الطريق إلى المستقبل

الطريق إلى المستقبل

حديث الشهر
هل يمكن اكتشاف القوى الكامنة في التخلف العربي؟

برغم كل ما تعانيه الحالة العربية من أزمات سياسية واقتصادية فإن الفكر العربي يعيش إحدى مراحل ازدهاره النادرة.. وهناك بعض الشواهد والاجتهادات الفكرية التي تؤكد ذلك.

كثير من الأسئلة ظلت تؤرق الفكر العربي دون أن يعثر على إجابات شافية لها.. ترى في أي العصور وتحت أي ظروف ينتعش الفكر العربي ويتحرر حتى يتمكن من تقديم أفضل مايستطيع من تحليلات لعصره؟ أفي أزمان الغلبة والانتصار والصعود أم في أزمان الهزيمة والتشرذم والتراجع؟ أفي أوقات الوفرة ورغد العيش أم في أوقات الندرة والضنك وعسر العيش؟ أفي عصر التسامح السياسي والقبول بالرأي الآخر أم في عصر البطش والتضييق وفساد علاقة الحاكم بالمحكوم؟

وقد تدهش وقائع التاريخ البعض حين يجد كثيراً من الأدلة التي تشير إلى أن انتعاش الأدب والفكر قد يأتي في ظل ضعف السياسة والاقتصاد بل وافتقاد الحرية وانتشار البطش، على عكس ماهو متوقع في أن يتبع ازدهار الفكر والأدب ماهو حادث في السياسة والاقتصاد فإن تقدم الاخير تقدمت الأولى، لكن هذا القانون الذي اعتقده الكثيرون أثبتت الشواهد التاريخية عكسه، فنرى في كثير من الأزمان أن الحياة العقلية للعرب تشهد صعوداً مطرداً في الفكر إلى الأفضل عندما تحل النوائب والشدائد بها، ولعل شاهدنا التاريخي هنا هو مرحلتان أدبيتان، أولاهما خلال العصر العباسي الثالث الذي كان من أشد العصور الإسلامية حتى الآن اضطرابا وتفككا من قتل وخلع وغدر على مستوى الحكم، وأغناها أيضاً بالتشرذم السياسي والفقهي، فقد انتشرت الفرق والمذاهب والحركات السياسية الدينية السرية والعلنية وتفتتت الخلافة إلى دويلات متناحرة حكم بعضها الأعاجم، وصاحب ذلك ظهور تيارات التصوف من جهة وتيارات الزندقة من جهة أخرى، وعندما نقف على حافة هذا العهد ونتأمل حالة الحياة العقلية والفكرية نشهد فكراً قياسا إلى ذاك الزمان قل أن تشهده الأمم في أزهى عصورها بما فى ذلك عصرنا الحالي، فهذا أبوسليمان السجستاني، زعيم المناطقة في عصره، وذاك أبوحيان التوحيدي، وأبوسعيد السيرافي، بعضهم نال شهرة لدى العامة وبعضهم خلف فكراً نيراً تخطى عصره.

وتكاد الحياة العقلية والفكرية في عصرنا الحالي تشهد مرحلة ثانية مشابهة، فبرغم مانراه من حولنا من تدن في السياسة والاجتماع والاقتصاد، تشهد حياتنا الفكرية إبداعات نظرية وتأصيلا عقليا لافتا للنظر، تجاهلنا بعضه أو نسيناه ولم يلفت نظرنا بعضه الآخر الذي هو بين أيدينا.

وأمامي مجموعة من الأعمال الفكرية العربية التي صدرت حديثا وتهتم بالنظر في واقعنا اليوم ويكاد ينطبق عليها القانون المعاكس في السير المطرد الصاعد للحياة الفكرية ذو العقلية برغم التردي الذي نلمسه جميعا في الحياة السياسية والاقتصادية لدى العرب المحدثين. من أبرز تلك الأعمال التي تقدم نظرة جديدة وشجاعة كتاب الصديق فهمي جدعان الأخير الذي صدر في أواخر العام الماضي بعنوان "الطريق إلى المستقبل.. أفكار قوية للأزمنة العربية المنظورة ".

حوارمع اليأس

الطريق إلى المستقبل يتكون من خمسة فصول مع مقدمة وخاتمة لافتة للنظر سماها المؤلف "حوار مع اليأس". والفصول تحمل هذه العناوين بالتتابع: هواجس التفسير والجدوى، نقد الفعل المؤتلف والمختلف، الإسلام في العاصفة، وأخيراً التواصل.

يصنف المؤلف عمله هذا على أنه "تأسيسي اجتهادي أقدر أنه يجسد جملة تأملي وفهمي وتصوري وتقديرى للقضايا والمسائل والوجوه التي أعتقد أنها جوهرية مركزية حيوية في وجودنا (العربي) المعاصر، عند نهاية هذا القرن الذي يوشك على الرحيل وبدايات القرن الذي يعلن عن نفسه على نحو صارخ منذ الآن".

إذن ما يقدمه الكاتب هو اجتهاد وهو لايدعي غير ذلك، ولكنه اجتهاد ناتج عن تأمل واطلاع وخبرة والتزام بقول مايراه دون تهويل أو تهوين لأن "القطاعات الجوهرية لوجودنا (العربي) الحالي قد طالها جميعآ الاضطراب والخلل أو العطب واختلال التوازن والتماسك أو فقد حس الاتجاه، وأن المخاطر التي تهدد في العمق وجودنا الذاتي والأخلاقي والاعتقادي والحضاري والوجداني هي مخاطر حقيقية".

يرى الكاتب أن العرب جميعاً يواجهون مصيراً مرعباً ومخيفاً ليس فقط في معيشتهم ومعاشهم وإنما في وجودهم أيضاً وهو يقرع الجرس بهدوء العالم ووثوق المطلع، ولكن صدى الجرس ذاك يتردد في أعماق كل من يطلع على "الطريق إلى المستقبل" وبتواضع العالم أيضاً يقرر الكاتب أن ما يقدمه ليس مشروعاص للنهضة ولاهو مصلح القرن ولكنه يحذر من "الطرق المسدودة" ويوجه النظر إلى "المسالك النافذة"، وهو يرغب في تشكيل وعي عربي خاص وجديد يسمح- إن تضافرت الجهود- بإحداث توجهات جديدة في النظر والفعل عند القوى الثقافية والاجتماعية والسياسية في العالم العربي. إن عمله كما يصفه المؤلف "عمل تنويري" في المقام الأول، وأي توجه لصب هذا العمل في التيارات الأيديولوجية التقليدية الممتدة على محور "الاتباع- الإبدع" سيخرج، كما يؤكد المؤلف، هذا العمل عن القصد الأصيل الذي نذر له الكاتب عمله.

وبكل تواضع يشير المؤلف إلى أنه تناول بعض القضايا من زاوية العالم بها، وبعضها الآخر من زاوية العارف بها. والفرق بين العالم والعارف فرق وأضح لأهل الذكر.

ويستهل الكاتب كتابه في الفصل الأول بما سماه "هواجس التفسير والجدوى". ويقف هنا ليستعرض اجتهادات المفكرين العرب منذ مطلع ما أطلق عليه النهضة العربية في أواسط القرن الماضي، ويلاحظ أن هناك تيارين واضحين في هذا الفكر كلاهما كان ردة فعل على الآخر أي "الغربي" "المستعمر"، وقد طالب هؤلاء المفكرون بغاية لم تتحقق، طلب مثلاً رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي "مركباً متماسكاً متكاملا من التقدم المادي الأورباوي والتقدم الروحي الإسلامي" فجاء هذا المركب بعد قرن من الزمان خليطاً هجينا من الأوضاع والأحوال المتراكبة على غير نظام، ومن القيم المتضادة المتشابكة في حالة فريدة من الفوضى الشاملة. وأراد جمال الدين الأفغاني أن يوحد "دول الإسلام" لمواجهة الضغوط الأوربية المتعاظمة فانهارت الدولة العظمى "العثمانية" التي رضي بالرهان عليها قبل أن يشاهد تناثر أشلائها، أما الرءوس التي رأى أن الخلاص سيأتي بمجرد قطعها "فأثبتت كل الوقائع أن علينا أن نكون على قدر غير يسير من السذاجة لنصدق أن المشكلة برمتها تكمن في هذا الوجه من النظر". ولعل المطلع يستطرد في هذا المقام فيشهد بما كان يتمناه واحد من مفكري، العرب الكبار هو المرحوم طه حسين في كتابه ذائع الصيت "في الشعر الجاهلي" الذي صدرت طبعته الأولى في سنة 1926 يقول لنا متنبئا: "ذلك لأن عقليتنا (العربية) نفسها قد أخذت منذ عشرات السنين تتغير وتصبح غربية، أو قل أقرب إلى الغربية منها إلى الشرقية، وهي كلما مضى عليها الزمن جدت في التغير وأسرعت في الاتصال بأهل الغرب". ولو اعتمدنا نبوءة طه حسين وبعد ثلاثة أرباع قرن من الزمان لتحولت هذه العقلية إلى غربية بحتة ولكنها لم تفعل، فلم نحصد سوى خليط آخر وهجين من الأفكار. لقد هتف محمد عبده يطلب التجديد ونبذ "الجمود على الموجود" فاشتد تعلق القوم بالتقليد، ودافع شبلي شميل وسلامة موسى عن الدارونية فلم يعد أحد يذكر الدارونية بسوء أو خير وباتت الأفكارالعلمية والخرافات تساق على حد السواء باسم العلم، وهتف عبدالرحمن الكواكبي بالحرية والخروج على "الاستبداد" فظلت الحرية مطلبا "عسيراً" في كثير من الأصقاع العربية حتى اليوم.

خلاصة الامر أن الكاتب يقف متسائلاً ونحن في نهاية القرن العشرين أنه لا دعوة طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" أو مستقبل "الثقافة في مصر" المطبوع سنة 1938 ولا دعوة أمثاله من المفكرين الذين طالبوا بالالتحاق بالشمال قد نجحت، كذلك لم تنجح دعوة إحياء التراث وتحكيم الشريعة وإعادة دولة الخلافة ولا حتى الفقر والمرض والجهد قد تم دحرها على الأرض العربية، هذا ما يسميه المؤلف "أزمة الآفاق المسدودة" نعيشها بكل عمق وبكل متعلقاتها وكل منا يطلب ماطلبه المفكرون الأوائل متسائلا على شاكلة شكيب أرسلان لماذا تقدم الآخرون وتأخرنا؟ كان هذا السؤال يثار مقارنة بالغرب وهو يثار الآن من جديد اليوم باتجاه دول النمور في آسيا والدول اللاتينية في أمريكا الجنوبية، وكأن أمل اللحاق بالغرب فنياً وتقنياً واقتصادياً قد تراجع إلى أمل اللحاق بالشرق.

لا بد أن لكل ذلك تفسيرا، ويطرح الكاتب ثلاثة تفسيرات حصراً يرى اصحابها أن واقع الأحوال يئول إليها.

التفسير الأول أنثروبولوجي، أو أنسني، ويذهب الذين تبنوا هذا بهم من المفكرين العرب المحدثين إلى أن التكوين الانثروبولوجي للإنسان العربي ذو طبيعة خاصة وحدود معروفة ويمكن التمييز بين نمطين في هذه الرؤية: التكوين البيولوجي والتكوين الثقافي. فثمة فرق بين أن نتعلم عن "عقل عربي" أو "عقل إسلامي": بما هو ذو خصائص ذاتية مستقرة في الطبيعة البيولوجية للإنسان العربي أو المسلم، وبين أن نتكلم عن هذا العقل أو ذاك بما هو عقل ذو خصائص ثقافية وتاريخية.

والنتائج التي تترتب على المذهب الثاني "الثقافي/ التاريخى" تختلف عن النتائج التي تترتب على المذهب الأول "البيولوجي المستقر". يرى المؤلف أنه إن كان الخلل في التكوين الثاني- الثقافي/ التاريخي- فإن إصلاح الخلل ممكن أما الأول فهو غير ميسور لأنه يحتاج، على حد تعبيرالمؤلف المغرق في الميلودراما، إلى "هندسة وراثية" غير ميسورة أو ممكنة.

إن كان الإخفاق الذي آلت إليه الأوضاع العربية في هذا القرن المنصرم سببه هذه الرؤية الأنثروبولوجية فقد اكتشف ذلك القدماء، فالجاحظ يرى أن العربي لا يستطيع- حسب مصطلحاتنا الحديثة- أن يخطط ويقيم سياسات عقلانية أو بناء منظما، فلا غرابة أن تفضي أفعاله إذن إلى غير المتوقع وإلى الكارثة والإخفاق والدمار، ويذهب ابن خلدون. في بيان طبيعة العرب وأحوالهم إلى أقسى من ذلك. فالعرب- وهم بدو بالطبع- "وإن كانوا أقرب إلى الخير وأسرع الناس قبولاً للحق والهدى، فإنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب". يسوق لنا الكاتب دلائل على أن هذا النوع من التفسير للعقل العربي قد توسع فيه المستشرقون وأغرقوا في العرقية إلى درجة التمييز بين "عقل آري " و "عقل سامي" وقد وقع في حبائل هذه الأطروحة العرقية بعض مفكري العرب المعاصرين، ويشير الكاتب إلى واحد منهم هو محمد عابد الجابري. ولا شك أن الكاتب ينبذ هذا النوع من التفسير وهو الشق الأنثروبولوجي- ذو البعد البيولوجي- أما الشق الثاني وهو الثقافي/ التاريخي فإن احتمال تأثيره في حياتنا احتمال وارد، أننا صنائع تراث لايأتي من الحقبة الإسلامية وحدها وإنما أيضا من الحقب العربية الموغلة في القدم، وعلينا "أن نحفر حفراً عميقاً في الماضي من أجل أن نتبين الأسباب التي جعلت واقعنا الزماني الراهن واقعاً نكداً". يقترح المؤلف أنه من المؤكد أننا سنجد هذه الأسباب في الطبائع والعادات القديمة "التي لم يستطع الواقع الإسلامي وتطورات التاريخ الكبرى أن تمحوها من الذاكرة الجماعية أو تبددها في الكينونة الاجتماعية وتجسداتها الفردية". يتدارك المؤلف اقتراحه في محاولة البحث في التاريخ الموغل في القدم ليصل إلى تفسير لما نحن عليه لأن ذلك قد يقود إلى التهوين من "خطورة الطاقات والإمكانات والانفعالات والرغبات والمنافع والوقائع المحدثة والإرادات الذاتية- طيبة أو رديئة- لأولئك الذين يفعلون ويوجهون أقدار مجتمعاتهم ودولهم ".

أما التفسير الثاني فهو تفسير تاريخي، أنه يتعذر أن نفسر الإخفاق والآفاق المسدودة خلال العقود الحاسمة من هذا القرن ببؤر متحكمة في طبائع عرب الجاهلية، ويتساءل المؤلف بشجاعة: "ما الذي يأذن لنا بأن نرد الفعل السياسي الذي أدى إلى الكارثة المشهودة في الخامس من حزيران 1967 إلى عقلية مضر أو قيس؟ وهل ينبغي لنا أن نرجع إلى عقلية داحس والغبراء لنفسر الكارثة الكبرى الثانية التي حدثت في الثاني من أغسطس 1990 (غزو العراق للكويت) وما ترتب عليها من مصائب ورزايا وتطورات جذرية اعترت الكتلة العربية برمتها وجملة الأوضاع الاستراتيجية التي حكمت خلال نصف قرن. العلاقات المركزية والمحورية في الجناح الشرقي من العالم العربي؟"!

يجيب المؤلف عن هذه التساؤلات بالقول: "إن كانت مسالك الناس من حولنا محكومة بعقلية القبيلة مثلاً فليس لأن هؤلاء هم بالجوهر ذوي عقليات قبلية وإنما على وجه التحديد لأن الدولة التي تقوم على شئونهم تريد لهم أن يكونوا كذلك".

يذهب الكاتب إلى القول إن البعد الثقافي/ التاريخي يمكن أن يتغير، أما العادات والسلوك التي ألفها العربي في بلاده سرعان ماتتغير إلى عكسها عندما تهبط به الطائرة في لندن أو باريس أو نيويورك، ولن يتحول المجتمع العربي إلى سلوك مطلوب إلا بعد أن تأخذ الدولة على عاتقها إعادة توجيه الأسس الثقافية للمجتمع، لابد من إحداث تأثير إيجابي في أخلاقيات العمل.
ويقودنا التفسيرالثالث للإخفاق العربي الذي يقدمه البعض على أنه "فعل الغير"أو الرؤية التآمرية، فالتعثر الذي واجهه العرب ويواجهونه حتى الآن ليس في سوء تدبير الحركات السياسية وحركات التحور الوطنى وطرائقها ولافي طبيعة هذه الحركات ومسالكها وأطروحاتها بل في "مشاريع التآمر والسيطرة والحصار الخارجي". ويذهب هذا التفسير إلى القول إن "الغرب" أي "العدو" قد قرر إفناء العرب، ويأخذ القائلون بذلك العلاقات التاريخية بين العالمين الغربي والعربي/ الإسلامي دليلا على هذا التفسير، ويذهب المؤلف إلى القول إن "الصراع" بين الأمم حقيقة تاريخية يجب ألا ننزعج منها وإن مظاهر التخلف ليست "زراعة" خارجية عن أجسامنا، فالحقيقة هي أننا مستعدون لها، لأننا "لم نخرج من مدرسة التاريخ إلى عصر الحداثة بقيم تضاهي هنا العصر وتنصب أصولا له وأعمدة، وإنما خرجنا إليه بقيم الحضارة السحرية التي شكلت ثقافة الطاعة والسلطة المستبدة والخلاص الشخصي والمنفعة الفردية والاستهانة بكرامة الإنسان ومكانته في الكون" ذلك كله "وفق منظور يلوي عنق الدين ويخرجه عن جادته الأصلية ومقاصده الحقيقية الفذة".

بعد أن يستعرض الكاتب هذه التفسيرات الثلاثة التي يلجأ إليها معظم المفكرين العرب لاستبصار أسباب التخلف، ويأخذ عنها ويرد عليها، يخرج باقتراحات أو بخيارات كما سماها، الخيار الأول هو ربط أنفسنا بالواقع سواء كان واقعنا أو واقع العالم الخارجي، أما الخيار الثاني فهو أن نرتبط بما هو "مناسب" وما هو "مجد" وبما تكون فيه "المصلحة" ويتساءل: هل هذا تنازل عن الحقيقة؟، ئم يجيب بالنفي مؤكدا أن الحقيقة لا يمكن إلا أن تخلل حقيقة غير أن تدخلها في الواقع ينبغي أن يكون رهينا بمقدار "المناسب" أو "المصلحة" في هذا التدخل، فإن لم يتوافر هذان العنصران فإن على "الحقيقة أن تلزم حذرها ولو إلى حين". إنها الدعوة إلى "العقلانية" وهي- كما يرى الكاتب- ليست صنما جديدا نعبده ولا هي غاية في حد ذاتها، وإنما تطلب العقلانية في إطارها الإنساني الذي ينظر إلى فعل الإنسان من زاوية الرحمة لا من زاوية الجبروت والعقاب.

فليس أحد إذن أولى من غيره بقطع الأحكام الجازمة المطلقة في حق الآخرين ومؤاخذة هؤلاء الآخرين بجريرة شروطهم التاريخية الاجتماعية الثقافية. إن المسلم الذي يولد في ثقافة إسلامية لا يمكن إلا أن يكون مسلما، وأن البوذي الذي يولد في مجتمع بوذي لا يمكن إلا أن يكون بوذيا، هذا الشرط الإنساني يلزم بأن يؤخذ الإنسان من منظور إنساني خالص لا من منظور أي ثقافة أخلاقية نوعية، "وبأن يقر له بحقه في أن يلبس لبوس ثقافته إن شاء وفي أن يخلع هذا اللبوس إن شاء".

إذا كان من حق كل امرىء أن يعتقد أنه "على صواب" وأنه يملك "الحقيقة" فإنه لا ينبغي أن يترتب على ذلك أنه لا يحق للآخرين أن يقفوا من المسائل نفسها موقفا مخالفا فيقطعوا بذلك كل سبيل للحوار ويمهدوا الطريق إلى وأد الحرية وإقامة نظام الاستبداد، والإجهاز على كل أمل في بناء عالم اجتماعي تسوده العدالة والحرية والكرامة والمساواة والديمقراطية.

نقد الفعل.. لماذا نعرف الحق ثم نفارقه؟

يضع المؤلف في الفصل الثاني من كتابه يده على أحد الفواصل الموجعة في الانحراف الكبير الذي شهده الفكر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو تخطيه للنظر إلى الواقع والعيش أسير منطوقات أو مقولات مثالية تبعد عن الواقع بعد الأرض عن السماء، وله في ذلك مدخل فهو يقول: "إن ما أصاب عالم العرب من نكسات أو هزائم أو إخفاقات يرتد قبل كل شيء إلى واقعة طرد العقل من المدنية العربية" وبطبيعة الحال فإن نقيض "العقلانية" هو "الخرافة" التي تسخر من التفكير العلمي أو المنطق الشكلي الذي يحاكم وفقً لقياس "الغائب على الشاهد". والحديث عن أحلام العقل عن طريق أخلاقي أو "إصلاح الجينات" هوحديث بعيد عن العلمية. ويرى الكاتب أن إصلاح العقل العربي يحمل معه بالضرورة إصلاح الواقع، وهي ليست نظرة قديمة في الفلسفة ابتدعها سقراط حيث أمن بوحدة النظر والعمل وعززها أفلاطون واستأنفها ديكارت. والعقلانية الغربية حين اختزلت المسألة كلها في "حسن قيادة العقل" وجدت أن هناك عجزاً صارخاً في حياة هذا الإنسان العربي بين النظر والعمل بين القول والفعل، لماذا نقول ما لا نفعل ولماذا نفعل ما لا نقول؟ ولم يختص العربي حتى اليوم بهذه الخصيصة المرذولة وهي أنه إنسان قول لا إنسان فعل، وأنه ليس لأحد أن يصدق وعداً ألقاه أو وعيداً توعد به! ويعتقد المؤلف أن ذلك سمة سائرة فينا نتناقلها جميعاً بلا حرج، ونتبينها في أقوال القدماء من

صانعي تراثنا، ويذكر المؤلف ذلك في قوله: "وقد أبانت وقائع السنوات الأخيرة مثلاً على أن ثلة (مرموقة) من كبار العقلانية ونقاد العقل قد تخلت تماماً ومرة واحدة عن جميع أسلحتها العقلانية حيث كانت تفرض عليها هذه الوقائع وضع عقلانيتها موضع التنفيذ يكن منها إلا أن وضعتها بين قوسين وذهبت في الطريق المضاد تماماً لأحكام العقل يتماسك من أفرادها إلا نفر قليل". ويذهب المؤلف ليقول: "كذلك تكشف بعض الفضائح التي تتفجر هنا وهناك في الأفكار العربية عن أن بعض الذين يتصدرون لقضايا الفكرالقومي وللدفاع عن حقوق الإنسان ضالعون تماما في عملية خرق هذه الحقوق والتنكر لتلك القضايا في ممارساتهم اليومية".

إن "المثقفين الأحرار" يسوغون أكثر أشكال الحكم المضاد للحرية ولكرامة الإنسان، وعدد هؤلاء في اطراد، والظاهرة بينة وليس إنكارها إلا "ضرباً من العزة الآثمة".

والسؤال: ما الذي يكمن وراء هذه المفارقة بين القول الصادر عن العقل الناطق والعقل الآتي من الجوارح؟. ويستدرك الكاتب أن الكلام هنا "لا يتعلق بالانتهازيين والوصوليين والهامشيين" بل بأغلبية بين ظهرانينا. لماذا تفضي مشاريعنا إلى الإخفاق مع أننا نصوغها وفقاً لأحكام العقل؟ ما الذي يجعلنا نضع "القناع" ونمارس "الدور" ونعني بالفضيلة والصلاح ونناضل التسيب بطلب الحرية.. ثم نلقي كل ذلك عند أول قادم يلوح لنا بخيرات من نوع آخر؟ لماذا نعرف الحق ثم نفارقة؟ هناك إجابات جاهزة لكل هذه المفارقات، ولكنها ليست الإجابات الحقيقية، الجاهز أن ذلك من النفاق أو ضعف الشخصية أو خور الإرادة أو الميل إلى الهوى أو حتى الشر والرذيلة ، ولكن كل هذه الإجابات وما حولها هي إجابات معيارية أخلاقية اجتماعية ، أما الإجابة الصحيحة فهي أن المشكلة كامنة في " قوة العقلانية" وفي مدى تأثيرها في حراك الإنسان نفسه وفاعليته، فلو كان النظر العقلي يفضي بالضرورة إلى الفعل لانحسمت المشكلة وانتفت المفارقة، وما احتاج الإنسان الغربي إلى تلك الحيل لأن الواقع والمنطق منسجمان، ولأن الممارسة وتصور الحق والفضيلة منسجمان أيضاً، ولكن للواقع العربي أحكاماً أخرى، هذا الواقع يكذب تكذيباً قاطعاً أن العقل هو السيد المطاع في حلبة الفعل. وذلك يعني أن " إصلاح العقل" وحده بتجريد النقد له هو أمر غير كاف على الإطلاق ، لذلك علينا أن نتحول من " نقد العقل" إلى " نقد الفعل" ، لأن الإنسان إدراك وهوى ووجدان وشهوة وغرائز، وتجربة كل يوم ترينا إلى أي مدى يبدو حراكنا الفردي الاجتماعي محكوماً بالرغبة أو المنفعة أو الحاجة أو الميل إلى الهوى أو الاستهتار وعدم الاكتراث، وإلى أي مدى تبدو العقلانية المحبوبة مخدوعة في حبيبها وعاشقها. كثيراً ما نرى التناقض بين حكم العقل والإرث الاجتماعي أو السياسي أو الرغبة أو الشهوة أمراً رديئاً أو باطلاً ولكن هذا التناقض يعبر أيضاً عن رغبات وحاجات مشروعة ، والخطأ هنا ليس في حكم العقل ولكن فيما ظنناه أنه حكم عقل وهو حكم تاريخ أو تراث، لذلك يقضي الحال بأن نعترف ونمهد السبيل إلى تحقيق الحاجات السوية للإنسان، لأن حكم العقل الصحيح هو " الحاجة الطبيعية إلى المعرفة الموضوعية المستندة إلى أحكام العقل الموضوعي وإلى متطلبات العقل الذرائعي".


عندما يتحدث المؤلف عن رغبته الملحة في نقد الأفعال يعني فيما يعنيه أن الحالة الوضعية للقيم في المجتمع تعاني من اضطرابات سلوكية ظاهرة، ولايخفى على أحد أن التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي اعتورت الأجسام العربية "من المحيط إلى الخليج " قد تركت آثاراً عميقة وحقيقية في قيم الأفراد والمجتمع، أما "الحداثة" فقد عقدت هذه الآثار وأحدثت خللا عميقاً في شبكة القيم نفسها، مؤدية إلى فوضى شاملة في هذه القيم، ونحن "أينما ولينا شطرنا في أرجاء العالم العربي والإسلامي نتبين هذا التركيب المتدافع بين أفعال تنتسب إلى ماقبل الحداثة الدينية أو القبلية أو العشائرية، وبكلمة التقليدية، وبين أفعال تنتمي إلى عقلانية الحداثة ونزعتها التقنية والاختيارية، وبين أفعال تخرج عن هذه وتلك" وبرغم أنه لايوجد مجتمع يعتمد على منظومة متكاملة ومتسقة من القيم، فلا بد أن تتباين "إلا أن تشتت القيم وتباعدها وتضاربها وفوضاها لم تدرك في يوم من الأيام ما أدركته مجتماعتنا اليوم".

وينظر الكاتب بتشاؤم كبير إلى أن القيم الضاربة في المجتمعات العربية هي التي "يمكن أن نسميها بالليبرالية الفجة، أساسها فردانية ذاتية تنشد الخير الخاص لأصحابها وتجعل معايير النجاح والمنفعة والمال والسلطة غايات أساسية لها" وتفسير ذلك هو أن تحقيق هذه المعايير يرتبط في الغالب الأعم بمؤسسات بدائية ونظم بالية متجذرة ووسائل لايحكمها القانون، ولذلك فإن حالة التدافع الشرس غير الرحيم هي التي تنشر في مفاصل المجتمع والدولة وحياة الأفراد، وفي مثل هذه الأحوال تفتقد الكفاية الذاتية معناها، وتصبح الطرق الملتوية والطرق غير القانونية وغير الإنسانية هي السبيل إلى إدراك المقاصد والمنافع. ويصف الكاتب أشكال النفاق والمراءاة والمجاراة وما يسمى بـ"التقية الاجتماعية" في حياتنا العربية الاجتماعية والأخلاقية والثقافية والروحية والسياسية ويصل إلى تفسير أن باعث هذا الملق والرياء والنفاق ليس إلا الخوف الذي هو جماع العلاقة غير المتكافئة بين السيد والعبدوبين السلطة التي تطلب الطاعة المطلقة والفرد الذي يطلب إليه أن يطيع، بين نظام الاستبداد والخاضعين لهذا النظام. وفي تفسير الكاتب السياسي أن هذه الظاهرة "مثلما حدث في السنوات الأخيرة من تملق بعض القوى القومية للحركات والقوى الإسلامية السياسية لتجاوز مخاطر المرحلة الداعية إلى الخوف ".

ويذهب المؤلف إلى القول إنه "ليس ثمة شك في أن نظام الاستبداد المنافي للعدالة والحرية والكرامة والإنسانية لايمكن أن يولد إلا عبيداً تحيك أحوال الرهبة والخوف في نفوسهم نسيج النفاق والكذب والزيف".

وإذا كان الفرد في أفق السياسة وأجواء الاستبداد يخاف فينافق فكيف يمكن قبول النفاق الديني والاجتماعي والثقافي حيث لايحتل "الخوف" تلك المكانة التي له في أفق السياسة؟ إن المنافق في تلك الحالات إنسان يضع قناعاً ويخفي وجوداً، فالذين يرتدون أقنعة النفاق الثقافية ينشدون الاستحواذ على إعجاب الأفراد أو قبول المجتمع أو رضاء الدولة أملاً في ممارسة سلطة أو إدراك منفعة وتحصيل فائدة، وكذلك من يزغم التقي المزيف فيظهر الورع لغاية الاستحواذ على ثقة المؤمنين لممارسة السلطة عليهم ويحصل منافع دنيوية منهم ومثل ما هو متوقع فإن الفضاء السياسي العربي هو أحفل العوالم الاجتماعية بالنفاق والخداع، ففي النصف الثاني من قرننا هذا حيث الأقلية السياسية ذات النزوع السلطوي والاستبدادي اتسع رداء "الأقنعة" لدى الأنظمة والأحزاب والجماعات السياسية فضلاً عن الأفراد، واتخذت بعض القضايا القومية الكبرى ذريعة لتسوبغ جميع السياسات وجميع الغايات، ولعل الكاتب هنا يلمح إلى كيفية خداع الجمهور عندما قام النظام العراقي بفعلته التي أدت إلى كارثة عربية باحتلال الكويت تحت شعارات طنانة هي النفاق بعينه. ومعنى ذلك أن أيا من المجتمعات العربية التي يستشري فيها النفاق ويهددها بالزيف وفقدان الروح والوجود الحقيقي الحي مدعو إلى أن يخوض في وجه أقنعة الزيف والخداع معركة لا رحمة فيها، هي "سر خلاصه ومعقد رجائه".

المؤتلف والمختلف .. هل يصل الضدان إلى انسجام؟

في هذا الفصل الطويل نسبياً يريد الكاتب أن يدخل بنا إلى حقيقة موضوعية وهي أننا لسنا وحدنا كعرب في هذا العالم، فهناك الغير والآخرون، وليس يكفي أن نكون عارفين بأحوال نفوسنا وبما يتملكها من رغبات ومطامع ومطامح، وانما يتعين أن نكون على ثقة من أن هذه الذات في حالة "سوية". فنحن نعلم أننا في حالة ريب شديدة، وأن هناك نوازل تجمعت تحت شمسنا في نهايات هذا القرن وأن مباشرتنا للعالم الخارجي وللآخر لن تكون ناجعة إن نحن لم نتعرف هذه النوازل، علينا أن نتقلب بين المؤتلف على علاته وبين المختلف على علاته، المؤتلف هو نحن والمختلف هو الآخر. ويشير الكاتب إلى أربع وقائع صلبة أمام أعيننا، الأولى الانتصار الساحق للحضارة الغربية، أي استئثار الغرب بأحوال القوة والهيمنة والعلم والتقنية وحدود هذه الواقعة مشهودة. والواقعة الثانية تفجر قوى الغريزة العربية واندفاعها في طريق العدوان والتدمير والتعدي والإفناء، وتجذر منظومة قيم الجبروت والاستبداد والخي رالخاص، والواقعة الثالثة اضمحلال الجسم العربي وتآكل بناه الذاتية، ويرتبط بهذا كله ذلك الإحياء الواسع لروح العشيرة. الواقعة الرابعة هي الدخول في صراع محرق كالأتون وهو الصراع العربي- الإسرائيلي بأبعاده الحضارية والسياسية. هذه النوازل الأربع - في رأي المؤلف - تجبرنا على النظر إلى ذاتنا العربية متخلصين من "الخصائص الجوهرية" التي نصف بها أنفسنا عاكفين على تحرير ذواتنا للنظر بموضوعية في علاقتنا بالآخر، ويقترح الكاتب أن مواجهة الطفرة الساحقة للحضارة الغربية والصعود المتنامي لبعض الحضارات الأخرى الكلاسيكية يفرضان ثلاثة أمور مركزية، الأول مراجعة منجزات الذات التاريخية، أو منجزات حضارة التراثحضارة التراث، والثاني تحديد وضع حضارة التراث هذه بإزاء حضارة الغرب، والثالث بيان موقع حضارة التراث من جميع الحضارات الكبرى واقتراح صيغة مجدية للتعايش معها.

حضارة التراث تحتوي على مجموعة من القطاعات التي يجب علينا النظر إليها من جديد وتخليص النافع فيها من غير النافع، هذه القطاعات هي:
القطاع المعرفي في شتى العلوم والمعارف، وقطاع القيم وما يلحقه من أنماط التفكير والسلوك، وقطاع التنظيم والمؤسسات وهي المؤسسات الزمنية والقانونية والإدارية والعسكرية، والأخير قطاع الإبداع والصنع. وبهذا المعنى يبدو التراث وكأنه الحضارة كلها، وهناك معنى ثان للتراث ويحدد بأنه كل ما هو حاضر في وعينا وفي تشخصنا الحاضر مما ينحدر إلينا من التجارب الماضية في المعرفة والقيم والنظم والمصنوعات. هذه الحضارة التراثية تواجه اليوم حضارة الحداثة الغربية التي قامت على إزاحة المرجعيات التقليدية، وأقامت دعائم المجتمع والدولة على أساس أن "الإنسان هو مايصنع". عندهم العقل هو الذي يقوم ويحرك العلم وتطبيقاته، وهو الذي يتحكم في تكيف الحياة الاجتماعية مع الحاجات الفردية والجماعية.

يناقش الكاتب أن مفهوم الحداثة بمعناه الاصطلاحي قد مر أيضاً في التاريخ الثقافي العربي، وأنه من الخطأ أن نفكر في تراثنا وفقاً للمرجعية الغربية الحديثة، وقد مر بنا، كما يريد المؤلف ويؤصل، مراحل ثلاث في الحداثة بمعناها الاصطلاحي، الأولى هي الحداثة الفرقانية "ذلك الوحي الإسلامي حين جاء ليكون علامة فرق وافتراق بين عهد قديم ماض وعهد جديد مفعم بالخير والفلاح، بين ماسمي بالجاهلية وبين عصر الأنوار الجديد، بين الإنسان العاقل المفكر المتنكر، المتدبر المعتبر، ذي اللب والحكمة.. وبين الإنسان الذي

لا يتبع إلا هواه". أما العصر الثاني في التحديث فهو الاستراتيجية الثقافية الحضارية التي طبقها العباسيون فأنتجت الكندي والرازي وجابر بن حيان والخوارزمي والبيروني وأضرابهم. أما العصر الثالث فقد جاء بعد سبات عميق مع ابن خلدون، وبعد زكود كبير داخل كتلة التراث. والرابع في العصور العربية الحديثة عندما جرب الاحتكاك بالغرب فاشتد وعي الحداثة العربية عندما اطلق الشيخ حسن العطار " 1766- 1835" قولته: "إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها ويتجدد فيها من المعارف ماليس فيها" وتابع ذلك رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ومن تبعهما من الإصلاحيين العرب المحدثين.

جملة القول إن طلب الحداثة من مدخلات متعددة قرعت آذان العرب وأفئدتهم واختلفوا على طريقها. ويتساءل المؤلف ماهي السبل التى يحسن اتباعها في هذه المسألة الدقيقة "العلاقة بالآخر" ويقترح أن لاسبيل إلا سبيل التفاعل والتواصل، وبفعل ذلك لابد من تقديم دليل عملي ونظري على أن العرب والمسلمين لديهم ثقافتهم النوعية المستندة إلى نظرة شاملة إلى العالم، حاملة لعناصر جوهرية قابلة لأن تستجيب لحاجات أبناء الثقافات الأخرى المغايرة وأن تقدم لهم حلولاً جذرية لمشكلات تعجز حضارتهم عن حلها. وبطبيعة الحال- يقول المؤلف- لايمكن تقديم دليل نظري وترك أمر تطبيقه الشخصي إلى الآخرين وإنما ينبغي تعزيز هذا الدليل بالنماذج البشرية والمجتمعية الممثلة للحقيقة الحضارية أو الثقافية، أما رد الآخرين إلى نموذج تحقق قبل قرون وقياس المستقبل على الماضي فأمر لاجدوى منه

الإسلام في العاصفة

في الفصل الرابع يتساءل المؤلف: ماهو الحامل الثقافى المركزي الذي يمكن للمسلمين أن يدعوه لأنفسهم في وجودهم الحضاري مع الآخرين مما يستوجب عند هؤلاء الاخرين النظر أو التأمل أو التقدير أو الإعجاب ولايولد بالضرورة لديهم النفور والكراهية؟ ويجيب أنه ليس سراً أن الإسلام قد أصبح في النصف الثاني من هذا القرن واحداً من المظاهر الرئيسية لتطور العالم الذي نعيش فيه، وليس سراً أنه يبدو منبع خطر داهم ومصدر قوة "مدمرة" عند استراتيجيي القوى الغربية. يقول المراقبون والمحللون إن الإخفاق الشامل للأنظمة السياسية الوطنية القومية هو الذي ولد ما أطلقت عليه أجهزة الإعلام الغربية "الأصولية الإسلامية". وقد رد المؤلف مظاهر هذه الحركة إلى ما أسماه بأزمة "الآفاق المسدودة" ولكن المؤلف يحرص على القول إن الحركة الإسلامية المعاصرة ليست ردة فعل بقدر ماهي تعبير مستمر عن تطلعات قديمة متجددة لاجتياز عالم روحي وأرضي لاتعبث فيه قوى الفساد الضاربة في نشدان الدنيا وجبروتها. أما أزمة الآفاق المسدودة فقد هيأت لهذه الحركة دواعي القوة والجاذبية. وقد طرح المؤلف في كتاب سابق له بعنوان: "المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام" أن تطلعات الإحياء القديمة متجددة منذ أصحاب الحديث التي حددت- خاصة في دولة الخلافة العباسية- الصراع بين تيار أهل الدين الطالبين لدنيا توجهها الرحمة والعدالة، وبين أهل الدولة والدنيا الذين يطلبون الخير الخاص والملك والسلطان ويعضون عليه بنواجذ الغلبة والقهر والظلم، ولقد كان الظفر دائماً حليف الدولة الدنيوية. ولكن جهود أهل الدين من أجل تغيير المنكر لم تتوقف، ومع أن نوايا الخروج والثورة قد راودت دوما نفوس الغاضبين من أهل الأمر بالمعروف، فإنها ظلت محصورة ومكبوتة أو قصيرة اليد محصورة التأثير. ويعتقد المؤلف أن التيار الماركسي الذي عصف بالقرن العشرين منذ ثورة أكتوبر 1917، أدى على أراض عديدة من دار الإسلام إلى دروس عميقة في العمل والبرمجة والنضال السياسي وطلب الدولة. لقد شجع الإخفاق العربي بعض هذه القوى على الخطو السريع في طريق العمل الصدامي والدعوة إلى بديل، وعزز هذه الدعوات الأزمات الاقتصادية العميقة والانحطاط الأخلاقي العام.

ويذهب المؤلف إلى القول "إن هذا الوجه لحياة الإسلام المعاصر ليس إلا الوجه المركزي المباشر لمشكلة الإسلام في العالم الحديث، وهو وجه عظيم الأثر في مستقبل الإسلام في هذا العالم"، ومع تحذير الكاتب الواضح من التنبؤ المستقبلي لأن العقود الأخيرة من قرننا هذا الذي يكاد ينصرم قد كذبت جميع التوقعات بالمستقبل، فإن الذي يلوح فيما يتعلق بمستقبل الإسلام نفسه أنه مصون بحدين رئيسيين: حد (الذات) وحد (الغير)، الأول الإسلام في ذاته ولذاته، أي بما هو ظاهرة واقعية لها أحوالها المشخصة التي تهم الذات وأصحابها، والإسلام لغيره أي بما هو مشروع (للغير) له عنده رجع خاص، وبين الإنسان وحضارته ومستقبله. وحتى يتحقق التآلف لابد من عملية تركيبية توائم بين الاتباعية والابتداعية- على حد تعبيره- أي إعمال الفكر ومواءمتة في التراث. ويؤكد الكاتب عند الحديث عن المواءمة تلك أن النص القرآني ليس جزءا من التراث وإنما هو عال عن التراث مفارق له وأصل له، إنما يدعو إلى إعمال العقل في التراث بما هو أفكار وعلوم وطرائق ومصنوعات ومبدعات قيمة. ويرى الكاتب أن الإسلام الذي يتحرك في الزمان وعلى الأرض وبين الناس يجتاز أحوالا دقيقة وظروفا معقدة، ويعمل المؤلف فكره لاستبصار تلك الظروف المعقدة والدقيقة، ويبحر في المتابعة والشرح ليقدم لنا مخارج وحلولا تستحق النظر.

حوارمع اليأس.. والرجاء

يختتم الكاتب كتابه المهم هذا بفصل قصير سماه "حوار مع اليأس " وهو في حقيقته حوار مع الرجاء والأمل، فيذكر أن "التدخل العربي " في التاريخ، أو العصر العربي في تاريخ الإنسانية ليس مصادفة ولا مغامرة، وإنما كان مشروعا حقيقيا نال أصحابه من الدنيا حظهم.

كان ذلك في الماضي، أما الحاضر فيراه الكاتب حاضرا مقبضا يدعو إلى اليأس وتنتشر في الأفق "جيوش من العواصف والأعاصير والسحب المظلمة"، كما أن العقل العربي مجازا ليس مما يسهل تدبير أمر تعديله، وإن لم يكن ذا بنية راسخة ولكن عوائده وتحديداته المستمرة في جملة وجوه الحياة اليومية ليست مما يتيسر تعديله أو تجاوزه في زمن قصير. فالنظم التربوية، التي يفترض أن ما تقصد إليه يتمثل في البناء والتنوير وتنمية أدوات الإبداع، لا تنشىء عمليا إلا عقولا ضحلة ونفوسا هزيلة خاوية من كل معنى أو حس.

ويذهب الكاتب ليقول في خاتمة كتابه: "ليس لأحد أن ينكر على أحد غيره اعتقاده بأن خلاص هذه الأمة لا يمكن أن يتحقق إلا بإنقاذ مشروع إسلامي شامل تتجسد فيه أحكام الدين وقواعده وأهدافه، ولكن الجزم المتصلب بان هذا التحقق لا يمكن أن يتم إلا بالعدول عن صيغة التواصل الرحيمة والموعظة الحسنة والحوار والإقناع، وبالتحول إلى صيغة سياسية راديكالية مضادة للأفراد والمجتمع والأنظمة السياسية القائمة والعالم الخارجي، فلا ينتج عن ذلك إلا تقابل جذري عنيف ينذر بالإبادة التامة لهم ولكل من يقاربهم في السير في هذا الطريق".

يبدو لي أنني في هذا العرضي التوضيحي لهذا الكتاب المهم قد أعطيت المؤلف حقه فإن مثل هذا الكتاب الأحرى به أن يقرأ بتؤدة ويفكر فيه بعمق، وتكفي هنا الإشارة إلى أهميته، وما ذهب إليه من توازن لا نرغب فيه فقط في أيامنا العربية المضطربة هذه بل نستحقه أيضا.

 

محمد الرميحي