الرحلة

الرحلة

قصة بقلم: مـاريـا لـويزا بوجـا

"نحن لسنا سوى مجموعة من التناقضات". كان يقول ذلك حين قابلنا اللوري وأحسسنا بأن سيارتنا الفولكس الصغيرة تتلاطمها الرياح المتدافعة. كان طريقا ضيقا لا تبطىء عليه السيارات. كلمة "التناقضات" تعلقت في الهواء للحظة. فكرت: ذلك هو السبب في أن الدنيا بخير.. ولكن ماذا بعد ذلك? وما الفائدة? على هذا النحو كنت مدهوشة وكنت أحس في الوقت نفسه بأننا ما عدنا نسير على الطريق مع أن سيارتنا كانت لاتزال تختط طريقها بدأب.

"ثم..?"
"نحن ببساطة شديدة.. (وكنا حتى الآن قد قطعنا على الحافة مسافة طويلة نثرثر برغم الحرارة القاسية لفترة الظهيرة! موقنين بأن هناك أميالا مازالت باقية بيننا وبين مكسيكوسيتي).. يتعين علينا أن نقبلها".

كذا? إذن فكل ما يتعين على الواحد منا أن يفعله هو أن يقبلها! أن يتعرف عليها.. يتحقق منها.. ثم يتركها كما هي! أن يأخذها بحذر ويتداركها.. ذلك ما جال بفكري ونحن ننحدر نحو التلال الخضراء. ولم يكن بوسعي أن أفهم لماذا كان (ي) ضجرا من لف عجلة القيادة عند المنحنيات أو من خفض السرعة ونحن نعوم في مثل تلك السكينة.

"غريب جدا". أبدت (ل) دهشتها وهي على مقعدها الخلفي! ثم قالت: "لقد انحرفت بنا السيارة عن الطريق".

فقال (أ): "أفضل شيء نفعله هو ألا نفكر في ذلك.. أن نستسلم تماما! وإلا فقد يصير الموقف أسوأ مما نحن فيه الآن".

أنا لم أصدقه ـ فما كنت لأصدق نبرة صوته. كان الجو باردا ومتقلبا بعض الشيء. ويمكنني أن أضيف أنه كان لابد! مثلي تماما! وربما مثلنا جميعا! يعاني حالة من الارتباك والحيرة.

قال (ي): "طبعا! هذا ليس أمرا صعبا جدا. فقط حاولي ألا تري نفسك مقيدة بقيد المكان.. أي مكان. حاولي أن تستسلمي تماما"! "كما نحن الآن بالضبط". قالت (ل) ذلك! غير أن قولها رنّ كما لو أنه سؤال أكثر منه جوابا.

فقال (أ) موافقا: "بالضبط! وعلى كل حال! ليس بوسعنا أن نفعل شيئا آخر". "لا بد أنك محق في قولك. لكنني! على أي حال! لن أستطيع أن أفعل ذلك! خصوصا وأنا أستشعر بأن هناك شيئا ما غريبا يحدث". قلت ذلك بإصرار وأنا أنظر إلى الخارج من خلال نافذة السيارة.

كان (ي) يتنصت وهو يقود بتؤدة! لكنه كان غارقا تماما في أفكاره. لقد كانت لدينا أشياء يتعين علينا أداؤها في المدينة! ولذلك فقد كنا سعداء بالتقدم نحوها دون أن نكون مستعجلين.

كانت (ل) هي الوحيدة التي ظلت مندهشة من كوننا انحرفنا عن الطريق. "لست أدري ماذا ترون! أما أنا فإن ما أراه يبدو لي غريبا: الأشجار تبدو متلاصقة جدا".

قال (ي): "هذا أجمل ما في الأمر.. أم أنك تريدين أن تقولي إنها لا تعجبك بهذا الشكل?!".

فقال (أ) موضحا: "إذا ما نظرت إليها عن قرب! فإن في مقدورك أن تري أن لكل منها تعبيرها المختلف. هل لاحظته? إن الشجرة التي هناك! مثلا! شديدة الوقار?"

لم يكن بوسعي أن أعرف أي شجرة كان يقصد! فأنا لم أكن أنظر إلى الأشجار على نحو خاص. كما أنني لم أكن لأحفل كثيرا بما وجدنا أنفسنا عليه بسبب الحالة الجديدة التي بدا أنها تعمل على إنهاء كل تلك التناقضات. ومع أن الأمر سيان! فقد كان من المستحيل على كل حال ألا نلاحظ أننا نمعن في البعد عن أي علاقة نستدل بها على الطريق.

