سماحة الإسلام

سماحة الإسلام

هل كلما ازداد المسلم فظاظة وكراهية لمخالفيه في الرأي كان أقرب إلى الله تعالى وإلى الإيمان بالحق.. أم ماذا?

هل حدث أن تأمل مسلم في حكمة اختتام الصلاة بالالتفات إلى الجالسين إلى يمينه قائلاً: (السلام عليكم ورحمة الله)! ثم الالتفات إلى الجالسين إلى يساره قائلاً: (السلام عليكم ورحمة الله)! ثم مصافحة جاريه إلى اليمين وإلى اليسار مع الدعاء للجميع بالاجتماع في الحرم?

هل حدث أن رأى في هذه الخاتمة للصلاة رمزا لسماحة الإسلام! وتقبلا من المسلم لمن هم في الرأي عن يمينه أو عن يساره! وتذكر أن الأمة مهما بلغ اختلاف الآراء بين أفرادها تجتمع في الصلاة والصوم والحج وسائر العبادات! ودعاء إلى الله أن يجنب هذه الأمة شر الفوضى! وأن يبقى اختلاف الرأي بين أبنائها رحمة! ماتمسكوا بالتسامح بينهم! وبحق صاحب الرأي المخالف لرأيهم في المخالفة! وتأكيداً لحقيقة أنه ليس لمسلم أن يتكلم باسم الإسلام ظانا أنه وحده ـ أو هو وجماعته وحدهما ـ من يفهم النص على حقيقته! وأن غيره هو حتما على خطأ! فيقيم نفسه بهذا الادعاء مقام الله ويقع في الشرك?

ثم هل حدث أن تأمل مسلم وهو يتلو سورة النصر سورة النصرإذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا أو الآيات الثلاث الأولى من سورة الفتح سورة الفتحإنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ماتقدم من ذنبك وما تأخر! ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما. وينصرك الله نصرا عزيزا ولاحظ ارتباط النعمة بالصفح والغفران? إن النعمة التي أسبغها الله على نبيه في سورة الفتح دليل على أنه سبحانه قد غفر له ذنوبه. وإن كان الغفران والرحمة من صفات الله عز وجل! فهما بالتالي من الصفات التي يجدر بالمؤمنين محاولة التحلي بها! والتي يجدر بالنبي عليه الصلاة والسلام أن يظهرها تجاه أعدائه السابقين من أهل مكة الذين نصره الله عليهم وأمكنه منهم. فما لأحد أن يطمع في رحمة الله مالم يظهر الرحمة في معاملاته مع غيره من سائر البشر! ولا في غفرانه مالم تكن السماحة والصفح الكريم من أخلاقه.

وقد كان موقف رسول الله من أهل مكة الذين كذبوه وناوءوه وأخرجوه من مدينتهم وحاربوه! كريما سخيا وقت فتحها إلى أقصى حدود الكرم والسخاء. فهو حين التقى بجمع من ساداتهم وسألهم عما يظنونه فاعلا بهم! وأجابوه بقولهم: أخ كريم وابن أخ كريم! قال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فهو قد أمنهم على أنفسهم وأموالهم دون أن يشترط إسلامهم. فالواقدي يحدثنا في كتابه (المغازي) أن سهيل بن عمرو دخل داره حين فتح المسلمون مكة! وأرسل ابنه عبد الله إلى النبي يطلب له جوارا. فلما التقى عبدالله بالنبي قال: تؤمن أبي يارسول الله? قال: نعم! هو آمن بأمان الله فليظهر! لعمري إن سهيلا له عقل وشرف! وما مثل سهيل جهل الإسلام فخرج عبدالله إلى أبيه فأخبره! فكان يقبل ويدبر وهو آمن دون أن يسلم! بل وخرج بعد ذلك في جيش النبي إلى حنين وهو على شركه! حتى أسلم بعد ذلك في الجعرانة.

