غازي الخالدي.. فنان سوري رائد
غازي الخالدي.. فنان سوري رائد
تناغم البيئة والتاريخ بين معرضه الأول الذي أقامه في منزله عام 1950! ومعارضه الأخيرة التي تقام منذ عام تباعاً في صالات اليونسكو بعواصم ومدن دول الاتحاد الأوربي برعاية الاتحاد العالمي للفنانين التشكيليين لدول أوربا! مسيرة خمسة وأربعين عاماً حافلة بعطاء متواصل! لم تشغله عنه مسئولياته كأمين سر الاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب "1974 ـ 1979" وكنقيب للفنون الجميلة في سوريا على مدى دورتين! وكأستاذ لتاريخ الفن وعلم الجمال في المعهد العالي للفنون المسرحية والمعهد العالي للموسيقى! وكباحث في الفنون الجميلة! ومؤلف عدة كتب فيها! وكناقد في الصحف والمجلات والدوريات السورية والعربية. يقول الناقد الإيطالي ماريو ماريوني! أستاذ تاريخ الفنون الجميلة في أكاديمية ليوناردو دافنشي بمناسبة إقامة معرض للوحات الخالدي في قاعة اليونسكو بروما "سبتمبر 1995" وهي محطته الثالثة بعد أن أقيم في فرنسا "باريس ـ تولوز ـ مرسيليا" وفي إسبانيا "مدريد ـ غرناطة ـ بالانسيا".. يقول: "أرى في أعمال هذا الفنان فلسفة لعشق متراكم! وحب عميق لبلده ومدينته دمشق.. إنه يترجم الظل باللون! ويوحي بالأبعاد من خلال تتابع درجات اللون الواحد ومشتقاته. إنه يتناول الطبيعة والأحياء القديمة كوسيلة لبناء لوحة متكاملة الهيكل.. تعيش كل لوحة عنده في جو لوني مختلف عن الأخرى! فهو لايكرر ألوانه! ولاحلوله التشكيلية! وفي الوقت نفسه يحافظ! وبخبرة معلم قدير! على طابعه وأسلوبه اللذين تميز بهما". حوار مع المشاهد كان هم غازي الخالدي خلال مسيرته الفنية الطويلة: "إيجاد حوار يسهل على المشاهد العادي تمثل الفن والاستفادة منه".. وكان يضع في اعتباره هذا الهدف وهو يتنقل بأدواته بين أحياء دمشق القديمة ثم ينطلق إلى ريف دمشق في قرية "بسيمة"! وإلى ذرى الجبال في بلودان ومعلولا! وإلى مراكب الصيادين الخشبية المتكئة على رمال الشاطىء! إلي مواقع الإنتاج الحقيقي في المشاريع البعيدة.. إلى تجارب الأطفال الطلائع "وهو مسئول عنهم بحكم منصبه في إدارة الفنون الجميلة بالمنظمة التي تشرف عليهم" إلى البورتريهات المتباينة! إلى رمز الحصان ورمز المرأة اللذين قدمهما في لوحاته الأخيرة! وأخيراً إلى جدارياته التي تمتد على مساحات كبيرة حيث يكثف الفنان الكبير فاتح المدرس أبعاد هذه التجربة بقوله: "الفنان هنا يحاور لوحته لونياً وتحليلاً لعمارتها! وموضوعاً بحذر شديد.. لنقل منطق حذر.. يتحاشى ولوج الرماد الخطرة التي تشغله عن اتجاهه الجمالي الذي منحه للناس من حوله. وعلى ضوء رسالة آمن بها بفرح عظيم! كما في ملحمة "شام أنت المجد لم يغب" وغيرها وغيرها من جدارياته. ومن هنا نجد تفرد الخالدي الصعب وعظم الجهد الذي يبذله في هذه الجداريات". وبالرغم من انشغال الخالدي بدراساته لحواري المدينة القديمة! إلى جانب تعبيريته الرمزية الملتزمة التي تكشف جانباً من شخصية هذا الفنان المعلم! إلا أن محاورته لذاته. بين حين وآخر! تعتبر نقلة متقدمة لمرحلة التجريب التي مرت بها الحركة التشكيلية في سوريا بين نهاية السبعينيات ومنتصف الثمانينيات. وإذا كان الرصد الأصيل لملامح وأبعاد البيئة هو بداية الطريق نحو العالمية. فإن هذا الأمر هو الذي رشح لوحات الخالدي لهذه الجولة الأوربية الشاملة! ولدخول متحف "برادو" في إسبانيا بريادة عربية! وهذا