الوزن وذاكرة الشاعر التقليدي

الوزن وذاكرة الشاعر التقليدي

لا يمكن الحديث عن الذاكرة الحافظة للشاعر التقليدي! من غير الحديث عن الوزن والقافية! من حيث الدور الإيقاعي الذي يقومان به في تحريك الذاكرة الحافظة وإثارة تداعياتها في اتجاه خاص دون غيره! أثناء عملية النظم التي تعطف معنى الإحياء على معنى الاستعادة! وتدني بكليهما إلى خاصية الافتعال التي يتميز بها الشعر التقليدي.

وبمجرد أن يختار الشاعر لنفسه وزنا خاصا وقافية بعينها! ينظم عليهما! فإن العدد العديد (أو القليل) المختزن في ذاكرته من القصائد القديمة المتحدة مع هذا الوزن وتلك القافية يتأهب للحركة في المستويات الشعورية واللاشعورية من ذاكرة هذا الشاعر! وتتداعى إلى ذهنه من التراكيب الدلالية لهذه القصائد وصورها البلاغية ما يجانس التركيب الإيقاعي للوزن والقافية اللذين اختارهما! وذلك على نحو يغدو معه التركيب الإيقاعي المختار! المتصل! المطرد! أشبه بحجر المغناطيس الذي يجذب إليه العناصر القابلة للتمغنط من الأشياء المجانسة لتكوينه.

ذلك ما نراه على وجه التحديد في الجانب التقليدي من شعر الإحيائيين! حيث الجانب الذي تسيطر عليه الذاكرة الحافظة! ويظهر فيه أثر التداعي الذي توجهه حركة الوزن والقافية. ومن الواضح أن الذاكرة التقليدية للشاعر الإحيائي كانت تتميز بقدرة خاصة على الهيمنة! نتيجة ما احتشدت به من قصائد التراث التي فرضت حضورها الطاغي بواسطة الدور الذي قام به الوزن في عمليات التداعي المختلفة.

ولعل الشاعر الإحيائي كان يشعر بهذه العمليات على نحو واع! يدفعه إلى التحوير والتغيير في التراكيب والصور التي كانت تنثال على ذهنه من الذاكرة! أثناء عملية النظم! كي لا يتهم بالسرقة التي كانت تهمة جاهزة شائعة في عصره. ولكن المؤكد أن الأمر كان يختلط عليه في كثير من الأحيان! شأنه شأن كل الشعراء التقليديين! فلا يستطيع التمييز بين ما هو له بالفعل وما هو لغيره من الشعراء الذين سبقوه أو الذين حفظت أشعارهم ذاكرته. وكان ذلك الأمر يمثل مشكلة مؤرقة! على النحو الذي عبر عنه واحد من هؤلاء الشعراء! هو أحمد محرم! بقوله (في مقال له بعنوان "حافظ إبراهيم في الميزان" ـ نشره في مجلة أبولو بمناسبة وفاة شاعر النيل عام 1932) إن الشاعر إذا كثرت محفوظاته ازدحمت الصور اللفظية والمعنوية في ذهنه فاختلط بعضها ببعض اختلاطا يجعل الاحتراس من أشق الأمور وأصعبها! فقد يضع المعنى أو الشطر من البيت أو البيت كله من هذه المحفوظات في شعره وهو يظنه من وحي شاعريته وفيض قريحته! وقد يتبين ذلك ويعرفه ولكن بعد حين. والواقع أن أحمد محرم لم يكن يصف حافظ إبراهيم بهذه الكلمات بقدر ما كان يصف مدرسته الإحيائية كلها! من زاوية الوعي بالمشكل الذي كانت تفرضه علاقة الإذعان إلى الذاكرة.

رياضة القول

وللوزن أدواره الحاسمة في هذه العلاقة! وأولها أنه وسيلة من وسائل رياضة القول! يستهل بها الشاعر التقليدي النظم! على نحو يتحول فيه البيت الشعري القديم الذي يردده الشاعر! أو تقذفه إليه الذاكرة! إلى ما يشبه المفتاح الذي يفتح أبواب الكلام المغلقة! ويبعث النشاط في تداعيات الذاكرة المرتبطة بمجاله الإيقاعي والدلالي. ولذلك يبدأ البارودي إحدى قصائده بقوله:

ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر وغصنك مياد ففيم تنوح

والبيت كله ليس له وإنما لأبي كبير الهذلي. وقال في قصيدة أخرى:

علىّ طلاب العز من مستقره ولا ذنب لي إن حاربتني المقادر

والبيت كله لأبي فراس الحمداني فيما عدا كلمة القافية "المقادر" التي استبدلها البارودي بكلمة "المطالب" في بيت أبي فراس.

