"مريم النور"
مريم النور"
قراءة نقدية في رواية تفترض هذه المقالة أن الرواية العربية تقترب الآن من مرحلة جديدة! يكون فيها الدخول إلى التاريخ ذاته أمرا له الأولوية! بعد أن ظل أدبنا يناور التاريخ من الخارج! أو بمعنى آخر يتفرج على التاريخ من الخارج. لقد تعاملت الواقعية من خلال كل تياراتها مع هذا الخارج! وتعاملت الحداثة من خلال مختلف تياراتها أيضا مع الخارج. وقد آن الأوان لكي ينتبه الكتاب إلى مسارات جديدة! وينبغي أن نعيد النظر في العلاقة بين التوجهات الحداثية والتوجهات المضادة التي يطلق عليها الآن (ما بعد الحداثة). وإذا كانت فرجينيا وولف قد عبرت عن إحساسها بتغير الشخصية الإنسانية بداية من 1910 في إطار العلاقات والتوجهات المتغيرة! فإن الأمر كان يتعلق بالأفكار الجديدة التي تنتمي إلى الحداثة برغم سخطها على جويس. وها هي رجاء نعمة تمس منطقة أكثر جدة تنتعش في حياتنا اليوم. لقد صارت ما بعد الحداثة اليوم علما جديدا ونهجا جديدا ومتميزا للنقد والكتابة. واستوعبت ما بعد الحداثة النزعات الرادية والسريالية والرواية الفرنسية الجديدة! وتقاطعت مع الصحافة الجديدة! والاتجاهات الجديدة للكتابة النسوية ونظريات ما بعد البنيوية! وما بعد التاريخ. وتبنى إيهاب حسن على سبيل المثال منهجا من تجريدية ما بعد الحداثة في (تجميع القطع والإطار والمنظور والنقيض والمكان والنص والنص الظاهري). مما ورثه عن وايلد ودريدا. ونستطيع أن نلاحظ في الكتابة الروائية العربية الجديدة اليوم وبخاصة عند كتاب مثل هدى بركات! وإبراهيم أصلان! وإدوار الخراط! وفي الأجيال التالية عند عبده جبير ومحمود الورداني وإبراهيم عبد المجيد على سبيل المثال لا الحصر توجهات كتابية مختلفة تميل إلى التناقض مع ما ساد من قيم فكرية وجمالية طوال العقود الماضية. حساسية جديدة كما عرفت العواصم العربية أخيرا كتابا من حديثي العمر تمثل كتاباتهم توجها صافيا نحو منطق كتابة يختلف جذريا عن السابق. وعندما نطلع على رواية (داخل نقطة هوائية) لوائل رجب! والتي صدرت أخيرا في القاهرة مثلا فسنكون بإزاء عمل روائي يتناقض تماما مع كتاباتنا في الروايات السابقة. الكتابة الجديدة تميل في معظمها إلى تأكيد حساسية أدبية جديدة تمتلىء بما يشبه الوعي الضدي الذي لا يثق في كثير من المطلقات الكلية التي استتبت طوال الحقب الفائتة في زمن تهتز فيه الأيديولوجيات الكبرى! ونحس فيه بهذه السياقات التراكمية الهائلة في الوقت الذي تتدنى فيه العلاقات اليومية بين البشر الذين يدورون بلا معنى في العجلة النفعية الهائلة التي تدور. هناك ميول للتجارب الفردية ذات الطابع الحسي! وتأكيد لشهادة الذات وتجاربها الأولى وعلاقتها المباشرة بالأشياء الصغيرة التفصيلية المعيشة. يتحول منطق الأدب إلى ما يشبه الأسئلة لا الإجابات! وتصبح المعرفة النسبية مناخا يتعامل فيه الكاتب مع الجزئي ومع التفصيلي! كما لو كنا ننطلق من بداية طازجة غير مسبوقة! وغير موجهة أو مسيرة أو مراقبة من قبل نظريات أو أفكار كبرى سابقة. حساسية الكتابة الجديدة ليست ملكا للكتاب صغار العمر فقط بل هي توجه عام تعكسه معظم الكتابات الناضجة اليوم! الكتابات القادرة على فهم طبيعة الواقع الاجتماعي! وطبيعة ما يدور فيه من تحولات اجتماعية وفكرية وثقافية. لقد استطاعت رجاء نعمة بهذه الرواية أن تجسد إحساسها القوي بطبيعة التغيرات السيكويولوجية والسلوكية الفعلية التي تميز الإنسان الجديد. وإذا كانت حرب بيروت قد تجسدت على مستويات عديدة في روايات مهمة لكتاب كبار كتعبير عن أهداف أيديولوجية وفكرية تجسد حلم الإنسان العربي في تخطي أزماته الوجودية! فإن حرب بيروت هنا هي خلفية أساسية ليس لأحداث