سماحة وغفران

وجاءت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل! فقالت للنبي: يارسول الله! قد هرب عكرمة منك إلى اليمن وخاف أن تقتله! فأمنه. قال: هو آمن. فخرجت أم حكيم في طلب زوجها حتى أدركته فقالت: أي عكرمة! قل لا إله إلا الله ولا تهلك نفسك. فأبى وقال: ماهربت إلا من هذا!. قالت: على أي فقد استأمنت لك محمدا. فرجع معها. وإذ رآه النبي مقبلا قال لأصحابه.: لاتسبوا أباه! فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت. فلما وصل عكرمة إلى مكانه وثب النبي إليه فرحا به. قال عكرمة مشيرا إلى زوجته: يا محمد! إن هذه أخبرتني إنك أمنتني. قال النبي: صدقت! فأنت آمن. قال: فإلام تدعو يامحمد? قال: أدعوك إلى أن تشهد أن لاإله إلا الله! وأني رسول الله! وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفعل وتفعل! حتى عد خصال الإسلام. فقال عكرمة: والله مادعوت إلا إلى الحق وأمر حسن جميل. ثم نطق بالشهادة. فقال النبي: لاتسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه. قال: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها أو حرب لقيتك فيها أو كلام قبيح قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه. قال النبي: اللهم اغفر له.

وفي تفسير الطبري أن رجلا في حياة رسول الله قرأ أمام عمر بن الخطاب سورة قراءة غير قراءة عمر لها. فلما أراد عمر أن يصحح له قراءته قال: لقد قرأتها على رسول الله فلم يغير علي. فاختصما عند النبي! وقال الرجل: يارسول الله! ألم تقرئني آية كذا وكذا? قال: بلى. فوقع في صدر عمر شيء! وعرف النبي ذلك في وجهه فضرب صدر عمر وقال: ياعمر! إن القرآن كله صواب! مالم تجعل رحمة عذابا! أوعذابا رحمة. وفي (أسباب نزول القرآن) للواحدي أن عثمان بن طلحة كان سادن الكعبة. فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح! أغلق عثمان باب البيت (وكان لايزال على شركه) وصعد السطح. فطلب رسول الله المفتاح! فقيل له إنه مع عثمان. فلما أرسل في طلبه أبى! وقال: لو علمت أنه رسول الله لما منعته المفتاح. فلوى عليّ بن أبي طالب يده وأخذ منه المفتاح عنوة وفتح الباب. فدخل النبي البيت وصلى فيه ركعتين. فلما خرج سأله العباس بن عبد المطلب أن يعطيه المفتاح ليجمع له بين السقاية والسدانة! فأنزل الله تعالى آية: سورة النساءإن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . وأمر رسول الله عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ويعتذر إليه عما بدر منه. فلما فعل عليّ ذلك قال له عثمان: ياعليّ! أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق?! فقال عليّ: لقد أنزل الله قرآنا فيك. وقرأ عليه الآية. فقال عثمان: أشهد أن محمدا رسول الله. وأسلم.

السهل الممتنع

هنا في قصة الواحدي مثل واضح لأسلوب النبي في الدعوة ولسماحة دين الإسلام يذكرنا بخرافة لافونتين عن الريح والشمس اللتين تراهنتا أيهما أقدر على أن يجرد رجلا في أحد الحقول من عباءة يلبسها. فأما الريح فهبت تحاصره وتشدد من هجومها! فإذا الرجل يزيد من تشبثه بالعباءة وإحكام قبضته عليها. وأما الشمس فقد طلعت في هدوء وثقة إلى كبد السماء! تبث حرارتها! حتى رأى الرجل من المناسب أن يخلع العباءة من تلقاء ذاته ويلقي بها جانبا!

وقد كان عنف عليّ بن أبي طالب كفيلا بأن يزيد من عداء عثمان بن طلحة للإسلام إذ يسلب عنوة حق بني عبد الدار في السدانة! لولا تدخل رسول الله! ورده الأمانة إليه! وأمره عليا أن يعتذر عن تصرفه العنيف معه. وكتب السيرة مليئة بالمواقف التي حقق فيها الرسول بسماحته وحلمه! ولينه وسعة صدره! مالم يحققه السيف والعنف! والغلظة والفظاظة. آل عمرانولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولكسورة النساء.

