أوكتافيوباث و د. خالد سالم
أوكتافيوباث و د. خالد سالم
الشاعر أوكتافيوباث: * ليس مطلوباً من الشاعر تغيير العالم! فيكفي أن الشعر يذكرنا بهويتنا. *على العالم العربي أن يبحث له عن مكان في العالم الحديث أجرى الحوار د. خالد سالم كنت قد رغبت في إجراء هذه المقابلة منذ سنوات مضت. يوم أن سعيت إلى الشاعر "أوكتافيو باث" في أول محاولة منذ ثلاث سنوات وكان ذلك في احتفال الاشتراكيين الإسبان بفوزهم في الانتخابات. إلا أنه يومذاك اعتذر لضيق الوقت وإصابته بوعكة صحية! ووعدني بإجراء المقابلة في أول زيارة يقوم بها لمدريد! يومئذ تصورت أنه يتهرب! فشاعر في مثل قامته متعب حتماً من المقابلات! وقد لاتعنيه كثيراً مقابلة تنشر في مطبوعة عربية. مرت الأيام وعلمت بمحض الصدفة أنه قد وصل إلى إسبانيا. ذكرته عبر الهاتف بوعده! فوافق فوراً احتراماً لكلمته. وفي الفندق نفسه ـ الذي طالما احتفل فيه الاشتراكيون بفوزهم ونزل به الشاعر المكسيكي كلما حل على مدريد ـ استقبلني بتواضع وأدب جمين! ذكراني بتواضع عظام الشرق! غير أنه لم يكتف بهذا فقد أعرب عن امتنانه لكونها أول مقابلة تجرى معه لمطبوعة عربية! وألح على رغبته في رؤية هذه المقابلة بالعربية والتعرف على المطبوعة التي ستنشر فيها. من هذا المنطلق وبالرغم من مؤلفاته العديدة حول الشعر! فإن أكتافيو باث يصر على أنه لم يقل ولن يقول كيف يكتب الشعر! لن يقنن له! رغبة منه في أن يمنح الشاعر مطلق الحرية في التعامل مع الكلمة الشعرية. غير أن كتاباته النقدية تضيء للشاعر طريقه عبر علاقاته مع التاريخ والحياة الاجتماعية. والشعر في جوهره لدى باث هو اتصال! جسر يصل الأنا بالآخر! جوهر الإنسان. إنه اللقاء بين أصوات متعددة! بين الأضداد! بين ضفتي نهر. إنه الرؤيا! الحب الجماعي! اليوتوبيا انطلاقاً من فورييه إلى الاشتراكية على أسس سليمة تنهض على تقدم المجتمع القائم على احترام الإنسان! التعرف على حقيقته الكبرى: الحب والموت. والشعر! عنده! في عصر الحداثة ليس إلا "صوتاً آخر" يقوم بانتقاد أنانية الزمن الحديث! والكشف عن أهوال التقدم! أو ما يطلق عليه التقدم! دون أن ينسى باث أن الشعر يساعد البشر على مواصلة الحلم في عالم عادل! سعيد! ملك للجميع وليس وقفاً على اقتصاد السوق الحر! على الليبرالية الجديدة. فلايمكن أن يعيش الإنسان ليستهلك أو أن يستهلك ليعيش أو أن تكون حياته مشروطة بالاستهلاك والإنتاج! فهذا يعني إصابة روحه في مقتل. فإلهام الشاعر المعاصر يتعارض مع أهوال الرأسمالية! يتنافى مع ممارستها ومفهومها للملكية الخاصة. الشعر ولد في ضمير الجماعة! لهذا سيبقى يراوح! يطالب بالشيوعية! بالعدل! أسمى م راحل رقي الإنسان. غير أن الشيوعية عند باث لاعلاقة لها بالسياسة والسجون والأحزاب السياسية والديكتاتورية. ولد أكتافيو باث في عاصمة المكسيك! في الحادي والثلاثين من مارس سنة 1914. بدأ كتابة الشعر في سن مبكرة وشارك في الحرب الأهلية الإسبانية "1936 ـ 1939" إلى جانب الجمهوريين أسوة بمعظم يساريي العالم. عمل في السلك الدبلوماسي بيد أن الهند برزت من بين محطاته الدبلوماسية إذ تعرف فيها على ثقافات الشرق! ومنها الإسلام! ووضع عدة كتب عن الهند وترجم أشعاراً من اليابانية. وكانت نيودلهي آخر محطة في عمله بالسلك الدبلوماسي إذ تركه احتجاجاً على القمع الذي تعرض له طلاب المكسيك أثناء مظاهراتهم في عام 1968. في جعبته العديد من الجوائز! لعل من أبرزها جائزة "ثيربانتيس" وهي أهم جائزة أدبية تقدم لكتاب اللغة الإسبانية! التي توجها فيما بعد بجائزة نوبل في 1990. لا أريد أن أطيل على القارىء في سرد مؤلفاته التي قد لايقرؤها! فهي بالإسبانية! وإن ترجم بعضها إلى العربية والإنجليزية والفرنسية! ورغبة مني في أن يتعرف على هذا المبدع! الإنسان! من خلال آرائه! عبر هذا الحوار الذي أجريناه معه في مدريد! "مجريط العربية". * بمراجعة كتاباتك النقدية حول الشعر يفهم القارىء أنك لم تنظر أو تضع قواعد نظم الشعر! إذ آثرت أن تترك للشاعر مطلق الحرية.. فماذا يعني هذا بعد هذه السنوات الطويلة من كتابة الشعر التي تمتد إلى حوالي سبعة عقود? ـ هذا لا يعني أنني أرفض القواعد والأصول عن الكتابة! إذ يفترض فيمن يجرؤ على ممارسة هذا الفن أن يكون على دراية مسبقة بما هو موضوع ومتعارف عليه بهذا الصدد! فقواعد كتابة الشعر ليست لشاعر بعينه بل لكل الشعراء. والشاعر الذي لايعرف أصول وقواعد الكتابة الشعرية والبلاغة شاعر غير مكتمل! وهو مايحدث الآن بالنسبة لكثير من الشعراء المعاصرين. ودعني أشر مجدداً إلى أن الشعر في مولده كان شفاهياً! كلاماً منطوقاً وليس مكتوباً. ومازال وسيظل كذلك! إنه إيقاع. لهذا فإن الاعتقاد بأن الشعر كلام مكتوب فقط اعتقاد خاطىء. هذا دون أن ننسى تقليداً آخر: الشعر البصري! فهناك