أزمة المثقف

أزمة المثقف

فكر بلا تنوير.. وحضور بلا فاعلية

يشهد المثقفون على ذلك بأنفسهم! إذ إن خطاباتهم في قراءة واقعهم وتقييم أدوارهم تحفل بمفردات الفشل والإحباط والاستلاب! فضلا عن الصدمة والفجيعة والكارثة.

هذا الواقع الذي أصفه بالهزال المعرفي والوجودي! لا يُسأل عنه الآخرون وحدهم! من سلطات سياسية أو دينية! بل يُسأل عنه المثقفون بالدرجة الأولى بقدر ما هو محصلة أوهامهم عن الذات والمجتمع أو نتيجة مشاريعهم الخرافية في التعاطي مع الواقع ومحاولات تغييره.

وإذا كان النقاش الذي ينخرط فيه بعضنا حول قضية المثقف وأزمته! يتركز عندنا على التجربة اللبنانية! فإنه يطال في النهاية المثقفين في لبنان! وفي العالم العربي أيضا! وذلك حيث تدور بين الفترة والفترة سجالات حامية حول قضايا الساعة وشئون الأمة! أو حول أوضاع الحريات! أو حول علاقة المثقفين بالسلطة السياسية! كما تشهد على ذلك قضية نصر حامد أبوزيد التي لاتبرد حتى تعود لتشتعل من جديد! أو قضية إدوارد سعيد الذي منعت كتبه من التداول على أراضي السلطة الفلسطينية! بقدر نقده لها وعدم الاعتراف بمشروعيتها! مع أنه كان منذ البداية من المساهمين في تشكيلها.

بل يمكن القول إن النقاش الدائر يعني المثقف على وجه العموم! فالمثقفون هم اليوم في أزمة! بسبب أفكارهم والأحرى القول بسبب أنماطهم في التفكير ونماذجهم في العمل والتغيير.

وأستعيد الآن قول الكاتب البيروفي ماريو فارغاس لوزا بعد فشله في انتخابات رئاسة الجمهورية في بلده (بيرو): إن أفكارنا قد فشلت لأنه لا علاقة لها بالواقع على الإطلاق. ومعنى هذا القول أن أفكاره تحتاج إلى عالم آخر لكي تطبق! حيث إن محاولات ترجمتها على أرض الواقع! لامآل لها سوى الفشل الذريع! وربما دمار الذات وخراب البلاد وتبديد الثروات! على ما ترجمت الأفكار والشعارات في كثير من البلدان العربية والإسلامية.

وهكذا فنحن إزاء مثقف عني به ماريو لوزا! قرأ تجربته بعودة نقدية على ذاته وأفكاره. أما عندنا فإن الذين لم ترضهم نتائج الانتخابات النيابية قد صبوا جام غضبهم على البلاد والعباد! نفيا لما حدث وإقصاء لذوات الغير أو عدم اعتراف بمشروعيتهم. مع أن الجميع يعلم أن انتخابات اتحادات الكتاب والمؤسسات الثقافية ليست أفضل من الانتخابات النيابية! كذلك فإن العلاقات داخل القطاع الثقافي سواء كانت بين شعراء أو مفكرين أو فقهاء! ليست أفضل! بل قد تكون أسوأ من العلاقات بين أهل السياسة.

ومعنى ذلك في نظري! أنه لم يعد يكفي معيارا للصدق والمصداقية أن يعلن المثقف أنه مع الحرية والديمقراطية. فالأولى به أن يعيد النظر في علاقته بمفاهيم الحرية والسلطة والحقيقة! بدلا من الاستبداد برأيه وبالناس! من خلال تنصيب نفسه وصيا على الحريات والحقوق! أو بتعامله مع الحرية بطريقة استبدادية. في النهاية وكما علمتنا تجارب التحرير والتنوير! لا أحد يحرر أحدا! بل الواحد! فردا كان أم مجتمعا! يتحرر بقدر ما يصنع حقيقته ويشكل سلطته ومداه الوجودي عبر الخلق والإنتاج والابتكار.

لا للطعن والتجريح

أعود إلى مسألة النقد الذي أمارسه لأقول: ليس هدف النقد! مهما قسا وعنف! الطعن والتجريح على ما نقرأ الكثير من الانتقادات التي تتناول قضية المثقف ومواقف المثقفين الفكرية والسياسية! خصوصا عندما يتركز النقد على القضايا والمقولات! أو ينصب على المواقف والوضعيات. فالنقد هو اشتغال على الذات والفكر والواقع لمغادرة حال العجز واليقظة من السبات! بإعادة طرح الأسئلة وصوغ المشكلات أو فحص المقولات! وذلك لتجاوز الأسئلة غير المنتجة أو فضح الثنائيات المزيفة والخادعة! أو تفكيك المقولات الضيقة والأجهزة القاصرة.

وهكذا فالنقد هو امتلاك لإمكانات وجودية جديدة! تتيح للمثقف إعادة ترتيب علاقات القوة بينه وبين الآخرين! بمن فيهم الحكام وأهل السياسة! وذلك بفهم ما يستعصي على الفهم! أو بقول ما لم يكن ممكنا قوله! أو بفعل ما لم يكن بالمستطاع فعله. بذلك يمارس المثقف فاعليته كمنتج للأفكار والمفاهيم. وحدها المصداقية الفكرية والمعرفية تتيح للمثقف أن يمارس مشروعيته النضالية.

والنقد الحقيقي هو الذي يتيح للمرء تغيير علاقته بذاته وفكره! بقدر ما يتيح له تغيير علاقته بالواقع والحقيقة. هذا هو شأن النقد المنتج والفعال. إنه إقامة علاقة نقدية مع الذات بغية تغيير علاقات القوة بإعادة رسم خريطة المعرفة. بهذا المعنى فالنقد هو امتلاك للقوة وممارسة للحضور والفاعلية! وكما أن "نقد العقل" عنى سبر إمكانات جديدة ترجمت مزيدا من المفهومية والفاعلية في معرفة العالم والتعامل معه! كذلك فإن "نقد المثقف" يعني العمل على خلق ثقافة حية! متجددة! فعالة! من حيث قدرتها على قراءة العالم والمساهمة في صونه وتشكيله.

هذا هو شأن النقد! بالمعنى التنويري. إنه ليس إدانة للمواقف أو نقضا للأقوال! بقدر ما هو سعي لفتح آفاق جديدة أمام التفكير! أو ابتكار أساليب معايرة للعمل والتدبير! تسهم في فهم الواقع وتشخيصه! بقدر ما تسهم في صناعته وتغييره. فالواقع الذي لا يتغير! يصبح قابلا للتغيير! بقدر ما ننجح في تغيير أفكارنا عنه أو طرق التعامل معه. بهذا المعنى! لا يثمر النقد ما لم يتزحزح أحدنا عن موقفه أو يغير أفكاره وأساليبه! بتغيير علاقته بذاته والعالم.

أما الدفاع عن الثقافة والمثقف بعقلية الشعارات ومنطق الخطابة والأدلجة! فليس سوى سلاح مغلول يزيدنا عجزا على عجز

 

علي حرب