أحمد بهاء الدين

أحمد بهاء الدين

من قاضي الأوراق إلى مهندس الصحافة

كانت ثورة 1919 في الثامنة من عمرها! حين ولد "أحمد بهاء الدين" في 10 فبراير 1927! وكانت قد جرت في النهر ـ خلال تلك السنوات ـ مياه! ودماء! غزيرة وغرقت فيه! على الرغم من ذلك! أحلام كبيرة! خمدت جذوة الثورة المشتعلة! وانتهى حماسها الفوار "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"! وأسفرت ـ فقط ـ عن نصف استقلال! ونصف ديمقراطية: نصف استقلال أنهى الحماية البريطانية! لتظل مصر خاضعة لتوجيه سياسي! يمارسه لورد استعماري قارح! يحمل لقب المندوب السامي! هو "اللورد لويد"! يدعمه جيش احتلال بريطاني تتوزع حامياته في كل المدن! ونصف ديمقراطية! محاصرة من كل الاتجاهات! باللورد "لويد" وتحفظاته! وبعاهل شرقي ـ هو الملك "فؤاد" ـ يقاوم بشدة كل محاولة لإكراهه على أن يكون ملكا دستوريا! يملك ولا يحكم! ويصر على ألا تنفرد الأمة وحدها بأن تكون مصدر كل السلطات! أيامها كان "سعد زغلول" الذي استرد شبابه عام 1919! فقاد وهو في الستين من عمره! ثورة بدلا من أن يبني مقبرة ـ قد ارتد مرة أخرى إلى شيخوخته ـ بعد أن أيقن أن أحلامه أوسع من إمكانات شعبه وأمته! وأدرك أن الحق بلا قوة! لا يثبت استحقاقه للحق! فلم ينازع حين اعترض الإنجليز على رئاسته للوزارة! في أعقاب عودة الحياة الدستورية عام 1926! واكتفى برئاسة مجلس النواب! وترك رئاسة الوزارة الائتلافية التي تجمع بين "اليعاقبة"! و"الجيروند"! لزعيمهم "عدلي يكن"! ورضي بنصف الاستقلال! حرصا على نصف الديمقراطية. ثم ما لبث أن مات في أغسطس من السنة نفسها! ليتوقف "بهاء" ـ الذي كان في الشهر السادس من عمره ـ بعد ذلك بسنوات! أمام كلمة من أقسى كلماته: كانت غلطتنا حين صدقنا أننا مستقلون!

وكان "أحمد بهاء الدين" في الثانية من عمره! حين بدأ عام 1929! "الكساد العالمي الكبير" الذي ظل يتصاعد خلال السنوات الأربع التالية! ليتواكب مع "الانقلاب الدستوري الكبير" الذي بدأه "محمد محمود" بإيقاف العمل بدستور 1923 لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد! مقابل وعده للشعب بأن يقوم بتجفيف البرك والمستنقعات! ثم استأنفه ـ بعد إجازة دستورية لم تكمل العام ـ "إسماعيل صدقي"! ليلغي الدستور! ويستبدله بغيره! أقل ليبرالية! حتى لا يكون فضفاضا على "الرعاع" الذين لم يكن يثق أدنى ثقة بأهليتهم لحكم أنفسهم! وليضيف الكساد إلى بنادق الشرطة في مواجهة المتظاهرين دفاعا عن مبدأ الأمة مصدر السلطات! فيسارع كثيرون من "أفندية الريف" للانفضاض من حول الوفد! في تلك السنوات! أو الثلاثينيات! بدأ سفر خروج البرجوازيين المصريين الصغار! من الطلبة والموظفين وصغار التجار والمحامين من تحت عباءة الوفد! التي ضاقت عن طموحهم. وكانت النازية والفاشية تخايلانهم بأحلام بعث المجد الذي كان يصهر الشعب في سبيكة واحدة! بلا أحزاب تفتته! وبلا ديمقراطية تشتت جهوده! فاستعاد شعار الاستقلال وهجه! وخفت وهج الديمقراطية! لكي يواجه قهرا ـ وعهرا ـ استعماريا لم يتورع عن قتل "عمر المختار"! وعن تنفيذ الإعدام بالحبال علنا في "ساحة المرجة"! ولم يتردد في أي يوم عن فتح نيرانه على المتظاهرين ضده! في بغداد وبيروت والقدس ويافا.