فارق واضح بين الشعر البصري والشعر المكتوب. قد لا أبالغ في القول إنه لايوجد شعر مكتوب! فعند قراءة قصيدة بالعين ـ أعني القراءة الجيدة ـ فإننا نقرؤها ذهنياً. وهذا هو ما أعنيه بوجود شعر بصري وشعر مكتوب. غير أن النماذج الجيدة للشعرالبصري لاتوجد في الغرب! بل في الشعر العربي والفارسي! والسنسكريتي! وبشكل خاص في الشعر الصيني. ففي شعر هذه الآداب تجد أن القصيدة لها ثلاثة أبعاد: بصري وسمعي ودلالي. إني أرى القصيدة كوحدة خبرة! كوحدة رؤية. إنها شكل للكلام وللرؤية وتقديم جديد عن الدنيا أو عن الآخرة. * إلى أي مدى غير حصولك على جائزة نوبل للآداب مسار حياتك? ـ لم يغير الكثير! وإن كان قد خلق لي قراءً جدداً! إضافة إلى أن الجائزة تعني تقديراً مادياً ومعنوياً وأدبياً لاينكر. لكنها لم تؤد إلى تغيير جوهري في حياتي أو في موقفي من الأدب! أو في عدم ثقتي في نفسي إزاء الأدب! فمازلت لا أدري إن كان ماأكتبه جيداً أم لا. أظن أنني إذا تيقنت في يوم من الأيام من أن مافعلته أو ماكتبته جيد أو رديء فهذا سيعني نهايتي! ولا أعتقد أنني وصلت إلى النهاية بعد. * هل تعتقد أنك شاعرشعبي بعد هذا النجاح? ـ معروف أن الشعر الشعبي هو شعر يتغنى به الشعب. فإذا أخذنا شاعراً مثل فدريكو غارثيا لوركا فسنجد أنه ليس شعبياً! فكل ماهنالك هو أنه أخذ الصيغ الشعبية! التقليدية. أما من ناحية عدد القراء فأعتقد أن قرائى كثيرون. أظن أنني شاعر يقرؤه الشباب! ودواويني تطبع في العديد من لغات العالم وإذا كان الناشرون يعيدون طباعة أعمالي فهذا يعني أنها مقروءة. أليس كذلك? غير أن مايهمني هو أن أكون مقروءاً بشكل أفضل. الكم لايعنيني كثيراً! مايعنيني هو نوعية القراء وليس عددهم. طقوس الكتابة * لماذا تكتب?هل تحتاج إلى شيء معين أو طقس خاص كي تمارس الكتابة?هل تداعي الأفكار والخواطر يتم بطريقة آلية عند الكتابة? ـ هذا هو ما أسأل نفسي بصدده: لماذ أكتب! خاصة أنه كان من السهل عمل أشياء أخرى? الأدب ليس حرفة مرضية! إنه عمل ممل! يتطلب من الكاتب الجلوس لصيق المقعد فترات طويلة. إنه يتطلب الكثير من المعاناة والتضحيات. بيد أن مجد الشاعر أو الفنان بصفة عامة لايكمن في مكافأة الآخرين له بل في السعادة التي تسفر عنها لحظة الخلق والإبداع! فالإبداع يمكن أن يولد من تجارب سلبية! من الألم والضياع! لكن الفن يحولها إلى إبداع ليترك نوعاً من السعادة المأسوية. بصفة عامة عندما أكتب لاتكون لدي فكرة واضحة عما سأكتبه. وفي أحيان كثيرة أشعر بخواء! بأني دون أفكار! وفجأة تتدفق الجملة الأولى. فاليري قال إن أول بيت في القصيدة يكون هدية! وهذا حقيقي! فأول جملة نخطها مملاة. من يمنحنا هذه الجملة? لا أدري. في الماضي كانوا يعتقدون في الآلهة! في ربات الشعر! في الله! في سلطة ما من خارج عالمنا. على أية حال يظهر أول بيت فيحكم بقية القصيدة! لتصبح تطويراً له! وعند اكتمالها يختفي هذا البيت. البيت الأول أكتبه أنا وآخرون غيري. ولكن الأفكار الحقيقية للقصيدة ليست تلك التي تخطر ببال الشاعر قبل كتابة القصيدة! بل التي تنتج من العمل سواء بإرادة الشاعر أو دونها. أما الجوهر! العمق! فينبع من الشكل! وليس بالعكس. * هل تقوم بعد كتابة القصيدة بإعدادها? ـ بعد كتابة السطر الأول يستمر الحوار بين الشاعر الذي كتبه والآخر الذي لايزال يكتب. هناك ثنائية! ازدواجية! تعددية للشعراء. هذا لاينطبق بالطبع على الكتاب وحدهم! فكلنا عدة أشخاص في آن واحد! وكلنا نميل إلى استخلاص هذه التعددية لصالح الوحدة. في حالة الأدب! عندما يقوم صوت بإلغاء الأصوات الأخرى! يمكننا القول إن الكاتب عثر على ضالته! أسلوبه. كما يمكننا القول إن هذا الشاعر عثر على موته ككاتب! على تحجره. على الكاتب أن يعيش أكثر من حوار ليس فقط مع الآخرين: جمهوره! أسلوبه! الشهرة! الخلود.. بل مع ذاته. الكتاب العظام! مهما يكن حجم نتاجهم حتى لو لم يتجاوز بضعة سطور! هم أولئك الذين يحافظون على التعددية! على الحوار بين الأنا وصيغ الأنا الأخرى. الإلغاء بتر الذات. فمن الضروري أن يتحدث كل من الأنا الملغى! والأنا الجسماني! والأنا البذىء والأنا الوقح عبر صوت الكاتب. وحياة الصفحة المكتوبة بظهور الأصوات الملغية. إني أرى الأدب لغة! وينبغي أن يفهم أنني عندما أتكلم عن اللغة فإنني أقصد تعددية رؤى العالم! أي أتكلم عن الشخصيات! الأصوات! الآراء المختزلة. إنني أعشق كمال الكلام! لكن شرط أن تتدفق اللغة! أن تنفتح! وحينئذ نرى ونسمع في هذا الكسر اللجي وقعاً آخر! واقعا لم نعرفه وصوتا لم نسمعه سوى في الأحلام. إنه الصوت الذي لم نرد أن نسمعه: صوت الموت! الصوت الشهواني! الغريزي! المادي. الشعر والرواية *عند قراءة كتابك "الصوت الآخر" لفتت نظري جملة تقول "فجأة اكتشفت أن الدفاع عن الشعر! المحتقر في هذا القرن! يرتبط