الزيارة الأخيرة لأستاذ كبير

الزيارة الأخيرة لأستاذ كبير

كان ذلك منذ وقت غير قصير ولكنه أيضا ليس ببعيد.. كان عيدا من الأعياد! لست أذكر الآن أكان عيد الفطر أم عيد الأضحى! ولكن للأعياد على أي حال أفضالا كثيرة ولعل من أهم أفضالها على عباد الله المشغولين المكدودين أنها تتيح لهم بعض الوقت لكي يروا بعض الأحبة ممن قد يمر العام أو الأعوام دون أن تتاح لهم رؤيتهم. وفي ذلك اليوم من ذلك العيد كان عندي تصميم أن أرى ـ أو أحاول أن أرى ـ أستاذين جليلين من أساتذة جيلنا! جيلنا الذي بلغ أغلبه سن الستين وجاوزها بعضهم بعدد من السنين.

أحد هذين الأستاذين الجليلين جلست إليه مجلس التلميذ مباشرة في كلية الحقوق والآخر جلست إليه مجلس التلميذ بين يدي كتبه وفي لقاءات غنية عديدة.

ولم يشأ لي القدر أن ألقى أولهما وشاء لي أن يكون لقائي مع الثاني هو اللقاء الأخير.

أما أولهما فكان أستاذنا الجليل الدكتور حامد سلطان أستاذ أساتذة القانون الدولي العام في مصر وفي الوطن العربي كله! وعندما اتصلت به في منزله لم يجب أحد وعاودت الكرة وكانت نفس النتيجة: صمت عميق! وظننت أن أستاذنا الكبير ـ وكان قد فرغ من مهمة جليلة أداها لبلده! وكان قد أصبح وحيدا بعد وفاة زوجته ـ ظننت أنه قد يكون نجا بنفسه من صيف القاهرة القائظ وذهب إلى تلك البقعة التي يؤثرها على غيرها قرب مدينة جنيف على تلك الجبال المطلة على بحيرة "ليما". هكذا تصورت بعد أن عاودت طلبه أكثر من مرة ولم يجبني أحد. ولم أكن أدري أنني سأراه بعد ذلك في غرفة الإنعاش في المستشفى وأنني سأشارك بعد ذلك بأيام مع العديد من تلاميذه وعارفي فضله في تشييع جنازته من مبنى كلية الحقوق بجامعة القاهرة في مشهد وقور رهيب يليق به إلى مثواه الأخير. ومازلت أذكر وأنا أقف أمام غرفة الإنعاش في المستشفى والخواطر تترى على ذهني كلها تدور حول هوان هذه الدنيا وحول نهايتها. هذا هو أستاذنا كان ملء سمع الدنيا وبصرها. هذا هو بكل جلال قدره وفضله لدى عارفي فضله يرقد الرقدة الأخيرة لا يعي شيئا! ولا يعوده إلا عائشة راتب ومفيد شهاب وقلة قليلة من الأهل والزملاء. ومضى أستاذنا إلى حيث يمضي الناس أجمعون! رحمه الله رحمة واسعة.

زيارة في العيد

وقد كان نصيبي مع أستاذنا الثاني أوفر من نصيبي مع أستاذي حامد سلطان.

لم أكن قد رأيت أستاذنا الكبير زكي نجيب محمود! أستاذ أساتذة الفلسفة في مصر وفي الوطن العربي كله منذ وقت غير قصير! وقلت هذا هو العيد! ولاشك أنه في العيد قمين أن يغفر لي التقصير! خاصة وهو يعلم يقينا أنه تقصير بغير عمد.

طلبته فردت علي السيدة الفاضلة زوجته الدكتورة منيرة حلمي بصوتها الشجي الحنون المرحب! وحدد لي أستاذنا موعدا للقائه في صباح اليوم التالي! وكان اليوم الثاني من أيام ذلك العيد. وذهبت إليه وجلست معه وخرجت من عنده ولدي إحساس عميق بضرورة أن أسجل بعض مادار في هذه الزيارة! من يدري..??

كان الكبر قد بدا عليه بشكل واضح! وكان يزيد منه إحساسه به.

عندما سألته عن صحته قال بلهجته الواضحة المؤكدة وبابتسامة لا تخلو من سخرية! اسألني عن الضعف لا عن الصحة! إنني أحس كأن شيئا يمتص البقية الباقية منها ويحل محلها ضعفا. ثم أردف قائلا! على كل حال هذه هي أطوار الحياة لا مناص منها. وتشعب بعد ذلك الحديث! وعلى مدار ساعة من الزمان أحسست في نهايتها أنني اغتنيت وخشيت أن أكون قد أرهقت الرجل الكبير! فاستأذنت على أمل ألا يطول انقطاعي عنه كما طال في المرة الماضية لأسباب يقدرها.

وجئت الآن لأكتب محاولا تسجيل مادار في تلك الزيارة من حديث متعدد الجوانب.

