لا عقلانية العلم والعلماء
لا عقلانية العلم والعلماء
توماس كون ونقد المنهج العلمي إنه مؤرخ علمي من طراز خاص. فهو يستخدم مكتشفات البحث التاريخي كقاعدة لدراسة طبيعة المعرفة العلمية مما يضفي عليها صبغة فلسفية. في سلسلة المحاضرات الثقافية لعام 1984 التي تنظمها كل عام الإذاعة البريطانية إحياءً لذكرى أحد مؤسسيها ومديريها الأوائل وهو اللورد "ريث"! ألقى الدكتور باري بارنز الأستاذ بقسم الاجتماع بجامعة أدنبره محاضرة طريفة بعنوان "تحدي أسطورة العقلانية" عرض فيها لآراء أحد مؤرخي العلم المعاصرين الذين أفلحوا في تحقيق شهرة واسعة امتدت إلى خارج مجال تخصصهم في تاريخ العلم! وهو الأستاذ "توماس صامويل كون"! أستاذ تاريخ العلم بجامعة برنستون الأمريكية. وقد جذبت المحاضرة لطرافتها انتباه كثير من المثقفين الذين يتابعون هذه المحاضرات الثقافية الراقية! وأسهمت في ذيوع صيت "كون" بين فئات جديدة وواسعة وعريضة من المتابعين لحركة الفكر! خاصة وأن هذه المحاضرة فتحت الأبواب علي مصاريعها أمام التساؤل من جديد حول دور العلم في الحياة وتقويم مناهجه من زاوية جديدة تقوم على التشكك في كثير من الآراء السابقة التي كان الناس يتقبلونها بغير تردد ويسلمون بصحتها تسليما مطلقا! وبخاصة فيما يتعلق بمبدأ عقلانية العلم والعلماء. وكان توماس كون قد أصدر عام 1962 كتابا يحمل عنوانا مثيرا هو "بناء الثورات العلمية"! هو في أساسه نقد للمناهج المتبعة في "إنتاج" المعرفة العلمية. وقد استخدم كون في العنوان كلمة "بناء" تمشيا مع التيار العام السائد في ذلك الحين والذي كان يهتم من ناحية بدراسة "البناء الاجتماعي" للمجتمعات الإنسانية وتطبيق نظرية البنائية الفرنسية على نتاج الفكر وميادين الثقافة المختلفة. وكما يقول إرنست جلنر وهو من كبار المفكرين المعاصرين في بريطانيا! إنه لو كان كتاب توماس كون ظهر قبل الحرب العالمية لكان عنوانه "طبيعة الثورات العلمية" نظرا لشيوع استخدام مصطلح "طبيعة" في كثير من كتابات تلك الفترة! ولو أنه ظهر في فترة مابين الحربين لكان عنوانه "منطق الثورات العلمية" حيث كان استخدام كلمة "منطق" في عناوين كتب مناهج العلم وتاريخه أمراً مألوفا حينذاك. ومع أن توماس كون يعمل أستاذا لتاريخ العلم فإن كتاباته أكثر من أن تكون مجرد سرد لذلك التاريخ. فهو يستخدم مكتشفات البحث التاريخي كقاعدة لدراسة طبيعة المعرفة المعملية. مما يضفي على هذه الدراسات صبغة فلسفية تجعلها أقرب إلى أعمال المفكرين الأوربيين وبالذات الفرنسيين منها إلى الكتابات الأنجلو سكسونية التي تهتم بالبيانات والشواهد والأدلة أكثر مما تهتم بالتفكير التأملي! كما يمثل إلى توكيد وإبراز مايمكن تبريره فحسب وذلك حسب معايير محكمة ودقيقة بل وأحيانا صارمة! وتعتبر العلم هو النموذج المثالي للمعرفة. حياة "توماس صامويل كون" حياة عادية وهادئة ورتيبة كما هو المتوقع بالنسبة لأستاذ أكاديمي منصرف إلى علمه وعمله. ولقد ولد كون في مدينة سينسياتي بولاية أوهايو عام 1922! وكان يعد نفسه في فترة الدراسة الجامعية للتخصص في مجال العلوم الطبيعية! ونال بالفعل درجته الجامعية الأولى من جامعة هارفارد في الفيزياء النظرية. وقد خضع أثناء التلمذة لتأثير أحد كبار علماء الكيمياء الذين أعطوا جانبا كبيرا من الاهتمام لتاريخ العلم وتبسيطه! وهو جيمس كونانت الذي شغل لعدة سنوات منصب رئيس تلك الجامعة. وبعد تخرجه عمل في واحد من