سألت (ي) راغبة في استجلاء الموقف: "إلى أين يمضي بنا هذا?". لكن السؤال بدا أنه في غير مكانه أبدا.

"إلى حيث تبغين". قال (ي) ذلك! ثم أضاف: "هذا متروك لاختياركم"! "أنا مرتاح". قال (أ) ذلك! ثم قال: "وسأكون سعيدا بالاستمرار فيما نحن فيه".

وقلت أنا كاذبة: "وأنا أيضا"
فقال (ي): "وأنت يا (ل)
?"

"لست على ما يرام! أشعر بإعياء! لكن لا تهتموا بذلك"
"أين توقف الحديث بنا
? ألا يذكر أحد?"
"التناقضات". ثم قلت: "ترون ما لونها?"
"أحمر طبعا! لكنها تكون مشربة باللون البني أحيانا"

فانبرت (ل): "لا! إنها زرقاء"

"مع مواليد برج الحوت يكون رأيك سديدا". قال (أ) هذا! ثم أضاف: "دعك من رأيها".

فأبديت اعتراضي وأنا أجيل بصري في الأفق: "لا! أنا لا أظن مطلقا أنها زرقاء". ثم قلت: "ذلك غير معقول بالمرة".
"لا
?" . قال (ي) هذا! وأضاف وهو يصدر ضحكة خافتة: "أحمر وبني إذن. هنا وهناك. العدم عدم. يعني ليس بينها ما يمكن أن يكون ذا لون واحد فقط.
فقال (أ): "أتفق معك! لكني مع ذلك.."

فقاطعته بقولي: "أحاول أن أرسم لها صورة". وكنت مازلت غير مقتنعة! فقلت: "أم أن هذا معناه أنني لم أصل إلى كنهها حتى الآن? كيف حالك الآن يا (ل)?"

"أنا في الواقع لا أشعر أبدا بأنني على ما يرام. وكم أود! إن كان في الإمكان! أن أخرج من السيارة لبعض الوقت"

رأى (ي) وجهها في مرآته العاكسة! ثم نظر جهة يساره وخفض سرعة السيارة وقال كمن أصابه الذهول: "أخشى ألا نستطيع الوقوف هنا" فقلت على سبيل التصحيح: "أخشى ألا نستطيع الوقوف فترة".

وقال (ي): "حاولي أن تتماسكي يا (ل). فمن الصعب جدا أن نتوقف على الفور"طيب! ولكن على أي مسافة من هذا المكان يمكننا أن نتوقف?"

"لم أعد أعرف شيئا بالمرة". بادر (ي) إلى الاعتراف بذلك.

"ألا يمكننا أن نتوقف بالسيارة قرب ذلك التل? هناك? ألا يمكن ذلك يا (ي)?"

أنا شخصيا لا مانع عندي أن أمدد ساقي"

فقالت (ل): "فكرة عظيمة"

وبدأت السيارة انحدارها التدريجي. كان (ي) يدير عجلة القيادة بيد ويمسح على شاربه بعناية بالغة بيده الأخرى! وأوقف السيارة عند شجرة وأغلق مفتاح تشغيل المحرك! ثم بقي هنيهة قبل أن يفتح باب السيارة.

"طيب!" قال ذلك وهو يتثاءب ثم أضاف: "فيتفضل من كان راغبا في التجوال"

نحن جميعا.
ينبثق دفّاقا مثل هذا الشعور الغريب: أن يمدد كل شخص منا ساقيه! أو يشعر بأنه يمشي على قدميه! أن يجيل بصره فيما حوله. وكنت أنا أرتعد! لكن ما كان يداخلني لم يكن شعورا بعدم الرضا بقدر ما كان شعورا جديدا فحسب.

قال (أ): "بالمناسبة! كم الساعة الآن?"
للحظة! بدا كما لو أنه يتعين علي أن أقدح ذهني بشأن ما كان يعنيه السؤال. كان علي أن أحاول أن أتخيل ماذا يمكن أن يكون قد جعل (أ) يوجه سؤالا شاذا مثل "كم الساعة الآن?". رأيت (ي) وهو يتفقد ساعته. وتذكرت أنني! أنا بدوري! فعلت الشيء نفسه. أما (ل) فقد كانت محنية على صندوق السيارة تحملق شاردة الذهن وبدا أنها لم تسمع ما قاله (أ). قلنا أنا و(ي) في نفس واحد: "ساعتي متوقفة".