ارتباطا وثيقاً بالدفاع عن الحرية".. هل تعتقد أن الشعر لايحظى بالاهتمام الكافي مقارنة بالرواية? ـ بلا شك. أعتقد أنه أحد الأخطاء الكبرى للفلسفة المعاصرة. فهناك أشياء إيجابية في عالم اليوم كالعلم! وإن كانت هناك أشكال سوداء! غاية في السلبية! حتى في العلوم نفسها! ففيها جوانب مدمرة. وفي حالة الشعر فبما أنه ليس فيه منفعة مباشرة أو مادية كتلك التي توجد في اللوحات إذ يمكن تعليقها! ولأنه ليس مادة للمضاربة التجارية كالرواية! إذ يمكن أن يطبع منها ملايين النسخ! فقد هبط إلى باطن الأدب. غير أنني أعتقد أن الأشياء التي تستقر في باطن الأرض هي بذور ماسينبت فيما بعد. * لكن ماسبب هذا الوضع! أي سبب تراجع الشعر أمام الرواية? ـ لا أدري كيف هو الوضع في العالم العربي.. ولكن في أمريكا اللاتينية مازال للشعراء مكانتهم في المجتمع. غير أن الوضع مختلف في عالم اليوم بصفة عامة وفي أوربا والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة حيث تنتشر الرواية باطراد! إلا أنها روايات صناعية! إذ تحولت إلى سلعة! وعندما يصنع الأدب أو يتحول إلى سلعة تهبط جودته وقيمته. الكل يشكو من التلفزيون. والتلفزيون بصفة عامة ذو مستوى هابط لأنه ليس في الإمكان إنتاج برنامج جيد يومياً. والشيء نفسه ينسحب على القصة! إذ تظهر كل عام آلاف الروايات في جميع الدول! لكنها تدوم مايدومه أي فصل من فصول السنة! فعندما يحل الخريف تصفر وتحمر الأوراق لتتساقط. وفي حالة الكتب تحرق! أي يتم التخلص منها! لأنها لا تقاوم. هذا بالإضافة إلى أن الشعر المعاصر أصبح معقداً! لا لأن العالم الحديث مشوش! تحكمه الفوضى فحسب! بل لأنه معقد أيضاً. ولكني أتساءل: هل الشعر المعاصر أكثر تعقيداً من الشعر في الماضي? المثال الواضح على صعوبة الشعر على مدى التاريخ يكمن في شعر الإسباني "لويس دي جونجورا"! فشعره يستعصي على الفهم. على أية حال الشعر كان صعباً دائماً! فمن النادر أن نجد شاعراً يتوصل إلى صيغة واضحة وشفافة! الأمر الذي يعد بمنزلة إعجاز. هناك لبس يجعل الكثيرين يخلطون بين البلاغة والشعر. يضاف إلى هذا! الظاهرة الجديدة القائمة على اختفاء الحدود بين الأجناس الأدبية! وانصهارها. الرواية تميل إلى أن تتحول إلى تجربة لغوية شفاهية! قياسية لبنية القصيدة. هذا في الوقت الذي تكتسب فيه القصيدة عند بعض الشعراء نفساً ملحمياً! وبهذا تلتقي مع الرواية. الشعر وترجمته * هل يمكن معرفة أدب ماعبر الترجمات! خاصة أنك ذو خبرة واسعة في هذا المجال إذ من المعروف أنك ترجمت أعمالاً كثيرة من عدة لغات إلى الإسبانية ? ـ هذا يعتمد على جودة الترجمة. لكن مامعنى معرفة? إن جوهر الآداب يقوم على استعارات وكنايات ومجازات عن الواقع غير الفعلي الذي تريد التعبير عنه. لاتوجد نصوص أصلية: فكلها ترجمة! صورة مجازية لنص آخر. إضافة إلى أن اللغة نفسها ترجمة! فكل كلمة وجملة تفسر! تترجم! ماتعنيه كلمات أو جمل أخرى. والكلام ماهو إلا ترجمة مستمرة داخل لغة بعينها. عند ترجمة الشعر نجد أنه يتحول! يمر بمرحلة صيرورة جديدة! فالقصيدة ليست النص وحده! إنه يتشكل من خلال القراءة! وهي بدورها تأويل لنص مختلف عنه. ولكن ماهو النص? إنه الإشارات! الرموز! المكتوبة أو الشفاهية! التي تؤدي إلى المعنى. الإشارات أشياء! مرئية أو مسموعة! تنتج معاني! لكن المعاني ليست أشياء. عند قراء النص نضع نظام تحولات في حالة حركة وهو جوهر الترجمة. وهذا يتحقق بفضل طبيعة الإشارات المزدوجة! فهي أشياء ومعان! شيء مادي يصير ذهنياً. غير أن هذا الوضع في الشعر يصبح أكثر تعقيداً! على عكس النثر! إذ تصدر الإشارات معاني! وهذه هي وظيفتها! أما في الشعر فإن الخواص المادية للإشارة! أو الرمز! خاصة الصوت! نجد أنها جوهرية. الصوت لايفارق الحس في الشعر. والقصيدة هي صهر الجانب الحسي! المادي! للغة وجانبها الذهني! المثالي. لهذا فإن من الصعب ترجمة قصيدة. كيف يمكن إعادة صياغة مادية الرموز وتجسيد خواصها? إلا أنني لا أزعم أن ترجمة الشعر مستحيلة! إذ تصبح فناً. وبما أننا لانستطيع إعادة صياغة رموز النص الشعري الأصلي! فعلينا العثور على رموز مقابلة لها. قد يضيغ النص! لكن يمكننا صياغة تأثيره عبر إشارات أخرى. فمن خلال وسائل مختلفة يمكن التوصل إلى نتائج مشابهة! ولا أقول مطابقة. بحثا عن الجذور * معروف أن فكرة كتابك "متاهة الوحدة" تبلورت لديك في الولايات المتحدة الأمريكية. فهل كان ذلك بحثاً عن جذور المكسيك? ـ ليس هذا بالضبط. الأمريكيون لديهم اهتمام بمسألة الجذور! لأن السكان الأصليين دمروا تماماً! لهذا فإن بلدهم مبني على أنقاض! قائم في الفراغ الذي ترتب على تدمير الحضارات التي كانت قائمة قبل وصول الأوربيين. وموقف الأمريكيين إزاء العالم الهندي يشكل جزءاً من موقفهم أمام الطبيعة التي لايرونها كواقع يجب