الرواية فقط. بل لأحداث الواقع الذي ينبغي أن يخوض في ظروف حياته الجديدة متجاوزا منظورات الماضي القريب. ومن هنا كان الاستخدام الذكي للكاتبة فهي تعبر عن الحرب في أثرها الكبير الباقي في نفوس شخصياتها. وتجسد الكاتبة هذا المنحى الجديد الذي يتجانس مع خروج الواقع العالمي برمته إلى مناطق مختلفة إثر الهزات العنيفة التي ضربت الفكر التقليدي وأسقطت الأيديولوجيات الكبرى وأسقطت آمالها في تغيير الحياة! وسوف نتعرف في الرواية ليس إلى سقوط الكيانات الكبرى فقط بل إلى سقوط الإنسان نفسه في هوة أزماته: (ستشعر بالدوار! وتقع! ويلبسها رعب بأنها لن تنهض ثانية! أبدا لن تنهض. أبدا لن تضل. مثلما إحساسها وهي تمشي الآن متكئة على ذراع كاميليا بأنها لن تصل ـ 219). نهايات متعددة هناك حالة انتزاع من الماضي وارتماء في اللحظة الحاضرة الحية! وهناك تخل عن كثير من المثاليات والأفكار المطلقة وتمسك باللحظة الآنية! وفي الصراع من أجل الإحلال والاستبدال يكون جنون الانغماس في الحياة: (أنا في حقيقة الأمر عاقل غير أني أيضا مجنون. هكذا يجدر بنا أن نكون عقلاء مجانين: نكشف أسرار الحياة. نأخذها وتأخذنا ـ ص 130). تطرح الرواية بهذا المنطق رؤيتها الجديدة التي تتطلب أدوات بنائية جديدة لتقدم عالما مختلفا يتفتح أمام عيوننا! وتستخدم الكاتبة نهايات متعددة لروايتها! ولا يوجد عندها الراوي التقليدي! بل قد توهمنا قليلا بوجود الراوي لكي تغرقنا في التفاصيل الصغيرة المتلاحقة والشخصيات التي تتداخل ضمائرها في أثناء السرد. وتستخدم الكاتبة مناخات سيكويولوجية تتخلل أعماق شخصياتها التي تتفاعل سلوكياتها مع لاوعيها! بحيث تصبح بنية اللاوعي ذات تأثير دائم في بنية الوعي أو العكس من خلال الكلام والحلم والنسيان وهفوات اللسان والمزاح وحركات الجسم وفي القرارات المفاجئة التي تأخذها الشخصيات بحيث يتمخض هذا التداخل عن سحر وعن رؤية خاصة بهذا العمل. وتستفيد الكاتبة من دراستها لعلم النفس الأدبي لكي توظفه بشكل واضح في الرواية حتى أنه يمكن أن تصادفنا العبارة التالية على لسان إحدى الشخصيات: (الحلم تكون عناصره جاهزة في الذاكرة. وأنه تكفي إشارة أو حدث بسيط ليتبلور ويخرج إلى السطح ـ ص 185). ولولا اقتناص هذه العبارة بين قوسين هكذا لما أحس القارىء بالمباشرة العلمية لها لأن الكاتبة تمزج بشكل ذكي بين المستويين الذهني والعفوي بشكل يصعب علينا أن نفرق بينهما في النص مما يؤكد أن الكتابة الآن لم تعد تطرح لغة المشاعر الخالصة فحسب بل إن العقل يتدخل بصورة أو بأخرى لكي يأخذ مكانا أساسيا تبرزه لغة النص. وسوف يكون واضحا أيضا هذا الاتجاه السريالي الذي يتفشى في جنبات العمل! ولكنه هنا يمثل السريالية الجديدة التي تعني التوازن بين الوهم والواقع! أو الإنصاف بين الوعي واللاوعي. فليست السريالية هنا مثلما كانت عند بريتون على سبيل المثال! فنحن هنا إزاء عالم تفاعلت معطياته الواعية واللاواعية معا! وخرجت لنا بمنطق جديد يمكن أن نستشعره في هذا الحس الشعري الطاغي على العمل. لماذا تتعمد الرواية أن تطرح الغيبيات التي تعيش معنا في عصر الكمبيوتر? إن الكاتبة الماكرة تستعرض لنا التركيب المتعدد للذات المعاصرة! والذي تكون الغيبية واحدة من معطياته المدهشة التي لا نستطيع أن نغفلها! لقد وضعت صديقة "دورا" المكنسة مقلوبة لكي تستطيع أن تسيطر عليها وتؤذيها! والمسألة تمثل رمزا لتفكير شريحة اجتماعية كبيرة اتسعت فجأة حتى بين طلبة المعاهد العلمية ذاتها. إن تعدد الذات المعاصرة سيكون المبرر لهذه السلوكيات المتنافرة! وكذلك سيكون المبرر لهذا القدر الكبير من الخيانات التي تعرضها الرواية! هذه الخيانات التي تنتج عن المواجهات غير المباشرة