أكبر معامل البحث المعملي بأمريكا! ولكنه لم يلبث أن اكتشف أن العمل في البحث المعملي فيه درجة من الرتابة التي تثير الملل والضجر وتصنع قيودا شديدة على التفكير والتأمل النظري! وهو ماكان يصبو إليه! ولذا استقال عام 1984 وعمل زميلا بجامعة هارفارد التي تخرج فيها! ثم انضم في عام 1951 إلى هيئة التدريس بقسم تاريخ العلم بتلك الجامعة أيضا! وظل هناك إلى أن اختير أستاذاً لتاريخ العلم عام 1961 بجامعة كاليفورنيا في بركلي! وانتقل بعدها عام 1964 لشغل كرسي الأستاذية لتاريخ العلم بجامعة برنستون التي ارتبط بها منذ ذلك الحين. ولقد أتاح له اشتغاله واهتمامه بتاريخ العلم الاتصال بأفكار وآراء غيره من فلاسفة العلم ومؤرخين من أمثال كارل بوبر الذي أصدر عام 1959 كتابه المشهور عن "منطق الكشف العلمي" وضمنه بعض الأفكار التي عارضها كون! كما تأثر ـ حسب مايقول هو نفسه في كتابه "بناء الثورات العلمية" بكتابات عدد من المفكرين وفلاسفة العلم وبالذات من الفرنسيين من أمثال ألكساندر كواريه وإميل مييرسون. وربما كان ذلك وراء الأسلوب والطريقة اللذين كتب بهما عمله المهم عن بناء الثورات! كما يلقي بعض الأضواء على طبيعة كتاباته التأملية. وهو نفسه أيضا يعترف بأن هذه الأعمال وغيرها وضّحت له بعض الأمور التي ينبغي التفكير فيها بالرغم من أن تلك الكتابات كانت تنتمي إلى حقبة من الزمن كانت أسس وقواعد التفكير العلمي فيها مختلفة تمام الاختلاف عن واقع الحال الآن. بل إن نطاق تفكيره امتد إلى تعرف بعض مناهج العلوم الإنسانية والسلوكية الأخرى مثل أعمال عالم النفس السويسري جان بياجيه وعالم اللغويات الأمريكي بنيامين ورف. وهذه كلها وجدت طريقها بشكل أو بآخر في صياغة نظرته إلى تاريخ العلم وإسباغ طابع إنساني واضح على كتاباته. ومن هنا جاءت أعماله! وبخاصة كتاب "بناء الثورات العلمية" تعكس نظرة فريدة ومتفردة وشاملة وقريبة بشكل قوي من الواقع! بقدر ماكانت بعيدة عن المواقف المثالية المجردة التي تميز كثيرا من كتب تاريخ العلم. وبالرغم من أن له بعض الأعمال العلمية الأخرى المهمة مثل كتابه عن "الثورة الكويرنيقية" فإن "بناء الثورات العلمية" يعتبر هو كتابه الأساسي! وهو الذي ارتبط به اسمه أكثر من غيره من الأعمال! لأنه يعتبر مدخلا جديدا وأصيلا لدراسة العلم ومهمة ومعرفة دوره وإسهاماته في الحياة بوجه عام. التفكير العقلاني والتجربة يذهب كون إلى أن معظم مؤرخي العلم ينظرون إلىه على أنه نوع من المعرفة التي تقوم على جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات المؤكدة اليقينية عن طريق الملاحظة والتجريب وبطريقة منهجية منظمة تلتزم بالحياد والموضوعية ويتوحد بمقتضاها التفكير العقلاني مع التجربة المتعمدة وذلك بقصد فهم العالم الفيزيقي والعالم البيولوجي. فالمدخل الإمبيريقي الوضعي الاستقرائي هو إذن المدخل السائد أو الغالب على المعالجات المتعلقة بتاريخ العلم! وذلك على أساس أن الباحث يبدأ "مشروعه" العلمي بإجراء الملاحظات الدقيقة المحايدة بقدر الإمكان وأن هذه المعلومات تترتب وتتخذ شكل نمط معين وثابت يتوقع الباحثون والعلماء أن يتكرر قيامه في كل الحالات المشابهة في المستقبل! وأن الإخفاق أو الفشل في الوصول إلى تحقيق هذا النمط في أي حالة من الحالات يرجع إلى وجود عيب أو نقص في الباحث نفسه أو في أسلوب الملاحظة! أو في عدم جمع القدر الكافي من المعلومات! أو إلى تدخل عوامل أخرى