صهره! بل السيطرة عليه. لهذا فإن تدمير عالم السكان الأصليين لأمريكا كان بمنزلة المقدمة للعدوان على الطبيعة! فقد حاولت الحضارة الأمريكية السيطرة على الطبيعة واستخدامها كما لو كانت تغزو شعباً أو جنساً بشرياً. وأكثر من هذا أنهم تعاملوا مع عالم الطبيعة كما لو كان عدواً. أما مرجعية هذا الواقع الأمريكي فتكمن في مفهوم بروتستانتي للعالم! وهي أن تعذيب الجسد يمتد ليشمل الطبيعة! ومادام أنه طبيعي فإن الطبيعة جسدية! وكلاهما واقعان ضعيفان! شكلان من أشكال الخطيئة الأساسية. العالم يبرأ بالعمل والجسم بالكفارة! بإماتة النفس. لهذا يرون أن الطبيعة ليست موضع تأمل ولا رمزاً غزلياً! شهوانياً. ليست الأم الكبرى! ولا المقبرة الكبرى! إنها واقع وعلى الإنسان أن يغيره ويخلصه بالعمل. لهذا كان الأمريكي يشعر بأنه غريب في وطنه! لكونه مهاجراً وبروتستانتياً في آن واحد. إنها قطيعة مزدوجة مع عالم الطبيعة. وهذه ليست ظاهرة عالمية كما يدعي البعض! فالولايات المتحدة ليس لها ماض! وتنطبق عليها مقولة ماركس في تعريف الطبقة العاملة! البروليتاريا! بأنها كانت طبقة بلا جذور. من هنا كان هم وكرب الشاعر "ت.إس. إليوت" الذي عاد إلى إنجلترا ليعيش الماضي من جديد وينسى المستقبل المتمثل في أمريكا. ومثله في ذلك "عزرا بوند" الذي ينبش قبور النماذج الصينية واليونانية في جبانة التاريخ العالمي. فالتقليد الوحيد لهذا البلد يكمن في المستقبل: لقد أنشىء من أجل المستقبل! فكان المستقبل نصب عين سكانه الأوائل. أمريكا بلد لم يستطع بعد صنع ماض حقيقي من مواضيه المزعومة. هذا على عكسنا نحن المكسيكيين! فالجذور تكاد تخنقنا! لأنها كثيرة! وماضينا عريض. تاريخ المكسيك كأهرامنا القديمة التي كانت تبني فوقها الشعوب الجديدة أهراماً أخرى! وهكذا دواليك طوال التاريخ. كتابي سالف الذكر كان عبارة عن محاولة للتعويذ! لطرد أشباح ماضينا! ورغبة في رؤية جذور المكسيك الوارفة بوضوح. علماً بأنني كتبته في باريس بينما كنت أعمل في سفارتنا! وكانت كتابته بمنزلة ولادة عسيرة! إذ كنت أشعر بألم وثقل في أحشائي! لهذا كنت أشعر بأنني أعيش هذه التجربة المقصورة على النساء! ولم يكن لدي وقت كاف لإنجازه بسرعة! إذ كان وقت فراغي الوحيد الذي يمكنني الكتابة فيه مقصوراً على نهاية الأسبوع. هوس الهوية * هذا يعني أنك كنت مشغولاً بمعرفة هويتك المكسيكية! أي على غرار رغبة الأمريكي الذي يفتقر إلى الجذور. ـ القارة الأمريكية كلها يتملكها هوس معرفة الهوية. ماذا يعني أن يكون المرء أمريكياً? ماذا يعني أن أكون مكسيكياً? إلا أنني لا أعتقد في كينونة الشعوب. لا أعتقد أن الأمريكيين أو المكسيكيين لديهم كينونة. إنني أفهم التاريخ كجوهر! كاجتياز لما هو أبعد من هذه التعريفات العرقية. ماهو مكسيكي عبارة عن تشكيل وصياغة لملامح تاريخية في حركة دائمة! تتكون وتذوب. إنه نوع من القناع! قناع في حالة حركة. المكسيك عبارة عن تراكم وجمع من المواضي! هذه الجذور الوارفة التي ذكرتها آنفا! التي تمثل الحضارة المكثفة للمكسيك القديمة! بشعوبها العديدة! وتعددية موروثنا من العالم الإسباني المكون من أيبيريين! وفينيقيين! ورومان! وقوط! وعرب! ويهود. إنه الموروث الذي انتقل إلى المكسيك مع الفاتحين الإسبان. إن هذه القارة ـ أمريكا اللاتينية ـ تعيش ازدواجية شبه دائمة! إذ تزمع أن تصبح حديثة لكن واقعها السياسي والاجتماعي لم يصل بعد إلى الحداثة! لأنها بكل بساطة مازالت في طور ماقبل الحداثة. وبالرغم من أن التحديث بدأ مع الاستقلال فإنه لم يحقق أهدافه لأن مسيرة التحديث لم تأخذ بعين الاعتبار تراثنا ولا واقعنا. ماحدث هو رفض التحديث. ربما المثال الأقرب إليكم في المنطقة هو حالة إيران من خلال الثورة الإسلامية التي كانت ردة فعل على محاولة نظام الشاه تحديث البلاد عنوة! من خلال ثقافة مفروضة من أعلى! من السلطة! دون الأخذ بعين الاعتبار واقع البلاد أو تقاليدها أو تراثها. وكان فشل الثورة المكسيكية بسبب وضع مماثل! بسبب فرض ثقافة فوقية. عليّ أن أشير هنا إلى أمر لافت للنظر وهو أن إسبانيا التي غزت العالم الجديد! ومنه المكسيك! كانت دولة مسيحية! لكن طبيعة هذا الغزو كانت إسلامية! وهو مالمسته بوضوح وتأكدت منه في الهند. طبيعة الغزو * ماذا تعني بأن طبيعة غزو إسبانيا للمكسيك كانت إسلامية? ـ كان فتح العرب للهند مصبوغاً بصبغة دينية! إذ إنه لم يتم بمعزل عن الدين! بل كان معناه دخول الناس إلى الدين الجديد. الأمر نفسه حدث على يد الغزاة الإسبان في أمريكا اللاتينية. على عكس ماحدث في مناطق أخرى من العالم إذ كان التوسع الاستعماري الأوربي دنيوياً! لادخل له بالدين. كانت حركات استعمارية بالمعنى الحديث للكلمة! لاصلة لها بالدين. وعلى سبيل المثال نجد أن الإنجليز احتلوا الهند طوال ثلاثة