قصة من جنوب إفريقيا: المقعد نوال راجي

قصة من جنوب إفريقيا: المقعد

تأليف : ريشارد ريف

توقف الخطيب برهة وشرب جرعة ماء. وكان كارلي قد سمعة بإذن مرهفة لأنه كان يقول كلمات نبيلة وصادقة، ثم تنسم الهواء لأن شمس نوفمبر اللافحة كانت تجثم على الجموع المصغية، ولم تكن الأشجار لتلقي غير الظلال فوق المساحة الكبيرة في جوهانسبرج، بينما كان المنديل الذي جعله كارلي بين عنقه وياقة القميص ينضح بالماء، وأجال كارلي عينيه في هذا الخضم من الوجوه التي تحف به. كانت وجوها من كل لون: أبنوسا لامعا وسط شحوب وجهين أو ثلاثة بيضاء منبثة بين الجموع.

وحدج كارلي الرجلان اللذين يكتبان أثناء إلقاء الخطب من حين لحين كان الرجلان يرفعان رأسيهما ليتفحصا الخطيب: (نحن ننكر حق كل جماعة في أن تحكم راضية متعمدة جماعة مستعبدة، إن علينا أن ندافع عن حقوق كل شعب يرى نفسه محكوما عليه بالتفرقة لأسباب عنصرية لونية، وأن نرفض وراثة أبنائنا للحقوق التي أريد لها أن تكون لنا، أننا ضحايا التفرقة العنصرية في ميدان التعليم وفي المجال الاجتماعي والمجال الاقتصادي).

وسأل كارلي نفسه: هذا رجل يعرف ما يقول، إنه يقول بأنني أساوي قيمة أي إنسان آخر وربما كنت أغلى من أبيض، هذا أمر يدعو إلى التأمل حقا، وإني لأتساءل أن كان يقصد أن لي الحق في الذهاب إلى أي سينما والأكل في أي مطعم أشاء وإرسال أبنائي إلى مدرسة البيض؟ إن هذه أفكار خطيرة تستحق التأمل ترى ما يكون رأي أوكلاس في كل هذا؟ فأوكلاس يقول إن البيض سيظلون دائما سادة، والسود سيبقون عبيدا مسخرين، لكن هذا الخطيب يتكلم بشكل آخر وكلماته تدوي صادقة عادلة. ورمش كارلي مفكرا، وكان على المنصة خطباء كثيرون، سود وبيض يتصرفون كما لو أنه لم يكن بينهم أي تمييز.

كل هذه الأشياء كانت جديدة على فكر كالي، وكان عليه أن يكون على حذر في تقبلها، ولم لا يتقبلها؟ فهو ليس رجلا ملونا بل إنسان كما قال آخر الخطباء، وإنه ما فتئ يذكر أنه رأى على الجرائد صورا لأناس تحدوا قوانين التفرقة العنصرية وهم يبتسمون برغم أنهم كانوا مسوقين إلى السجن. لله ما أعجب الحياة.

ووالى الخطيب كلامه وكارلي يصغي باهتمام وتصميم، كان يتكلم بهدوء يمكن أن يستشف منه أنه خطاب هيئ على مهل، وفكر كارلي: (هذا رجل عظيم).

وكان آخر الخطباء امرأة بيضاء ترتدي فستانا أزرق، وكانت تدعو لمتجمهرين غلى أن يشجبوا كل قانون يرمي إلى التفرقة، وأن يسعى لتحقيق هذه الدعوة كل واحد حسب إمكاناته فلماذا كانت تتكلم هكذا؟ إن في مقدورها أن تذهب إلى أحسن دور السينما وتسبح في أرقى المسابح.

وانتهى الجمع فشق كارلي لنفسه طريقا وسط الجموع بينما كانت أقوال الخطباء تدور في رأسه، أن هذا الذي سمعه لم يكن ليحدث في جوهانسبرج فهل هذا صحيح؟ ودوي فرامل سيارة بجانبه فأعاده إلى دنيا الناس من جديد، واشرأب وجه أبيض حانق:

- أنظر إلى حيث تضع قدميك أيها الزنجي القذر وسدد كارلي النظر إليه في بلاده، أكيد أن هذا الأبيض لم يستمع إلى الخطباء منذ حين ولم ير السيدة البيضاء وهي تمنح لكسلي سيجارة، لو رآها لصبت في وجهه كلماتها تلك وقال في نفسه:

"الآن من الأحسن أن أتجه إلى القطار وأواصل التفكير في كل هذه الأشياء" ونظر إلى المحطة نظرة جادة، فأبصر بها كوكبة من الناس بيضاً وسمرا مثله مجتمعين، لكن كلا منهم كان يشعر بخوف غير طبيعي من الآخر ويحذره، كل منهم كان سجين عالمه الصغير الضيق الموسوس، ألم يقل الخطيب إن علينا أن نحبط كل هذا النوع من التفكير، كل حسب وسائله؟ لكن ما هي هذه الوسائل؟ وكيف يمكن أن نثبط تلك الأفكار؟ وغمر ذهنه ذا التساؤل الملحاح، وعلى غرة أصر على التحدي وهو يلمح ضالته. مقعد المحطة وقد صبغت فوقه بالحروف البيضاء جملة (خصا بالأوربيين) ولمدة من الزمن بدا له أن هذا التحدي يجسد مجتمع إفريقيا الجنوبية المتمايز بأجمعه.