ولعل أهم ما أحسست به أن الأستاذ الكبير كان ينظر إلى الطبيعة البشرية وهو على قمة العمر نظرة لا تخلو من كثير من التشاؤم وإن لم يقل ما قاله المتنبي:

ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روى رمحه غير راحم

فما أظنه أبدا كان من هواة الرمح! كان رمحه هو قلمه وكان قلمه عفا.

آخر الإبداعات

وبدأ الحديث حول آخر كتاب له "حصاد السنين" كانت نسخة من الكتاب موضوعة على طاولة قريبة تناولها بيده وأعطاها لي قائلا إنها أول نسخة يقدمها هدية من كتابه الأخير "حصاد السنين" الذي يعتقد ـ على حد تعبيره ـ أنه الأخير بكل المعاني هو آخر ما أنتج! وهو آخر ما سينتج إذ إنه لم تعد لديه القوة على الكتابة بعد ذلك. وكان طبيعيا أن أقول له: كلا.. إن عطاءك لن يتوقف وإننا جميعا في حاجة إلى ما تقدمه لنا من ثقافة وفكر وهدي كبير. وصمت الرجل قليلا ثم قال: كلا سيكون هذا الكتاب هو الكتاب الأخير. لقد قلت فيه خلاصة ما عندي وما أظن أنني أحس بحاجة إلى مزيد. حتى إن كان هناك شيء فليس هناك القدرة على كتابته. إن للسن حكمها.

وسكت ثم قال بنبراته القوية الواضحة: لقد خطر في ذهني أن أكتب بعض المقالات عن علاقاتي بمن عرفت من كبار المثقفين والمفكرين خلال نصف القرن الأخير! وهم بالقطع كل المفكرين المصريين الكبار! ولكنني توقفت لأسباب عديدة ليس أقلها أن "السوء" يوشك أن يكون صفة مشتركة بين الجميع. إنهم لا يمارسون ما يبشرون به! إنهم يتكلمون عن الحرية! ولكن إذا تعارضت الحرية معهم ضربوا الحرية. إنهم يتكلمون عن القيم والأخلاق! ولكن شريطة أن يكون ذلك كله في الإطار الذي يرضيهم والذي يحبون! فإن خرج أحد عن ذلك الإطار نسوا القيم والأخلاق وانقلبوا على أعقابهم لا يرعون لشيء ولا قيمة ولا خلق وقارا. وذكر أسماء كبيرة كبيرة. أسماء أجفل أنا شخصيا من ذكرها في هذا المقام. وقلت له بعد أن سمعت منه ما سمعت: أظن أنه ينبغي لنا أن نحدد ما هو "السوء" لكي يكون معيار الحكم واضحا ثم أردفت: وإذا كان هؤلاء الكبار على ما ترى من سوء فهل يعني ذلك أن الطبيعة البشرية طبيعة سيئة? إذا كانت هذه الأمثلة التي تبدو لنا وكأنها نجوم السماء الزاهرة على هذا النحو الذي تراه فما قولك في سائر الناس. هل هذا السوء ضربة لازب في الطبيعة البشرية? قال بعد صمت قليل: نعم إلا من كانت لديه لجم ـ جمع لجام ـ من الأخلاق تردعه وتهديه.

وسمحت لنفسي أن أقول له: ولماذا لا نقول إن النفس البشرية خليط من الخير والشر والارتفاع والهبوط وإنها ليست دائما على حال واحد. وإن النوازع الذاتية والعواطف القُلّب والأغراض الشخصية تلعب دورها معنا جميعا وتبعدنا قليلا أو كثيرا عما نعتقد أنه جادة الخير والصواب.

ولم يرفض هذا التعليل.
وتأملت في الأمثلة التي ضربها ليدلل بها على "سوء" هؤلاء الكبار! فإذا بها جميعا أمثلة تنتهي إلى تجارب خاصة به في مسار حياته لاقى من أجلها عنتا كان يتصور أنه لا يستحقه.

ولست أدري إن كان من حقي أن أذكر الأسماء والوقائع! وكلها لأشخاص أصبحوا في ذمة التاريخ ولكنها جميعا في تقديري وقائع مما يحدث في الحياة.