قرون! ولايوجد فيها سوى حفنة من ملايين المسيحيين.. وطوال هذه القرون لم ينظر الإنجليز إلى هؤلاء المسيحيين إطلاقاً على أنهم منهم! أي إخوة لهم في العقيدة! بل سكان أصليون. هذا الموقف هو النقيض بعينه لموقف المسلمين أو الإسبان من سكان البلاد التي فتحوها. لهذا فإن غزو أمريكا اللاتينية على يد الإسبان كان مماثلاً لفتح المسلمين للهند! كان بمنزلة مهمة دينية! وبالرغم من الطابع الديني لهذه العملية فإن الجشع والتخريب أحياناً كانا من العوامل التي صبغت عملية الغزو في كلتا الحالتين. إلا أن ما أثار استهجان واستغراب الأوربيين الآخرين لم يكن تكالب الإسبان على ذهب أمريكا اللاتينية بل وحشيتهم الدينية! وهي سبب مايطلق عليه "الأسطورة السوداء" للغزو الإسباني لأمريكا. الحب العذري * يلاحظ أنك في كتاب "اللهب المزدوج: الحب والشهوة" تلتقي مع طروحات المستعرب الإسباني الراحل "إميليو غارثيا غوميث" حول تأثر كاهن هيتا خوان رويث في كتابه "الحب المحمود" بالحب العذري في الأدب العربي! فهل لك أن توضح هذا? ـ كتاب "الحب المحمود" يدور حول العشق! طريقة الحب! الجنس! ولاعلاقة له بالحب العذري. وهو بعيد عن مفهومي للحب الذي طرحته في هذا لكتاب الذي أشرت إليه! غير أنه مما لاشك فيه أن مفهوم الحب في الغرب في العصور الوسطى! في القرنين الحادي عشر والثاني عشر! ولد تحت تأثير جلي وقوي للمفهوم العربي بهذا الصدد. وكان هذا التأثير العربي عبر الأندلس! وبشكل خاص من خلال كتاب ابن حزم "طوق الحمامة"! الذي قرأته في بداياتي من خلال ترجمته الفرنسية! ثم الإسبانية التي قام بها غارثيا غوميث. هذا بالإضافة إلى الحروب الصليبية التي فتحت المجال أمام الأوربيين للتعرف إلى العرب وثقافتهم! ومن روافدها الحب العذري! إذ كان بين مؤسسي شعر الغزل في بروفانس! شعر التروبادور! من شارك في هذه الحروب وعلى رأسهم غيوم التاسع ـ هو كونت بواتييه ودوق أقيطانية! شارك في الحروب الصليبية سنة 1101م وتوفي في 1126م ـ الذي كان في سوريا ثم زار الأندلس. غير أن الأندلس كان لها دور رئيسي بهذا الصدد! من خلال الزجل والخرجة! الشكلين الأكثر انتشاراً في شعر الغزل الأندلسي! وقد استفاد منهما شعراء بروفانس. وكان من الطبيعي مشاهدة راقصات ومغنيات أندلسيات في بلاط سادة جنوب فرنسا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. ومما يؤكد أن شعراء بروفانس عرفوا "طوق الحمامة" ثمة كتاب لمؤلف يدعى أندريه كابيلان بعنوان "فن الحب العذري" يتضمن أفكاراً وصيغاً من كتاب ابن حزم. هناك أمر مهم قلما يذكر في سياق تأثر الحب في بروفانس بمفهوم الحب عند العرب! وهو تبديل موقع الحبيب ومحبوبته! فمحور المجتمع الإقطاعي كان عمودياً بين السيد والعبد. وفي الأندلس كان الأمراء والسادة يبوحون للمحبوبة بأنهم خدمها وعبيدها. وقد استفاد الشعراء البروفنساليون من هذا التقليد العربي! فعكسوا العلاقة التقليدية بين الرجل والمرأة! وراح الشاعر البروفنسالي ينادي المحبوبة بـ"سيدتي" ويبوح بأنه تابع لها! الذي كان بمنزلة ثورة حقيقية في هذا المجتمع. لم يقتصر التأثير العربي على شعر بروفانس عند هذا الحد! بل جعل معاملة المرأة كما لوكانت رجلاً فأخذ يناديها بسيدي ومولاي! مما أسفر عن قلب المعادلة! إذ أصبحت المرأة تحتل موقع السيد! والحبيب موقع العبد. وأصبح الحب ثورياً! قلب نظاماً اجتماعياً كان قائماً. الثقافة والتراث العربي * كيف بدأت معرفتك بالثقافة العربية? ـ علاقتي بالعالم العربي بدأت! مثل غالبية الغربيين! عبر صفحات "ألف ليلة وليلة" الذي مازلت أرى فيه أحد أهم الكتب! بل الأكثر إثارة للدهشة! في تراث البشرية. ثم نال تاريخ العالم الإسلامي اهتماماً خاصاً في قراءاتي! إلى أن أدركت أهمية هذا العالم بالنسبة لإسبانيا! ومن ثم للمكسيك. أذكر أن بطل طفولتي لم يكن إسبانياً! بل كان الخليفة "عبدالرحمن الداخل"! الذي كنت أحلم أن أصبح مثله.. ثم اكتشفت الشعر العربي الأندلسي من خلال ترجمات المستعرب "إميليو غارثيا غوميث"! وتوالت قراءاتي للشعراء العرب القدامى. لهذا كان الكتاب أول وسيلة اتصال لي بالعالم العربي. غير أنه إذا كان الكتاب أساسياً فهو ليس كافياً للتعرف على ثقافة شعب ما. وظلت علاقتي بالعالم العربي والإسلامي من خلال الكتب إلى أن انتقلت للعمل في الهند ـ سفيراً ـ فتعرفت على العالم الإسلامي في هذا البلد حيث كان لي فيه أصدقاء مسلمون! ومن خلالهم أصبحت معرفتي بالعالم العربي أكثر مباشرة وأعمق وأفضل! وسمحت لي هذه المعرفة بالاطلاع على الإسلام وعلى مذاهبه. * هذا عن التراث العربي! وماذا عن العالم العربي المعاصر! كيف تراه في الوقت الراهن? ـ لم تقتصر صلتي في الهند بالعالم العربي على الماضي بل امتدت لتشمل المعاصر لأكتشف أنه عالم معقد! مليء بالتناقضات. على أية حال