غلو وتطرف

ومع هذا! فها نحن نشهد بيننا اليوم من الغلاة والمتطرفين ممن يظنون أنهم تأدبوا بآداب القرآن والسيرة! ويحسبون أنهم قد اتخذوا من النبي عليه الصلاة والسلام أسوة ومثلا يقتدى! من يشهد لسان حالهم وسلوكهم مع إخوانهم في الدين وأهل الكتاب بأن المسلم كلما ازداد فظاظة وكراهة لمخالفيه في الرأي ـ إلى اليمين أو اليسار ـ كان أقرب إلى الله تعالى وإلى الإيمان بالحق. وأغلب ظني أنهم حين يتلون من آي الذكر الحكيم آيات مثل سورة النحلوجادلهم بالتي هي أحسن أو سورة النحلادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة! يودون في أنفسهم أن القرآن لم يوردها. وكثيرا ماتذكرنا أفعالهم وتصرفاتهم الناضحة بالكراهية والحقد والعنف! بشخصية جافير في رواية (البؤساء) لفكتور هوجو. وجافير هذا ضابط شرطة وهو ابن لمجرم أثيم. وقد بلغ به مقته لأبيه! وهو بعد صبي! حداً قرر معه أن يخالفه في كل شيء. فكان أن أصبح ضابط شرطة يتعقب المجرمين من أمثال أبيه في كفاءة ومثابرة وغلظة قلب. ثم إذا به يتبين في النهاية في لحظة صدق أنه في حقيقة أمره لايعدو أن يكون مجرما كوالده! وإن كان إجرامه قد تستر وراء زي ضابط الشرطة! وستار تطبيق العدالة. فهو يعامل الخارجين على القانون معاملة لاتقل إجراما عن معاملة أبيه للأبرياء! هو إذن مجرد حقد لدى هؤلاء! كان يمكن أن يتخذ أي صورة من الصور! ثم اتخذ بالمصادفة المحضة صورة التطرف في الدين. وكما أن الخوارج كانوا في الحقيقة قوما من البدو خرجوا على السلطة ثقيلة الوطأة واتهموها بالكفر! وهجروا المدن البغيضة إلى قلوبهم وأسموها دار حرب! واستأنفوا الغارات الجاهلية بغرض السلب والغنيمة وخالوا أنها جهاد! فكذلك هؤلاء: الفظاظة والحقد والكراهية وتجاهل سماحة الإسلام هي الأصل! والدين قناع رقيق لايكاد يخفي الوجه الكئيب وراءه.

والذي نعلمه أن القديس فرانسيس داسيسي كان يحض أتباعه دائما على أن يعكس مسلكهم وعلاقاتهم بالناس أثر العقيدة في نفوسهم وأخلاقهم. وكان من رأيه أن هذا هو خير طريق إلى اجتذاب الناس إلى الدين! إذ من المؤكد أنهم سيتساءلون عما عساه قد هذب على هذا النحو من خلقهم وطباعهم ومعاملاتهم! حتى إذا ماعرفوه مالوا إلى اختباره بأنفسهم.

كما نعلم أن الإسلام إنما انتشر ووطد دعائمه في أنحاء عديدة من إفريقيا السوداء وجنوب شرقي آسيا! لا بالسيف والقهر! ولا حتى بالتبشير والدعوة! وإنما بفضل سماحة خلق التجار المسلمين الوافدين إلى تلك المناطق للتجارة! وأمانتهم ورفقهم ودماثة طبعهم ووقارهم! مما دفع الناس إلى الإقبال على سؤالهم عن تعاليم دينهم! ثم اعتناق هذا الدين الذي كان له الفضل الأكبر في غرس هذه الفضائل.

فإن كان مسلمو هذا الزمان مؤمنين حقا! فما بالهم لاينتهجون طريق هؤلاء? وما بالهم لايلقون بالا إلى تلك المواقف التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير فيها أصحابه بشأن مشرك أو منافق! فيوصي بعضهم بقتله! وبعضهم بإخراجه من المدينة! فيهدىء الرسول من غلوائهم وغضبهم! ويبتسم قائلا: بل نترفق به! ونحسن إليه.

قال تعالى: سورة النساءولاتقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا.