وهكذا عرفت مصر الثلاثينية أحزاب هؤلاء البرجوازيين الصغار! الذين لا يمكن إلا أن يكونوا في الطرف الأقصى من كل شيء. رفعت "مصر الفتاة" شعار: مصر فوق الجميع! أي فوق جميع الأمم وجميع الأحزاب! ورفع "الإخوان المسلمون" شعار: القرآن دستورنا! وجرى البحث عن مستبد عادل! يعيد الروح ويدمج الكل في واحد! كما تمنى أبطال رواية "توفيق الحكيم"! وصرخ "أحمد حسين" ـ زعيم "مصر الفتاة" ـ يا شباب 1933 كونوا كشباب 1919. وشاع الحديث عن جيل من الثوار شاخ! وأعطى كل ما عنده! استغفله المستعمرون! وحايلوه بالديمقراطية! فبلع الطعم! واستبدل شعار "الدستور أولا"! بشعار "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"! بينما الثورة لم تنشب إلا من أجل الاستقلال! ولا شيء ـ آخر ـ غير الاستقلال.

وظل "الوفد" صامدا وحده! لا يجد فارقا بين الاستقلال والديمقراطية! أو مبررا للاختيار بينهما! فالشعوب لا تطلب الاستقلال إلا لتحكم نفسها بنفسها.

ولأن "عبدالعال أفندي شحاتة" ـ الموظف الصغير بوزارة الأوقاف ـ كان ينتمي إلى الجيل الذي ولد بين الثورتين (1882/ 1919)! وسمع في طفولته أصداء حكايات "هوجة عرابي" وكان قد غادر مسقط رأسه! في إحدى قرى وسط الصعيد على سطح إحدى موجات الهجرة الكثيرة! التي كانت تحمل الجنوبيين إلى الشمال! يهرب فقراؤهم من نقص القوت! ومن الطواعين والفيضانات! ويهرب مستوروهم ـ مثله ـ من جدب الحياة وتخلفها. وفي إسكندرية ذلك الزمان! ولد "أحمد بهاء الدين"! في مصر ذلك الزمان! التي كان كل شيء فيها ضد كل شيء: الاستقلال ضد الدستور! وثوار الثلاثينيات ضد ثوار العشرينيات! والأصالة ضد المعاصرة! والقومية ضد التعددية الحزبية! والوطنية ضد التقدم! فلا شيء يأتي من الغرب! ويسر القلب.!

وكانت الإسكندرية أيامها نموذجا لزمن الاستقطاب ذاك! فهي مدينة متروبوليتانية! تعيش في حالة شيزوفرانيا ديموجرافية! وتنقسم إلى أحياء إفرنجية نظيفة! يسكنها الأجانب المحليون! وأثرياء الوطنيين! يستمتعون بالجمال ويصبغونه! ويبشرون بأفكار متقدمة! وسامية حقا! ولكنهم يقصرون خيرها على أنفسهم! وأحياء وطنية يتكدس فقراء المهاجرين الصعايدة! في أزقتها المتداخلة! التي تتحول أرضها ـ في موسم الأمطار ـ إلى أوحال! ويمرح الذباب في فضائها! وتسرح فيها أوبئة الطاعون والتيفوس والكوليرا! وتبدأ منها المظاهرات العارمة! دفاعا عن الاستقلال والديمقراطية.