وأتخيل أن البارودي! شأن شعراء التقليد! كان يقوم بشيء من التحوير في الأبيات التي يستدعيها الوزن إلى ذهنه! خصوصا إذا تنبه أنها ليست له! ومع ذلك فإن العين المدققة يمكن أن ترد أمثال هذه الأبيات إلى أصلها! كما يحدث في قوله الذي يصف به الأهرام وصفا تشبيهيا:

رسا أصلها وامتد في الجو فرعها فأصبح وكرا للسماكين والنسر

فهو وصف تستدعيه الذاكرة من بيت أحد الشعراء المصريين في الأهرام بجمع الموضوع والوزن والقافية معا:

أنافا عنانا للسماء وأشرفا على الجو إشراف السماك أو النسر

وعندما يقول البارودي في القصيدة نفسها واصفا هرمي خوفو وخفرع:

كأنهما ثديان فاضا بدرة من النيل تروي غلة الأرض إذ تجرى

نجد وراءه من الوزن نفسه والقافية نفسها للشاعر القديم نفسه:

وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا كأنهما نهدان قاما على صدر

ويبدو أن هذا النوع من التداعي كان ينطوي على نوع من التبادل بين التركيب النحوي الذي يؤدي دور ما يشبه "الصيغة" في النظم الشفاهي. وآية ذلك الشطر الثاني من بيت حافظ الذي يسترجع الصيغة النحوية نفسها في الشطر الثاني من بيت أبي العلاء! وذلك على النحو نفسه الذي تقترن به الصيغة النحوية والصيغة الوزنية في بيت البارودي:

ومازاد ماء النيل إلا لأنني وقفت به أبكي فراق الحبائب

الذي يسترجع الصيغة النحوية الملازمة للوزن نفسه في بيتي البهاء زهير:

ـ ومازاد ماء النيل إلا بمدمعي لقد مرج البحرين يلتقيان
ـ وما طاب ماء النيل إلا لأنه يحل محل الريق من ذلك الثغر

وهما بيتان لا يجمعهما وبيت البارودي وزن "البحر الطويل" فحسب بل الصيغة النحوية المتكررة في الشطر الأول من الأبيات الثلاثة! وذلك على نحو قد يغري أصحاب نظرية "النظم الشفاهي" بالالتفات إلى دور الذاكرة في نظم الشعر الإحيائي الذي يبين عن سمات شفاهية واضحة! سمات تقترن بتكرار "الصيغ" اللغوية التي يستدعيها الناظم الشفاهي من ذاكرته الجاهزة دوما.

ولا شك في أن الذي أوقع الشاعر الإحيائي في هذا الجانب من التكرار الصيغي هو استغراق ذاكرته في الدواوين القديمة! على النحو الذي لا يمكن معه أن يقرأ القارىء قصيدة من قصائد هذا الشاعر من غير أن يجد ما يذكره بتراكيب الشعر القديم وصيغه الإيقاعية! كأنما تداخل شعر هذا الشاعر وشعر القدماء في أبعاد كثيرة! فأصبح ينطق بما كانوا ينطقون من صور وتراكيب. خذ مثلا قصيدة شوقي الطويلة "صدى الحرب" التي قالها مادحا السلطان عبد الحميد في أعقاب الحرب العثمانية اليونانية! والتي مطلعها:

بسيفك يعلو الحق! والحق أغلب وينصر دين الله أيان تضرب

تجد قصيدة المتنبي التي مطلعها

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب

تتداعى التداعي الذي يوجهه إيقاع الوزن والقافية! في آليات المعارضة! وذلك إلى الحد الذي نرى معه هذه التوافقات الدالة من التكرار الصيغي على النحو التالي:
شوقي: رجاؤك يعطيها وخوفك يسلب
المتنبي: فجودك يكسوني وشغلك يسلب
شوقي: وما هو إلا الموج يأتي ويذهب
المتنبي: تجىء على صدر رحيب وتذهب
شوقي: وقبّلت سيفا كان بالكف يضرب
المتنبي: تبينت أن السيف بالكف يضرب

