السياسة الصهيونية لتغيير التركيبة الديموغرافية قبل أن تضيع القدس

 السياسة الصهيونية لتغيير التركيبة الديموغرافية قبل أن تضيع القدس
        

تقوم إسرائيل - كدولة ونظام وفكر - على طمس الحقائق وتزييف التاريخ المتعلق بصراعها مع العرب بشكل عام وقضية القدس بشكل خاص.

          تتمتع مدينة القدس بخصوصية كبيرة، لأنها تختص باستمرارية فريدة تتحدى التاريخ، فقد التقت داخلها حضارات العالم، ومرّ بها الأنبياء والأباطرة وجحافل الغزاة ، كما كانت دائماً أحد مراكز التصادم بين الإمبراطوريات القديمة والحديثة. فتعرضت للتخريب في حياتها الطويلة نحو ست عشرة مرة. وفي كل مرة كانت تنهض إلى الحياة من جديد وتعود قوية متعافية. تجلّت بها حكمة الأنبياء، فلعبت دوراً مهماً في حياة الأديان الثلاثة، وشهدت "الإسراء" معجزة الإسلام الكبرى، وهي أولى القبلتين وثاني الحرمين، وشهدت جبالها ووهادها دعوة السيد المسيح عليه السلام. وهي للعرب تاريخ محفوظ، وقد ظلت لفلسطين كالقلب، ومن أكبر مدنها حتى بدأت المؤامرة الصهيونية ووقعت تحت نير الاحتلال وبراثنه. وأصبحت بالتالي أخطر تحد يواجه العرب في تاريخهم الحديث. وهنا لابد من القول أنه بقدر عروبة القدس يكون حجم الإرادة العربية، وبقدر ثبوت كذب الادعاءات الإسرائيلية في القدس يكون مدى العجز العربي.

          وتعد قضية القدس من أصعب وأخطر القضايا المتنازع عليها في مجمل الصراع العربي / الإسلامي - الصهيوني / الإسرائيلي، وأكثرها تعقيداً. والحقيقة هي أنه لم تواجه مدينة لا في الصراعات الإقليمية ولا النزاعات الدولية ما واجهته هذه المدينة من أحداث، بسبب وضعها الديني الخاص في الديانات السماوية الثلاث. ولهذا تعتبر القدس المحور الأساسي في القضية الفلسطينية، ولا يوجد أي مشروع سلام وضع لحل هذه القضية دون إبراز قضية القدس فيه، حيث طالب بعضها بالتدويل وببقائها موحّدة، وطالب البعض الآخر بعودة القدسي الشرقية إلى السيادة الفلسطينية، أما إسرائيل فهي تصر على توحيدها تحت سيادتها لتبقى عاصمة لها.

          ويتزايد تعقيد مشكلة القدس لتصبح عقبة في طريق أقي تسوية سياسية بسبب ما آلت إليه أوضاع المدينة المقدسة في ظل الخطة الصهيونية - الإسرائيلية لاستلاب عروبتها وتهويدها والقضاء التام على هويتها العربية والإسلامية وطابعها الحضاري المميز، باعتبارها المدينة المقدسة التي ظلت على مدار التاريخ العربي والإسلامي امتداداً ورمزاً للتعايش بين الديانات الثلاث الإسلامية والمسيحية واليهودية. من هنا ينظر الكثيرون إلى مدينة القدس على أنها بؤرة هذا الصراع، بكل أشكاله ومظاهره، ومحوره الرئيسي، خاصة أن الطرف الإسرائيلي يزعم - زورا وبهتانا - أن القدس يهودية.

          ويتزايد وضع مدينة القدس خطورة وصعوبة وتعقيداً داخل منظومة الصراع العربي - الإسرائيلي بمفرداتها المختلفة مع بداية العد التنازلي لحل هذه القضية على طاولة المفاوضات، لأن قضية القدس من القضايا التي أجّلت إلى مفاوضات الوضع النهائي من اتفاقيات السلام بين الجانب الإسرائيلي والجانب الفلسطيني التي أجريت في أوسلو، وتم التعرض إليها كذلك في الاتفاق الذي وقع بين الجانبين في شرم الشيخ والذي كان يقضي بالانتهاء من هذه المرحلة من مفاوضات الوضع النهائي في شهر سبتمبر من عام 2000م.

          ويصاب المتابع العربي لتطورات قضية القدس بحالة من القلق والخوف على هذه المدينة، بسبب سلسلة من الإجراءات والخطوات المتلاحقة - التي تمثل في الحقيقة صدمات - التي أحكمتها إسرائيل لابتلاع هذه المدينة العربية المقدسة واغتيال الحق الفلسطيني العربي، الإسلامي والمسيحي.

