شعاع من التاريخ

  شعاع من التاريخ
        

قرطاجة التونسية..
قادها "هانيبال"لغزو روما..!

          انتفضت "أليسار ديدو" ابنة ملك صور الفينيقية انتفاضة بشعة، عندما فوجئت بزوجها صريعاً ممزق الجسد بسيف شقيقها. وحين أحسّت ببشاعة المأساة، استقلت وعدد كبير من أعوانها مجموعة من قطع الأسطول الفينيقي الكبير راحلة على طول السواحل الإفريقية مخترقة سواحل مصر وليبيا. وألقت عصا التسيار في النهاية على الرمال والصخور على أرض تونس الحالية، حيث قررت أن تنشئ مستعمرة جديدة، وأطلقت على مدينتها اسم (قارت هداتش) أي (المدينة الجديدة) بالفينيقية. وتداولت الألسنة هذا الاسم جيلاً بعد جيل قبيل بداية الألفية الأولى حتى أصبح اسمها (قرطاجة)، وهي المدينة التي قدّر لها أن تهز الامبراطورية الرومانية وتدفع بها في عهد قائدها عدو الرومان إلى حافة الهاوية بقيادة القائد القرطاجني الإفريقي (هانيبال). وكان هذا القائد قد تولى الأمر بعد أبيه قائد الجيوش "هاملكار" الذي كان العداء قد استحكم بينه وبين الرومان وبخاصة عندما استطاع بأساطيله القرطاجية الضخمة هزيمة الجيوش الرومانية في صقلية، ونشر نفوذه على طول الساحل الإفريقي حتى استولى في النهاية على أسبانيا الخاضعة للنفوذ الروماني، واستولى على ذهبها وفضتها وحديدها ونحاسها.

          منذ ذلك الوقت، تحوّلت قرطاجة إلى مركز جديد للتجارة الفينيقية والنفوذ لمنافسة الإمبراطورية الرومانية وقيام الحروب بين الدولتين. وقبل أن يموت هاملكار، أخذ العهد على ابنه هانيبال الذي عيّنه مجلس الشيوخ قائداً عاماً بألا يضع السلاح إلا بعد أن ينزل الانتقام بالرومان وتدميرهم حتى ولو غزا روما نفسها.

          كان القائد القرطاجي في عنفوان شبابه وثيق الأركان، استطاع خلال تدريباته العسكرية التي دامت تسعة عشر عاماً أن يتعوّد على مغالبة الصعاب، كما عوّد أفكاره أن تركّز فيما يهدف إليه، وكان محبباً إلى القواد والجنود سواء ممن ضرستهم الحروب أو ممن جنّدوا. وما كان يستريح حتى يكفل للجيش كل احتياجاته ويقاسمهم كل ما يصيبهم من شر أو خير.

          وفي خلال ثلاث سنوات من توليه قيادة جيوش قرطاجة، استطاع إخضاع كل شعوب إسبانيا التي كانت تناهض سلطة قرطاجة واستولى على مدينة ساجنتوم بعد حصار دام ثلاثة شهور. وإذ كانت حليفة لروما، فقد كان سقوطها في يد هانيبال سبباً مباشراً للحرب اليونانية الثانية التي أظهر فيها هانيبال أعظم مواهب القادة المحنكين. ويقدر عدد من المؤرخين قوام جيشه الذي خرج به للزحف على روما بأكثر من مائة ألف مقاتل غير الفرسان وفيالق الفيلة الإفريقية. وبلغ هانيبال في زحفه جبال الألب التي كان اختراقها في عداد المستحيل. وكان اختراق جبال البرانس نفسها من أشق الأعمال، واقتضى الوصول إلى نهر الرون حروباً دامت ثمانية أشهر.

          واتجه هانيبال بعدها نحو جبال الألب، وقد عانى كثيراً من الصعاب في تسيير فيلته الإفريقية في الممرات الضيقة أو شديدة الانحدار، وقضى في تسلّق الجبال تسعة أيام وصل بعدها إلى قممها أوائل شهر سبتمبر، فوجدها مغطاة بالثلوج.

          وبعد أن استراح رجاله ودوابه يومين، شرع في النزول في ممرات أشد وعورة من التي سلكها في الصعود، وطرق مغطاة في بعض الأحيان بجلاميد من الصخر، ومغطاة في أحيان أخرى بالجليد. وكثيراً ما كانت تزل أقدام الجنود والدواب والفيلة فتتردى في هاويات سحيقة تلقى فيها حتفها، وبرغم ذلك، فقد استطاع أن يستدرج أحد الجيوش الرومانية إلى سهل تكتنفه التلال والغابات ما كادت تخترقه حتى فوجئت بانقضاض القرطاجيين المختبئين بين حناياه على الرومان من كل الجهات، وأفنتهم عن آخرهم، وبذلك استطاع أن يسيطر على شمال إىطاليا كله. ولكن حكومته لم تمد له يد العون في كثير من الأحيان برغم أنه أخذ يتوسّل إليها أن ترسل له المدد والعتاد والزاد، ولكن حكومته خيّبت رجاءه.

          بالرغم من كل ذلك، استمر هانيبال يواصل معاركه، ودارت معركة رهيبة عند (كاتاي) لقى فيها أربعون ألفاً من الرومان مصرعهم، واتخذ القرطاجيون من جثث الرومان جسراً عبروا عليه. وقد بعث هانيبال إلى قرطاجة ثلاثة مكاييل من الخواتم الذهبية التي انتزعها من جثث خمسة آلاف فارس روماني، لكي تكون رمزاً لانتصاره الساحق، ويقول المؤرخون إنه لو كان قد اتجه فوراً بعد المعركة إلى أبواب روما، لاستسلمت له ذعراً، إلا أنه ظل ينتظر الإمدادات بلا جدوى مما أعطى أعداءه فرصة لتجميع قواهم وزادهم صلابة.

الاستعداد لغزو روما

          لم يكد هانيبال يصل إلى أسوار روما حتى فوجئ بأن ما بقي معه من القوات لا يمكّنه من خوض المعركة التي استعد لها الرومان، مما اضطره إلى وقف زحفه، وبخاصة بعدما كان الرومان يتدربون ويركّزون على عيون فيلته الباقية بالمزاريق مما زادها ثورة وهياجاً حتى على قواته.

          ومع توقف جيش الغزو القرطاجي عن الهجوم، قرر مجلس الشيوخ الروماني تحويل المعركة فوراً ونقل ميدان الحرب إلى إفريقيا بهدف زحزحة هانيبال عن أبواب روما، واستدعى هانيبال فوراً للعودة إلى بلاده. وعلى أبواب قرطاجة، التقى هانيبال والقائد الروماني سيبو، حيث دارت مداولات ومفاوضات لم يتنازل خلالها أحد عن شيء. وكان لابد عن الالتحام العسكري، حيث كان اللقاء الأخير عند (زاما) حيث أوقع سيبو الهزيمة بالقرطاجيين وقتل منهم عشرين ألفاً، والثابت أن فشل حملة هانيبال في إيطاليا لم ينشأ عن تقصير منه، بل عن تخاذل مواطنيه وحكومته الأوليجاركية عن تقديم الدعم له، وكان لابد من عقد الصلح الذي فرض على قرطاجة، وأن تتنازل بموجبه عن إسبانيا وجزرها في البحر الأبيض، وأن تدفع لروما جزية سنوية كبيرة، وأن تسلم أسطولها، وألا تحارب أحداً إلا بإذنها!

          لم يستطع هانيبال أن يبقى في قرطاجة بعد هذه الشروط، وبعد تخاذل حكومته، ولم تلبث روما أن طالبت بتسليمه إليها، فبارح بلاده مفضّلاً النفي على الأسر.

          وحين ظهر مرة أخرى في قرطاجة، طلبت طوائف الشعب منه الخروج من عزلته، وإنقاذ الأمة من محنتها، لكن أرباب الأموال أرادوا أن يتخلصوا منه، فبعثوا سرّاً إلى روما بأن هانيبال يعد العدة لاستئناف القتال، وبأنهم مستعدون لتسليمه.

          ولكن الجندي القديم فرّ من بلاده ليلاً، وراح الرومانيون يطاردونه في كل مكان يلجأ إليه حتى أحاطوه في مكمنه، وآثر هانيبال الموت على الأسر، وقال في بعض المحيطين به: (دعوني أخفف عن الرومان ما يشغل بالهم من زمن طويل، فهم يظنون أنهم لا يطيقون الصبر حتى يلاقي شيخ مثلي ميتته)، وتجرّع هانيبال السم الذي كان يحمله طوال معاركه، ومات في السابعة والستين عام 184 ق.م. أما سيرته، فلم تمت وسيظل أعظم خصم عرفته روما. وفي شخصيته خير تعبير عن الشخصية الإفريقية حتى اليوم.

 

سليمان مظهر   

 
 




هانيبال