خارجية تؤثر في عملية الاستقرار! ولكن لم يكن هناك من الباحثين والعلماء من يرد ذلك الفشل أو الإخفاق إلى وجود عيب في النمط ذاته. هذه النظرة إلى العلم تعتبر في رأي كون نظرة مثالية لاتتفق مع واقع الحال! لأننا لو درسنا سير العملية العلمية بدقة وتتبعناها في كل خطوة من خطواتها فسوف نتبين أن العلم ممارسة "أقل عقلانية" بكثير مما يتصور هؤلاء المؤرخون! وأن كثيرا من "النظريات" العلمية لم تقم على توافر القدر الكافي من الشواهد والبيانات ولم ترتكز على التدليل والبرهان الاستنباطي وحدهما! وإنما تدخلت فيها بعض عناصر الحدس بل والميول والهواجس والأفكار الشخصية التلقائية. فموقف كون إذن يمثل نوعا من التحدي لكثير من ملامح ومقومات فكرة العلم أو تصور العلم على أنه بحث عقلاني موضوعي. ولذا كان الطابع الغالب على كتاباته! وبالذات على كتاب "بناء الثورات العلمية"! هو إظهار الاختلاف والتباين بين النظرة "المثالية" إلى العلم ـ وهي النظرة التي تصدر عنها معظم كتابات فلاسفة ومؤرخي العلم ـ وبين الحقيقة التي يكشف عنها البحث الدقيق في التطور التاريخي للعلم! مع محاولة التوفيق بيين هاتين النظريتين! المثالية والواقعية. وهذه المحاولة الدائبة المستمرة من جانبه هي التي جعلت منه واحدا من مؤرخي العلم القلائل الذين أفلحوا في ابتكار "نموذج" عام للعلم. فالنظرة "المثالية" للعلم هي التي يقف منها كون موقف النقد والمعارضة. ومن الإنصاف أن نذكر أن أحد كبار مؤرخي العلم المعاصرين وهو الأستاذ كارل بوبر اعترض هو أيضا عليها وذهب إلى القول بأن الشخص قد يجمع قدراً هائلا من المعلومات دون أن يصل إلى شيء إلا إذا كانت لديه "فكرة" جديدة أو طريفة تستحق الاعتبار! وأن ذلك لن يحدث إلا إذا كانت لديه "مشكلة" علمية تؤرقه! وأن هذه الفكرة تكون قابلة للمناقشة والدحض والتنفيذ. فالعلماء الخليفون بهذا الاسم ليسوا مجرد باحثين أو جامعين للمعلومات! ولكنهم أيضا منتجون ومبدعون لنظريات جديدة وجريئة ومثيرة. ومع مافي هذا الرأي من طرافة فإن كون يتحفظ عليه على أساس أن الغالبية العظمى من العلماء لايحققون هذا المطلب! وبخاصة فيما يتعلق بالجرأة المعرفية! لأن الغالبية العظمى من المشتغلين بالعلم لايقدمون في الحقيقة أية نظريات وإنما هم يتقبلون النظريات الموجودة فعلا دون مناقشة! ويعتبرونها بمنزلة "نموذج مثالي" ويقصرون جهودهم على دراسة موضوعات جزئية وتفصيلية في إطار ذلك النموذج المثالي.. والطريف أن كون يذهب إلى القول إلى أن هذا هو ماينبغي أن تكون عليه الأمور! لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة إلى تراكم المعلومات وإن لم تؤد إلى حدوث طفرات أو تقدم حقيقي. فالالتزام بالنموذج المثالي لايعتبر دليلا على ضعف أو تخلف العلم! وإنما هو شرط أساسي لوجود العلم وبالتالي تكوين مايسميه كون "المجتمع العلمي" أو "الجماعة العلمية". ودون هذا الأسلوب الذي يسترشد بالنماذج المثالية لن يكون هناك تراكم! ولن يكون هناك "مجتمع علمي" بين التراكم والتقدم ولكن تراكم المعرفة العلمية شيء! وتقدم العلم شيء آخر. فالتقدم الحقيقي للعلم إنما يحدث ـ في رأي كون ـ نتيجة لقيام ثورات علمية حدث بعضها خلال فترات التاريخ الماضية نتيجة لظروف معينة. وهذه الثورات هي قفزات فكرية هائلة لتغير الأوضاع التي كانت سائدة في العلم من قبل وتزودنا بمناهج وأساليب جديدة للبحث وتقدم لنا نظما وتصورات فكرية ومعايير