كان في سن الثلاثين! وكان مدرسا في المدارس الثانوية عندما استدعاه ذلك الأديب الكبير ذو الحول والصول والنفوذ الواسع وكان كتاب "قصة الأدب" قد ظهر جزؤه الأول من فوره. وكان الكتاب قد حظي من النقاد والكتاب والقراء بترحاب واسع ملموس! ويبدو أن الأديب الكبير الكبير ذا الحول والصول والنفوذ الواسع لم يكن سعيدا بذلك الكتاب! وكان أستاذنا يظن أن الأديب الكبير قد استدعاه ليسمعه كلمة ثناء عن هذا العمل! ولكن الذي حدث أن الحديث جرى في بدايته بعيدا عن الكتاب إذ سأله الكبير عن درجته الوظيفية! فلما علم أنها "السادسة" قال له إن هذا ظلم كبير! ولك بعد أيام أن تنال "ترقية" إلى الخامسة. وسر صاحبنا سرورا شديدا فقد كان يحس بالضيم والظلم وها هو ذا يجد من يرفع عنه ذلك الضيم والظلم فما أسعده وأطيب حظه. ولكن الأديب الكبير لم يمهله طويلا وإذا به يصفعه صفعة معنوية تصيبه بدوار شديد. قال له الأديب الكبير الكبير: عليك أن تترك هذا الهذر السخيف الذي اسميته "قصة الأدب" وانهال على ذلك العمل الذي امتدحه الناس جميعا بهراوة غليظة! وأدرك صاحبنا أن "ثمن الترقية" سيكون باهظا! وكان الأديب الكبير يريد من وراء ذلك أن يصل إلى فصم عرى العلاقة التي كانت قائمة بين الأديب الشاب زكي نجيب محمود ـ آنذاك ـ وبين الشيخ أحمد أمين وكان الأديب الكبير الكبير لا يحب أحمد أمين ولا يحب أن يرى له مؤيدين نابهين من أمثال زكي نجيب محمود.

تجارب وندوب

وصمت قليلا والمرارة تشيع في وجهه! وكأن الحادث قد وقع بالأمس القريب ولم يمض عليه عندما رواه لي أكثر من نصف قرن من الزمان ثم قال:

هل تستطيع أن تتصور سوءا بعد هذا السوء. وهل كنت تتصور أو تتخيل أن هذا يصدر عن فلان هذا الذي نكن له جميعا ما نكن من تقدير. لقد كانت صدمة هزتني من القواعد هزا وزلزلت كياني كله! ومضت بي الحياة واقتربت من ذلك الكبير وعرف كلانا الآخر معرفة أكثر عمقا! ولكني مازلت برغم ذلك كله أذكر ذلك الحديث المرير.

وانتقل من هذا الحديث إلى حديث آخر وحوادث أخرى تقترب من هذه الواقعة أو تبتعد عنها! ولكنها كلها تدور حول تجارب ذاتية كان لها أثرها البعيد عليه بحيث إنها تركت ندوبا غائرة ظلت تحفر في نفسه وفي عقله جميعا. حتى آخر أيامه. ولم أجد قدرة على أن أدخل معه في حوار! ذلك أنني أدركت مدى ما يعانيه من إرهاق نفسي فضلا عن الإرهاق البدني! ولكنني تذكرت أحاديث طويلة سمعتها منه عن نفس هؤلاء الأشخاص. سمعتها منه وهو في قوته البدنية والنفسية ـ وكانوا قد اختفوا جميعا من الساحة وانتقلوا إلى الدار الآخرة.. ولم يكن حديثه آنذاك بهذه القسوة ولا بهذا القدر من سوء الظن بطبيعة الإنسان.

والشيء الذي أستطيع أن أقطع به أن زكي نجيب محمود كان صادقا مع نفسه وهو يرى في هؤلاء الكبار ما رأى من سوء! ولكنها حالات النفس تختلف باختلاف مراحل العمر واختلاف القدرة واختلاف ما يلم بها من انفعالات.

وقد كان زكي نجيب محمود فنانا فيلسوفا أو فيلسوفا فنانا! أريد أن أقول إنه كان قوي الحجة! قوي الانفعال في آن واحد. كان يعرض رأيه وهو يمتلىء به امتلاء وينفعل به انفعالا يأخذ عليه أقطار عقله ونفسه جميعا. لم يكن فيه برود الفلسفة بقدر ما كان فيه عنفوان الشاعر الفنان.

لقد كتبت عنه ـ في حياته ـ مقالا بعنوان "فارس العقل" ومازلت أتخيله فارسا فيه شهامة الفرسان وقوة الحجة والبرهان في آن واحد.

ولم يمض وقت طويل على هذا اللقاء إلا ونعى الناعي زكي نجيب محمود.

وسرت خلف نعشه مع السائرين وحضرت العزاء فيه وتألمت وأنا أجد "جامع عمر مكرم" لا يغص بالمعزين كما يغص بهم إذا كان المتوفى واحدا من ذوي السلطان أو من أقارب ذوي السلطان.

كان هناك تلاميذه من أساتذة كلية الآداب ومن أقسام الفلسفة وقليل غيرهم ممن يعرفون فضل أصحاب الفضل وأظنهم في هذا الزمن قليلين.

رحم الله زكي نجيب محمود رحمة واسعة فقد أعطانا وعلمنا وخلف لنا ولأجيال من بعدنا ثروة فكرية رائعة وعميقة كان آخرها ذلك السفر القيم الذي مازلت أعتز به وأعتز بما كتبه عليه! وهو يعطيني إياه: حصاد السنين.

لقد كان حصادا ضخما خصبا غنيا بكل المعايير.

 

يحيى الجمل