"غريبة! ساعتي أنا أيضا متوقفة. هذا ما جعلني أسأل.."

فقاطعته (ل): "أين نحن الآن?"

"ليس بإمكاني أن أجيب إجابة أكيدة! ولكنني أعتقد أننا لابد أن نكون عند منتصف المسافة.. ألا تظنين أنت ذلك? ما طول المسافة التي قطعناها منذ أن خلفنا كو أوتلا وراء ظهرنا?"

عقدت الدهشة ألسنتنا جميعا. كو أوتلا? وهل حدث أن ذهب أي واحد منا ذات يوم إلى كو أوتلا?

"اعتدت الذهاب إلى كوأوتلا عندما كنت فتاة صغيرة.. ذهبت إلى هناك ذات مرة مع والدي". بادرت أنا إلى قول ذلك.

فقال (ي): "أذهب أنا إلى هناك بين الحين والحين". ثم أضاف: "أقاربي لهم هناك بيت. ولكني لم أذهب إليهم منذ عدة شهور"

وقالت (ل) في استسلام: "كنت أول من يوضح لي هذا الأمر". ثم أردفت: "إنها المرة الأولى في حياتي التي أسمع فيها عن كوأوتلا".

"لابد أنك سمعت عن كو أوتلا. تذكري! يتعين عليك أن تعبري كو أوتلا للوصول إلى كو إدنافاكا".

وكان ثمة صوت يأتي من مذياع السيارة خافتا. "لكل أولئك الذين يعرفون تفاصيل برامجنا التي تأتي.. هنا على موجات F.M! .."

"ذهبنا إلى كوإرنافاكا منذ ستة أشهر في الرحلة إياها.. أليس كذلك?"

"لا! حدث قبلها"
وغمغمت (ل): "ما أغرب هذا المكان!".
فاستفسرت: "لماذا
?"
"يبدو لي أن كل هذه الخضرة لا سيقان لها. انظري إلى العشب والأشجار" ألقيت نظرة فاحصة على المكان. لم يكن أمام عيني سوى اللون الأخضر. الخضرة كانت تغطي كل شيء! كثيفة وبلا تفاصيل! وبلا نهاية.

"تقصدين السيقان? أنا لا أفهم قصدك"

"ألقي نظرة واحدة إلى العشب. إنه يغطي الأرض كلها. انظري إلى أوراق الأشجار. أنا لم أر لها من قبل شبيها".

على البعد! كانت الأشجار تبدو وكأنها تئن تحت كثافة خضرتها الباذخة. آكام خضراء في أرجاء التلال. لقد كانت (ل) على حق! فالعشب بدا فعلا كطبقة طحلبية مترامية الأطراف تغطي الأرض كلها. لا شيء يبدو منتصبا هناك. بدت الأشياء كلها منبطحة على الأرض في امتداد لانهائي.. بلا ملامح.. على أن اللون بدا عميقا وكثيفا بشكل خارق. كانت الأرض تبدو كحشوة مكتنزة. ولاحظت على حين فجأة شيئا آخر غريبا: كان الأفق مطموسا تماما! ونحن محاطون ببسيطة خضراء تفسح الطريق! على البعد! أمام تلال لا تقل عنها خضرة.

"هاي". ناديت على (ي)! وقلت له: "مكان غريب فعلا! أليس كذلك?" وحاولت أن أشير إلى بعيد ولدي شعور! وأنا أفعل ذلك! بأنني أبحث عن خط الأفق الفاصل بين الأرض والسماء. رسمت بيدي منحنى آملا في أن يراه الآخرون! فلم يستطع (ي) إلا أن يتابع حركة يدي وقال: "في غاية الجمال".

وقالت (ل) وقد تباعد فكّاها: "أتمنى لو تحركنا على الفور"

بدا (ي) حزينا! ثم نظر إلي وقال: "أليس من الغريب أننا نحن الأربعة لا يكون أبدا في مقدورنا أن نكون مع بعضنا?! إن لم يكن هذا فذاك: هناك واحد بيننا على الدوام يريد أن يغادر! أن يقطع ما نحن فيه.."

"إذا كان هذا حالنا ونحن أربعة! فتخيلوا كيف يكون الحال على مستوى مجتمع بكامله.."