ولا يتوقف أثر التداعي الوزني من شعر المتنبي على القصيدة السابقة بل يجاوزها إلى نماذج أخرى لافتة من شعر شوقي! قصائد ينفصل فيها تداعي الوزن عن الصيغ النحوية المتكررة ليستبقي تكرار الدلالة الإيقاعية. خذ مثلا قول شوقي في رثاء حافظ إبراهيم:

وددت لو أني فداك من الردى والكاذبون المرجفون فدائي

تجد وراءه بيت المتنبي:

تطيع الحاسدين وأنت مرء جعلت فداءه وهم فدائي

ويبدو أن كثرة تداعيات المتنبي في شعر شوقي مرجعها إلى أن أحمد شوقي حفظ ديوان المتنبي بأكمله في الفترة التي قضاها بباريس لدراسة الحقوق! فيما يروى عنه الأمير شكيب إرسلان في كتابه "شوقي.. أو صداقة أربعين سنة"! وهي رواية تؤكد أن ذاكرة شوقي غلبت عليه في التطلع إلى باريس التي غامت مشاهدها تحت وطأة المحفوظ التراثي الذي احتشدت به الذاكرة.

شوقي.. والمعارضات

ويعرف كل دارسي الأدب الحديث غرام شوقي بالمعارضات التي رأى فيها وسيلة من وسائل مباراة القدماء والتفوق عليهم في دروب الإبداع التي استهلوها. لكن الذي لا يعرفه الكثيرون أن ذاكرة شوقي ما كانت تنغلق على الأصل القديم الذي يعارضه وحده! وإنما كانت تنفتح على غير الأصل من مجموعات القصائد القديمة المتحدة مع قصيدة المعارضة في الوزن والقافية. ولذلك كان من الطبيعي أن تتداعى إلى ذهن شوقي تراكيب هذه القصائد وصورها! وتتداخل في عملية تشكيل المعارضة التي لم تكن تتقيد! لاشعوريا! بأصل واحد حسب ما درجنا على الاعتقاد. ويمكن أن نضرب على ذلك مثلا بقصيدة شوقي التي قالها في انتصار الأتراك بقيادة الغازي مصطفى باشا كمال الذي يطلق عليه شوقي في القصيدة لقب "خالد الترك". وهي القصيدة التي ذهب كثير من الباحثين إلى أن شوقي كان يعارض بها أبا تمام في قصيدته "عمورية" التي مطلعها:

السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب

وبالفعل فإن شوقي يعارض "عمورية" أبي تمام بأكثر من معنى! ويتأثر بكثير من أبياتها! ويوسع بعض صورها ليصوغ صوره الخاصة عن انتصار الأتراك! على نحو ما لاحظ طه حسين بحق في كتابه عن "حافظ وشوقي". ولكن مع كل هذا التأثر بأبي تمام فقد كان في ذهن شوقي قصيدة أخرى غير عمورية! وهي قصيدة كتبها الشاعر المصري ابن النبيه في مديح الملك الأشرف السلطان مظفر الدين الأيوبي. ويمكن أن نقارن بين مطلع شوقي:

الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب

ومطلع ابن النبيه:

الله أكبر ليس الحسن في العرب كم تحت لمة ذا التركي من عجب

حيث نجد التشابه بين المطلعين واضحا كل الوضوح. وبرغم أن الغرض الذي قيلت فيه قصيدة ابن النبيه يختلف اختلافا واضحا عن غرض شوقي! وإن كان المدح يجمع بينهما! فمن الواضح أن اختيار شوقي لوزن قصيدة أبي تمام! وهو وزن البحر البسيط! وقافيتها جعل تراكيب قصيدة ابن النبيه تتداعى إلى ذهنه ويستفيد منها في تكوين مطلعه.