          محاور الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع القدس في مجمل الصراع العربي - الإسرائيلي:

          تقوم استراتيجية إسرائيل في تعاملها مع مفردات الصراع العربي - الإسرائيلي على محاور رئيسية عدة. يتمثل المحور الأول من هذه المحاور في تفسير التاريخ البشري تفسيراً يهودياً يخدم هذه الدولة ومواطنيها والفكر الصهيوني الذي تقوم عليه. متجاهلاً بشكل تام حقائق التاريخ ومعطياته وثوابته، ويتأكد هذا المحور في الادعاء بأن القدس يهودية، متجاهلين في ذلك الحقائق التاريخية والثوابت الجغرافية التي تؤكد على أن القدس مدينة عربية النشأة والتطور أسسها العرب الكنعانيون الذين سكنوا فلسطين في الألف الثالث قبل الميلاد. وأن هذه المدينة، كما جاء في كتاب العهد القديم نفسه، لم تكن أبداً خالصة لبني إسرائيل حتى خلال الفترة الإسرائيلية - التي تمثل الفترة المزدهرة في تاريخ بني إسرائيل في فلسطين - من تاريخها الذي يبدأ من عصر داود.

          وتستغل إسرائيل جميع المحافل الدولية وأي فرصة تسنح لها على المستوى الدعائي والإعلامي في العالم لإقحام القدس في المناسبات المختلفة والترويج - زوراً وبهتاناً - بأنها مدينة يهودية تضرب بجذورها في التاريخ اليهودي، وأنها عاصمة أبدية لدولة إسرائيل (!!)، ومن محاولاتها في هذا الصدد ما حدث في المعرض الذي أقامته شركة "والت ديزني" في مدينة أورلاند الأمريكية بمناسبة استقبال الألفية الثالثة. قدمت إسرائيل مدينة القدس في هذا المعرض عاصمة لإسرائيل. وأنها، بشقيها الشرقي والغربي، جزء متكامل من إسرائيل، كما تقدم إسرائيل القدس بتاريخها اليهودي فقط باستثناء بعض اللحظات المسيحية والإسلامية التي عاشتها المدينة انتزاعاً من الحق اليهودي. ولكي يتحقق لها ما تريد لجأت - كعادتها - إلى تزييف التاريخ وطمس معالم الحق العربي - المسيحي والإسلامي - في تلك المدينة المقدسة، فقد تم تقديم باب الخليل الذي استولت عليه القوات الإسرائيلية في عام 1967م على أنه أثر يهودي، الأمر الذي يمثل انتهاكاً سافراً وتشويهاً صارخاً للتاريخ العربي والإسلامي للمدينة.

          ويدور المحور الثاني حول امتلاك القوة العسكرية واستخدامها لمواجهة الدول العربية والإسلامية المجاورة، فبدأت في التسلح بالسلاح النووي لردع أي دولة عربية أو إسلامية تحاول التصدي لها، فأصبحت تملك ترسانة نووية تشكل تهديداً لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها. وحتى مع البدايات الأولى لعملية السلام لم تعلن إسرائيل حتى اليوم عن تخليها عن هذا السلاح المدمر الفتاك، وإنما تصر على الاحتفاظ به وتلوح بالتهديد به ضد كل من ترى فيه عدواً أو خصماً لها في المنطقة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل بها الأمر إلى حد أن وضعت في استراتيجيتها في عملية السلام أن بمقدور هذه القوة العسكرية بأشكالها المختلفة أن تقرر نتائج المفاوضات السلمية. وهكذا تبدو العملية السلمية وكأنها شكل من أشكال التسليم لإسرائيل ويتم التفاوض على الشروط المطلوبة لتحقيق هذا التسليم.

          أما المحور الثالث للاستراتيجية التي تنتهجها إسرائيل، فيقوم على إلغاء المرجعية القانونية التي تخص الصراع العربي - الإسرائيلي بشكل عام، وإلغاء المرجعية القانونية التي تخص مدينة القدس بشكل خاص، والمقصود بالمرجعية القانونية هنا هي القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن هذا الصراع ومظاهره. ومن المعروف في هذا السياق أن إسرائيل تتبنى موقفاً معادياً من القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، لأن هذه القرارات تجمع على إدانتها وإدانة تصرفاتها. من هنا لا تعترف إسرائيل بهذه القرارات، وبالتالي لا تعمل على تنفيذها بل تسعى إلى إلغائها، كما حدث مع إلغاء قرار الأمم المتحدة الذي يقضي بالربط بين الصهيونية والعنصرية عام 1989م.