وهكذا طرحت مصر الأضداد! وإسكندرية الأضداد مشاهدهما أمام عيني "بهاء" الطفل.. ولأنه كان ذكرا وحيدا على أربع بنات! ضعيف التكوين! ضئيل الحجم! عرف اليتم مبكرا! فقد كان طبيعيا أن يكون مفرط الحساسية خجولا! ميالا للانطواء والتأمل! وأن يتفتح! نتيجة لذلك وعيه مبكرا.. لذلك بدأ شغفه بقراءة الكتب! وربما الشوارع والناس! وهو في السابعة! ليتكون من ذلك فيما بعد! نمطه المتفرد! الذي حاول أن يفك خيوط الغزل المتشابكة التي كانت تدفع بالأمور نحو استقطاب فيه من الحدة واللجاج والعُصاب! أكثر مما فيه من المنطق والعقل والمسعى من أجل مصلحة البلاد والعباد.

وكان قد اقترب من العاشرة! حين رحل به "عبد العال أفندي" من الإسكندرية إلى القاهرة! عام 1937: مات "الملك فؤاد"! وخلفه ابنه الشاب "الملك فاروق"! ووقعت معاهدة 1936! التي وصفها "مكرم عبيد" بأنها معاهدة الشرف والاستقلال! وعلى الفور أعلنت "الجيروند" أن دور "اليعاقبة" ـ وحزبهم "الوفد" ـ قد انتهى.

وتدهم الحرب الكونية الثانية مصر! فتبتهل قلوب المصريين إلى الله أن ينصر "الحاج محمد هتلر" ـ الذي كانت الدعاية النازية! قد أشاعت بينهم أنه أسلم سرا ـ على الثعلب الاستعماري العجوز "ونستون تشرشل"! وينتظرون بلهفة اليوم الذي يستخدم فيه أسلحة المخزن رقم 13! في إبادة الجزر البريطانية من على الخريطة! ويعود الوفد إلى الحكم ـ في 4 فبراير 1942 ـ بطلب من الدبابات البريطانية! وفي حمايتها! وتثبت معاهدة 1936! في التطبيق! أنها لم تكن معاهدة شرف! ويثبت الاستقلال الذي جاءت به أنه وهم! وتخضع مصر لأحكام عسكرية قاسية طوال سنوات الحرب! فتضيع ـ حتى في ظل الوفد ـ الديمقراطية! في سنة من هذا الزمن المتخبط المرتبك! هي 1943! التحق "أحمد بهاء الدين" ـ وكان قد جاوز السادسة عشرة من عمره ـ بكلية الحقوق.

كان العصر! هو عصرالمحامين والمستشارين والقضاة! وكانت مصطلحاته السياسية الغالبة! قانونية! فالاحتلال "قضية" وطنية! تحتاج إلى "وكلاء" يدافعون عنها! وإلى "توكيلات" تلزمهم بـ "حدود وكالتهم"! وهي السعي لاستقلال مصر التام! ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا! وكان المحامون والقضاة! هم حكام البلاد! وأقوى فئات النخبة المصرية نفوذا! فمنهم يختار الوزراء والسفراء والمحافظون والنواب وحتى تشريفاتية القصر! وكانت المحاماة هي المهنة التي حولت مجاورين أزهريين فقراء! يعيشون على خبز الجراية! وأبناء لصغار التجار والزراع إلى زعماء ووزراء وباشاوات. وكما طرح السيد "أحمد عبدالجواد" ـ بطل "ثلاثية نجيب محفوظ" ـ لأن يكون ابنه كمال محاميا! ثم قاضيا! فقد طمح "عبد العال أفندي شحاتة" لأن يجلس ابنه الوحيد "أحمد بهاء الدين" في مجلس القضاء! لكنه لم يكن في حاجة لإقناعه بطموحه! أو الضغط عليه لتحقيقه! خايلت أعلام العصر أحلام الفتى. استقر البحث عن مثل أعلى ـ في سنوات مراهقته المبكرة ـ بأشواقه عند المرفأ نفسه! وكانت البداية هي شغفه بأن يتابع في الصحف! وقائع المحاكمات السياسية الكبرى! التي كانت بعض ظواهر الزمن! ثم شغف بمتابعتها في قاعات المحاكم! ليعود فيستعيد في أحلام يقظته! مشاهدها متقمصا شخصية المحامي أو المتهم! أو ممثل الاتهام! ليختار في النهاية! أن يكون القاضي الذي يزن الأدلة! والقرائن! ويوازن بين أقوال الشهود! وحجج الاتهام والدفاع! ثم يتوصل من هذا الغزل المرتبك المتداخل! إلى خيط الحقيقة!

