رمضان ودراما التلفزيون: وهم الصورة واستسلام المشاهد

  رمضان ودراما التلفزيون: وهم الصورة واستسلام المشاهد
        

ما الدور، الذي يقوم به التلفزيون في شهرالسهر؟ ونعني به شهر رمضان.
هل يقدم جرعة إضافية من الترفيه والتثقيف؟ أم يواصل بيع الوهم ومطاردة ظلال التاريخ؟!

          التثقيف والترفيه، معاً، يشكلان المهمة الرئيسية الموكولة إلى: "التلفزيو" " نات" وهذه مهمة ناشئة من طبيعة "الوسيط " أي التلفزيون ذاته في: "عصر الفرجة " وهو أمر بديهي لا يمكن الاعتراض عليه- وليس ما يدعو إلى ذلك الاعتراض، إلا في حدود خطورة سيطرة: "الفرجة" وقدرتها على نفي أو استبعاد: "القراءة".

          غير أن مهمة التثقيف/ الترفيه المزدوجة تتم عندنا من وجهة نظر: "التوحيد".. توحيد الذوق والإدراك العام، وتثبيت نوع واحد من الوعي بالمكونات المشتركة لمجتمع تغلب فيه نزعة: "الجماعية" على نزعة الفردية.

          في واقعنا الاجتماعي (العربي) بوجه عام تتجه نزعة "الجماعية" إلى التركز حول الأسرة أو القبيلة أو الطائفة، غير أن قيام مؤسسة "الدولة" يتطلب من هذه المجتمعات أن تحول مركز النزعة الجماعية عن هذا النوع المحدود والمباشر، إلى المركز الأكبر والأكثر قدرة على استيعاب طاقة الوعي الفردي مع تحفيزها في الوقت ذاته: مركز الدولة المؤدي، بالضرورة إلى: "الأمة"... بحكم تفاعلات المكونات الأصلية للثقافة السائدة الحاكمة- بأصولها- في سلسلة العقليات الفاعلة: عقلية الفرد، فالأسرة فالقبيلة فالدولة ذاتها.

          لقد لعب التلفزيون في الحقيقة الدور الأساسي في التوحيد الشعوري / السياسي لمجتمعات أكبر وأكثر تطوراً بكثير (فيما بينته الدراسات الأولى بهذا الصدد في خمسينيات القرن العشرين والتي أجرتها مجموعات البحث في جامعتي بيل وساوث كارولينا بالولايات المتحدة، تحت قيادة مؤسس "المدرسة" الأمريكية، بيتريم ساروكين عن دور التلفزيون- في بداية تطويره والتوسع في استخدامه- في توحيد "الأمة" الأمريكية وإعطائها الوعي بخصوصياتها وسط "أمم" الغرب، والعالم، ولكن من جانب آخر- وفيما بينته الدراسات ذاتها، ذات الطابع الوصفي التحليلي، ثم الدراسات النقدية التالية- لعب التلفزيون الدور الأساسي في إعادة صياغة عقلية ودور: "العموم" أو: "العامة" وفي تشكيل ونسج: "الثقافة الشعبية" المعاصرة، لكي تحل- من حيث اتساع الانتشار وإثارة الاهتمام وتحقيق التأثير- محل كل من الثقافات الشعبية الموروثة القديمة، والثقافات " الراقية " أو"العالمة" اكثر تطورا وتركيباً ، وإن  كانت ثقافة التلفزيون الشعبية الجديدة، قد استوعبت النوعين معاً من الثقافة (الشعبية الموروثة القديمة والراقية العالمة) لخدمة أغراضها- التوحيدية والتأثيرية/ التثقيفية/ الترفيهية على حد سواء.

          ومن الواضح أن هذه الحقائق (البديهيات؟!) حاضرة في أذهان مخططي البرامج "الدرامية" في التلفزيو (نات) العربية وخصوصاً في رمضان!!