بين نفسيات متباينة! وعندما يفكر "كمال" بعمق في خيانة "مريم" فهو لا يمارس طقسا معزولا بل إن المسألة تتجاوز الحب نفسه وتعبر عن رغبة عارمة في إيجاد دراما تحرك الحياة الجامدة. تفاصيل متراكمة لقد عكست الرواية دائرية الحياة واتساعها من خلال تراكم تفاصيل تتوالد بلا نهاية لاحتمالات انقسامها وتشعبها! واحتمالات ردود أفعال البشر تجاهها. ولقد أصبح المعيشي واليومي والتفصيلي والنسبي ملاذات للكتاب الذين يبحثون عن شهادة تخص تجربتهم من أجل صنع معرفة جدية! هربا من معارف شائخة لم تعد قادرة على سبر غور الحياة. لقد صار (التليفون) رمزا أساسيا في هذه الرواية لأنه يمثل أداة الاتصال بين البشر في زمن الانقطاع! زمن يمكننا فيه أن نتواصل مع آخر الأرض في ثوان عن طريق أحدث الأجهزة! ولكننا نفشل في صنع التواصل مع أقرب الأقربين. و"مريم النور" (تترك محتوى الكلام لمجرِى المكالمة ـ ص 240)! فقد صار صعبا في خضم هذا التراكم الهائل والحركة الدائمة لمعطيات الحياة أن نوجه رغباتنا في مسارات محددة. تطرح الرواية الفعل ونقيضه معا وكما لاذت "مريم النور" بالبراءة فقد كسرتها فهي إنسانة! والإنسان لابد أن يستسلم لدوافع الرغبة الداخلية! وكل شخصيات الرواية حائرون لا يستطيعون بسهولة اتخاذ القرار النهائي تجاه أي حدث. وتتعرض الرواية لقضية الوحدة الإنسانية في زمن يتقارب فيه البشر بصورة غير مسبوقة! فتتوحد أحزان مجموعة من الشخصيات من جنسيات مختلفة في أول الرواية! و"مريم النور" كانت على الدوام (محاطة بمجموعة من الأصدقاء من مختلف الجنسيات. أناس ملؤهم الحيوية. متآلفون ـ ص 29) يتحدثون عن أصحابهم في كل أنحاء العالم (وإذا صادف مرور أحدهم بالبلد الذي هي فيه فلابد أن يبحث عنها حتى يعثر عليها. هكذا يبقى التواصل ممتدا ـ ص 29)! بل إن بداية الرواية من خلال السكن الجامعي في باريس! بكل الجنسيات التي تعيش فيه كانت فرصة لتأكيد هذا المعنى! كما أن اسم "مريم النور" بطلة العمل هو ترجمة عربية لاسم جدتها الإسبانية "ماريا كلارا" التي حلمت بأن يكون لها حفيدة تشبهها وها هو الزمن قد أذن بتكرار الصورة بعد جيلين. وفي الوقت الذي تتقارب فيه الأجناس يحدث فعل قوي معاكس هو سقوط البشر في الإحساس بتفتت الذات فيما يمكن أن يتماس مع فكر ما بعد الحداثة بشكل مباشر! فالذات الإنسانية تصبح كما لو كانت مجموعة من الذوات ذات النوازع المتعددة! مما يمكن أن نلاحظه بجلاء إذا حللنا أي شخصية من شخصيات العمل! وبخاصة الشخصيات النسائية اللائي تم طرح طبيعتهن المتعددة بدقة متناهية في ثورتهن ضد الظلم! هذه الثورة التي أظهرت طاقة هائلة في الفعالية كانت حبيسة من قبل. تريد نساء رجاء نعمة أن يتخلصن من عقدة الشعور بالذنب! ويردن أن يمارسن العطف الأمومي أو الاقتتال أو الغيرة وغيرها من المشاعر المتدفقة التي يمكن أن تعطى فرصة كبيرة للدراسة من منظور النقد النسوي بشكل صاف. وحيث يصبح لمريم النور الحق في تأكيد قيمتها الخاصة كإنسانة من خلال كشف لا وعيها بإلحاح في الوقت الذي تحرك فيه تصرفاتها في طريق زحزحة سكونية العالم. لقد حكت لنا رواية مريم النور قصة حرب بيروت! ولكنها ليست المعركة التي تدور فيها الأسلحة والمدافع! لكنها هي المعركة الأكبر! هي الجهاد الأكبر! جهاد الإنسان العربي الجديد الذي يواجه المتغيرات العالمية التي تتجسد في قيم جديدة مختلفة تغير وجه الحياة! وتجبرنا على تغيير الكثير من مفاهيمنا وبديهياتنا وعلى الانتباه إلى الذات وحاجاتها الحقيقية! المعركة الكبرى التي تؤثر على وضعنا كبشر في كل لحظة! وتختبر قدرتنا على تأكيد وجودنا في عالم ثورة المعلومات الذي بدأ يطل علينا بنهمه وشراهته وقسوته غير المحدودة.
|