جديدة للصدق وغير ذلك من القواعد والضوابط التي تحكم ممارسة البحث بالنسبة للجماعة العلمية التي ترتبط بذلك الفرع من التخصص. وبقول آخر! فإن العلم يمر خلال تاريخه بنوعين من المراحل: ففي النوع الأول يعكف العلماء على إجراء تجاربهم وملاحظاتهم التي يسترشدون فيها بتلك النظرة الراسخة التي اصطلح على تسميتها بالنموذج المثالي بكل ما يتعلق به من معايير ومقاييس وتفسيرات وتحليلات. وهذا هو السائد المألوف في العلم! ولذا يطلق كون على هذا النمط من العلم اسم العلم العادي أو المألوف أو السويNormal. وفي فترة هذا العلم العادي السوي المألوف يبتعد العلماء عن التفكير الفلسفي والتساؤلات النظرية! لأن النموذج المثالي الذي يتبعونه يخدم أغراضهم ويحقق أهدافهم تماما. وهذا العلم السوي يؤدي إلى تراكم المعلومات وهو يقوم على إجراء البحوث بطريقة هادئة ـ بل ومسالمة ولاتتضمن أية مخاطرة ذهنية مثيرة! لأنه يقوم أساسا على تطبيق النموذج المثالي الخاص به! ولكن على حالات جديدة تعتبر بمنزلة "تنويعات" من الحالات السابقة التي تسترشد بذلك النموذج. فالنماذج المثالية ليست مجرد نظريات وإنما هي أعمال وإسهامات تضم كل عناصر الممارسة العلمية في مجال واحد متخصص من العلم! كما أنها هي التي تحدد المعايير المطلوبة لتوفير الصدق والاتساق. ولكن بالرغم من أهمية النموذج المثالي ودوره في حياة العلم فإن كون يرى أن الالتزام الشديد بذلك النموذج! والمبالغة والمغالاة في تطبيقه واتباعه بحذافيره! كثيرا يكون هو السبب في الثورة على ذلك النموذج ونبذه واستبدال نموذج مثالي آخر به. ذلك أن المبالغة في اتباع أي نموذج مثالي وتطبيقه في المجالات المختلفة وفي الجزئيات والتفاصيل يفقده في آخر الأمر قيمته وأهميته وفاعليته بحيث لايصبح مجالا للإثارة الذهنية! وبخاصة إذا تبين من النتائج الإمبيريقية أن ثمة بعض الثغرات التي تمنع من التفسير في حدود وألفاظ ذلك النموذج وبالإشارة أو الرجوع إليه. فهنا تقوم مايسميه ديفيد بلور "أزمة ثقة"! إزاء ذلك النموذج المثالي! ويترتب على ذلك ظهور مقاربات ومداخل جديدة ترتبط بنماذج مثالية جديدة لاتلبث أن تكسب إلى صفها الباحثين والعلماء إذا ثبتت صلاحيتها لحل المعضلات. ويعتبر كون ذلك التحول "ثورة علمية" على النماذج المثالية المستقرة! دون أن يعني ذلك بالضرورة خطأ من النماذج القديمة أو فقدانها لصلاحيتها وفاعليتها تماما. وبمرور الوقت تستقطب النماذج المثالية الجديدة مزيدا من العلماء بحيث تصبح هي ذاتها مصدراً للعلم السوي المعتاد المألوف. وهكذا يتراوح تاريخ العلم بين هذين القطبين أو الموقفين! وإن كانت الثورات العلمية وماينجم عنها من علم "ثوري" هي التي تغير مسار العلم وتؤدي إلى التقدم الفعلي في العلم وإن كانت لاتحدث إلا على فترات متباعدة. فالثورات العلمية هي العامل الفعال في التقدم العلمي كما أن العلم الثوري هو معيار ذلك التقدم. وكلما أسرع العلماء في نقد العلم السوي كان ذلك أفضل لتقدم العلم ذاته وذلك على اعتبار أن النماذج المثالية الراسخة كثيرا ماتكون عقبات تعوق التقدم العلمي! فتأتي هذه الثورات لترد الأمور إلى نصابها وتصحح مسار العلم. والمثال الواضح لذلك هو الانتقال من التصور الأرسطي عن العالم الفيزيقي إلى التصور النيوتوني "نسبة إلى نيوتن". وقد ساد كل من التصورين تباعا لفترات طويلة من الزمن! ثم التحول إلى نظرية النسبية ونظرية الكوانتوم التي تسود الآن.