ويقوده شغفه بقراءة محاكمات الحاضر السياسية! إلى دار الكتب ليسترجع محاكمات الماضي القريب في الصحف القديمة! ويقرأ فيها! ومعها التاريخ ليضيف إليه عمرا! جعل مقالاته الأولى! تتسم برصانة ونضج أشاعا لدى من لا يعرفونه من قرائها! أنه كهل عركته الأيام وتعلم الحكمة والاتزان من الزمن! الذي لم يكن قد عاش منه سوى أقل من ربع قرن. وتقوده كلية الحقوق إلى غيرها من كليات الجامعة! يحضر المحاضرات ويشهد المناظرات! ويتعرف إلى جيله من البرجوازيين المصريين الصغار! الذين كانوا ينتظرون انتهاء الحرب! ليزحفوا من بين تناقضاتها! ويواصلوا سفر خروجهم من عباءة جيل ثورة 1919! جيل المساومات والمهادنات والمفاوضات واستبدال الديمقراطية بالاستقلال: كان الوطن كما قال "بهاء" فيما بعد ـ 1959 ـ قد انقسم إلى "عالمين مختلفين.. إلى رأيين وعقليتين.. بينهما هوة سحيقة"!

بين أنداده في جيله! يبدو "بهاء" حالة متفردة! إذ ندر من بينهم من اهتم بالعمل العام! أو اشتغل به من دون أن يكون طرفا في تلك الحالة الاستقطابية الحادة! التي شملت مصر في سنوات الحرب الكونية الثانية وما بعدها. فمع أنه كان زميلا في الجامعة! للجيل الثالث من أسرة السيد "أحمد عبدالجواد" فإنه لم يكن إخوانيا كما كان "عبد المنعم شوكت"! أو شيوعيا كما كان "أحمد شوكت" أو انتهازيا كما كان "رضوان ياسين"!! مع أنه كان ـ بالقطع ـ يعرفهم جميعا! ويسمع منهم كثيرا. ولأنه كان مستمعا موهوبا! فقد كان يعود إلى حجرته! ليتقمص شخصية القاضي التي شغفته! يوازن بين الحجج! ويزن الأدلة! ويقارن بين أقوال الشهود! ليبحث بين خيوط الغزل المتشابكة المعقدة! عن خيط الحقيقة. !كانت دراسة الحقوق والآداب! والشغف بالوطن وبالشعب! وقراءته البصيرة الملهمة لما عاصره! وما لم يعاصره من التاريخ! هي التي صنعت منه ذلك الكاتب الذي حاز ما يكتبه على إعجاب المستقطبين المتمترسين عند أطراف الجهات الأصلية الأربع! على امتداد أربعة عقود من القرن! على الرغم من أنه لم يكن واحدا منهم! ومع أن أحدهم لم يكن يعترف بالآخر! أو يبادله الإعجاب! ومع أن العقود التي طرح فيها اجتهاده! كانت كالعقود التي تكون فيها وعيه ـ عقود استقطاب حاد! تغري بالتمترس عند أحد الأقطاب.

وكان قد أدرك مبكرا أن مرتبة "أخو البنات" التي يشغلها في أسرة "عبد العال أفندي" لا تؤهله لأن يشترك في المظاهرات أو في التنظيمات السرية! ليقاد إلى تخشيبة الشرطة أو خلف أسوار السجون! فتحرم شقيقاته من رعايته! وأن جسده النحيل وقامته القصيرة! لا تؤهلانه لذلك! ولا تؤهلانه ـ كذلك ـ لأن ينضم للقضاء الواقف! فيعمل محاميا! أو وكيلا ـ مترافعا ـ للنائب العام! فضلا عن أنه لم يكن شغوفا بهذين الدورين الاستقطابيين! ولأن الطريق إلى منصة القضاء كان لايزال بعيدا! فقد اختار أن يكون قاضي أوراق! والتحق بإدارة التحقيقات في وزارة المعارف! ثم انتقل إلى مجلس الدولة! الذي انعقد له اختصاص الفصل في مظالم الأفراد من سلطة الإدارة والحكم.