إعادة صياغة الوهم

          رمضان تقليدياً هو شهر "السهر"... أو أنه أصبح كذلك مع اتساع فئات: "العموم"- الطبقة الوسطى وما يقترب منها بكل شرائحها في المدن والريف على السواء وزيادة إمكاناتها، ومع تزايد كل من "نشاطاتها" وتنوعها، وتزايد أهمية استيعابها في إطار: "ثقافة التوحيد" الوطني أو القومي، ومن البديهي أن يلعب "التلفزيون" في "السهرة" الدور الرئيسي و: "الحكاية" الدرامية- أو شبه الدرامية- المصورة، لا مناص من "أن تحتل مكانة رئيسية (المكانة الرئيسية) في هذا الدور: ففي الحكاية الدرامية المصورة، نتجسد (أو نتوهم أننا نتجسد) نحن أو أسلافنا أو نظراؤنا ونظراؤهم، ولكن في السياق وفي التكوين الذي تهدف المؤسسة إلى أن ترسخه في وعي (في: لاوعي) جمهور "العموم" الساهرين، متشوقين للترفيه (ولابأس من جرعة تثقيف- بصرف النظر عن دلالة أصل الكلمة: "ثقافة" وحضور تلك الدلالة أو عدم حضورها) ومستسلمين لما ستقدمه لهم المؤسسة من ترفيه و (أو) تثقيف، استسلاماً ينبع أساساً من موافقتهم مقدماً على رؤية المؤسسة ودورها... أنواع الموضوعات تحدد الأنواع الفنية... (وليس ما يدعونا في هذا السياق لبحث العلاقة الشكلية بين الدراما التلفزيونية- مسلسلة أوغير مسلسلة-  وقوالب الأنواع الأدبية الحكائية المعروفة- القصة القصيرة والرواية والملحمة- فلذلك سياق آخر). أنواع الموضوعات تقسم الدراما التلفزيونية إلى الدينية والتاريخية- وقد يمتزج الدين والتاريخ في نوع مستقل- والأسطورية- الخيالية (التراثية: كألف ليلة وليلة أو: حكايات جحا... إلخ) والاجتماعية العصرية، ويبدو هذا التقسيم- للحق- بديهيا- فتلك هي الموضوعات (القضايا) - أي: الدين والتاريخ والموروث الشعبي الخيالي والإشكاليات الاجتماعية المعاصرة التي استلهمها الفن، والأدب في مراحل اكتشاف: "الذات القومية" لكل أمة لنفسها، وإعادة صياغة نفسها في ضوء، وعلى أساس التوجهات السائدة (أو التي تسود) وفقاً لعوامل اجتماعية/ ثقافية عدة (لنراجع في هذا الصدد كتابات مؤرخي الثقافة ونقادها من كل اتجاه تقريباً: من هيردر إلى العقاد، ومن ماكس فيبر إلى دور كايم حتى طه حسين، ومن ستالين إلى قدري حفني أو سيد ياسين أو محمود أمين العالم!).

          ورغم أننا لسنا بصدد مقارنة الأبنية الفنية للأنواع الحكائية التقليدية بالقوالب الفنية للدراما التلفزيونية، فإننا لن نستطيع تجاهل حلول الدراما التلفزيونية محل تلك الأنواع في عصر الفرجة على الصورة، فهذه الدراما تقوم بالوظيفة ذاتها التي قامت بها تلك الأنواع منذ القرن الثامن عشر وبلغت ذروة أدائها في القرن التاسع عشر. ومثلما استفادت تلك الأنواع من "الموضوعات/ القضايا" ذاتها- مع تبادل لمكانة وأهمية أنواع الموضوعات ولمدى التداخل فيما بينها (الديني والتاريخي والخيالي/ التراثي والاجتماعي المعاصر) حسبما تمليه الشروط الاجتماعية/ الثقافية السائدة، وما تختاره (تمليه؟) من توجه عام.