وإنه لمن المؤسف حقا! برغم وضوح معنى الآية! أن المسلمين لم يكفوا قط! منذ وفاة النبي إلى يومنا هذا! عن عادة تكفير من يخالفهم في رأي: عثمان كفروه! وعلي بن أبي طالب كفروه! ومعاوية كفروه! وقد سبق لهم أن كفروا الإمام الغزالي ثم أسموه بعد موته حجة الإسلام ومحجة الدين! وكفروا الباقلاني ثم قالوا إنه صاحب أجل الكتب في إعجاز القرآن! وكفروا ابن تيمية الذي باتت تعاليمه أساس المذهب السائد الآن في أكثر من بلد إسلامي! وكفروا الطبري صاحب أعظم تفسير للقرآن! وكفروا الشيخ محمد عبده حين دعا إلى استخدام ماء الصنبور في الوضوء بدلا من الميضأة التي كانت تعج بالجراثيم! وكفروا جمال الدين الأفغاني وهو ماهو.

قال الغزالي في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة): زعمت طائفة أن في بعض كتبى مايخالف مذهب الأصحاب المتقدمين! وأن العدول عن مذهب الأشعري! ولو في قيد شبر! كفر. فهون عليك أيها الأخ المشفق على نفسك واصبر على مايقولون. فأي داع أكمل وأعقل من سيد المرسلين وقد قالوا إنه مجنون من المجانين? وأنى تتجلى أسرار الملكوت كقوم معبودهم سلاطينهم! وقبلتهم دنانيرهم! وإرادتهم جاههم? فهؤلاء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان سورة النحلإن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى.. خاطب صاحبك وطالبه بحد الكفر! فإن زعم أن حد الكفر مايخالف مذهب الأشعري! أو مذهب الحنبلي! أو مذهب المعتزلي! أو غيرهم! فاسأله من أين ثبت له كون الحق وقفا عليه حتى قضى بكفر الباقلاني! ولم صار الباقلاني أولى بالكفر بمخالفته الأشعري من الأشعري بمخالفته الباقلاني ولم صار الحق وقفا على أحدهما دون الثاني? أكان ذلك لأجل السبق في الزمان? فقد سبق الأشعري غيره من المعتزلة فليكن الحق للسابق عليه! أم لأجل التفاوت في الفضل والعلم? فبأي ميزان قدر درجات الفضل حتى لاح له أن لاأفضل في الوجود من متبوعه?! فإن رخص للباقلاني في مخالفة الأشعري! فلم حجر على غير الباقلاني? وما الفرق بين الباقلاني والكرابيسي والقلانسي وغيرهم?.. إن من جعل الحق وقفا على واحد بعينه هو إلى الكفر أقرب. ومع ذلك فإن كل فرقة تكفر مخالفها فالحنبلي يكفر الأشعري! والأشعري يكفر الحنبلي! والمعتزلي يكفر الأشعري. ولاينجيك من هذه الورطة إلا أن تعرف حد التكذيب والتصديق وحقيقتهما! فينكشف لك غلو الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بعضا. فهم ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده! وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم: إذا قذف أحد المسلمين صاحبه بالكفر فقد باء به أحدهما.

كذا قال الغزالي رحمه الله. ونضيف نحن قولنا إن أظلم الناس لنفسه ولغيره من قضى بحرمان الآخرين من استخدام نعمة التفكير التي أنعم الله عز وجل بها علينا! وقصرها على نفسه.

ثم لاحل بعد هذا كله إلا في التمسك بأهداب سماحة الإسلام! وبمبدأ الاحترام المتبادل القائم على حق الغير في المخالفة انطلاقا من قناعاته وانسجاما معها! وفي العمل على توفير المناخ الثقافي الذي يرفض العنف الجسدي والإرهاب الفكري! ويسمح بتطوير قراءة النص قراءة مواكبة لتطور المجتمع وظروف العصر.

ولاحل إلا في التفاف كل منا إلى من هم على يمينه فيقول:
ـ السلام عليكم ورحمة الله!
وإلى من هم على يساره فيقول:
ـ السلام عليكم ورحمة الله.

 

حسين أحمد أمين