وكان قد تكون "كحقوقي" من طراز خاص! فتعلم المنطق من القانون! الذي وضعت دراسته له ـ كما قال فيما بعد ـ في صدره ميزانا دائما قائما! يزن به كل شيء.. ولم يشغف بالقانون الخاص ـ الجنائي والمدني ـ الذي لا يُعنى إلا بالأفراد! بقدر ما شغف بالقانون العام ـ الدستوري والدولي والإداري ـ الذي لا يعنى إلا بالمجتمعات! أما دراسته للتاريخ والفلسفة ومتابعته لتيارات الفكر السياسي والاجتماعي! فقد أنقذته من أخطر الأعراض الجانبية! التي يصاب بها بعض القانونيين! وهي ضيق الأفق! فاستطاع ببصيرته النافذة! أن يفرق بين القانون الذي يستجيب لحاجات اجتماعية! فيتوازن به الميزان! وذلك الذي يقصر عن تحقيقها فيزداد به الميزان اختلالا! وأن يميز بين القانون المثالي! الذي يعبر عن أحلام اليقظة! والقانون الواقعي الذي يصدر ليطبق! لأنه يتعامل مع الواقع لا مع الأحلام! أو الأوهام.

ومع أنه كان يؤمن بأن حياة بلا أحلام! لا تساوي شيئا! فقد كان يؤمن ـ كذلك ـ بأن حياة تقوم على الأحلام! هي مجرد بالونات تطير إلى السحاب! وتضيع بين طبقاته.

وهكذا استقر منذ شبابه المبكر عند الموقف الذي اختاره لنفسه! وعلى عكس كثيرين من أنداده في جيله! ممن شاع بينهم التسرع في اتخاذ المواقف! ثم التقلب ـ نتيجة لذلك ـ بين تيارات الفكر! وأحزاب السياسة! ظل "بهاء" ـ منذ البداية وحتى النهاية ـ حيث هو: وطنيا دستوريا! وقوميا وحدويا! وليبراليا يساريا! يؤمن بالتطور لا بالطفرة! وبالتدرج لا بالثورة! وبتربية الشعب لكي يستطيع أن يحصل على حقوقه! ويقيم ميزان العدل بين طبقاته. عقلانيا يرفض الاستقطاب لأنه قد يكون انحيازا ضد الحقيقة! ومادام الأمر تعلق بالجزئيات لا بالكليات! وبالأساليب لا بالمبادىء! فهو يفضل أن يكون مستقلا! وأن يحتفظ بمسافة بينه وبين الظواهر! إذ هو يريد أن يعثر على خيط الحقيقة! لا أن يكون خيطا بين خيوط الغزل المتشابكة. وكما اختار موقفه! فقد اختار موقعه.. ضاقت منصة القاضي عن أحلامه التي تجاوزت النظر في أقضية آحاد الناس! لتطرح لإقامته بين الفرد والحكومة! وبين الجماعة والمجتمع! وبين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية! وبين الوطن والأمة! وبين الأمة والكون.. وضاق ضميره المرهف عن التفكير في الجلوس على منصة إصدار الأحكام.. خشية أن يخطىء! فيظلم أو ينحاز.. ومع أنه لم يعدل عن حرصه على نظر أقضية الناس! فقد اختار أن ينظرها في عموم الشوارع لا في ساحات المحاكم! وأن يفكر ـ بطريقته القانونية المنطقية العقلانية ـ بصوت عال! وعلى ملأ منهم! في حيثيات الحكم قبل أن يصدره! فما يهمه! ليس الحكم! بل أسبابه! ومايعنيه هو أن يفكر الناس! قبل أن يحكموا.

