, وملاهيها التي كان يرتادها ناجي ضمن فرسان الليل من الشعراء والفنانين والكتاب, والباحثين عن الشهرة, والساهرين لكي يكتبوا في الغد وقائع ما حدث بالأمس. وكان ناجي بين هؤلاء جميعا ـ بخفة ظله ورشاقة حركاته وتنقله من مشهد إلى مشهد ومن واحدة إلى أخرى ـ يستقطب الاهتمام, تسعده الكلمة والنظرة, ويشقيه إخلاف الموعد, ويفجعه اكتشاف الخيانة والغدر, ويقتله ـ في النهاية ـ إحساسه بالمهانة والخيبة والخروج من وليمة الليل صفر اليدين:

وهذه القصيدة التي نتخيرها من شعر ناجي, هي واحدة من أكثر آثاره الشعرية دلالة على فنه, وعلى لغته الشعرية المتميزة, وعلى مزاجه النفسي. وقد وقع عليها الاختيار ـ شأن قصائد أخرى ـ للغناء, فكانت نغمة جديدة في قيثارة الغناء العربي المعاصر, لحنا وأداء. وناجي يمضي فيها على نهجه المفضل في معظم قصائده وهو قالب الرباعية الشعرية, كل رباعية لها قافيتها, لكن القصيدة كلها ينتظمها بحر شعري واحد ونغم موسيقي متسق, وتتوهج أبياتها باللوعة التي تلفحنا دوما كلما اقتربنا من شعر ناجي حرارة وزفيرا. فالشاعر يشتري الأحلام في سوق المنى ويبيع العمر في سوق الهموم, وهو في بعد حبيبه مفقود الهدى, يستشعر الضياع, ويعشو إلى نور كريم, وعندما تتملكه نشوة الفرح فإن علينا أن نجلو حقيقة الأمر, وليست إلا طائفا من خبل وجنون, يجعله يذم النور ويذم الليل حتى يتلاشى هذا ويتوارى ذاك, فأي ضياع هذا وأي اضطراب?

إن القصيدة كلها حوار بين الشاعر وقلبه, حوار يبحث فيه عن جنان الخلد وعن النور الذي يؤمله في معبدهداه, وعن القيثار الذي يسكب على نغماته دموعه حتى يفيق من وهمه وخيالاته, وتنتهي القصيدة بهذه الحيرة الطاغية والقلق الممزق واللوعة المهلكة, إنه ينشد الضلال بديلا للعقل والحكمة والاتزان, ويرجو زوال الأنوار عنه عله يجد الرحمة في جوف الليالي, وهو يأمل أخيرا أن يساعده الشوق على أن يستدني الغد ويقربه فالغد بعيد, بُعد الآباد الطويلة والأزمنة المترامية.

يقول ناجي في قصيدته "الغد" التي يضمها ديوانه الأول "وراء الغمام":

يا حنانا كيد الآسي الرءوم

وشعاعا يُشتهى بعد الغيوم

أنا في بعدك مفقود الهدى

ضائع أعشو إلى نور كريم

أشتري الأحلام في سوق المنى

وأبيع العمر في سوق الهموم!

لا تقل لي في غد موعدنا

فالغد الموعود ناء كالنجوم!

***

أغدا قلت؟ فعلمني اصطبارا

ليتني أختصر العمر اختصارا

عبرت بي نشوة من فرح

فرقصنا أنا والقلب سكارى

وعرانا طائف من خبل

فاندفعنا في الأماني نتبارى

سنذم النور حتى يتلاشى

ونذم الليل حتى يتوارى!

انفردنا أنا والقلب عشيا

ننسج الآمال والنجوى سويا

فركبنا الوهم نبغي دارها

وطوينا الدهر والعالم طيا

فبلغناها وهللنا لها

ونزلنا الخلد فينانا نديا

ولقينا الحسن غضا والصبا

وتملينا الجلال الأبديا

***

قال لي القلب: أحقا ما بلغنا؟

كيف نام القدر الساهر عنا؟

أتراها خدعة حاقت بنا؟!

أتراها ظنة مما ظننا؟

قلت: لا تجزع فكم من منزل

عز حتى صار فوق المتمنى

أذن الله به بعد النوى

فثوينا واسترحنا وأمنا!

***

يا جنان الخلد قدمت اعتذاري

إذ يطوف الخلد سقمي ودماري

أيها الآمر في ملك الهوى!

اعف عن لهفة روحي وأواري

أشتهي ضمك حتى أشتفي

فكأني ظامىء آخذ ثاري!

غير أني كلما امتدت يدي

لعناق خفت أن تؤذيك ناري!

***

أيها النور سلاما وخشوعا

أيها المعبدصمتا وركوعا

ملكت قلبي ولبي رهبة

عصفت بالقلب واللب جميعا

رب قول كنت قد أعددته

لك إذ ألقاك يأبى أن يطيعا

وحبيس من عتاب في فمي

قد عصاني فتفجرت دموعا!

***

لذعتني دمعة تلفح خدي

نبهتني من ضلال ليس يجدي

واختفت تلك الرؤى عن ناظري

وطواها الغيب في سحري بُرد

وتلفت فلا أنت ولا

جنة الخلد ولا أطياف سعد

وإذا بي غارق في محنتي

وبلائي, أقطع الأيام وحدي

***

هات قيثاري ودعني للخيال

واسقني الوهم! وعلل بالمحال!

ودع الصدق لمن ينشده

الحجى خصمي فاغمر بالضلال

وخذ الأنوار عني, ربما

أجد الرحمة في جوف الليالي

خلني بالشوق أستدني غدا

فغد عندي كآباد طوال!

 

 

فاروق شوشة