ـ وأرجو أن تسمحوا لي بهذا الرأي ـ أعتقد أن مشكلة العالم العربي تكمن في تحديث نفسه! ليس بالضبط تحقيق الحداثة بل في البحث له عن مكان في العالم الحديث. أقول هذا وأنا أدرك أنه ليس من الممكن فهم تاريخ البشرية دون الإسلام والثقافة العربية. فدون الترجمات للفلاسفة اليونانيين أو دون مفكرين كبار من أمثال ابن رشد! ما كان للأوربيين أن يكون لديهم فكر اليوم. لكنني أعتقد أن على العالم العربي والإسلامي ألا يخلط بين الدين والسياسة! وأن يقوم بتغيير أشياء كثيرة وعلى رأسها وضع المرأة! فلا وجود لمجتمع حر دون نساء يتمتعن بالحرية. في هذا السياق تحضرني مقولة للمفكر الفرنسي "شارل فورييه" في مطلع القرن التاسع عشر مفادها أن درجة تحضر مجتمع ما تقاس بحرية نسائه. ومازلت أعتقد أن هذا الأمر مقياس للتعرف على معنى مجتمع صالح من مجتمع به عيوب. * معروف أن أدب أمريكا اللاتينية نال شهرة عالمية لم يصل إليها أدب أي ثقافة تنتمي إلى العالم الثالث ـ التسمية التي لاتروق لك ـ فبرغم أن لغته! الإسبانية! ليست منتشرة كالإنجليزية أو الفرنسية! فإنه قد حظي بانتشار واسع! تكلل بحصول عدد من كتابه على جائزة نوبل عن جدارة واستحقاق! دون شبهة أو شك في ذلك. إلا أن الملاحظ أن الحديث دائماً يكون حول هذا الأدب بصفة عامة دون التخصيص. فهل من الممكن الحديث عن أدب مكسيكي أو أرجنتيني? ـ لا أعتقد بوجود أدب مكسيكي! كما لاأعتقد بوجود أدب أرجنتيني أو كوبي أو بيروفي. هناك أدب أمريكي لاتيني. الأساليب والاتجاهات الجمالية! الأدبية! وطنية! لاتعترف بالحدود. والأدب المكسيكي ليس إلا رافدا من روافد الأدب الأمريكي اللاتيني! لكن هذا لايعني إنكار أنه أنجب كتاباً عظاماً من أمثال "سورخوانا إنيس ديلاكروث"! و"ألفونصو رايس"! و"خوسيه باسكونثيلوس"! و"رامون لوبيث بيلاردي".. * ولكن ألم يكن خوان رولفو كاتباً مكسيكياً قحاً لانظير له في آداب أمريكا اللاتينية ?أعني خصوصيته المكسيكية المتمثلة في روايته "بدرو بارمو"! وفي كتاباته الأخرى ومواقفه اليومية إذ دافع بحرارة عن الثقافات الأصلية في أمريكا اللاتينية في مواجهة ثقافات الغزاة! الأمر الذي يفتقر إليه نتاجك بالرغم من أنك كتبت كثيراً عن ثقافات عالمية أخرى! خاصة الهندية? ـ كان خوان رولفو أحد مؤسسي الأدب الجديد في أمريكا اللاتينية. إنني أختلف عنه تماماً فهو كما تعرف كان روائياً! ترك نتاجاً ذا أهمية في حقل النثر! والرواية! لكنه محدود. أما أنا فشاعر! لست روائياً! إضافة إلى أنني كاتب مقال! بالنسبة لمسألة الخصوصية المكسيكية! أذكر أن مترجم هذه الرواية التي أشرت إليها! "خوان رولفو"! إلى الفرنسية! وهو متخصص في الأدب الفارسي! قال لي ذات مرة إنها تذكره برواية إيرانية حديثة كانت تعجب أندريه بريتون! أظن عنوانها "الضريرة الحسناء". فهل هو تأثر? لا! بل صدفة! التقاء. فالأدب الحديث واحد! برغم تعددية اللغات والعادات. إن الكاتب عبارة عن مجموعة أصوات! وكل لغة عبارة عن لغات متعددة. وعلى سبيل المثال فإن أصواتاً عديدة تتعايش في كارلوس فوينتيس وكل صوت منها أو كل لغة من هذه اللغات ربما خاص به! فكيف نحدد ماهو مكسيكي وماهوغريب في هذه التعددية? ماهو مكسيكي هوالصدام أو التلاقي بين كل هذه الأصوات.. لايوجد أسلوب مكسيكي! كل ماهنالك هو تراث عظيم! ولد في القرن السادس عشر ليصل إلينا اليوم. أعتقد أن الأمريكي اللاتيني إنسان عاش في ضواحي الغرب! على أطراف التاريخ. هذا في الوقت الذي يشعر فيه أنه جزء من تقليد كان إلى وقت قريب يتجاهله. والمثال الواضح على ذلك أن شاعراً في حجم روبن داريو ـ كاتب وشاعر نيكاراجوي من قمم شعر الحداثة في أمريكا اللاتينية "1867 ـ 1916" ـ أو ثيسار باييخو ـ كاتب وشاعر بيروفي "1892 ـ 1938" توفي في باريس! وتركت أشعاره تأثيراً واضحاً في شعراء من أمريكا اللاتينية ـ عاشا في باريس دون أن يشعر بهما أحد. لهذا فإن الشاعر الأمريكي اللاتيني يؤكد بكل قوة على أصالته الأمريكية اللاتينية في الوقت الذي ينتمي فيه إلى تقليد كوني. الحركتان الكبريان في الشعر الأمريكي اللاتيني! الحداثة والطليعة! كانتا في الوقت نفسه عالميتين وأمريكيتين. كل عمل أمريكي لاتيني هو امتداد للغرب ومخالفة له في آن واحد! اختلاف عنه. أمريكا اللاتينية والمستقبل * كيف ينظر أوكتابيو باث! المفكر! إلى مستقبل أمريكا اللاتينية ?