التنظيم الإسلامي للبورصات عبدالرحمن زكي

التنظيم الإسلامي للبورصات

"البورصة" اسم فرض نفسه على جميع اللغات. منها ما هي سوق للأوراق الآلية، ومنها ما هي سوق للتعامل في نوع معين من البضائع، ولا يتم التعامل في هاتين السوقين في عمليات عاجلة أو آجلة فقط ولكن يتم التعامل أيضاً على بضائع غير موجودة فيهما. فكيف ينظر الإسلام إلى "البورصات"؟

تعد بورصة الأوراق المالية سوقا منظمة لتداول الأسهم والسندات. وتمثل هذه الأسهم والسندات أموالا مادية موظفة في الإنتاج ويتم في السوق تداول حقوق الملكية بصفة مستقلة عن مجرى العملية الإنتاجية. وتؤدي هذه البورصة عدة فوائد منها أن باستطاعة حائز الأوراق المالية أن يعرف ثمنها من يوم لآخر من الاطلاع على تسعيرة البورصة، كما أنه يمكن تحويل الأوراق المالية إلى نقود أو العكس في أي وقت. هذا بالإضافة إلى سهولة قبول الدائنين للأسهم والسندات كضمان لقروضهم. وأخيراً فإن الأموال الموظفة في أصول ثابتة (آلات - مبان - أراض) تصبح أموالا سائلة جزئيا أو كليا وفي أي وقت دون الحاجة إلى تصفية هذه الأموال الثابتة. ذلك أن البورصة تسبغ على استثمارات ثابتة بطبيعتها طابعا سائلا. ولا يخفى ما في ذلك من تشجيع على توظيف الأموال.

ويتم تداول الأسهم والسندات في البورصة على صورتين: عمليات عاجلة أو نقدية، وعمليات آجلة. فأما الأولى فهي التي تسوي فورا أو في ظرف 48 ساعة على الأكثر حيث يدفع المشتري الثمن ويسلم البائع الأوراق. وهذه العمليات بيع وشراء حيث يحل مشتري أسهم الشركات محل المالك الذي باع هذه الأسهم كما يحل مشتري السند محل مالكه الذي باعه إياه. وبيع وشراء أسهم الشركات مباح. أما تداول السندات فلا يجوز لأنها تمثل قروضا ذات فائدة ثابتة ربوية.

والعمليات الآجلة تتضمن اشتراط ميعاد معين لتسليم الأوراق المالية موضوع التعامل ودفع ثمنها. وهي تعتبر من أعمال المضاربة التي غالبا مالا تتوافر فيها نية التسليم أو التسلم. فالمشتري لأجل يأمل أن يرتفع السعر قبل انقضاء الأجل فيعيد بيع ما اشتراه ويحقق الفرق بين السعرين ربحا. كذلك البائع لأجل يأمل أن يهبط الثمن خلال الأجل فيعيد شراء الأوراق المالية بأسعار مجزية. والعقود الآجلة التي كان يجري التعامل عليها في بورصة الأوراق المالية بمصر حتى عام 1952 كانت تتم تسويتها بالاقتصار على دفع فروق الأسعار دون تسليم فعلي للأوراق المتعامل عليها. ولا تعتبر هذه المعاملات من عقود السلم لأنه ينقصها أحد أركان عقد السلم وهو نية تسليم المبيع. والسلم هو بيع شيء موصوف في الذمة بثمن معجل. ومشروعية السلم مطابقة لمقتضى الشريعة ومتفقة مع قواعدها وليست فيها مخالفة للقياس، لأنه كما يجوز تأجيل الثمن في البيع يجوز تأجيل المبيع في السلم من غير تفرقة بينهما.

والسلم هو أن يسلم عوض حاضر في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، ويسمى سلما أو سلفا. وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع. ويعتبر فيه من الشروط ما يعتبر في البيع. وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع. وللسلم شروط لا بد أن تتوافر حتى يكون صحيحا، وهذه الشروط هي:

(أ) أن يكون رأس مال السلم (الثمن) معلوم الجنس والقدر، وأن يسلم قبل الافتراق من مجلس العقد.