ضحكنا جميعا! لكن تعبيرات وجوهنا كانت قد تغيرت! كان بإمكاني أن أحس الاختلاف في تعبير وجهي بالنظر إلى وجوه الآخرين. كانوا قلقين صفر الوجوه. وكانوا يتلفتون حواليهم بعصبية. حملقت فيهم "فلربما كان من الضروري على من وقع أسيرا للجبن أن ينظر إلى ما كان يجب أن ينظر إليه"! فأعطتني وجوههم انطباعا عما كان يعتمل دون شك في داخلي.

سألت (ي): "ماذا سنفعل الآن?"
"أعتقد من الأفضل أن نتحرك.. ماذا يمكننا أن نفعل غير هذا?"

طبعا من السهل جدا أن نعود إلى داخل السيارة وننطلق بها. لكنني لم يكن في مقدوري أن أنفرد بمفاجأة الآخرين بالتفكير في السيارة! أو أن أفكر في أي شيء يتعلق بالرحيل. هي فكرة مجنونة! تبعث على الضحك! تماما كما لو أنك ترقد على السرير فعلا وتتساءل متى سآوي إلى الفراش? وفكرت أنه لابد أن يكون الآخرون يتلاعبون بي! فأخذت أضحك. حينذاك! كانوا جميعا يقهقهون! يتلوون! يتهالكون على سطح السيارة! يتمرغون على العشب! يكفكفون دموعهم! وهو ما جعل عيني تذرفان ضعف ما ذرفته عيونهم. تطوحت! مثل بقية أفراد المجموعة! تاركة نفسي أغيب في نوبة مرح شديد لا يمكن كبحها تولدت داخلي كصدى لضحكهم. أظن أنني فكرت للحظة في المستقبل وكيف أنني كنت قد أفلتُّ آخر فرصة لإدراكه. لكن الضحك كان يلح عليّ بشدة حتى أنني استسلمت له وتعين عليّ أن أتخلى بكل أسف عن حشد كبير من عروض الزواج. ومع ذلك! فقد وجدت اللحظة التي استسلمت فيها لحظة رائعة: حقا.. لقد بلغت المكان الذي طالما انتميت إليه ولا ينازعني فيه أحد.

"أسمع بعض الأصوات". قال (ي) ذلك! ثم قال: "هناك شخص ما قادم" كنا قد ضحكنا كثيرا جدا حتى فقدنا القدرة على أن ننتصب جالسين.

أنت على حق. قال (أ) ذلك! ثم أضاف: "أنا أيضا أسمعهم" حينذاك! سمعت أنا أيضا أصواتا على البعد آتية كما لو أنها أصوات حشد سعيد. ذكرني ذلك بفترة كنت فيها قاطنة قرب مسرح! بالضوضاء التي كان المتفرجون يصدرونها وهم يغادرون المسرح مع نهاية العرض في الثانية صباحا. كان من الممكن أن أصحو منزعجة من ضحكهم وثرثرتهم! ومن ضجيج محركات سياراتهم! وقد تملكني شعور بأن أحدا سوف يأتي ليبتلعني داخل جوفه.

قال: "آه! نعم! إنهم يغادرون المسرح"
فانفجر الآخرون في الضحك.
اعترضت: "لا تقهقهوا هكذا". ثم قلت: "سوف يحسبون أن عندنا حفلة أو شيئا من هذا القبيل".

بدا ما قلته! حتى في أذني! غير مقنع. وفي تلك اللحظة! كان الآخرون يتلوون على الأرض مما أصابهم من ألم.

"التزم الهدوء يا هذا! مَنْ سيعتبروننا?"
أغبياء! مبتهجون في نحيبهم. وكان الناس يقتربون أكثر فأكثر! وتتعالى الجلبة الآتية من ناحيتهم! فغشيني رعب داهم. استسمحت الآخرين: "من فضلكم! اهدأوا قليلا! وإلا فسيعرفون أننا هنا"

"إن كانوا قادمين على هذا الطريق! فلا شك أنهم يقصدوننا تحديدا ولا شك أنهم كشفونا فعلا"
"لا يمكن أن يكون الأمر كذلك". قلت ذلك ومشاعر الخوف تزداد داخلي أكثر فأكثر! ثم أضفت: "لابد أن نفعل شيئا يا (ي)! إنهم على وشك الوصول إلينا"

حاول (ي) تهدئتي فقال: "هذا لا يهم! إنهم سيتفهمون أمرنا"

ومع أن جسدي كان قد استرخى وغبت أنا في السكون! فإن ضحكا خاليا من أي مرح ظل يغالبني! وجعلت أنتظر سماع تلك الكلمات البسيطة:

"لقد قتلوا جميعا.. المساكين"

 

علي سليمان