من الديني للاجتماعي

          ولو أتيحت إحصائية إرشادية- ولو بسيطة أو مختزلة- للدرامات (المسلسلات خصوصاً) التلفزيونية التي عرضتها التلفزيو (نات) العربية (بدءاً من التلفزيون المصري) خلال مدة معقولة من الزمن (لنفترضها ربع القرن الأخير) تتيح الفرصة لرصد العلاقة بين تحوّلات اجتماعية/ ثقافية عامة، وبين قدر ونوعية التبادل- أو الترجيح- بين نوع القضايا/ الموضوعات التي تركز عليها "المؤسسة" في تلك المسلسلات لأمكننا تسجيل ملاحظات عدة- قابلة بالتأكيد- للمناقشة والتعديل (حسب توافر بيانات أكثر دقة).

          في منتصف السبعينيات كان الموضوع الديني غالباً، ومن زاوية نظر شبه شعبية- لم يبال صاحبها و "مقررها" بمقدار ما تحتويه من خرافة، أو "إسرائيليات" أو تصوّرات تنتهي- سياسياً وثقافياً- لاستثارة أو لتجديد أنواع من الصراعات والتوجهات " الاستراتيجية/ الفكرية " تعود إلى العصور الوسطى: فأعداء الأمة هم الأحباش أو الفرس، وسيدنا إدريس النبي هو أوزوريس (الإله الأسطوري المصري القديم)، والعبرانيون (قبل يوسف وموسى عليهما السلام) يعيشون في مصر في عصر بناء الأهرامات الم يظهروا على مسرح التاريخ إلا بعد عصر بناة الأهرام بنحو 1500 عام - هكذا يقول "علم" التاريخ) وخوفو يرمي في النهر كتابا نزل وحيا على أخنوخ (!!)... إلخ... إلخ- كل ذلك في مسلسل يدعى: "لا إله إلا الله "...

          هل كانت المؤسسة تريد إثبات تبنيها للتصؤرات الشعبية المتأخرة الواردة في كتابات ترجع إلى العصور الوسطى منذ القرن الخامس إلى القرن الثاني عشر الهجري؟

          ولكن الموضوع: "الاجتماعي" كان يطرح أساساً من منظور أخلاقي: وتقدم صور الفساد أو الاستغلال.. إلخ باعتبارها نوعاً من التسيب الخلقي أو "الشر" المطلق لا يحتاج إلا لقدر من التأديب والتهذيب والاستعانة بالصالحين الأولياء.

  • قبل ختام السبعينيات يقترب الموضوع الديني - وهو لايزال سائداً- من التاريخ المعتمد من ناحية (مسلسل: محمد رسول الله المأخوذ عن الكتاب المشهور لعبد الحميد جودة السحار) الذي يحكي - في بناء شبه ملحمي- قصة قريش في مكة قبل الوصول إلى بني هاشم، ثم إلى بني عبد المطلب فمولد الرسول (صلعم) فنشأته (من تصوير محيطه فقط بالطبع) فشبابه إلى المبعث فالهجرة والغزوات والفتح.
  • يصاحب هذا المسلسل - في التوقيت ذاته تقريباً- مسلسل: "على هامش من السيرة" المأخوذ عن كتاب طه حسين  الشهير، غير أن الفارق الجوهري،. هو أن طه حسين يقدم كتابه قائلاً إنه يحوي مايقال "على هامش" السيرة، ويقدمه بوضوح باعتباره المرويات الخيالية الشعبية (وحتى شبه الأسطورية) التي أضافها الخيال الشعبي إلى صحيح السيرة. أما المسلسل فإنه يقدم المادة ذاتها باعتبارها صورة للتاريخ الحقيقي (بدءاً من تدخل إبليس شخصياً في الأحداث متنكراً في أزياء وشخصيات مختلفة، حتى نزول دعوات سماوية لأشخاص غير سماويين).
  • فهل لم تكن المؤسسة قد حصلت بعد على آلية التمييز بين بناء وعي عقلاني للأمة بذاتها- من خلال الاستحضار العقلاني للتاريخ، وبين أخطار بناء وعي زائف يناقض المنطق والحس السليم والعقل؟!
  • منذ بداية الثمانينيات- أو بعدها بقليل- نلمس تحولاً تدريجياً وقوياً سواء في تناول الموضوع الديني، أو التاريخي ومزجهما- أو في الرؤية " الاجتماعية/ السياسية القومية" التي تسعى إلى السيطرة على هذا التناول، أو في زيادة الاهتمام بالموضوع الاجتماعي مع مزجه في بعض الأحيان ببعد تاريخي، بل إن "التاريخ" الحديث- الأب المباشر للتاريخ الراهن الاجتماعي السياسي.