ولأن صوته كان خافتا لايصلح للخطابة! ولأنه لم يكن موهوبا كمحرض جماهيري! أو كنزيل سجون ومعتقلات.. ولأنه كان يؤمن ـ بنزاهة عقلية نادرة في التعامل مع الذات وتواضع شديد ـ بأن كل ميسر لما خلق له! فقد اختار بإدراك واع لظروفه وإمكاناته! الوسيلة التي يستطيع بها أن يعبر عن نفسه! وأن يقوم بدوره في الخدمة العامة! وقرر أن يتحدث للناس! ومعهم! عن طريق الصحافة! لتزيد إسهاماته! عبر أربعين عاما من وضوح ملامح ذلك النموذج النادر إلى حد التلاشي بين المفكرين العرب: نموذج المنتمي غير المنحاز.

والحقيقة أنه لم يكن يرفض انحياز غيره! بل وكان هو نفسه ـ بالقطع ـ منحازا للأهداف الكبرى التي لخصت مطامح الأمة: التحرر والوحدة والتقدم والعدل.. وكديمقراطي دستوري! كان يرى في التنوع في الآراء ظاهرة طبيعية! لا يمكن تجاهلها أو إلغاؤها! إذ دونها لا يمكن ـ بتعبير ابن خلدون ـ أن يتوازن العمران البشري. أما الذي جاء ليعترض عليه! فهو تلك النظرة الواحدية الاستقطابية! التي ينفي كل منها الآخر! وتستدرج المنحازين ـ وخاصة في العالم الثالث ـ إلى فخها فتتوقف عقولهم عن التفكير الحر الطليق! ويفترضون الحقيقة بدلا من أن يبحثوا عنها. ولعل كثرة! وتشعب تيارات الاستقطاب بين يعاقبة البرجوازية الصغيرة من جيله! مع افتقادها كتيار معتدل متعقل يجد الحقيقة في المنزلة الوسط بين خطأين! هي التي دعته لكي يحاول رأب هذا الصدع! ولأن يتقدم فيحاول وزن المعادلة التي كانت واضحة الاختلال.

والحقيقة أن تيار الاعتدال والتعقل! قديم في الحركة الوطنية! العربية والمصرية! لكنه كان قد جنح ـ منذ البداية ـ إلى واقعية مبتذلة! واعتدال لا يتعفف عن الانحناء! ولا يتوقف قبل التفريط. وكانت إعادة الاعتبار والاحترام للاعتدال والتعقل! واحدة من أهم إنجازات بهاء الفكرية.

ولم تكن مصادفة أنه بدأ حياته الصحفية على صفحات "الفصول" مع صاحبها "محمد زكي عبد القادر" الذي ما لبث أن ترك له إدارة تحريرها! ليتفرغ لرئاسة تحرير "الأهرام"! فقد كان من النمط نفسه! وطنيا حقوقيا! ودستوريا ديمقراطيا وسياسيا مستقلا! ومنتميا غير منحاز. وكانت المجلة الصغيرة! منبرا لجماعة "النهضة القومية" الإصلاحية الصغيرة! التي كانت تبشر بأن النضال من أجل الجلاء والدستور! لا يجوز أن يشغل مصر عن النهوض بأحوالها الاقتصادية والاجتماعية! بإصلاح الأداة الحكومية! وإصدار قانون للإصلاح الزراعي! والتوجه نحو التصنيع! وهي أفكار تحمس لها "بهاء"! وتجاوبت مع عقليته الواقعية! التي تؤمن بالتطور! وترى عن حق! أن الإصلاح ليس نقيضا للثورة! وأنه إذا لم يفد فلن يضر! إذ هو على الأقل يؤهل الوطن للاستقلال ويؤهل الشعب لأن يحكم نفسه بنفسه.

ومن شهرية "الفصول" (1948/ 1951)! حيث كان يغني في زقاق! انتقل إلى أسبوعية "روز اليوسف" (1951/ 1958)! ليغني في سرادق! ويؤسس أسبوعيته غيرالمسبوقة "صباح الخير" (1956)! ومنها انتقل إلى يومية "الشعب" (1959)! فيومية "الأخبار" (1959) ليعود إلى الأسبوعيات! في "أخبار اليوم" ثم "دار الهلال" (1963) ثم إلى اليوميات مرة أخرى! في "الأهرام" (1973)! التي عاد إليها كاتبا في سنوات ما قبل الغيبوبة! بعد تغريبة أمضاها في شهرية "العربي" (1976/ 1982)! التي تجمع بين الأسبوعيات والشهريات! في موادها وانتشارها.

وطوال تلك السنوات! كان يغني! أحيانا في الشوارع العمومية! وأحيانا في الشوارع الخلفية! لكنه ظل ـ على امتداد العمر ـ يغني.

ولأن اختياره للصحافة ـ التي تفرغ لها بعد خمس سنوات فقط من اشتغاله بالقانون ـ لكي يؤدي من خلالها دوره في الخدمة العامة! لم يكن عشوائيا! فقد كان واعيا بمتطلبات الخطاب الصحفي الذي يتوجه إلى عموم الناس! متمكنا من أدواته! متفننا في أساليبه! سواء في اختيار الموضوع الذي يكتب فيه! لأنه يثير اهتمام الناس! أو لأنه يريد أن يثير اهتمامهم به! أو في طريقة عرضه بأسلوب جميل! سلس وسهل! يعرف صاحبه! أن الكتابة هي فن التفهيم! ويحرص على أن يفهم! لكي يُفهم عنه!.

وكان واحدا من قليلين في تاريخ الصحافة العربية كله! لديهم القدرة على أن يضفوا على المطبوعة التي يرأسونها أو يشرفون على تحريرها! شخصية خاصة بها! فجاءت شخصيات الصحف العريقة التي رأس تحريرها! لتختلف عن غيرها! وعن شخصيتها هي نفسها من قبل ومن بعد! بل وتختلف ـ كذلك ـ عن الشخصيات التي أعطاها هو نفسه! لغيرها من المطبوعات.

لكنه بطبيعته المعتدلة! لم يكن يميل إلى تحقيق ذلك عن طريق الانقلاب! الذي هو فعل استقطابي لم يكن يرحب به! بل عن طريق التدرج! فهو يترك للمطبوعة شخصيتها القديمة! ويضيف في كل عدد زاوية جديدة! أو رؤية مختلفة! إلى أن يتم التغيير على مدى زمني! ليس قصيرا! يكون فيه القارىء قد تهيأ لقبوله.

وكان ذلك ما فعله في "الشعب" التي خلف "حسين فهمي" في رئاسة تحريرها! ثم في "أخبار اليوم"! و"الهلال"! و"المصور"! و"الأهرام"! وقد خلف الأخوين علي ومصطفى أمين! أو أحدهما! أو شاركهما رئاسة تحريرها جميعا! ثم في "العربي" التي حل فيها مكان مؤسسها! الدكتور "أحمد زكي"! وكان يبرر ذلك! بأن لكل مطبوعة بشخصيتها القائمة! قراء ينبغي احترامهم بالاحتفاظ لهم بما ألفوه! حتى تحتفظ المطبوعة بهم! وتغييره تدريجيا! بما يكسب لها مزيدا من القراء ومن التأثير! وهو ما لا يحققه الانقلاب! الذي هو رهان غير مضمون ولا ضرورة له! على استبدالهم بآخرين.