هنا إذن تحدي كارلي: تحديه الذي يؤكد حقوق الإنسان، إنه مجرد مقعد خشبي عادي يشبه مئات الملايين في إفريقيا الجنوبية، لكن هذا المقعد يجسم الآن جميع شرور نظام لا يعرفه ويحس أنه ضحيته، إن هذا المقعد يحول الآن بينه وبين الإنسانية، فإذا اقتعده حقق إنسانيته وإن لم يفعل فقد فصم نفسه كإنسان عن المجتمع الإنساني، وراوده شعور باطني بأنه سيقلب كل هذا الوضع القاسي في إفريقيا الجنوبية فقط بجلوسه على هذا المقعد، إن هذه تجربته الخاصة فليجهر بتحديه.

وكان مظهره هادئا تماما حينما جلس، لكن قلبه كان يضرب بعنف، ففي أعماقه أن يتصارع صوتان متناقضان أحدهما يقول: (ليس لك الحق في أن تقتعد هذا المعقد) والآخر يجب: (ولم لا يكون لك الحق في الجلوس على هذا المقعد؟)، الصوت الأول كان يتحدث عن الماضي وسلوكه العبودي في الحقل، سلوكه وسلوك أبيه وجده اللذين ولدا سودين وعاشا عيشة السود وماتا كالعجماوات، والصوت الآخر كان يتحدث عن الآفاق الجديدة: (كارلي أنت رجل، لقد استطعت القيام بشيء لم يستطعه من قبلك جدك ولا أبوك، وستموت كرجل).

وتناول كارلي سيجارة وشرع يدخن، وغاظه قليلا ألا يكون أحد قد لاحظ جلوسه على المقعد، لقد كان رجلا كبقية الناس يجلس على مقعد عمومي في محطة غاصة ويدخن سيجارة، فهل هذا يعد نصرا؟ وهل يعد انتصارا أن كان إنسانا كالآخرين؟ ورأى امرأة بيضاء أنيقة تسير على الرصيف فتساءل في نفسه: ترى هل ستجلس على المقعد؟ ثم تابع تساؤله: (عليك أن تفق وتترك مقعدك للسيدة البيضاء) ورمشت عيناه بسرعة وشد أكثر على سيجارة، ومرت المرأة حذاءه دون أن تعيره التفاتة وتابع مسيرها على الرصيف، فهل خشيت أن تتحداه؟ أن تتحدى حقه في أن يكون إنسانا؟ وأحس أنه متعب، وانبعثت في أعماقه فكرة ثالثة جعلت كل شيء فيه محط تساؤل : ( إنك تقتعد هذا المقعد لأنك متعب ) فهو تسمر في موضعه لما به من إعياء أو لأنه أراد أن يختبر إن كان في قدرته الجلوس حيث يحلو له؟.

بدأ الناس ينزلون زرافات من قطار دخل اللحظة المحطة وهم يتدافعون ويتزاحمون دون أن يعبأ أحدهم بوجوده، أنه القطار الذي ينتظره وإن بوسعه أن يركبه ويدخل منزله، لكن هذا يعني أنه سيستسلم ويرضى بالهزيمة ويعدل عن تحديه فيكون بالتبعية قد قبل أن يكون غير إنسان، فمكث جالسا يجذب نفسا من سيجارته ويفكر نائيا عن التجمع وعن المقعد، كان يفكر في بيتجسفلي وفي أوكلاس الذي أصر على ذهاب كارلي إلى كاب تو، أوكلاس الذي أصر على ذهاب كارلي إلى كاب تو، أوكلاس الذي كان يداعب غليونه وينظر إليك باستهزاء، كان يعرف حكيما يعرف أشياء كثيرة ويقول إنه يحب الذهاب إلى كاب تو لمعرفة معنى الحياة، أوكلاس كان يبصق ويغمز بخبث عندما يتكلم عن النساء اللائي عرفهن في شارع هانوفر، وكان يقول : إن الله خلق البيض والسود فعلى كل منهم أن يلزم مكانه.

- انهض من هنا.

- لم يسمع كارلي الصوت الخشن.. وواصل أفكاره :

هناك أوكلاس ينتظر الآن في المراعي ليحمل إليه كأسه الصغيرة من الخمر المناسب الثمن.