          ولكنها تعادي القرارات الدولية التي تتعارض مع ما تريد وتقبل منها ما يتفق مع ما تريد. فقد قبلت عند الإعلان عن قيامها بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 والقاضي بتقسيم فلسطين، لأن الجزء اليهودي في هذا القرار شكل نواة الدولة اليهودية الوليدة. فقد أعطى اليهود 56% من أرض فلسطين، في حين أنهم كانوا يمثلون 5.6% من نسبة السكان قبل التقسيم. ولكن إسرائيل لم تعد تقبل بهذا القرار لأنه يسمح بإقامة دولة فلسطينية، رغم أنها أعلنت في بيان إعلان قيام الدولة احترامها لحق الفلسطينيين في إقامة دولة مماثلة.

          ويهدف المحور الرابع في الاستراتيجية الإسرائيلية إلى تحقيق الهدف السابق ألا وهو إضعاف موقف المفاوض الفلسطيني في مسألة القدس، وذلك من خلال إلغاء أو الحد مما يمكن أن نسمّيه المرجعية الديموغرافية، التي تعني بطبيعة الحال أن الفلسطينيين يمثلون أغلبية واليهود أقلية. فقد شكّل الفلسطينيون - مسيحيين ومسلمين - أغلبية ساحقة في القدس، الأمر الذي يؤكد أحقيتهم بها وأنهم أصحاب الأرض الأصليون دون غيرهم، وأن المستوطنين الإسرائيليين يشكّلون أقلية حتى في الوقت الحالي، وإن كانت نسبتهم في المدينة تتزايد، وقد فطنت إسرائيل إلى خطورة هذه المرجعية مبكراً، فأعدت لها العدة للعمل على إلغائها، برز هذا في المذكرة التي رفعها إسرائيل كوينج، المسئول عن المنطقة الشمالية في وزارة الداخلية الإسرائيلية، كوثيقة سرية إلى إسحاق رابين (1922 - 1995م) رئيس الوزراء الإسرائيلي وعدد من كبار المسئولين الإسرائيليين، فقد أشار كوينج في مذكرته إلى زيادة نسبة الزيادة الطبيعية للسكان العرب في إسرائيل (5.9% سنوياً)، مقابل انخفاض نسبة الزيادة الطبيعية لليهود (1.5%)، الأمر الذي يشكل خطراً على إسرائيل وأمنها، وتنبأت الوثيقة بسيطرة سياسية وديموغرافية عربية في بعض الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل.

          ومن هذا المنطلق، سعت إسرائيل - وما زالت - إلى تغيير هذه المرجعية الديموغرافية وتسعى إلى إلغائها من خلال العمل على مسارين متوازيين يسير كل منهما بجوار الآخر وفي الوقت ذاته: المسار الأول هو استقدام مستوطنين إسرائيليين متشددين لتوطينهم في القدس، ويدخل هؤلاء المستوطنون سباقاً مع الزمن لاحتلال المزيد من أراضي المدينة وتهويدها والقضاء المبرم على هويتها العربية والإسلامية وشخصيتها الحضارية المتميزة. أما المسار الثاني فيتمثل في تضييق الخناق على أبناء الشعب الفلسطيني، أصحاب الأرض الأصليين، بحيث لا يجدون أمامهم مفرّاً من مغادرتها وتركها لهم، وتحاول تحقيق هذا الهدف عن طريق سن مجموعة من القوانين والتشريعات تقوم على تنفيذها وزارة الداخلية الإسرائيلية.

          والحقيقة الواضحة للعيان هي أن إسرائيل تطبّق سياسة مدروسة بعناية تهدف إلى طرد أبناء الشعب الفلسطيني من القدس، من خلال سن مجموعة من القوانين والتشريعات تبدو في ظاهرها قوانين تنظيمية ولكنها في باطنها تهدف إلى تضييق الخناق عليهم، من خلال تشديد الإجراءات وتصعيب مظاهر الحياة على أبناء الشعب الفلسطيني، الأمر الذي سيؤدي بهم في النهاية إلى ترك المكان ليتحقق للإسرائيليين في النهاية ما يريدون وتحقق الخطة الإسرائيلية مراميها.

          لكل ما سبق يلقي هذا البحث الضوء على السياسة التي تطبّقها إسرائيل ضد أبناء الشعب الفلسطيني بالقدس من خلال تعامل وزارة الداخلية الإسرائيلية معهم، وما لها من دور حيوي في حياتهم اليومية والمعيشية، بهدف دفعهم إلى ترك القدس ويتحقق للإسرائيليين السيادة المطلقة عليها، لتكون عاصمة لدولتهم، ولكن هيهات أن يتحقق لهم ما يحلمون به لأسباب عدة أبسطها أن القدس مدينة عربية فلسطينية تضرب بجذورها في التاريخ العربي الفلسطيني.

          ولا يعلن المسئولون الإسرائيليون صراحة أهداف هذه السياسة العنصرية العدوانية وتفاصيل تطبيقها. وإنما يكتفون بالإشارة إلى أنها مجرد إجراءات تنظيمية في المقام الأول وصادرة بموجب قوانين تطبقها العديد من الدول المتقدمة، ومن هذه القوانين قانون الدخول إلى إسرائيل وقانون الإقامة وقانون المواطنة وغير ذلك. وهذا في الواقع حق أريد به باطل، فمن بين ثنايا بعض التصريحات التي يدلي بها بعض المسئولين الإسرائيليين يمكن أن نستشف الملامح العامة والخطوط العريضة لهذه السياسة وأهدافها والأسباب التي دفعت إلى وضعها.

          فالهدف المعلن لهذه السياسة هو الحفاظ على ما تسميه إسرائيل "التوازن الديموغرافي في القدس"، والذي يعني بطبيعة الحال - وفق رؤيتهم - الحفاظ على وجود أغلبية يهودية ثابتة في القدس. ومن ذلك ما أوردته اللجنة الوزارية الإسرائيلية العليا المسئولة عن دراسة معدلات التنمية في القدس بأنه "يجب الحفاظ على التوازن النسبي بين اليهود والعرب كما كان في نهاية عام 1972م، أي 73.5% يهودا و 26.5 فلسطينيين".

          أضف إلى هذا ما نشرته الصحف الإسرائيلية من أن الحكومة الإسرائيلية السابقة برئاسة بنيامين نتانياهو درست الاقتراح المهم الذي تقدم به إيهود أولمرت رئيس بلدية القدس والقاضي بمنح القدس أولوية قومية استثنائية، باعتبارها جزءاً من الصراع الديموغرافي مع الفلسطينيين بهدف زيادة نسبة السكان اليهود في المدينة.

          كما صرّح وزير الداخلية في حكومة نتانياهو السابقة إلياهو سويسا بأن مصادرة الهويات من الفلسطينيين أبناء القدس الشرقية يمثل جزءاً من سياسة عامة تطبّقها إسرائيل في القدس الشرقية. وأضاف الوزير قائلاً: "يجب العمل على زيادة الأغلبية اليهودية في القدس إلى أكثر من 80% لأن تدفق الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى القدس يمثل جزءاً من الحرب التي يشنها علينا الفلسطينيون ضد إسرائيل حول مستقبل المدينة، ومصادرة الهويات المقدسية من فلسطينيي القدس الشرقية تمثل ردّنا على العمل الذي يمارسه الفلسطينيون ضدنا".

          وتؤكد تصريحات بعض المسئولين الإسرائيليين على أن "هذه السياسة الإسرائيلية تأتي ردّاً على ما لوحظ في السنوات الأخيرة من تدفق كبير على القدس من جانب أشخاص فلسطينيين تركوها من سنوات عدة".

          الخطوط العريضة لسياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين في القدس لطردهم منها:

          تنفذ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ احتلال القدس عام 1967م سياسة هدفها تدعيم سيادة إسرائيل على القدس من خلال خلق أغلبية حاسمة لليهود في المدينة. كان الهدف المعلن لإسرائيل هو الحفاظ على ما تسميه بـ "التوازن السكاني" في القدس، والذي يعني بطبيعة الحال الحفاظ على أغلبية يهودية دائمة في القدس.

          ولكي يتحقق هذا الهدف تعمل إسرائيل على مدار سنوات طوال على زيادة أعداد اليهود في القدس الشرقية من ناحية، ودفع الفلسطينيين من سكان القدس الشرقية إلى مغادرة المدينة من ناحية أخرى، ومن الوسائل التي تتبعها إسرائيل لتحقيق ذلك:

          - التمييز المنظم والموجه ضد السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية فيما يتعلق بمصادرة أراضيهم بزعم التخطيط والبناء على أسس قانونية منظمة، وفي المقابل نجد عمليات بناء واسعة النطاق واستثمارات ضخمة بهدف إنشاء أحياء سكنية لليهود في القدس الشرقية، لعل آخرها مستوطنتا رأس العامود وجبل أبوغنيم، ويترتب على هذه السياسة وجود نقص حاد يصل إلى آلاف الشقق بين السكان الفلسطينيين، ونتيجة لعدم وجود بديل آخر يضطر المواطنون الفلسطينيون إلى مغادرة المدينة والبحث عن حلول أخرى للسكن خارج حدود مدينة القدس.