(ب) أن يكون المسلم فيه (المبيع) في الذمة، وأن يكون موصوفا بما يؤدي إلى العلم بمقداره وأوصافه التي تميزه عن غيره، كي ينتفي الغرر وينقطع النزاع.

(ج) أن يكون الأجل معلوما.

وللتوضيح نذكر أن العمل في بعض بورصات الأوراق المالية يجري حينما يتقدم العميل للبنك الذي يتعامل معه - أو السمسار الخاص به - بطلب شراء أو بيع، ولا يدفع من الثمن عند الشراء إلا نسبة معينة قد تكون 25% أو 30% أو أكثر من ذلك أو أقل حسب شروط التعامل. وكذلك عند البيع فإنه يدفع نفس النسبة بدلا من أن يقبض الثمن لأنه بيع ما ليس عنده ولأنه ليست هناك نية لتسليم المبيع. فإذا كانت العملية عملية شراء أوراق مثلا لأجل شهرين، فإن المشتري ينتظر ارتفاع السعر في بحر شهرين وقبل ميعاد التسليم يقوم ببيع نفس العقد فيحصل على فرق السعر أو يخسر هذا الفرق أو يقوم بتأجيل استحقاق العقد ويقبض فرق السعر أو يدفع الخسارة. وتسمى عملية الشراء الأولى مضاربة على الصعود وهي شراء أوراق انتظارا لارتفاع الأسعار فيبيعها ويكسب الفرق بين سعري الشراء والبيع دون تسلم أو تسليم السلعة التي يتم باسمها التعامل. كما تسمى عملية البيع - في حالة عدم وجود أوراق مالية للتسليم - مضاربة على النزول لأن البائع ينتظر هبوط الأسعار ليشتري نفس العقد ويقبض الربح. والواقع أن كثيرا من الحكومات تمنع العمليات الآجلة في سوق الأوراق المالية أو توقفها في ظروف معينة، منعا للمضاربات والتأثير المصطنع على الأسعار.

وهكذا نجد أن المشتري في بعض العمليات الآجلة للبورصة يدفع جزءا من الثمن فقط، وقد اشترط الفقهاء لصحة عقد السلم دفع الثمن كله في مجلس العقد لأن المبيع موصوف في الذمة، فإن كان الثمن بعضه أو كله في الذمة كان من قبيل بيع الكالئ بالكالئ، وهو ممنوع شرعا حيث جاء في الحديث نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ. وفسره جميع المجتهدين بأنه بيع الدين بالدين أو المؤجل بالمؤجل. ولذلك نجدهم يشترطون في عقد السلم أن يتم قبض السلم رأس مال في مجلس العقد خروجا عن بيع الدين بالدين لأن السلم فيه دين مؤجل أيضاً. فإذا لم يقبض راس مال السلم في مجلس العقد، كان العقد باطلا لأنه بيع دين بدين. وقد نهي الشارع عنه.

وقياسا على ما سبق، يعتبر عقد التأمين بيع دين بدين، لأن المستأمن يتعهد فيه بدفع أقساط التأمين وهي دين في ذمته لأنه لا يدفعها في مجلس العقد، بل يدفعها بعد العقد على أقساط دورية في مقابل تعهد شركة التأمين بدفع مبلغ التأمين، وهو دين في ذمة شركة التأمين أيضاً. وعليه فإن هذا العقد بيع دين بدين فبطل شرعا.

بورصة البضائع

هي سوق كاملة تتخصص في بيع وشراء سلعة واحدة متجانسة. ويتم فيها التعامل في صورة عمليات عاجلة وتسمى في هذه الحالة بورصة البضاعة الحاضرة. كذلك يتم التعامل في صورة عمليات آجلة، وتسمى السوق في هذه الحالة ببورصة العقود.

وفيما يختص بالتعامل على الصفقات العاجلة فإنه بيع وشراء مع التسليم فورا، وهذا جائز ولا شبهة فيه. أما العمليات الآجلة فهي جائزة شرعا إذا توافرت فيها شروط عقد السلم التي ذكرناها سابقا. وإذا قام بعض الأشخاص بشراء كمية من السلعة في بورصة العقود ثم يبيع هذه الكمية أيضاً بعقد دون تسليم للمبيع كما كان يحدث في بورصة العقود بمصر حتى عام 1952، فيكون ذلك من قبيل بيع ما لم يقبض، وذلك ممنوع شرعا للأسباب التالية:

(أ) أن التصرف بالبيع قبل القبض لا يجوز، إذ يحتمل أن يكون المبيع قد هلك عند البائع الأول فيكون بيع غرر. وبيع الغرر غير صحيح سواء أكان عقارا أم منقولا وسواء أكان مقدرا أم جزافا لما رواه أحمد والبيهقي وابن حبان بإسناد حسن أن حكم بن حزام قال: يا رسول الله أني اشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه.

(ب) أن البائع إذا باع السلعة ولن يقبضها المشتري فإنها تبقى في ضمانه. وعليه إذا هلكت كانت خسارتها عليه دون المشتري. فإذا باعها المشتري في هذه الحال وربح فيها كان رابحا لشيء لم يتحمل فيه تبعة الخسارة. وفي هذا يروي أصحاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ربح ما لم يضمن.

(جـ) أن المشتري الذي باع ما اشتراه قبل قبضه يماثل من دفع مبلغا من المال إلى آخر ليأخذ في نظيره مبلغا أكثر منه، إلا أن هذا أراد أن يحتال على تحقيق قصده بإدخال السلعة بين العقدين فيكون ذلك أشبه بالربا. وقد فطن إلى هذا ابن عباس رضي الله عنهما. وقد سئل عن سبب النهي عن بيع ما لم يقبض فقال "ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ" وهنا نود أن نذكر أن هذا ليس خاصا بالطعام وحده بل يشمل الطعام وغيره كالقطن والكتان وأمثالهما لأنه لا فرق بينهما من هذه الناحية.

ولا شك أن المضاربات التي تجري في تلك البورصات غالبا ما تتخذ شكل المقامرة، فهي تتطور بفعل المصالح الفردية البحتة وبوسائل ممقوتة، وغير مشروعة للتأثير على اتجاه الأسعار. وهذا الشكل يؤدي إلى الإخلال بموازين الأسعار ويجعل البورصة أقرب إلى ناد للميسر يؤمه المقامرون ويقصدون من ذلك الانتفاع من تقلبات الأسعار المفتعلة هبوطا أو ارتفاعا.

وإذا عدنا إلى حكم الإسلام في مثل هذه المعاملات الآجلة نجد أن يحرمها تحريما قاطعا منعا للضرر بالناس والغرر، حيث نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع المرء ما ليس عنده، كما جاء في قوله لحكم بن حزام: لا تبع ما ليس عندك. كذلك نهى الرسول صلوات الله وسلامة عليه عن النجش. والنجش هو الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها. وقد سمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم. وقد يقع ذلك بغير علم البائع فيختص بذلك الناجش. ويرى بعض الفقهاء - ومنهم الأحناف والشافعية - عدم جواز البيع مع السلف أو القرض. والبيع مع السلف أن يبيع منه شيئا ليقرضه أو يؤجله في الثمن ليعطيه على ذلك ربحا. والعلة في عدم الجواز هي الربا لأنه جعل الأجل في الثمن مقابلا بالزيادة فيه صراحة فهي زيادة في الدين بغير عوض، وهو معنى الربا. وفي الحالات الأخرى يحتال على الربا في القرض ببيع شيء بالمحاباة في ثمنه مقابل القرض.

والخلاصة أن التنظيم الإسلامي للبورصات يقتضي أن ينطبق على العقود الآجلة في كل من بورصتي الأوراق المالية والبضائع أركان عقد السلم من أنه بيع شيء معلوم إلى أجل معلوم مع توافر أهم أركان عقد السلم وهو نية تسليم المبيع. ويجب على الحكومات الإسلامية أن تخصص أجهزة رقابة على الشركات التي تتعامل في البورصة حتى لا يتلاعب رؤساؤها أو مديروها في الميزانيات فيؤثروا على الأسعار في البورصة ويستفيدوا هم وأتباعهم من فروق الأسعار. هذا بجانب أحكام الرقابة على المتعاملين في البورصة بصفة عامة حتى لا يحدث تلاعب بها وبالتالي تستطيع تلك الأسواق أن تؤدي دورا فعالا كجهاز للتمويل والاستثمار.

 

عبدالرحمن زكي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات