واحة العربي
واحة العربي
المـاء وجعلنا من الماء كل شيء حي، ويتمدد الماء في التكوين الأزلي مسطحاً، وكامناً، بخاراً في التاريخ، والمخلوقات، والحركة، والأرض، ليصبح لعاب الكون، وطاقته، وطهارته، ودموعه المأساوية، وضباب الغامض، وغيومه الساخرة، ودمهالمنسكب عنفاً، وحباً، وتصارعاً، واندماجاً، حتى العقل يمكن أن يكون له ماؤه الذكي، وإلا أصبح العقل مسطحات من الجليد البارد هابط الحرارة وخالي الذكاء، وعندما تتهادى شمس الغروب مستثيرة حمرة الخجل على سطح الماء، فإنما تصنع هذا المشهد الرومانسي الذي يدفع الفؤاد كي يتخلى عن الواقع الدميم الشرس، والذي قد يقودك - إن أمنعت عميقاً فيه - إلى القفز من بين غيوم الأسئلة، أما مشهد إشراق الشمس فيعكس على السطح الغامض الممتد للماء إحساساً دافقاً بالأمل دون تمويه، مع أن التموية يأتي من الماء، يقولون: ماهت البئر: ظهر ماؤها، وماهت السفينة: دخل فيها الماء، وبعد ذلك يأتي فعل التمويه الذي تقوم به أجهزة المخابرات والمباحث وأصحاب الكنوز واللصوص وتجار المخدرات حينما يصنعون مظهرأيخفي مايعتمل به الباطن، عليك أن قضيف- للتمويه - شرائح الممثلين والسياسيين والثعالب، والذين يخاطبون الجماهير أو يقودونهم أو يتلاعبون أمامهم بالحقائق كالحواة والمشعوذين والمذيعين وإن كانوا ينقلون إليك أخبار السيول الجارفة. والماء هذا الذي يبدو - أحيانا - ساكنا أو هادئا أو هامسا، هو القادر على أن يكون هادراً يحتضن في اتساع أمواجه الكاسحة أعتى البوارج، أو أكبر البواخر، ثم ينداح رقيقاً كالنسيم، أو يندفع عابثاً من ارتفاع الشلالات ليغمر الواقع بالارتجاف، ليجعل السماء تبتسم في تخاذل وهي تقبل قوس قزح. إن الماء - هنا- قصيدة غامضة التفاعيل، أو موسيقى تصطدم برعب الإعصار في الجزء الأخير من شهرزاد عند ريمسكي كورساكوف، أو الجزء الأوسط في الحركة الثانية العاصفة عند بيتهوفن في سيمفونية الباستورال "السادسة"، أو هذه النغمات العذبة التي تفتتح بها الإذاعة البريطانية البث العربي من المياه الموسيقية لهاندل، أو نغمات العود الهائمة في بحر النيل عند عبد الوهاب في النهـر الخالد، أو إيقاعات الغرام الحالم في الجندول المتماوج بالبندقية في غمار قصيدة علي محمود طه الممتزجة بأنغام عبد الوهاب أيضا، ويصعب علينا الخروج من هذا الدفق الموسيقي، دون أن نتطارح بالأشواق على حافة بحيرة البجع لتشايكوفسكي، تحت أجنحة الأوز الأبيض كي نستتر بعيدا عن عيون الأوزة الشريرة السوداء، لاسيما أننا لانجيد التزلج أو التزحلق على الجليد تحت وقع أنواع من الموسيقى التي لم يشبعها ماء البحار والمحيطات والأنهار والسحب، فلجأت إلى المساحات الشاسعة في الانتراكتيكا "القطبية الجنوبية"، أو الأخرى الواقعة في القطب الشمالي، أو حتى هذه التي احتواها الماء في زمن الأساطير، أي الاتلانتيك أو القارة المفقودة. والماء عالم واسع له مخلوقاته التي تسعى بين أمواجه وفي أعماقه، أسماك، وحيتان، وعرائس بحر، وشعب مرجانية، وثعابين، وتماسيح، وسلاحف، وهوام، وحجرات وأنواع من الجراد، ومن الغواصات الحربية أو السياحية، ومن أبطال ملفيل "القبطان إيهاب الأعرج المطارد للحوت موبي ديك"، وهيمنجواي "العجوز الذي تلاعب به البحر فأعطاه أكبر صيد مع ألفي فاجعة"، ولودفيج الذي كتب أجمل كتاب عن نظر النيل، وعبد الله الطوخي الذي بدأ حياته بعمل أدبي- هو النهر- دون قياس سابق، في نفس العالم المائي الذي التهم الباخرة كوين واتلانتيك وعشرات من ضحايا الماء بصفتها كوارث بحرية أو نهرية، وحتى حين تمور عيون الأرض بمائها الفاتن، والذي نتلمسه بالأيدي والأقدام أو بالأجساد، فيريق في الكيان حبورا، ومتعة، لايسهل الحصول عليها بطريقة أخرى، متعة لاحدود لها، تفوقها سعادة قمة جبل أرارات حينما لاحت من بعيد لأهل سفينة نوح بعد اندحار الطوفان. والماء أنواع تتعدد، منها العذب الذي تقل نسبة الأملاح الذائبة فيه بحيث يصبح سائغاً، وإن زادت ملوحته أصبح نوعا آخر هو ماء المحيطات والبحار وبعض البحيرات، ومنها الماء المعدني الطبيعي الذي يخرج من جوف الأرض وبه أملاح معدنية تكسبه طعما خاصاً، قد تضفي عليه خواص طبية، ومنها الماء المقطرالناتج عن تكثيف البخار والذي يخلو- تماما- من الأملاح، ثم الماء العسر الذي لايحدث رغوة مع الصابون والمنظفات بسبب أملاح الكالسيوم والماغنسيوم، وعندما يتخلص من هذه الأملاح يصبح ماء اليسر"بفتح الياء والسين"، ولاننسى ماء الزهر أوماء الورد ذا الرائحة الجميلة والطعم الخاص المستساغ في "الشربات" والعصير، ثم هناك الماء الثقيل الذي يتم إعداده بزيادة عنصر الأوكسجين فيه كي يصبح جزءا مهماً في تصنيع القنابل الذرية والهيدروجينية، أما أخطر أنواع الماء قاطبة فهو ماء الوجه الذي يريق على المحيا الإنساني الرونق والألق والكرامة، ثم يكون ماء الشباب الذي يعني النضارة والنشاط، وهو الذي كان وراء هذه الأغنية التي تشدو بها الفنانة ليلى مراد على صخرة مرسى مطروح بإحساس شديد النضارة بالماء والهواء، تمهيدا للدخول في عالم الحب الملتهب، الذي يزداد التهاباً كلما اقترب من الماء الممتد في الآفاق، وآخر النهار بالذات.