          يشغل حيزاً متزايداً من الدراما التلفزيونية ( ويلاحظ في هذا الصدد أن اختيار التوقيت "اليومي" للبث في أوقات المشاهدة الكثيفة- بعد السادسة مساء، وحتى العاشرة تقريباً يتناسب طردياً مع ازدياد العناية بالبعد السياسي/ الوطني/ الاجتماعي. فالموضوع الديني يعمد إلى التاريخ "المعتمد" من: الخلفاء الراشدين: إلى أئمة علوم التفسير والتاريخ (الطبري- أبو جرير مثلاً) حتى عمر ابن عبدالعزيز والرشيد وحتى ابن حزم (في نهاية التسعينيات) في مسلسلات تحمل عناوينها تلك الأسماء بالتحديد وإلى: "القضاة" في مسلسل: "القضاء في الإسلام ": هنا- في الغالبية العظمى من هذه المسلسلات الدرامية التلفزيونية - الموضوع ذاته الذي يمتزج فيه التاريخ بالدين، محاولات- ناجحة في معظمها- لتأكيد معنى السعي إلى توحيد الأمة ودفعها لارتياد آفاق السماحة وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة، ولتأكيد معنى تبغيض الفرقة والاقتتال والتمزّق (مع ميول موروثة يصعب التخلص منها بسهولة تنزع إلى الزهو بالذات القومية وتمجيدها وتجميلها) وتمجيد البطولة الفردية- الحربية أساساً- كما في: فتح الأندلس أو: (طارق ابن زياد وموسى بن نصير، أو في: عمرو بن العاص وفي: عبدالرحمن الداخل (صقر قريش)... إلخ)... وتميزت المسلسلات غير المعنية بالبطولة (كما في مسلسلات: الطبري والقضاء في الاسلام وابن حزم خصوصاً) بتأكيد معنى عناية: الأمة والتراث الاسلامي- الحضاري- بالعلم وبالعلماء، مع عدم تجاهل "العلاقة المتوترة غالباً بين العالم وبين نوع من السلطان الجائر أو الجاهل أو النفعي (كما في ابن حزم والطبري بوجه خاص، وفي: القضاء في الإسلام أحياناً)... ولعل أهم ميزات مسلسلات: "هذه الموجة" كان الاهتمام بفكرة: "حكم القانون" المرتبط بـ "حكم العقل" المستند إلى الأصول ( لم ينس المؤلفون- ولعل المؤسسة لم تنس- أنهم ينتمون إلى جمهور من أهل السنة والجماعة ويخاطبونهم).

شهرزاد تضل طريقها

  • أما الموضوع الخيالي- المستمد من التراث الشعبي (ألف ليلة وليلة خصوصاً- وقد انفردت بالساحة نحو أحد عشر "رمضاناً"... قبل 1982) فقد تحولت معالجتها: في السبعينيات انتزعت من: "ألف ليلة" خاصيتها الفريدة- خاصية قدرتها على رسم لوحة شديدة الواقعية (تقترب من: الطبيعية) للخلفية الاجتماعية للأحداث الخاصة حين تهبط "شهرزاد" بحكاياتها من عوالم الملوك والملكات والعفاريت والمردة والساحرات والجان، إلى عوالم البسطاء: من الحسن البصري إلى معروف الاسكافي، ومن شقائق الحلاق وأخوته إلى تودد الجارية التعسة المحظوظة، بدلا من هذا المنزع الواقعي الذي جعل "عدالة السماء" في الكتاب الشعبي الواعي- من نصيب البسطاء، فإن مسلسلات ألف ليلة السبعينيات حولت الحكايات إلى سلسلة من الخرافات الفكاهية أو المواعظ الأخلاقية والمصادفات، ولكن تحول هذا "المنزع" في الثمانينيات- مع تغير "وعي المؤسسة" إلى قدر لا بأس به من العناية بالدلالة الاجتماعية/ السياسية للحكاية الألف ليلية- أولما يسيرعلى منوالها.

          غير أن معنى الدلالة الاجتماعية لا يتطابق أبداً مع المعنى الذي ذهب إليه أصحاب التيار الواقعي الاجتماعي- منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى ستينيات القرن العشرين، وإنما يتجه وجهة الواقعية النقدية: واقعية نقد النسيج الاجتماعي بأسره: البشر ونماذجهم من كل الفئات وعلاقاتهم الإنسانية (العائلية أو العملية... إلخ).

          ولعل هذا هو ما يميز الدراما التلفزيونية الاجتماعية (التاريخية/ أو المعاصرة) في الثمانينيات.

          انتزع هذا النوع (الاجتماعي (أو) والسياسي/ التاريخي أو العصري)، مركز الاهتمام بالتدريج مع توغل الثمانينيات والتسعينيات (رغم أن بوادره لم تنقطع من قبل- فقد عرفت السبعينيات- مثلاً

مسلسلات من نوع: عيلة الدوغري- المأخوذ عن مسرحية نعمان عاشور المشهورة: أو: زينب والعرش المأخوذ عن رواية فتحي غانم المعروفة وغيرهما... ولكن هذا النوع لم يحتل مركز الاهتمام إلا مع انتصاف الثمانينيات وما بعدها).

  • هل يرجع ذلك إلى مجرد ظهور عدد من المؤلفين المتخصصين (أو يكادون) في الدراما التلفزيونية كما يقول بعض النقاد- مثل: أسامة أنور عكاشة وفيصل ندا ومحفوظ عبدالرحمن ووحيد حامد ومحمد جلال عبدالقوى وغيرهم - حتى وصف بعض النقاد أسامة أنور عكاشة بأنه: "نجيب محفوظ الدراما التلفزيونية"، ووصفوا محفوظ عبدالرحمن بأنه: "نعمان عاشور الدراما... " ذاتها؟
  • أم يرجع إلى استجابة "المؤسسة" إلى ميل "المجتمع" إلى أن يتفحص ذاته "القريبة" نسبياً في التاريخ، ولكنها البعيدة بما يكفي لكي يتلقى المجتمع رسالة مضمونها: هكذا كنا، وتلك هي جذور الإشكاليات التي نواجهها الآن، أو: تلك هي أحلامنا الماضية- القريبة وقضايانا، فانظروا كيف تحولت أو حلت أو كيف تحققت أو تحولت إلى كوابيس أو تفككت إلى أحلام- وإشكاليات من نوع جديد؟
  • أم يرجع إلى ميل المؤسسة ذاتها إلى لفت انتباه "العموم"- فئات الطبقة الوسطى وما يقترب منها أي من يتحرك إليها صعوداً أو هبوطاً على السلم الاجتماعي المتقلب المتحرك في كلا الاتجاهين- وتنبيههم إلى زوايا نظر، وحقائق وإشكاليات أكثر واقعية- وإن بدت أنها تعرض على مرآة التاريخ القريب- من إشكاليات إعادة تفسير النصوص أو إشكاليات التفكير في- والعمل على- نقض النسيج الاجتماعي برمّته ومحاولة إعادة نسج خيوطه على "منوال" مختلف (في مرحلة بعينها - مع احتدام الصراع الاجتماعي/ الثقافي والسياسي الأمني ضد الارهاب المتستر بالدين، ضد التعصب والانحلال المقابلين في آن واحد، أن احتل هذا الموضوع: الاجتماعي/ السياسي/ الثقافي الديني- مكان الصدارة- خاصة في الأعوام من 95 إلى 1998- ويمكن أن نتذكر مسلسل العائلة كنموذج لهذا الاتجاه).

          أيّاً كان التفسير، فالراجح- أو: الواضح- أن كلا من: "العموم"- والمجتمع بشكل عام، والمؤسسة، اكتشفوا أن إشكاليات التغير الاجتماعي/ الثقافي/ السياسي والاقتصادي قد بدأت تحتل- أو أنها قد احتلت بالفعل- مقدمة الاهتمام، بعد أن أنضجت سنوات السبعينيات- وربما ما قبلها- كل أطراف النسيج الاجتماعي/ الثقافي المتفاعلة/ المتصارعة/ المتداخلة، والمتحركة معاً نحو مستقبل مفتوح لاحتمالات شتى... من نمو نوع جديد من الرأسمالية الطفيلية، أو نمو "عاهات" خلقية سلوكية جديدة وسط "الشباب" من المخدرات إلى الإرهاب أو التطرف أو الرغبة في الانفلات من أسر واقع مركب لا ينتمون إليه ولا يدركونه: أو تحلل الثقافة القديمة الأصيلة دون تطور واحدة أخرى- أصيلة- تحل محلها... إلخ... (مسلسلات: لن أعيش في جلباب أبي، امرأة من زمن الحب، آرابيسك... إلخ.. إلخ..)، وأن التوصل إلى نوع من التوافق لن ينفع معه لا التجاهل ولا التفريط الا يمنع هذا أن هذه الأطراف كلها واصلت في ساحات أخرى- وأحياناً في ساحة "الشاشة الصغيرة" نفسها ممارسة - عاداتها: رذائلها- وفضائلها- المعتادة وترديد فكاهاتها ورطاناتها وعمق أفكارها "وفوازيرها" والسطحي من تفاهاتها الخفية والظاهرة... إلخ... غير أن هذا كله لا يتسع له المقام الحالي، ولا المجال المتاح الذي بدأ الكلام عمّا يشغلنا هنا أساساً يزيد على هذا المتاح بالفعل).

الوحدة... في الفرجة

          لماذا يتركز "بث" هذا كله، وأفضل ما فيه- من وجهة نظر كل من: المؤسسة والعموم والنقاد- في رمضان؟

          ما علاقة "السهر" الترفيهي/ التثقيفي في رمضان بالفرجة ساعات عدة كل مساء من أماسي الشهر الفضيل- على حكاية العلاقات العائلية/ الطبقية/ بين أسرتي وسلالتي باشا فلاح زراعي وباشا رأسمالي صناعي، وبينهما معاً وبين "الطبقة العاملة" الخاصة بكل منهما ثم بأجيال سلالتيهما اليالي الحلمية في ثلاث دفعات/ لسنوات)... أو بالفرجة على علاقات مشابهة بين فئات- وأجيال- أولاد البلد من التجار والشطار وأشباههم والمتعلمين، رجالاً ونساء عبر ثلاث دفعات/ مستورة أخرى (بوابة الحلواني)... أو استعراض حكاية غزوة التتار ومقاومتها- والصليبيين في السياق- بدءاً من جلال الدين منكبرتي الخوارزمي في وادي السند وسفوح جبال الأفغان، حتى بيبرس وقطز في مصر- مروراً - طبعاً بشيراز إيران وجبال الأكراد وبغداد العراق ودمشق الشام وعالية لبنان... إلخ... إلخ. قيل في تفسير ذلك- عن مسلسل الفرسان- إن جلال الدين كان إسقاطاً يذكرنا بصدام حسين (!!) فبئس التشبيه، وما أبعد المثل عن الممثل به: ما علاقة الميجالومانيا (جنون العظمة) بمجاهد مكافح دافع عن بلاده وملكه وناسه إلى حد الشهادة؟!).

          ماعلاقة تركيز كل ذلك- وما يشبهه كثير بالسهر في رمضان؟

          ربما كانت العلاقة قائمة في الرغبة- الواعية وغير الواعية معاً - الكامنة لدى كل من العموم والمؤسسة معاً - في الاستفادة من "الوقت" المتاح في السهر الطويل، للترفيه والتثقيف، وتأكيد الإحساس بالتلاحم/ الوحدة، والمشاركة معاً في "الفرجة" والاختلاف حول معنى فرجة واحدة ودلالاتها؟!

 

سامي خشبة