          - تخصيص الحد الأدنى من الاستثمارات في مجال البني التحتية والخدمات، فقد صرح رئيس البلدية "إيهود أولمرت" في هذا الشأن بقوله: "المشكلة الأساسية التي تعاني منها القدس هي الهوّة السحيقة بين البني التحتية في شرق القدس من ناحية، وغربها من ناحية أخرى.

          فحالة البني التحتية في معظم أحياء القدس الشرقية سيئة، وقد بذلت حكومات إسرائيل في الثلاثين عاماً الأخيرة جهوداً محدودة وغير كافية في هذا المجال".

          - رفض تلبية طلبات جمع شمل الأسر التي قدمتها نساء فلسطينيات يسكّن في القدس من أجل أزواجهن الذين لم يقيموا معهن في القدس منذ عام 1994م، ويترتب على هذا أنه لكي تقيم هذه النسوة مع أزواجهن يضطر عدد كبير منهن إلى مغادرة المدينة.

          ومازالت رغبة إسرائيل في فرض سيطرتها الواسعة على القدس وتثبيت سيادتها على كل أجزاء المدينة قائمة ومتأججة أكثر مما كانت عليه في ظل اقتراب التفاوض من المرحلة النهائية من المفاوضات، التي سيناقش خلالها موضوع القدس. فعلى سبيل المثال لا الحصر بعد نشر التقرير النسوي لمعهد القدس (ماخون يروشا لايم) لعام 1997م، صرح رئيس بلدية المدينة إيهود أولمرت بأن "هذا التقرير يحوي أشياء لا أحبّها، مثل الزيادة الطبيعية لدى السكان غير اليهود في المدينة".

          إجراءات وزارة الداخلية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في القدس لطردهم منها:

          تعمل وزارة الداخلية في القدس الشرقية منذ شهر ديسمبر من عام 1995م على تطبيق السياسة العامة لإسرائيل، التي تستهدف الحد من أعداد الفلسطينيين الذين يقيمون في المدينة. وتتخذ الوزارة خطوات عدة في إطار تنفيذ هذه السياسة، ومن هذه الخطوات:

          - سلب حق المواطنة من سكان القدس الذين أقاموا سنوات عدة خارج حدود المدينة، ونتج عن هذا أن طلبت وزارة الداخلية من آلاف الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية مغادرة منازلهم.

          - يتم إلغاء حق المواطنة دون أن تتاح للفلسطيني الذي سُلب منه هذا الحق إمكان أن يطعن في القرار. وحتى إذا منح هذا الحق فهو حق شكلي فقط.

          - تطلب الوزارة بشكل متكرر من الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية أن يقدموا أمام موظفيها ما يثبت أنهم مازالوا يقيمون في المدينة. ولكن الحصول على الإثبات المطلوب مسألة صعبة جداً، فالأشخاص الذين أقاموا في القدس الشرقية طوال حياتهم يصعب عليهم إثبات ذلك. فالمستندات تُطلب من المواطن حتى إذا كان قد قدمها منذ فترة وجيزة إلى الوزارة ولكن ضمن طلب آخر.

          - رفض تسجيل الطفل الذي وُلد لأبوين أحدهما من الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية في سجل المواليد، وكذلك رفض إصدار رقم قومي له، حتى لو كانت وزارة الداخلية قد اعترفت من قبل أن هذه الأسرة تقيم في القدس.

          - الامتناع التام عن قبول الطلبات الخاصة بجمع شمل الأسر، ويترتب على ذلك أن السكان الفلسطينيين في المدينة غير قادرين على الزيادة إلا في مجال الزيادة الطبيعية. والطريقة الوحيدة الآن التي يمكن من خلالها قبول طلب جمع شمل الأسر هي إقامة دعاوى قضائية أمام محكمة العدل العليا الإسرائيلية.

          ومن أبرز الإجراءات التعسفية التي تطبقها وزارة الداخلية الإسرائيلية ضد السكان الفلسطينيين في القدس لدفعهم إلى تركها الإجراءات التالية:

أولاً - إلغاء حق المواطنة:

          تنفذ وزارة الداخلية منذ شهر ديسمبر من عام 1995م سياسة جديدة تقضي بأن أي فلسطيني من سكان القدس الشرقية لا ينجح في أن يثبت أمام وزارة الداخلية أنه يقيم في القدس في الوقت الحالي، وكان يسكن بها في السابق بشكل متواصل يمكن أن يفقد وللأبد حقه في أن يعيش في المدينة التي ولد فيها. فيصبح مضطراً تبعاً لذلك إلى ترك بيته كما لا يعد في مقدوره الإقامة في القدس التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية دون موافقات وتأشيرات خاصة، كما لا تتاح له إمكانية العمل في الأراضي الفلسطينية التي تخضع للمحتل الإسرائيلي، بما في ذلك القدس، وتسلب منه كل حقوقه الاجتماعية التي يضمنها له سداده للضرائب المستحقة عليه، مثل الانتفاع بخدمات التأمين الصحي وغير ذلك.

          ويمكن القول إن إلغاء حق المواطنة بالنسبة للفلسطينيين من أبناء القدس يأتي نتيجة لتغيير في سياسات الحكومات الإسرائيلية في ضوء تطور مباحثات سلام الوضع النهائي مع الفلسطينيين.

          فقد بات واضحا الآن أن سكان المدينة الذين ينتقلون للإقامة في المناطق الفلسطينية سيتم التعامل معهم كما لو أنهم انتقلوا للإقامة في دولة أخرى، خارج إسرائيل، ويمكن لحقهم في المواطنة أن يلغى، خلافاً لما ما كان يحدث في الماضي، حيث لم يكن لذلك أي تداعيات على هذا الحق. وقد كان عدد السنوات السبع يبدأ من جديد بعد كل زيارة للقدس وتجديد تصريح الخروج، ولكن في ظل السياسات الجديدة، فإن تجديد التصريح لا يقطع العد ولا يحافظ على حق المواطنة.

ثانياً - حق الطعن:

          أعلنت وزارة الداخلية الإسرائيلية في شهر يونيو من عام 1977م أنه يحق لأي مواطن أن يطعن في قرار إلغاء حقه في المواطنة، وأن يقدم لوزارة الداخلية بيانات تناقض النتيجة التي توصلت إليها، وتزعم وزارة الداخلية بشكل دائم ومتواصل أن حق الطعن مكفول للفلسطينيين أبناء القدس الشرقية الذين ألغي حقهم في المواطنة. والحقيقة هي أن هذا القول يفتقد الأساس الموضوعي، فحتى منتصف عام 1997م اعتاد موظفو وزارة الداخلية إرسال خطابات للفلسطينيين أبناء القدس الشرقية الذين سلب منهم حق المواطنة يبلغونهم فيها بأنه ينبغي عليهم مبادرة البلاد خلال خمسة عشر يوماً مع أفراد عائلاتهم. وقد رفضت وزارة الداخلية صراحة أن توفر لهؤلاء الفلسطينيين أي إمكان لنقض القرار، زاعمة أن "حق المواطنة" قد "ألغي من تلقاء نفسه"، من هنا ليس للموظف الذي أبلغهم بذلك أي دور للتدخل في الأمر.

ثالثاً: إثبات "مركز الحياة":

          تقضي المادة الحادية عشرة (جـ) من قانون الدخول إلى إسرائيل بأن "صلاحية تصريح الإقامة الدائمة يلغى... إذا ترك صاحب التصريح إسرائيل وأقام خارجها". وجاء في المادة الحادية عشرة (أ) أن المرء يبدو في نظر القانون أنه "أقام في دولة خارج إسرائيل" إذا مكث خارج إسرائيل فترة تصل إلى سبع سنوات على الأقل أو إذا حصل على تصريح بالإقامة الدائمة أو الجنسية في دولة أخرى.

          تطلب وزارة الداخلية من الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية المتقدمين إليها لتقديم أي طلب من أي نوع أن يثبتوا أن "مركز الحياة" لم يتغير، وأنهم مازالوا يقطنون في المدينة. وتحقيق الأدلة التي تطلبها وزارة الداخلية مسألة صعبة جداً، فحتى الأشخاص الذين يقيمون طوال حياتهم في القدس سيصعب عليهم الحصول عليها. ومن ضمن ما تطلبه وزارة الداخلية موافقات جهة العمل، وإيصالات سداد الضريبة العقارية، وإيصالات سداد استهلاك الكهرباء والمياه والهاتف منذ يوم الزواج، وعقد إيجار السكن وغير ذلك، وفي الحالة التي يسكن فيها الشخص في منزل والديه، وليس لديه عقد إيجار، يصبح المطلوب منه أن يقدم شهادة خطية موقعة من محام تفيد بأنه يقيم هناك.

رابعاً - عدم إصدار رقم قومي للأطفال الفلسطينيين في القدس:

          تعد بطاقة الهوية مسألة مهمة وحيوية في كل شيء يتم في الحياة اليومية في المناطق الفلسطينية التي تخضع لإسرائيل، بما في ذلك القدس - مثل الحصول على رخصة قيادة وفتح حساب جار في البنك، واختبارات الثانوية العامة وغير ذلك، وتزداد أهمية بطاقة الهوية بالنسبة للفلسطينيين أبناء القدس الشرقية أضعافاً مضاعفة، لأنه دون بطاقة هوية يمكن لهؤلاء الفلسطينيين أن يدخلوا في مواجهات ومشاحنات مع الجنود الإسرائيليين وشرطة حرس الحدود الإسرائيلية وغيرهم. ولكي تحصل على بطاقة هوية يجب أن تحصل أولاً على رقم قومي من وزارة الداخلية، وتعد هذه الخطوة بالنسبة لقطاع من السكان الفلسطينيين الذين يقيمون في القدس الشرقية خطوة طويلة ومعقدة.

          يحصل الطفل الذي يولد لأبوين مواطنين في إسرائيل على رقم قومي وهو في المستشفى، وبعد ذلك يتقدم والداه إلى وزارة الداخلية لتصدر له شهادة ميلاد تحمل رقمه القومي، ويسجل الطفل في بطاقة هوية والديه.

          أما بالنسبة للطفل الذي أحد والديه فلسطيني يقيم في القدس الشرقية ويتمتع بالجنسية الإسرائيلية، فهناك إجراء مختلف، فبعد الإنجاب يحصل والداه على استمارة تسمى "بلاغ عن إنجاب مولود"، دون تحديد للرقم القومي، وحينما يتقدمون إلى وزارة الداخلية للحصول على شهادة الميلاد، تسلم لهم هذه الشهادة دون تحديد للرقم القومي. ومن أجل الحصول على الرقم القومي يجب على الوالدين أن يتقدما بـ "طلب لتسجيل طفل" وأن يرفق بالطلب أدلة على أن مركز حياة الأسرة هو القدس.

          ولا يعرف دائماً الوالدان اللذان يتقدمان إلى وزارة الداخلية للحصول على شهادة ميلاد وتسجيل الطفل في بطاقتي الهوية الخاصة بهما أنه ليس للطفل رقم قومي. ولا يلفت موظفو وزارة الداخلية انتباه الوالدين إلى أنه يجب عليهما البدء في إجراءات تسجيل الطفل، وإنما يصدرون للطفل شهادة ميلاد دون الرقم القومي، وفي الحالات التي يدرك فيها الوالدان فقط بأنه ليس للطفل رقم قومي يتقدمان بطلب لتسجيله. والأكثر من ذلك، أنه طبقاً للمادة 30 (أ) من قانون تسجيل السكان في إسرائيل، فإن "مَن يولد في إسرائيل ومسجل في دفاتر تسجيل السكان، يحق له الحصول على بطاقة هوية". من هنا يصدر موظفو وزارة الداخلية شهادة ميلاد للأطفال، وهم بذلك يقدمون مستنداً مضللا للوالدين يتم بموجبه تسجيل الطفل في دفتر المواليد. وقد فشلت محاولات تسجيل الأطفال الفلسطينيين من القدس الشرقية بموجب هذه المادة القانونية، خاصة بعد طلب وزارة الداخلية أن تقدم لها الأسر الفلسطينية أدلة على إقامتها في القدس.

          والحقيقة هي أن إعطاء شهادة ميلاد دون رقم قومي للوالدين اللذين يتقدمان لتسجيل طفلهما خطوة مألوفة لدى الأسر التي أحد الوالدين فيها من الفلسطينيين أبناء القدس الشرقية، فوزارة الداخلية لا تصدر رقماً قومياً لطفل، حتى لو كان واضحاً أن وزارة الداخلية قد اعترفت بأن مركز حياة الأسرة هو القدس.

خامساً - عدم تغيير تسجيل الحالة الاجتماعية في بطاقة الهوية:

          واجه المتقدمون من الفلسطينيين أبناء القدس الشرقية - في الآونة الأخيرة - إلى وزارة الداخلية والراغبين في تسجيل التغير في حالتهم الاجتماعية في سجلات وزارة الداخلية من أعزب إلى متزوج مشاكلة جمّة. فبدلاً من تغيير الحالة الاجتماعية إلى "متزوج" يكتب موظفو التسجيل "غير معروف" أو "في مرحلة الفحص"، ويرفض تغيير المكتوب، كما يرفض الموظف أيضاً أن يسجل اسم الزوج أو الزوجة في بطاقة الهوية، لأن هذا يعني في نهاية المطاف أن الزوجة التي لا يكتب في خانة الحالة الاجتماعية "غير متزوجة" لن تستطيع استقدام زوجها ليعيش معها في القدس، والأمر نفسه ينطبق على كتابة اسم الزوجة في بطاقة الزوج.

          ويمثل رفض وزارة الداخلية تغيير التسجيل في خانة الحالة الاجتماعية في بطاقة الهوية إزعاجاً وقلقاً وإجراء آخر من إجراءات التصعيب والتشديد على حياة الفلسطينيين من أبناء القدس الشرقية على المستوى اليومي المعيش من ناحية، وعلى المستوى الاجتماعي القومي من ناحية أخرى.

سادساً - رفض طلبات جمع شمل الأسرة في القدس:

          يجب على الفلسطينيين أبناء القدس الشرقية والمتزوجين من أشخاص من غير أبناء القدس الشرقية أن يقدموا طلباً من أجل أزواجهم حتى يصبح في مقدورهم الإقامة معاً في المدينة. وينظر إلى الموافقة على هذا الطلب من وزارة الداخلية على أنه نوع من الهبة أو المنحة، من هنا تتم الموافقة على الطلب في حالات قليلة جداً تتعامل معها السلطات الإسرائيلية على أنها "حالات استثنائية واعتبارات خاصة" وتلحق هذه السياسة ضرراً بالغاً بحياة الأسرة، كما تلحق ضرراً بالغاً بحق الزوجين في أن يسكنا معاً وبحق أولادهما للعيش مع والديهما.

          ويمكن القول بشكل عام أن طلبات جمع شمل الأسر التي يتقدم بها الفلسطينيون أبناء القدس الشرقية لا تتم دراستها، وقد تراكم في وزارة الداخلية حتى نهاية عام 1997م ما يقرب من 7470 طلباً من هذا النوع. ويمكن رد تراكم هذا العدد الكبير من الطلبات إلى تغيير السياسة التي تطبقها وزارة الداخلية والذي بدأ في عام 1994م. فحتى ذلك الحين، رُفضت تماماً الطلبات التي قدمتها سيدات فلسطينيات من سكان القدس الشرقية من أجل استقدام أزواجهن الذين لا يقيمون في الأصل في القدس الشرقية، وتنظر وزارة الداخلية فقط في الطلبات التي يقدمها رجال فلسطينيون من القدس الشرقية لاستقدام زوجاتهم. وفي شهر مارس 1994م، في أعقاب إقامة دعوى قضائية في محكمة العدل العليا، غيرّت وزارة الداخلية سياسة التفرقة بين الفلسطينيين والفلسطينيات الذين يقدمون طلبات جمع شمل الأسر، وأشارت إلى أنها ستنظر في طلبات جمع شمل الأسر التي ستقدمها لها سيدات فلسطينيات من القدس الشرقية من أجل استقدام أزواجهن، ونتج عن ذلك أن قُدمت آلاف الطلبات لجمع شمل الأسر من جانب سيدات فلسطينيات من القدس الشرقية، لم يستطعن في السابق تقديم طلبات من هذا النوع، ولكن وزارة الداخلية لم تنظر في هذه الطلبات حتى الآن.

          حينما يكون الطرف الثاني، الزوج أو الزوجة، من رعايا دولة أجنبية يمكنه في معظم الحالات أن يقيم في القدس حتى قبل الحصول على الموافقة على طلب جمع شمل الأسر، ولكن الوضع بالنسبة للفلسطينيين من أبناء الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة مختلف تماماً.

          فحتى شهر مارس من عام 1993م، حينما كان يفرض حظر أو حصار على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، كان بمقدور الفلسطينيين من أبناء الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة الوصول إلى القدس والإقامة فيها، ولكن الوضع في الوقت الحالي مختلف تماماً، فعليهم عدم الإقامة في القدس إلى أن يبت في الطلب المقدم بهذا الخصوص.

 

محمد أحمد صالح