- أقول لك قف من هنا أيها القذر.

واستعاد كارلي على الفور وعيه وكاد يثب على قدميه لكنه تذكر من هو ولماذا كان يجلس في ذلك المكان، وشعر بغتة أنه متعب حقا ثم رفع عينيه ببطء إلى الوجه القرمزي الذي يحدق فيه.

- قف، إن هناك مقاعد لك.

- لم ينبس كارلي وظل محتفظا بنظرة باردة صارمة.

- ألا تسمع أنني أحادثك أيها الأسود القذر.

وفي هدوء وتعمد جذب كارلي نفسا من سيجارته. وتبادلا نظرات التحدي كأنهما ملاكمان يعرفان أنهما سيتلاكمان لكن كلا منهما يحتفظ بعدم المبادرة.

- هل يجب أن ألوث يدي بلمس قذارة مثلك؟

لم يجب كارلي. إن الكلام معناه قطع التوتر السحري للحظة وتحطيم تعاليه الذي يحس أنه يزداد.

وبعد صمت محرج قال الرجل :

- سأنادي شرطيا لئلا ألمس حقيرا مثلك، إني أرى أنك لا تقوى حتى على فتح فمك النجس الأسود حين يكلمك أبيض. وفهم كارلي ضعف الرجل الأبيض الذي لا يقدر على التصرف بمفرده، لقد ربح كارلي الشوط الأول، وأخذ الناس يتجمهرون، فصاح أحد المدعين:

- إفريقيا معنا

إن كارلي يجهل هذا وتحلق الناس حوله مشدوهين من رؤية الأسود يجلس على مقعد خاص بالبيض.

وتابع كارلي تدخينه.

- انظروا إلى هذا القرد، أن هذه هي مغبة إطلاقنا العنان لهؤلاء الأوغاد.

- لا أعرف معنى لهذا التصرف، أن لهم مقاعدهم.

- لا تقم، إن من حقك أن تجلس حيث أنت.

- سينهض حتما حين يصل الشرطي.

- لكن لم لا يقدرون على الجلوس معنا؟

- لقد كنت أقول هذا دائما، كانت عندي خادمة زنجية بسفاهتها..

ولبث كارلي جالسا لا يسمع شيئا، وبعد تردد اتخذ موقفا محددا: لا شيء يرغمه على الوقوف، فليعملوا ما يطيب لهم.

- آه. هو ذا. قف. ألا تعرف القراءة؟

وغطاه الشرطي بكامل هيأته حتى إن كارلي كان يستطيع رؤية الإشارات الموضوعة على أزرار بذلته الرسمية، ورؤية تجاعيد عنقه.

- اسمك وعنوانك؟ أسرع.

فواصل كارلي احتفاظه بالصمت العنيد، وأحس الشرطي أنه مأخوذ بموقف الرجل. وطفقت الجموع تتكاثر، وسمع المرأة البيضاء ذات الفستان الأزرق تصيح:

- ليس لك الحق في أن تكلم الرجل بهذه اللهجة.

- تدخلي فيما يعنيك، سأطلب رأيك حين أكون في حاجة إليه، أن بسبب أمثالك أخذ الأوغاد يعتقدون أنهم سواسية والبيض. قف

- إني ألح على معاملته باحترام.

فامتقع لون الشرطي الإنجليزي وغمغم دون أن يحد الكلمات المناسبة.

- نعم ... نعم....

وصرخ أحدهم:

- اضرب هذا النذل إذا رفض الوقوف.

وبقسوة وضع رجل أبيض جماع يده على كارلي.

- قف يا قذر.

فاستدار كارلي ليقاوم ويتشبث بالمقعد، بمقعده، لقد كانوا كثيرين فشرع يضرب بوحشية لكنه أحس بضربة مؤلمة ملء وجهة، وأخذ دمه يتدفق بينما ظلت عيناه شرستين فصمم على مواصلة المقاومة، وعلى الرغم من أن الشرطي أسرع بوضع الأغلال في يدي كارلي وبدأ في تفرقة المحتشدين فإن كارلي ظل يترنح مقاوما، بيد أنه فجأة تماسك وانتصب على مهل، لقد أحس أن من العبث أن يستمر في المقاومة، ولماذا يقاوم؟ لقد أطلق تحديه وكسب، والآن آن أوانه ليضحك إذ ما قيمة الباقي؟

- تعال أيها الحقير.

قالها الشرطي الإنجليزي وهو يدفع كارلي بين الجموع.

فأجابه كارلي وهو يفتح فمه للمرة الأولى:

- نعم ... نعم.

ونظر إلى الشرطي بكل إباء الرجل الذي استطاع أن يجلس على مقعد (خاص بالأوربيين).

 

نوال راجي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات