مذكرات شخصية عن رحلة أوربية

مذكرات شخصية عن رحلة أوربية

أذكر لقاء لي مع بائع مرطبات يقف بجوار عربته في شارع بين ميدان بيكاديللي وميدان الطرف الأغر في لندن. وقفت واشتريت منه زجاجة "كولا" كان ثمنها في ذلك الوقت- منتصف السبعينيات- خمسة وعشرين بنسا، وثمنها اليوم قد يزيد على جنيهين إسترلينيين. وكان البائع يشكو لي من ارتفاع الأسعار. ويرفض في انفعال واضح السوق الأوربية المشتركة وكانت المملكة المتحدة مازالت مترددة في قبول الانضمام إليها. وكان يقول لي- وقد دونت كلماته في مذكراتي عن تلك الرحلة- لن يستفيد من الانضمام إلى السوق إلا قلة من أصحاب المال يتاجرون مع اليابانيين أو يتاجرون مع العرب بينما نحن نجوع. وكان هذا الرجل البسيط أول من نبهني في ذلك الوقت إلى الأفكار الجديدة التي ظهرت في الشارع الأوربي، على مستوى الفرد وبين الرأي العام. بالنسبة لأهمية الشرق الأوسط والعلاقة مع العرب. وكانت تحليلات سياسية كثيرة قد تناولت هذا الموضوع بإفاضة وتعمق أكاديمي. لكنها ظلت مجرد أفكار لم أشعر بسخونتها وخطورتها، حتى رأيت بائع المرطبات يتحدث عن علاقة بلاده بآسيا واليابان والشرق الأوسط والعالم العربي. ولقد حدث أخيراً ونحن في التسعينيات ومنذ أسابيع قليلة أن رأيت جون ميجور رئيس وزراء إنجلترا على شاشة التلفزيون وكان وجهه منفعلاً وصوته غاضباً وهو يرفض القرار الأخير الذي صدر من الاتحاد الأوربي بضرورة مراعاة حد أقصى لساعات العمل فلايزيد على ثمان وأربعين ساعة في الأسبوع، وبأن يحصل العامل على إجازة لمدة أربعة أسابيع مدفوعة الأجر كل عام. ذكرني وجه جون ميجور بانفعاله وتأكيده بأنه لن يسمح بتنفيذ هذا القرار الذي يرفع تكاليف الإنتاج في إنجترا، بملامح وانفعالات بائع المرطبات الذي تحدثت معه منذ أكثر من عشرين عاما.

وتداعت الذكريات ومن بينها تلك المفاجأة التي صدمتني في إيطاليا عند أول زيارة لي لأوربا منذ أربعين عاما. فقد خرجت من المحطة إلى ميدان فينيسيا في روما فإذا بامرأة تحمل طفلا رضيعا تهاجمني وتمد يدها إلى صدري تشد قميصي بيدها اليسرى وهي تصرخ "بامبينو فاما" الطفل جوعان! ولم أصدق أن هذا يحدث لي في أوربا بلاد المدنية والحضارة، وذهبت إلى الفندق واحتميت به أسأل نفسي ما الذي يحدث. وكأن الفقر والتسول لايجوز أن أراه في أوربا. فلما هدأت خواطري، اكتشفت أني أتعامل مع أوربا كما لو كانت حلما أو أسطورة. وأني أنتمي إلى جيل كان يرى في أوربا مفاتيح التقدم والتمدن والحضارة. وأن رأسي امتلأ بهذه التصورات عن أوربا. برغم أني شاهدت في القاهرة أفلام إيطالية واقعية تصور الفقر والتشرد. ومن بينها أفلام غاية في الروعة مثل فيلم " لص الدراجات " لفيتوريودي سيكا. وفيلم "الأرز المر" تمثيل سيلفانا مانجانو واماديو نزاري. لم ينتقل إليّ وأنا أشاهد هذه الأفلام أي إدراك بأن أوربا تعاني من أزمات اقتصادية، وأن بها مجتمعات فقيرة ومتخلفة. وكانت مواجهتي بتلك المرأة التي تحمل رضيعا وهاجمتني في أول ساعة من وصولي إلى أوربا وروما، هي التي نبهتني إلى بعض الأفكارالأساسية التي تساعد على فهم أوربا الفهم الصحيح. لقد بهرتنا أو خدعتنا القوة العسكرية وهذا طبيعي، ولأن تركيزنا على القوة العسكرية أغفلنا رؤية الواقع الأوربي، حتى أصبح اهتمامنا بالحصول على السلاح الأوروبي الجديد أهم من اهتمامنا بأي شيء آخر. لكن هذا التركيز كان بعيدا تماما عن الرؤية الصحيحة التي بدأ بها كبار المثقفين الذين خرجوا من بلادنا لاستطلاع أحوال أوربا ومعرفة أسرارها منذ بداية القرن التاسع عشر، وبعد انتهاء حملة نابليون بونابرت على مصر والشام مباشرة. وفى مقدمة هؤلاء المثقفين كان رفاعة الطهطاوي الذىي فاجأني بأنه رأى قوة حضارة الغرب الأوربي لقدراته فيما وصفه بالتحايل أو الاحتيال! لتوسيع دوائر الزراعة والتجارة والصناعة. وكان يقول إن دولة الإنجليز تحايلت وفتحت بلاد الهند وغيرها من البلاد فاتسعت تجارتها. أي أنه رأى التقدم والحضارة في عمليات البناء والزراعة والصناعة، ورأى أن القوة العسكرية والهيبة والنفوذ السياسي توابع لما يتحقق من تحايل في تلك

المجالات التي ترفع مستوى المعيشة. ولفظ الاحتيال- كما جاء في لسان العرب لابن منظور- هو الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف. وهذا يختلف عن معنى الاحتيال أو النصب الذي هو جريمة في القانون الجنائي. وإن كان الاحتيال بمعناه القديم قد تحول إلى استعمار وارتبط بمعناه الجنائي الجديد.

وكان الإمام محمد عبده هو الآخرفي نهاية القرن التاسع عشر يرى في أوربا التمدن وصاحبه "هو الساكن في منازل الرغد والهناء واللابس حلة الإسعاد، تراه يتقلب على بساط العز في معارج الإجلال والجمال عمرت دياره.. بالأبنية العالمية وتزينت بالأسواق الفسيحة والصنائع العديدة. وصارت محط رجال السياسة ومطمع أنظار النبلاء". وكان محمد عبده يسخر من المغالطات ومحاولة تشويه صورة الأوربي، لأن في ذلك إنكاراً للبداهة من وجهة نظره، ويرى أن الساخطين "يسلون أنفسه بأن الأجنبي لاسطوة له ولاحكم، إنما هو غريب دعته الحاجة للتجوال في البلاد طلب الرزق ثم تحدثهم خواطرهم بإننا أرفع شأنا من ولئك الغرباء، وأسبق منهم يدا في المدنية ولئن تأخرنا عنهم حينا من الزمن"!

وكان يرى أن الاقتصاد وهو العنصر الأساسي لقوة أوربا فيقول: "إن الأمم المتمدنة وإن أنفقت الأموال الكثيرة في تشييد القصور وتزين الملابس وتحسين الأثاث، إلى غير ذلك من المصارف، فإنما يكون على نسبة مخصوصة من إيراداتهم الحائزين لها بالكد والتعب.. ونفقاتهم لاتجاوز حد اللزوم ولاتخرج عن احتياجاتهم".

أحوال الناس

قرأت رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده باهتمام بعد رحلاتي الأولى لأوربا، ورأيت أن التفاتهما لأحوال المعاش وكسب الرزق والصناعة والزراعة، أهم بكثير من وقوفهما عند الثقة العسكرية والغرور السياسي. ولذلك تابعت مايطرأ على أوربا من متغيرات من خلال ما أشاهده في أحوال الناس ومعاشهم. وليس من خلال مايردده رجال السياسة عن موازين القوى والأحلاف العسكرية، كحلف وارسو الذي انهار أو حلف الأطلنطي الذي يسعى إلى تجديد شبابه وحيويته.

وأصبح السؤال الذي أبحث عن إجابته كل عام عندما أزور أوربا، كيف تسير أحوال الناس، وما هي ملاحظاتي وإنطباعاتي عنهم في الشوارع والمتاجر والملاهي؟ ولذلك تابعت وسجلت ظاهرة العالمية وهي تزداد وضوحا ورسوخا. وشاهدت العواصم الأوربية عندما كانت تحتفظ بأحياء أرستقراطية، وكيف بدأت الجماهير تزحف إلى شوارعها وبيوتها.

وشاهدت هذه العواصم ونسبة ضئيلة من الأجانب تسير في شوارعها وكيف تلاحقت وتصاعدت موجات وأفواج الأجانب حتى اكتسحت أحياء بأكملها في لندن وباريس وانتشرت تغزو مدنا في ألمانيا وهولندا وبلجيكا وتصعد إلى الدول الاسكندنافية، بل تصل إلى قرى نائية في جبال الألب بسويسرا حيث منابع نهر الراين في بلدة مثل شانهاوزن.

إن مايحدث من تغيرات في حركة الناس، لاجئين ومهاجرين وسياح وصعاليك، لا يثبت ولا يستقر، بل هي مشاهد تتصاعد في تفاعلاتها عاما بعد عام.

ولاشك أن تباين الطبقات الاجتماعية كان واضحا في الخمسينيات. فكنت ألاحظ تحولا مفاجئا عندما انتقل من حي إلى آخر، أخرج من عالم لأدخل عالما آخر مع أني في مدينة واحدة. كان الذين يسيرون في باريس من نساء ورجال في الطريق بين المادلن والأوبرا لهم أناقة خاصة، والنساء تفوح منهن عطور مميزة. فإذا انتقلت إلى حي "جاليني" خرجت من عالم ترتدي فيه كل امرأة ثروة وتتزين بثروة وتصعد إلى سيارة أو تهبط منها تساوي ثروة. إلى حي تسير فيه نساء عاملات فقيرات يحملن سلال طعام والخشونة واضحة في ملامح وجوههن. وكانت المقاهي تختلف ورائحة القهوة والكرواسان تختلف، وكأنك تنتقل من مشاهد وديكور لمسرحية إلى مشاهد وديكور لمسرحية أخرى. وأذكر " بارك لين " في لندن، أو ميدان سلون والشوارع المتفرعة منه، حيث يسير الرجال في وقار وتزمت. الجميع يرتدون ملابسهم كاملة، رمادية اللون أو سوداء، والجميع حوله رقابهم رباط العنق، وكنت إذا تهت في أحد هذه الشوارع - في الخمسينيات- وسألت أحد هؤلاء المارة. وقف يتأملني باهتمام وأدب وفضول، وشرح لي موقعي وسألني من أكون، وكأن لديه كل الوقت. نفس هذه الشوارع اليوم لا أرى فيها إنجليزيا إلا نادراً. الشارع الممتد من "نايتس بريدج " بجوار محلات هارودز حتى "سلون سكوير" تسير فيه جماعات من السيدات العربيات معهن شبان وفتيات يحملون مشتريات بلا حصر. وقد ترى هنودا أو أفارقة. وبكل تأكيد سوف تقابلك جماعات من اليابانيين. هذا هو المشهد في التسعينيات، أما الإنجليزي الوقور الذي كنت أقابله منذ أربعين عاما فلا وجود له.

استعادة الذكرى

ومهما قرأت عن العالمية، وترابط الأسواق، واتصال سياسات الاقتصاد والأمن ومكافحة الجريمة والتهريب والإدمان، فلن تصل إلى رؤية شاملة وصحيحة. مثل تلك التي تحصل عليها بأن تسير على قدميك بين الناس. وهذا مافعلته خلال شهور الصيف والخريف. وعندما وصلت إلى ستوكهولم كنت أعود إلى العاصمة التي كتبت عنها روايتي "الساخن والبارد" في نهاية الخمسينيات -1958- فلم أصدق الصخب والضجيج في أسواق كانت هادئة. ودخلت متجرا كبيرا بالذات كنت اشتريت منه بعض الملابس، وكان كبيرا وهادئا، فإذا بمدخله كافيتريا وبار وناس يأكلون، وسيطر طابع السوبر ماركت على محل كنت احتفظ له بصورة قديمة وعريقة في ذاكرتي. ولم استطع شراء شيء لأني واجهت ما لهم أكن أتوقعه. وكأني تهت وأخطأت المكان. وهذا الشعور لازمني طوال جولتي في دول اسكندنافية كانت مسرحا لروايتي التي تعرضت فيها لمواجهة بين مشاعر وتقاليد وثقافة الشرق- بلادنا- ومشاعر وتقاليد وثقافة شمال أوربا بوقاره وتحفظه الجديد الذي أصابه تفكك باسم حريات اكتسبها الناس لأجسامهم أو غرائزهم، على حساب عجز واضح في ممارسة حريات بالفكر والرؤية الإنسانية، كل شيء هبط من أعلى إلى أسفل، على عكسي ماكان يتصوره أرسطو عن الارتقاء من منطقة الغرائز، إلى منطقة الاحتياجات وهي الطعام والكساء وكل ماتهتم به السياسة أو الاقتصاد. ثم الارتفاع إلى منطقة الرأس حيث الحكمة وسلطة العقل. وكان الصراع في رواية الساخن والبارد بين "جوليان السيدة السويدية التي أحبت فاندفعت بعواطفها، لكنها سيطرت بعقلها وأدركت مصير العلاقة مع "يوسف منصور" رجل الأعمال العربي الذي اندفع بغرائزه فتورط في وعود وأطلق أماني وأحلاما خدع نفسه بأنها صادقة ليكتشف أنه لم يخدع جوليا بل خدع نفسه وأن تورطه في خطيئة شائعة بيننا وهي الصدق الكاذب".

أحلام صادقة يكشف الواقع كذبها. إن جوليا السويدية التي كتبت عنها غير موجودة. فعلى شاطىء الميناء كانت فتاة شبه عارية مكشوفة تماما أمام ثلاثة شبان يجلسون بجوارها يتسامرون في وضح النهار. والوجوه ليس فيها حلم أو عاطفة كتلك التي دفعت جوليا إلى المغامرة الرومانتيكية مع شاب من الشرق. مثل هذه المغامرات تبدو وكأنها نوع من الثرثرة ومن الرغي ومضيعة الوقت. أو هذا هو ماخيل إليّ، لأني على أية حال لم أشعر بذلك الشعور الرومانتيكي الذي واجهتني، به ستوكهولم، منذ أربعين عاما. تغيرت ستوكهولم ولاشك أني أيضا تغيرت. لكني لا أبالغ عندما أقول إن أوربا كانت منقسمة إلى قسمين أو إلى ماردين كبيرين أحدهما يعتمد على قوته البدنية أو المادية وهو يهتم الآن بالغريزة والجنس كتعبير عن قوته المادية. أما المارد الثاني فكان يتمسك بتشكيل الحياة بأفكار سياسية وأيديولوجيات. وقد سقط هذا المارد وخارت قواه. وانطلق الناس فرادى كجزر منعزلة بينما تزداد قدراتهم على الانتقال والاتصال بأي مكان في العالم فأصبحوا غرباء يجمعهم عالم صغير واحد. جيران لايعرفون بعضهم، يتجمعون في طوابير في المحلات ويحتشدون في ملاعب الكرة والتنس ويترددون على نفس المطاعم ويأكلون أطعمة جاهزة. هامبورجر. بيتزا. دجاج. شاورمة. فلافل. تجدها في كل العواصم في انتظارها طوابير طويلة. لكنهم غرباء حذرون من بعضهم البعض. لايتوقعون خيرا من الآخرين، وكل شيء من حولهم يتغير بسرعة أكبر من قدرة أي واحد منهم على استيعاب التغيير والسيطرة على نتائجه.

لقد شغلت نفسي برصد هذه التغيرات، فوجدتني لا أستقر في مكان. لا أشعر باطمئنان إلآ إذا ركبت قطار ينطلق بي مسرعا من مكان إلى مكان. لأني لا أعرف كيف أستقر في المكان الذي أنا فيه فأذهب إلى مكان غير لعل وعسى، ويتكرر السفر والترحال حتى أدركت أر الحركة والتنقل هما الوسيلة الملائمة لروح العصر.

 

فتحي غانم




العواصم الأوربية بدأت تفقد أرستقراطيتها الدولية