هل ترى أنه من الممكن وجود مستقبل يقوم على التقدم الاقتصادي والديمقراطي! على اقتصاد السوق! خاصة أنك رفضت من قبل الحل الاشتراكي قبل انهيار الاشتراكية الواقعية? ـ أعتقد أن جميع دول مايطلق عليها خطأ دول العالم الثالث تواجه مشاكل متشابهة. لا أدري ماإذا كان ممكناً حل المشاكل الاقتصادية! لكنني أظن أنها متعلقة بمشاكل ذات طابع تاريخي وأخرى ذات طابع ثقافي. فعلى سبيل المثال ـ لاأدري على وجه الدقة كيف هو الوضع في مصر اليوم ـ إحدى أهم المشاكل التي نعاني منها في المكسيك هو النمو المطرد للسكان! أو مايطلق عليه بالانفجار السكاني! وهو مايتطلب تصحيحه! أي إحداث تغيير في التصرفات الحيوية والأخلاقية للناس. أي أن حل المشكلة الاقتصادية يتطلب حلاً ثقافياً! فكل شيء يرتبط بالتصرفات الأساسية للبشر! لتشكل دائرة تصب في النهاية في الثقافة. بالنسبة للشق الثاني من السؤال أنا لا أرفض الحل الاشتراكي. بل على العكس! أعتقد أن الاشتراكية ربما هي المخرج العقلاني لأزمة الغرب. إلا أنني أرفض الخلط بين الاشتراكية والبيروقراطية التي تحكم الدولة باسم الاشتراكية من خلال نظام متسلط وفاشي. فتجربة الاشتراكية في الدول النامية! خلال القرن العشرين! بينت كيف تحولت إلى رأسمالية دولة تسيطر عليها بيروقراطية تحكم بشكل مستبد ومتسلط باسم فكرة الاشتراكية. أعتقد أن الاشتراكية الحيقيقة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحريات الفردية! بالتعددية الديمقراطية واحترام الأقليات والمنشقين. يضاف إلى هذا أن فكرة الاشتراكية صممت للدول المتقدمة! فحسب ماركس وإنجلز: إنها المرحلة الأخيرة من التطور الاجتماعي! أي أنها تجيء بعد الرأسمالية والتصنيع! وليس قبلهما. وكان رأي إنجلز قاطعاً بهذا الصدد إذ قال إنه لايمكن تخطي المراحل التاريخية. إضافة إلى أن الماركسية جزء من الميراث الفكري والأخلاقي للغرب. فمن الملاحظ من لينين إلى ناصر! ومن ماو إلى فيدل كاسترو! أن المشكلة التي تواجه الثورة في الدولة النامية تكمن في الافتقار إلى التطور والتصنيع المطلوبين لتنفيذ البرنامج الاجتماعي والسياسي للثورة. وإحدى مآسي القرن العشرين تكمن في أن الثورات لم تحدث في المكان المهيأ لها! أي الدول المتطورة! ففيها ولها وضعت النظريات! لكنها وقعت في الأطراف! في دول ذات نظام رأسمالي متخلف أو ذات بنى سياسية بائدة! مثل روسيا القيصرية والإمبراطورية الصينية القديمة. * بعد هذه السنوات الطويلة من الكفاح من أجل الإنسان! ألا يخشى أوكتافيو باث من خطر انفراد الرأسمالية بالساحة العالمية! بعد انهيار الاشتراكية الواقعية! الذي قد يسفر عن تعصب للذات ورفض الآخر? ـ إننا نعيش فراغاً روحياً! في مجتمع يقوم أساساً على الإنتاج والاستهلاك! وهذا مجتمع مخز لايستحق العيش فيه! ولايمكن الصمت عليه. ومثلما حدث إزاء المجتمعات أو الأنظمة المتسلطة عند انتقادها! علينا أن ننتقد سلسلة الممارسات الليبرالية الرأسمالية! فليس من المعقول أن يصبح السوق محور النشاط الاجتماعي وأن تصبح قيم السوق هي قيم المجتمع. * سبق أن ذكرت لي أنك ستسافر إلى بلنسية لإلقاء محاضرة عن الشعر.. أي بعد حوالي ستين عاماً من انعقاد المؤتمر الدولي الثاني للكتاب ضد الفاشية الذي استضافته هذه المدينة أثناء الحرب الأهلية الإسبانية! ماذا تبقى لك من ذلك المؤتمر? ـ لقد مثل لي انعقاد ذلك المؤتمر لحظة مدهشة وعلامة في حياتي! فما كنا ندافع عنه كان عادلاً. غير أنه في الوقت نفسه كانت هناك بلبلة كبيرة بسبب مسألة الأهداف والسبل! ففيه طفا على السطح الصدع الكبير للحركة الثورية ممثلاً في إلغاء الانشقاق! الاختلاف والنقد. وهو أمر طيب إزاء الذات أن يكتشف الإنسان العيوب ويحاول تصويبها! فالثورات تبدأ كظواهر نقد اجتماعي. غير أنه عندما يلغى النقد باسم الثورة نفسها فإن هذا يعني أن الثورة غيرت وجهها! وهو ماشهده وأدركه بعضنا في مؤتمر بلنسية! وربما يكون قد بدأ قبل ذلك المؤتمر! لكنني أدركته سنتئذ. عن الطفولة * ماذا عن طفولة أوكتافيو باث? ـ أنتمي إلى أسرة تتجلى فيها الأصول المكسيكية! فأسرتي من جهة أبي مكسيكية أصيلة! ترجع أصولها إلى إقليم خاليسكو! وهي أسرة مولدة! فجدي لأبي كان مكسيكياً ذا ملامح هندية! في حين أن جديّ لأمي كانا من إقليم الأندلس في إسبانيا! لكن أمي ولدت في المكسيك. أي أن أسرتي مختلطة! تسري في عروقها الدماء الأوربية والمكسيكية الهندية. جدي لأمي كان صحفياً وكاتباً معروفاً! حارب ضد التدخل الفرنسي. أما والدي فقد شارك في الثورة المكسيكية وكان ممثلاً للزعيم زباتا في الولايات المتحدة الأمريكية! ومن أوائل من بدأوا الإصلاح الزراعي. ولدت في مدينة مكسيكو! لكنني عشت طفولتي في قرية بضواحي العاصمة. كنا نعيش في منزل كبير له حديقة! إلا أن الثورة والحرب الأهلية تسببتا في فقر أسرتي البرجوازية! فراح المنزل المليء بالأثاث العتيق والكتب ينهار شيئاً فشيئاً! لدرجة أننا كنا نضطر إلى نقل الأثاث من غرفة إلى أخرى بسبب سقوط جدرانها. أذكر أنني عشت خلال مدة في غرفة واسعة! ينقصها جزء من الجدار! وكنت أسد الطريق أمام الريح والمطر بستار خشبي! لكن الأعشاب غزت غرفتي. تجربة المجلة الأدبية * تجربتك على رأس المجلة الأدبية Vuelta"عودة"! كيف تنظر إليها