ومع أن شخصيات صحفه كانت تتنوع! فقد كان فيها جميعا مشترك من شخصيته الفنية والفكرية! ويشغلها هم واحد! هو أن تصل إلى الناس أولا! ولكي تؤثر فيهم ثانيا! إذ لا تأثير حيث لا اتصال! فهي تجمع بين الجمال والرصانة! وبين العمق والرشاقة! وبين الفرجة والفكر! وتدرك أنها تخاطب جمهورا واسع المدى كألوان الطيف! لذلك تتوقى الاستقطاب! الذي يضيق مجال التأثير! وتحرص على توسيع هذا المجال! ليس بمعابثة غرائز الجمهور الفطرية! بل باحترام عقله! والتعامل مع واقعه! بالبدء حيث هو! ثم الترقي به بخطوات قد تكون بطيئة! لكنها ثابتة! إلى حيث يليق به أن يكون.

ذلك هو "بهاء" المتفرد بين أنداده في جيله! بأنه تحكم في قدمه! وفي قلمه! بل وفي خلايا مخه! فلم يتح لأحدها فرصة لكي تجنح به نحو فخ خداع النفس! ولم يتوهم في نفسه! أو يوهم الآخرين بقدرته على قلب نظام الكون! واختار الجهاد الأفضل! لأنه كان الأندر في جيله: أن يشعل شمعة.. بدلا من أن يلعن الظلام..

ومع أن ذلك يبدو أسهل الخيارات التي كانت مطروحة على جيله! وأبعدها عن المخاطرة! وأكثرها أمنا! إلا أن الواقع يقول عكس ذلك على طول الخط.. فمن بين يعاقبة البرجوازية الصغيرة! كان أفندية العسكر ـ المستقلون تنظيميا عن كل تيارات الاستقطاب! والقريبون منها سياسيا على الرغم من ذلك! هم الذين قطفوا الثمرة التي أنضجها الآخرون! فانقضوا ـ في 23 يوليو 1952 ـ على بقايا جيل ثورة 1919! ليقتلعوه من الخريطة السياسية للوطن! ويحققوا بعض أحلام الجيل! وتنقلب أوضاع المنطقة كلها! في زمن الحرب الباردة التي زرعت فيها إسرائيل! على خريطة الأمة! لتفاقم من مشاكلها! ويغري ذلك كله الجميع باستئناف مسيرة الاستقطاب! ليعود الاستقلال فيصبح نقيضا للديمقراطية! والقومية فتصبح نقيضا للوطنية! والوحدة لتصبح نفيا للقنوع! والديمقراطية الاجتماعية لتصبح بديلا عن الديمقراطية السياسية. أما الصحافة فقد تحولت من منبر يخاطب منه الرأي العام الحكومة إلى العكس! أصبحت صحافة تعبئة تحشد الناس حول السياسات! بدلا من أن تدعوهم للمشاركة في وضعها! وتشجعهم على الحوار من حولها.

وتجري في النهر مياه! ودماء غزيرة! وتتعدد الانقلابات الظاهرة والخفية! إلى أن يحدث الانقلاب الثاني الكبير الذي شهده في حياته! ليأتي باستقطاب جديد فتصبح الديمقراطية السياسية نقيضا للديمقراطية الاجتماعية! وتصبح التنمية الاقتصادية نقيضا للاستقلال الوطني! ويصبح السلام نقيضا للحقوق المشروعة.

وهكذا ازدادت خيوط الغزل ارتباكا! ولم يعد العثور على خيط الحقيقة صعبا فحسب! بل وكاد يصبح مستحيلا! لكن بهاء على الرغم من ذلك كله! لم يعدم الحيل الفنية التي تمكنه دائما من أن يعزف أناشيده كما أرادها! وأن يضيء شموعه بالقدر الذي يستطيعه! وبالدرجة التي لا تستفز الظلام! أو تتحدى وهج الشمس الكاذبة! فيتعاونان على إطفائها.

ولم يكن ذلك سهلا! إذ الأسهل منه أن يقول كل ما يريد! مرة واحدة! ثم يحمل حقيبته! ويتوجه إلى أقرب معتقل! أما هو فكان عليه أن يعيش عمره! وهو يسير على سلك مشدود بين قطبين! يعزف ألحانه! ويوقد شموعه.. ويترك لنا ذلك النموذج المتفرد: المنتمي غير المنحاز.

 

صلاح عيسى