غير أن أحمد شوقي لم يتأثر في تشكيل بائيته بأبي تمام وابن النبيه فحسب بل تأثر بالمتنبي الذي تداعى إلى ذهنه في الوقت نفسه. وعندما نتأمل وصف شوقي لخيل الترك في قصيدته! خصوصا بيته الذي يقول:

كما ولدتم على أعراقها ولدت في ساحة الحرب أو في باحة الرحب

نجد أن الصورة البلاغية في البيت تدين للمتنبي في بيته الذي يصف الخيل بقوله:

وكأنها نتجت قياما تحتهم وكأنهم ولدوا على صهواتها

ومن الطريف أن نعلم أن "عمورية" أبي تمام كانت وراء قصيدة أقدم للبارودي أستاذ شوقي! قصيدة من قافية الميم لا الباء! دفعها الوزن إلى عمورية ودفع الوزن عمورية إليها! فانقلب مطلع الطائي:

السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب

إلى مطلع البارودي:

بقوة العلم تقوى شوكة الأمم فالحكم في الدهر منسوب إلى القلم
كم بين ما تلفظ الأسياف من علق وبين ما تنفث الأقلام من حِكم

الذي استهل قصيدته استهلالا نقضيا! يستحق اهتماما خاصا لما يتضمنه من مناقضة دلالية تفرض تقديم القلم على السيف! على العكس من فعل أبي تمام! لكن حسبنا الإشارة السريعة إلى الوزن الذي أتى في قانون التشابه في فعل التداعي! على النقيض من الدلالة التي جاء بها قانون التضاد في الفعل نفسه.

الاستفادة من الصور

ونختتم الإشارة إلى الدور الذي يلعبه الوزن في ذاكرة الشعر الإحيائي بقصيدة (نهج البردة) الشهيرة لأحمد شوقي! تلك التي لا تعارض بردة البوصيري وحدها! ومن ثم تستفيد من صوره دون غيرها! بل تتعدى قصيدته إلى ثلاث أخر غيرها من نفس الوزن والقافية. وهذه القصائد هي: ميمية المتنبي التي مطلعها:

ضيف ألم برأسي غير محتشم والسيف أحسن فعلا منه باللمم

وميميته التي مطلعها:

واحر قلباه ممن قلبه شيم ومن بجسمي وحالي عنده سقم

وميمية الشريف الرضي التي مطلعها:

يا ليلة السفح ألا عدن ثانية سقى زمانك هطال من الديم

وبرغم اختلاف أغراض هذه القصائد وتنوعها! فمن الواضح أن وزن قصيدة البوصيري التي هي أساس المعارضة وقافيتها أثار في ذاكرة شوقي بعض محفوظه من الشعر القديم فتداعت على ذهنه هذه القصائد! وكلها من وزن واحد وقافية واحدة! وربما الكثير غيرها مما لم أحصه أو أفلح في تتبعه. لكن الذي لفت انتباهي في هذا التتبع أن البوصيري نفسه كان يتأثر خطى المتنبي ويستعين به! أثناء نظم البردة! فبيته:

ولا أعدت من الفعل الجميل قرى ضيف ألم برأسي غير محتشم

يقوم عجزه على استعارة كاملة لصدر إحدى قصيدتي المتنبي اللتين أشرت إليهما! ومن ثم يبين عن ظاهرة التكرار الصيغي مرة أخرى. ويبدو الأمر كأن شوقي صنع صنيع البوصيري وسار على هديه! لكنه استعان بأكثر من شاعر وأكثر من قصيدة. وقد أنتج ذلك تداخلا طريفا في صور "نهج البردة" فامتزجت صور المتنبي والشريف الرضي والبوصيري واختلطت معا. ويمكن أن نتوقف عند الجزء الأول من هذه القصيدة! وهو الجزء الخاص بالنسيب! ونتأمل هذين البيتين:

جحدتها وكتمت السهم في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي ألم
يا لائمي في هواه والهوى قدر لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم

فنرى أنهما يستمدان نسيجهما من المتنبي والشريف الرضي والبوصيري في الوقت نفسه. يقول المتنبي:

إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم

ويقول الشريف الرضي:

تعجبوا من تمنى القلب مؤلمه ومادروا أنه خلو من الألم
أقول للائم المهدي ملامته ذق الهوى فإن اسطعت الملام لم

ويقول البوصيري:

يا لائمي في الهوى العذري معذرة مني إليك ولو أنصفت لم تلم

وتدور المصادر الثلاثة جميعا حول معنى واحد! أو فكرة واحدة! هي استعذاب العاشق لألم الحبيب! والمصدر الأصلي هنا هو المتنبي! وبيته كان يعبر عن إحساس حزين! شعر به بعد أن أهمله سيف الدولة واستمع إلى أقوال الوشاة. ثم جاء الشريف الرضي وتلقف الصورة ونقلها من العتاب إلى العزل! كعادة الشاعر المتأخر عندما يستفيد من المتقدم! وحور فيها بما يناسب مقتضى الحال الجديد فولّد منها صورة اللائم. وجاء البوصيري فتلقف ما ولّده الشريف "أي صورة اللائم" وترك الأصل. ثم جاء شوقي من بعدهما واسترجع الصور الثلاث فمزجها معا وحوّرها مكونا بيتيه السابقين! فجمع أصل الصورة عند المتنبي مع توليد الشريف واستفادة البوصيري! لكنه أضاف إلى الصورة ثلاثة أشياء جديدة! أولها: فكرة السهام وهي تفريع آخر ولّده من صورة الجرح عند المتنبي! وثانيهما: فكرة العذل وقد أعانه عليها محفوظه فالعذول يقترن عادة باللائم عند الشعراء القدماء! وثالثها: فكرة قدرية الحب! وعبارة شوقي "الهوى قدر" مصاغة في قالب الحكمة الذي أغرم به غراما تأثر فيه بخطى أستاذه المتنبي! ولكنه مثل كثير من حكم شوقي نتيجة تمثل الموروث! وهي هنا ناتجة عن تمثل شعر العذريين أمثال المجنون أو جميل الذي يقول:

فقلت له فيها قضى الله ما ترى علي! وهل فيما قضى الله من رد
فإن يك رشدا حبا أو غواية فقد جئته وما كان مني على عمد

وعندما يقول شوقي بعد أبيات:

يرعن للبصر السامي ومن عجب إذا أشرن أسرن الليث بالعنم

نجد الشيء نفسه! فأصل الصورة هو المتنبي في بيته:

ترنو إلي بعين الظبي مجهشة وتمسح الطل فوق الورد بالعنم

وإذا كانت صورة الأصل الأقدم تعبر عن إحساس تلقائي! فإن صورة الفرع المولّد تنطوي على نوع من التلفيق الذي توارثه الشعراء القدماء إلى أن جاء الشريف الرضي وتأثر بالمتنبي! بدوره! وولّد الصورة التي يقول فيها:

وألمستني وقد جد الوداع بنا كفا يشير بقضبان من العنم

ثم جاء شوقي وسار على إثرهما فقال:

يرعن للبصر السامي ومن عجب إذا أشرن أسرن الليث بالعنم

فلاحظ الأصل عند المتنبي! وولّد من زيادة الشريف ـ وهي اللمس بالأكف ـ فكرة الأسرة! وقد ساعدته على ذلك كلمة "القضبان" التي تستدعى ذهنيا "بعامل الاقتران المكاني" فكرة السجن أو الأسر.

وعندما نترك هذين المثلين إلى باقي المقطع الأول من نهج البردة! نلاحظ أن تأثير البوصيري يخفت إزاء تأثير الشريف الرضي بوجه خاص! فكثير من صور المقطع النسيبي في قصيدة شوقي يدين لصور الشريف التي كانت بمثابة الرحم لعمليات التوليد. خذ مثلا مطلع شوقي:

ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

تجد أن هذه الصورة ليست من البوصيري في شيء وإنما هي من بيت الشريف:

لو أنها بفناء البيت سانحة لصدتها وابتدعت الصيد في الحرم

لكن شوقي حوّر في الصورة كثيرا وعكسها! فبعد أن كانت الحبيبة عند الشريف هي ما يصاد أصبحت عند شوقي هي الصائد. وهو أمر صنعه في صورة الشريف التالية:

عجبت من باخل عني بريقته وقد بذلت له دون الأنام دمي

التي قلبها وحوّلها عن مجراها الأصلي مولدا منها صورته:

من الموائس بانا بالربى وقنا اللاعبات بروحي السافحات دمي

ومن البديهي أن عمليات التوليد والتحوير ما كان يمكن أن تتم لولا ازدحام ذاكرة شوقي والبارودي وأقرانهما بالموروث الشعري الذي عاشوا به وفيه قدرا كبيرا من شعرهم الذي نضعه في باب التقليد! ونميزه عن شعرهم الإبداعي! في النزعة الكلاسيكية العامة التي ظلت مرتبطة بمخزون الذاكرة الجمعية للميراث الشعري.

 

جابر عصفور