مادعا الناقد الفرنسي فرانسوا بريجراك ليكتب في "اللوموند": "إن الحركة الفنية التشكيلية في أوربا تعاني الآن من فقدان التوازن بين أمرين: عالمية الفن.. وانحسار هوية الفن الوطني ـ المحلي ـ فالفنانون رسموا التجريد بقصد التجديد حتى وصلوا إلى مرحلة "العبث" و "اللامبالاة"! واليوم نلاحظ أن العودة إلى الواقعية والدعوة إلى فن مرتبط بالإنسان والطبيعة أصبح مطلباً رئيسياً للخروج من هذا الضياع وهذا الركام من التجريد الذي لايفرق بين فن فرنسي! وفن إيطالي! أو إسباني! أو هولندي.. والفنان العربي الذي معنا الآن "الخالدي" ملتزم بهوية بيئته ووطنه ومدينته والإنسان الذي يعيش معه.. وهو لم ينس أبداً أهمية الساحة التجريدية في أي تركيب لوني في لوحاته.. وإذا أردتم التأكد من ذلك! فانسوا الموضوع الذي عالجه عن دمشق القديمة! وانظروا إليه من معيار ومقياس الفن التجريدي! فستجدون أنه حقق التواصل بين الأصالة والمعاصرة". يعرفون دمشق.. من لوحاته وفي مجال رصد البيئة نتابع الرحلة مع غازي الخالدي ورأي الروائي الكبير حنا مينا عن هذا التميز في لوحاته: "أن تنطلق دمشق القديمة في لوحات غازي الخالدي! فهذا لايعود إلى التجربة.. إلى الخبرة.. إلى الأصالة الشامية فقط.. بل أيضاً إلى الروح الشعبية الرائعة التي تعيش في قلب الفنان وأصابعه.. وسيعرف الناس دمشقهم العزيزة من خلال لوحات الخالدي الرائعة". ويستدرك الدكتور علي عقلة عرسان! رئىس اتحاد الكتاب العرب في حديث طويل عن أعمال الخالدي: المشهد من الداخل وفي بحثه الدؤوب يجدد الخالدي في أساليبه وهو يحاول أن يرسم المشهد من الداخل أولاً! ثم يعطيه الألوان! أو لنقل: التلاوين الخارجية التي يستكمل بها رواء اللوحة! ولهذا فإن معارضه المتتالية تغتني بما فيها من أفكار جديدة! مرة بعد مرة! من خلال استخدامات جديدة للون والحركة. إن تغيير اللون لدى الفنان لايعني تغيير الأسلوبية بل هو وسيلة متجددة للإبداع في استخدام طاقات موحية وغير عادية لإمكانات اللون الذي هو بالتالي جزء من الفكر والرمز والتعبير. عدوى الافتنان نحن نقرأ صفحات مشرقة من "مجد دمشق" في لوحات الخالدي! فهو المفتون بها يصيب حتى المتفرج المحايد بعدوى الافتتان بهذه المدينة التي كانت في الحقب السحيقة ابنة التاريخ! وأولى مدنه الآهلة! ثم استطالت إلى زمننا هذا بالأصالة التي تؤرج بها سير المدن. وإذا كانت دمشق القديمة! كما هو شأن أمثالها من المدن التي لا يزال يعبق فيها التالد من أسفار التاريخ! مرتعا لتجارب الفنانين في الرصد والاستلهام! وعنها وضع هؤلاء آلاف اللوحات! فإن التميز في هذه المعايشة الفنية مطلوب! حيث يتطامن لدى البعض! ويتظاهر لدى البعض الآخر! ويتألق لدى البعض الثالث كما لدى الخالدي! وحتى حدود المفاغمة.. وفي هذا خطاب لوزيرة الثقافة السورية توجهه للفنان في خريف العام 1984 وهي تفتتح أحد معارضه: أقول: ابن دمشق أنت.. الأصح: فنانها! وبك تزدهي! وتحمل! كما نقلة عين! من طبيعة حية إلى طبيعة أشد حياة! لأن الفن مضاف إليها! ثم يكون من شأنها أن تدخل في المشاعر! وتنبض في الأحاسيس! وتختلي بالرأي! والمتذوق! وطالب الرؤية في صالة البيت! وقاعة التحف! وصدر المبنى! لتكون في كل لحظة! سفيرة لنا! ومنشدة عنا! ومعبرة عن قضايانا وأشواقنا. بوركت الريشة.. اللون.. الكتلة! المدى! وبورك الشعر ينطق فيها! لأنه أساس في الفن! وموهبة في جعل اللوحة قصيدة شعرية".
|