أنقذوا شعاب المرجان! رجب سعد السيد

أنقذوا شعاب المرجان!

ثمة فارق كبير بين أن ترى الشعاب المرجانية في صورة، أو على شريط ملون، وأن توجد قريبا منها، أو بداخلها... شعور خاص يتملكك بالقرب من موقع غني بالشعاب المرجانية المزدهرة. وإذا خضت في المياه الضحلة، أو سرت على قدميك بعد انحسار الماء عن الشاطئ في حالة الجزر، فإن حالة من الإشفاق تنتابك ، وتظل تتحسس مكان خطوك،- مخافة أن تطأ كائنا حيا هشا كشفته المياه المنسحبة.

تنظر حولك، فيأخذك الانبهار الشديد بأضخم عرض لتنوع أشكال الحياة يمكنك أن تجده في نظام بين واحد... عشرات الأنواع من النباتات والحيوانات البحرية، تسبح في محيط من الألوان المتداخلة في توافق مدهش، بعضها ساكن، وبعضها متحرك، وتؤكد، إن ما تراه جزء من الحقيقة الجميلة المسماة بالشعاب المرجانية!.. فثمة حيوات أخرى تستعصي على قدرات العين البشرية المحدودة أو غير المدربة، وثمة علاقات حياة تجري في الخفاء، أو تنتظر موجة المد القادمة لتكتمل لها ملامحها فتشكل صراعات وطرادات وتتم زيجات وولادات وينتظر الحتف كائنات تخفق في انتزاع التوافق مع هذا النسيج المعقد، فتسقط من منظومة الحياة.

هذه هي، في كلمات بسيطة، الشعاب المرجانية.. واحد من أجمل وأعظم ما يمتلك البشر من كنوز على سطح كوكبهم، ويجب ن نكمل - آسفين - فنقول: وواحد من أشد الأنظمة البيئية تعرضا للهلاك... فقد أكدت دراسة قام بها برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، خلال عقد الثمانينيات، أن الشعاب المرجانية في 93 دولة تتعرض لدرجات متفاوتة، وإن كانت مؤثرة، من التدمير والاستغلال الجائر، وأن معظم هذه الشعاب عرضة للهلاك خلال الخمسين سنة القادمة، إذا لم نغير أسلوب تعاملنا معها.

مستودعات للطبيعة الحية

ولا يأتي القلق على مستقبل- الشعاب المرجانية في العالم حرصا على قيمتها الجمالية فقط، فهي - لهذه القيمة- تمثل مناطق جذب سياحي، وهذا له مردوده الاقتصادي، وإن كان تنامي النشاط السياحي في بعض بقع الشعاب الحساسة يضيف عبئا بيئيا عليها. غير أن القيمة الحقيقية للشعاب المرجانية يراها علماء الحياة والبيئة في شدة تنوع الحياة فيها، أو بعبارة أخرى، هي من أضخم مستودعات الموارد الطبيعية الحية على سطح الأرض. ويكفي أن نشير إلى أنها، وبالرغم من مساحتها التي لا تزيد على 17،0% من مساحة القاع لبحار ومحيطات العالم، فهي الموطن لما يقرب من ربع أنواع الكائنات البحرية الحية. فلا غرابة أن يجد فيها بعض العلماء شبها ببيئة أرضية غنية، هي بيئة الغابات الاستوائية المطيرة.

ويحمل النظام البيئي للشعاب المرجانية آمالا عظيمة، ويفتح مجالات جديدة للبشر، وبخاصة في صناعة الدواء. ومن المواد الدوائية التي ينتجها بعض سكان الشعاب من الكائنات البحرية، حمض الكاينيك، ويستخدم في بعض الدول الآسيوية لعلاج داء الخلجة، وهو مرض نادر، يصيب الجهاز العصبي للإنسان، ويؤدي إلى اهتزاز الوجه والأطراف. ولعل الأبحاث التي تجرى حاليا لاشتقاق مواد فعالة من بعض كائنات الشعاب المرجانية تفاجئنا بنجاحهـا في علاج السرطان والإيدز. كما اكتشف أطباء العظام، وأخيرا، أن هياكل المرجان الكلسية، ذات الثقوب الدقيقة، هي أقرب الموارد الطبيعية والاصطناعية، على الإطلاق، إلى تحقيق درجة عالية من النجاح في جراحات ترقيع عظام الإنسان.

وتتعدد منافع الشعاب المرجانية للبشر، ففي 109 دول، يبلغ طول سواحلهـا المغطاة بالشعاب المرجانية مائة ألف من الكيلومترات، تحمي الشعاب الشواطئ من النحر؟ وينعم سكان تلك السواحل بخيرات ذلك النظام البيئي المتميز، من طعام ومواد خام. وعلى سبيل المثال، يكاد يستغني سكان بعض جزر المحيط الهادي عن استيراد البروتيت الحيواني، إذ يجدون في أسماك الشعاب كل حاجتهم منه. والحل كذلك، بنسب أقل، في مناطق أخرى، مثل جنوب شرق وجنوب آسيا، ومنطقة البحر الكاريبي، وشرق إفريقيا. وثمة تقديرات تشير إلى أن بيئة الشعاب المرجانية تسهم بمقدار 10% من كمية الأسماك المصيدة في العالم، أي حوالي 6 ملايين طن سنويا.

والشعاب اسم يطلق على مجمل كتلة المواد الحية والجماد، وتلتصق به صفة (المرجانية)، وذلك لأن (المرجان)- بأنواعه- هو المؤسس الرئيسي لهذه الكتلة، ودونه ينفض اجتماعها، وينتفي الغني والجمال فيها، بل ينهار البناء، وتقفر المياه.

وأفضل المواقع لنمو الشعاب المرجانية هي المياه الدافئة الصافية. ويعني صفاء المياه احتواءها على نسبة ضئيلة عن الأملاح المغذية، المصدر الرئيسي للحياة في البحر. فكيف يستقيم ذلك مع نمو (مستعمرة) الشعاب المرجانية المترامية، التي تحتاج إلى مستودعات غذاء لا ينضب؟

هنا، يأتي دور حيوان المرجان، الذي هيا له الخالق القادر أن يؤوي في أنسجته الجيرية الشفافة أنواعا من الطحالب المجهرية؛ يصلها ضوء الشمس من خلال جدران مخرجات كما يتوافر لها غاز ثاني أكسيد الكربون كأحد مخرجات الحيوان نفسه، وفي وجود القدر المحدود من الأملاح المغذية الذائبة في الماء؛ فتمارس النشاط الحيوي الاعتيادي، كأي نبات، وتبني المواد العضوية يصحبها غاز الأكسجين، فيتوافر للمرجان غداؤه.

هذه الصلة من التكافل بين المرجان والطحلب الدقيق، هي أصل الشعاب المرجانية. وهي صلة شديدة الحساسية؟ إذ يكفي أن تعكر مياه الشعاب أو تتغير درجة حرارتها، ليعجز الطحلب عن العمل، وتنشاً مشكلة بيئية، فتهجر الطحالب أجسام المراجين، التي ينتابها الشحوب، وتظهر عليها حالة (الابيضاض) التي تعني الموت، ما لم تجد الإسعاف الكافي، في الوقت المناسب.

عندما ينضب المعين

وإذا مات المرجان ماتت الشعاب فبالإضافة إلى أن المراجين هي معتمد التغذية لقاطني الشعاب، فإن تركيباتها الجيرية هي المأوى لهذه الكائنات البحرية، تكيفت به أنماط سلوكياتها. فإذا نضب المعين، وساءت أحوال المأوى، وجب الرحيل، ولا خاسر إلا الإنسان!... إن مساحة قدرها كيلومتر واحد من الشعاب المرجانية المزدهرة يمكن أن تفي باحتياجات مائة إنسان من البروتين الحيواني، فإذا تدهورت حالتها عجزت عن إعالة عشرة.

وبرغم إدراكنا لهذه الحقائق، فإن العدو الأول للشعاب المرجانية هو بعض منا، نحن البشر، تسبب، حتى الآن، في تدمير نسبة تتراوح بين خمسة وعشرة في المائة من شعاب العالم، وإن لم يتراجع فقد يأتي على 60% منها خلال العقود القليلة القادمة.

والإطماء هو أسوأ ما يمكن أن يصيب الشعاب المرجانية، وينتج عن بعض أنشطة سكان السواحل، مثل التعدين وقطع الأخشاب والصيد بشباك الجر. ويحرم الإطماء مياه الشعاب ميزة الصفاء، فتعجز أشعة الشمس عن اختراق المياه المحركة إلى خلايا المرجان، فتتوقف الخلايا الطحلبية عن العمل.

وتلعب الشجيرات التي تنمو في حدود منطقة المد والجزر، والمعروفة بالمانجروف، دوراً مهما في صون الشعاب المرجانية من الإطماء، إذ تمنع عنها عناصر التربة التي تجرفها حركة المياه والرياح. فإذا اقتلعت هذه الشجيرات البحرية، تساقطت الأتربة والرمال فوق الشعاب وقتها.

وتتلخص مشكلة كثير من الأنظمة البيئية في العالم، وبينها الشعاب المرجانية، في التنافس على المكان. والمنافس هنا - بالطبع - هو الإنسان فالشعاب نظام بيئة ساحلي، وخط الساحل هو- في الغالب- أشد المناطق الجغرافية جاذبية للسكان؟ وهم في تزايد مطرد. من هنا يأتي الضغط على هذا النظام البيئي الحساس، طلبا لموارده. أما الشعاب المعزولة طبيعيا، والبعيدة عن متناول يد الإنسان، فإنها تحتفظ بمظاهر الصحة والازدهار، مثل الحاجز المرجاني الأسترالي، الذي يبعد عن الشاطئ بمسافة 260 كيلومترا.

ولسوء الحظ، فإن جانبا كبيرا من شعاب العالم المرجانية يجاور مناطق إنتاج النفط، أو يقع في مسار حركة نقله في بحار ومحيطات العالم، حيث احتمالات تسرب الزيت من الآبار البحرية، أو وقوع حوادث لناقلات كبيرة. فإذا تلوثت مناطق الشعاب بالنفط، انتزع منها الحياة، لا محالة. فإذا لجأنا في المنظفات والمذيبات المبددة لبقعة الزيت، كنا كمن يستعين على الرمضاء بالنار.. فالمنظفات كيماويات لها نفس التأثير القاتل في البحار.

رؤية وفجيعة

وفي رحلة علمية لرصد أحوال البيئة البحرية حول خليج السويس حتى مدينة الغردقة جنوبا، فجع كاتب هذه السطور أكثر من مرة: فجع أولاً، حين رأى بعينيه نشاط (التعمير) المسعور، والأجدر أن يسمى (التخريب)، إذ يتم الاعتداء على مساحات هائلة من بيئة الشعاب المرجانية في المياه قليلة الغور فتردم لتبنى فوقها القرى السياحية والقصور الخاصة. وفجع ثانية للآثار غير المحدودة لصناعة البترول في المنطقة. أما الفجيعة الثالثة، فكانت حين حاول بعض المسئولين أن يخفي جريمة خنق الشعاب المرجانية بخداعنا، إذ دعينا لنرى تجربتهم في (صون) المياه من التلوث بالزيت، واكتشفنا أنهم صبوا في موقعهم كميات ضخمة من الصفاء. فلما بحثنا عن الحياة فيها، وجدناها يبابا. ولم يخطر ببالهم أن منظفاتهم اشتبكت بالزيت ونزلت به إلى القاع، ليطمس أي أثر للحياة، ولتبقى كل تلك السموم قابعة في رسوبيات القاع، تتسرب منه إلى المياه شيئا فشيئا، على مدار عشرات، وربما مئات السنين!

وكان كاتب هذه السطور مرة ثانية، قريبا من ملابسات كارثة حاقت بشعاب المرجان في مدخل خليج السويس، حيث ارتطمت سفينة نقل بالشعاب، وأوشكت على الغرق، وسقط منها - أو ألقى عمدا- عشرات الأطنان من حمولتها من الفوسفات، فخسرت المنطقة- وريما إلى الأبد مساحة تقترب من الكيلو متر المربع، من أجمل وأغنى الشعاب المرجانية.

ولقد ظل الإنسان ينتفع بمنتجات الشعاب المرجانية قرونا عديدة، وكانت البيئة المتزنة طبيعيا تنجح في استعواص ما تهديه للإنسان. فلما ازدحمت السواحل ذات الشعاب المرجانية بالبشر، ضجت البيئة من الاستغلال الجائر لها، وبدأت علامات الخلل تظهر ويرى بعض العلماء أن هذا النمط من الاستغلال الموارد الشعاب المرجانية، ربما يكون أشد وطأة عليها من الإطماء والتلوث. وقد قضى سكان سواحل الشعاب في جنوب شرق آسيا، تماما على أنواع من المحارات اللحيمة العملاقة، في أكثر من موقع. كما أن تجارة عالمية تقوم على كتل وتكوينات المرجان ذات القيمة الجمالية، ويشتد الطلب عليها، ويصل حجم الاستهلاك السنوي من المرجان إلى 1,5 مليون كجم.

وفي غيبة الموارد التقليدية لمواد البناء، يتجه سكان بعض السواحل المرجانية في الهند وسريلانكا والفلبين وإندونيسيا، إلى استخدام صخور الشعاب في بناء بيوتهم. وهذا الاتجاه وحده كفيل بتجريد تلك السواحل من شعابها، مع تزايد السكان وزحف العمران. وقد فطنت السلطات في سريلانكا إلى خطورة هذا النشاط، فحظرت استخدام الشعاب في التشييد.

وتزداد قضية صون الشعاب المرجانية تعقيدا... ويبدو ذلك النظام البيئي كمصارع يواجه عدة خصوم في وقت واحدا... فعلى الشعاب المرجانية أن تتحمل أيضا ضغوط التغيرات المناخية العالمية، وأهمها الارتفاع التدريجي في درجة حرارة الأرض، نتيجة لارتفاع نسبة الغازات المسببة لظاهرة (الدفيئة)، ثم تزايد شدة الأشعة فوق البنفسجية، بعد الضعف الذي حل بحلقة الأوزون في طبقات الجو العليا.

ويعتقد علماء البيئة أن ارتفاع مستويات وجود غاز ثاني أكسيد الكربون يضعف قدرة الحيوانات الدقيقة المشيدة للمرجان، والمعروفة باسم (البوليب) فيتضاءل نمو المرجان. كما أن ارتفاع درجة حرارة مياه البحار والمحيطات له تأثيره المدمر للشعاب المرجانية. وفي حادثة شهيرة، وقعت في جنوب المحيط الهادي، خلال نهاية عام 82 وبداية عام 1983، حين هبت العواصف المعروفة باسم النينو على المنطقة، فأدت إلى تدفق تيارات من مياه المحيط الدافئة لتمر بسواحل كوستاريكا وبنما وكولومبيا والإكوادور، فأحلت الهلاك بشعابها المرجانية، بنسب تتراوح بين 75 و95 بالمائة! وثمة تجارب حقلية أثبتت أن ارتفاع درجة حرارة مياه السواحل المرجانية بمقدار أربع درجات مئوية، فقط، يؤدي غلى موت تسعين في المائة من المرجان!

شوق إلى النجاة

المدهش من أمر الشعاب المرجانية استجابتها لعمليات الإنقاذ إذا تمت في الوقت المناسب... فإذا تحسنت نوعية المياه، وبدأ تدفق يرقات المرجان يعود إلى الموقع المصاب، بعد تنظيفه، يمكن أن يتم الشفاء خلال عام واحد!. وهذا أمر مشجع، يجعلنا نأمل في أن تسارع الدول المطلة على سواحل الشعاب المرجانية إلى وضع واتباع سياسات وخطط الصون هذه البيئة الحيوية. وينصح الخبراء أن تسير تلك الخطط في اتجاهين: الأول، إيجاد سبل الإدارة العلمية لموارد الشعاب المرجانية وحمايتها، والثاني، إبعاد خطر التلوث عن مواقع الشعاب.

ويقدم لنا الأستراليون تجربة جديرة بالاحترام، لتنظيم وإدارة الشعاب المرجانية الأسترالية التي تبلغ مساحتها 3550 ألف كيلو متر مربع، فقد أصدروا القوانين التي أعلنتها (حديقة قومية)، وتم تقسيمها إلى قطاعات، خصص بعضها لأغراض البحث العلمي، وأوقف بعضها للنشاط السياحي، بينما تركت بعض القطاعات مفتوحة للصيد المنظم.

وقد بدأ أول تعاون دولي من أجل صون بيئة الشعاب المرجانية في عام 1974، دعا إليه ونسق أعماله برنامج الأمم المتحدة للبيئة، وتم تحديد سبع مناطق مرجانية لتكون تراثنا إنسانيا، لا يخص أمة بعينها، أو مجموعة من الدول بل البشرية كلها. كما خصص البنك الدولي لبيئة الشعاب المرجانية نسبة 20% من الرصيد المخصص لدراسة التنوع الحيوي في العالم، وقدرة ثلاثة بلايين دولار.

ويهمنا أن نؤكد أن كل هذه الجهود العلمية، المحلية والعالمية، لصون الشعاب المرجانية، يمكن أن تذهب هباء ما لم تكن البداية هي تأسيس قواعد معلومات خاصة بكل منطقة، تبدأ منها أعمال الرصد والمراقبة وإدارة الشعاب المرجانية، وإصلاح وترميم ما يفسد منها.

 

رجب سعد السيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




كائن رخوي (حبار) من سكان الشعاب المرجانية





نماذج من التنوع في سكان الشعاب المرجانية





نماذج من التنوع في سكان الشعاب المرجانية





فريق من علماء البيئة البحرية يستطلع أحوال الشعاب المرجانية





تنوع في الأشكال والألوان للأسماك من سكان الشعاب المرجانية





كائن قشري يعيش في الشعاب المرجانية. لا بأس من جولة تحت الشمس





أسماك في الشعب المرجانية