خاصة أن هناك من يتحفظ على مسيرتها وآخرون ممن يتهمونها بالشللية? ـ إنها ككل التجارب الإنسانية: مثيرة لمشاعر الخذلان والزهو في الوقت عينه. فهي خاذلة لأنني أشعر أنها لم تؤثر بالشكل الذي كنت أرجوه عند تأسيسها! سنة 1976. وإن كنت قد اكتشفت فجأة أن ما أقوم به يعني شيئاً لأناس لا أعرفهم! وهو أمر طيب ومثير للرضى. لذا يمكنني القول إن التجربة في مجملها كانت إيجابية. بيد أنني أريد أن أوضح أنها مجلة أدبية! فاهتمامنا الرئىسي هو الآداب! ليس فقط الشعر أو النثر! بل المقال سواء أكان أدبياً أم فلسفياً! تاريخياً أم سياسياً. من الصعب الاتفاق على معيار واحد! إنها مسألة ذوق وأفكار. النص الأدبي مهما كان جنسه يؤثر في نفسي بقدر قيمته الأدبية. ولا أريد الخوض هنا في مفهوم الأدب لدي. علماً بأن هذه المجلة ليست وقفاً على جيل بعينه! إذ يكتب فيها كتاب من مختلف الأعمار والتوجهات. وقد حاولنا من خلالها إبراز أعمال الكتاب المكسيكيين غير المنتشرين أو من المعروفين ولكن بشكل غير لائق. إضافة إلى أنها المجلة الأدبية الأولى في تاريخ المكسيك! وربما في تاريخ الدول الناطقة بالإسبانية التي تعتمد على قرائها وإعلاناتهم فقط. وهذا مؤشر على مولد طبقة من القراء المستقلين في المكسيك قادرة على الحفاظ على مجلة مستقلة! وهو نصر مزدوج للثقافة والحرية. أما بخصوص الشللية فإنها تهمة سرعان ماتسقط مع قراءة فهرس أعداد المجلة! إذ كتب ويكتب فيها كل الكتاب المكسيكيين الذي يتمتعون بقيمة مؤثرة. كما حاولنا دائماً التعليق على الكتب ذات الأهمية دون النظر إلى الاختلاف الفكري أو الإيديولوجي! وهو مالايقدم عليه منتقدو هذه المجلة. دعني أذكر أمراً مهماً وهو فوز المجلة بجائزة أمير أستورياس ـ أفضل جائزة إسبانية ـ في عام 1993 في فرعها المكرس للاتصال والإنسانيات! تقديراً لدورها في الربط الفكري بين أمريكا اللاتينية وأوربا! والقيام بدور الجسر بين الكتاب الأمريكيين اللاتينيين والإسبان! وتوخيها الدقة وتشجيع الفكر والإبداع الأدبي "وهي شهادة نفتخر بها في هذه المطبوعة الأدبية". الاهتمام العربي * قبل أن ننهي لقاءنا أود أن أخبرك بأن اهتمامنا في الوطن العربي بأعمالك! شعراً ومقالاً! كان مبكراً! قبل حصولك على جائزة نوبل! ويحضرني الآن أن الدكتورة نادية جمال الدين الأستاذة في كلية الألسن بجامعة عين شمس! أعدت أطروحة دكتوراه عن شعرك! ضمنتها دراسة مقارنة حول المرأة ومفهوم الحب في شعرك وفي شعر الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي الذي أظنك تعرفت إليه عندما كان يعيش في مدريد.. ومنذ حوالي عام فازت الأستاذة نفسها بجائزة الترجمة عن كتابك "متاهة الوحدة".. وهناك ترجمات لأعمال أخرى! منها "زمن الغيوم" الذي ترجمه الناقد الدكتور حامد أبوأحمد الأستاذ في جامعة الأزهر! فضلاً عن بعض أعمالك الشعرية التي ترجمت في أقطار عربية أخرى. ـ إنه لمن دواعي سعادتي أن أحظى بهذا الاهتمام في العالم العربي منذ فترة طويلة! وستكون سعادتي أكبر عند حصولي على نسخ من مؤلفاتي المترجمة إلى اللغة العربية التي لا أعرفها مع الأسف! برغم زعمي أنني أعرف هذا العالم وأطلع على نتاجات بعض كتابه.. "يضحك". أعتقد أن الاهتمام بكتابي هذا! "متاهة الوحدة"! يرجع إلى أنه يعالج موضوعاً يهم الثقافة العربية! بالرغم من اختلافنا. لدي أصدقاء كثيرون من الشعراء العرب! وأقربهم إليّ الشاعر السوري الذي شغل منصب سفير لبلاده في الهند في نهاية الستينيات! لايحضرني اسمه حالياً! وإن كان أكثرهم حميمية لي هو أدونيس! فمعرفتي به تعود إلى زمن طويل! تجمعنا أواصر صداقة متينة! كما أنني أتابع نتاجه الأدبي بصفة مستمرة! فأنا معجب بشعره! وأعتقد أنه واحد من أهم شعراء نهاية القرن العشرين. زقاق المدق في المكسيك * أخيراً: كما تعلم قام مخرج مكسيكي بمعالجة روايتي نجيب محفوظ "بداية ونهاية" و"زقاق المدق" سينمائياً فحولهما إلى شريطين سينمائيين! في قالب مكسيكي! وهناك محاولة ثالثة إزاء كتاب "ليالي ألف ليلة وليلة" فما رأيك في حمل أعمال مشاهير الكتاب العالميين إلى السينما? ـ إن مايهمني في نجيب محفوظ هو نتاجه الأدبي! فاقتباس الروايات للسينما غالباً مايحول العمل الأدبي إلى شيء مختلف عن الأصل! ونادراً مايستطيع العاملون في صناعة السينما تحويل عمل إلى شريط يتطابق مع الأصل الأدبي. غير أن هذه الصعوبة ربما تكمن في أن الأدب والسينما جنسان مختلفان! فالأخير يصل إلى المتلقي عبر الصورة الناطقة! إذ يشاهد الصور والوصف! على عكس الأدب أو الرواية في هذه الحالة إذ تقوم أساساً على الكلمة المكتوبة! ليقيم القارىء عبر صفحاتها حواراً صامتاً مع المؤلف ومع العالم الذي أبدعه من خلالها. من هنا نجد وجه الاختلاف بين الأدب والسينما! ويتعاظم هذا البون بين الأدب والتلفزيون.
|