نقد الخطاب الديني في رمضان

 نقد الخطاب الديني في رمضان
        

من المؤكد أن لرمضان نكهة خاصة في وسائل الإعلام،ولكن هل استطاع الخطاب الديني في هذه الوسائل إعطاء الشهر حقه ؟

           يشمل النقد الجانب الإيجابي والجانب السلبي معاً، وإن كان الأمر يميل إلى الجانب السلبي، وليس في هذا خروج عن قواعد النقد ولا عن مفهومه بقدر ما فيه وصف للواقع وآثاره الواقعية على المخاطبين (بفتح الطاء). ونقصد بالخطاب الديني ذلك التوجه بالكلام المسموع والمرئي والمقروء في الإذاعة والتلفزيون والصحافة العربية، ونقصد بالديني هنا ما كان متعلقاً بدين الإسلام خاصة.

          تمثل الصحافة المقروءة جزءا من الإعلام المؤثر، وفي رمضان تفرد معظم الصحف صفحة أو أكثر للكلام حول الدين، والموضوعات التي تثار فيها غالباً ما تكون حكاية تاريخية مما يصور الدين في أذهان الناس على أنه تراث ماض، وأن الدين جزء منفصل بذاته عن سير الحياة، وأن الحضارة الإسلامية عمل ماض قد توقف.

          إن أمثلة الموضوعات المثارة والمكتوب عنها تتمثل في حياة الصحابة أو الخلفاء الراشدين أو في تراجم العلماء الماضين من السلف الصالح، أو حتى القيادات السياسية والعسكرية، فنذكر صلاح الدين وعين جالوت وأفكار ابن خلدون دون النظر إلى استمرار تلك الحضارة أو كيفية إعادة قيادتها، أو محاولة إدراك الواقع وإيجاد آليات إدراكه بالدقة المرادة والتشوف إليها لدى جميع المسلمين: مفكريهم وعلمائهم، عامهم وخاصهم، لا نجد في الصحافة خلال شهر رمضان كلاما حول الأزمة الفكرية في العالم الإسلامي، لا في أسبابها ولا في عناصرها ولا في كيفية حلها، ولا نتكلم عن كيفية إدراك النص الشرعي من خلال مشكلات العصر والرؤية الكلية لقضايا المسلمين على مستوى أمة الدعوة (كل العالم) أو أمة الإجابة (المسلمين خاصة) وفي ظل المتغيرات الكونية التي أصبحت الأرض معها كقرية واحدة، هذه الحالة تكون مخاطباً من نوع معين له إدراك محدد عن الدين، وهذا النوع يرى تلك المكونات التي أشرنا إليها من مكون الدين تراث ماض، وأنه منفصل عن باقي جوانب الحياة، وأن الحضارة قد توقفت مثل هذه النفسية والعقلية تجعل الشخصية المسلمة قابلة للانبهار بالآخر، عاجزة عن الإبداع، شاعرة بعدم الثقة بالنفس، وما يترتب على كل ذلك من تداعيات تصل بالمتلقي إلى فصام يبن العقيدة التي تستقر في الوجدان من قراءة القرآن ومن التعليم الأكاديمي الديني ومن الدعوة من على المنابر وفي المساجد، وبين النظام الذي يعيشه قارئ الصحيفة والرؤية التي تستقر عنده من جراء الصفحة الدينية.

          وبشكل عام يمكننا القول إن الصفحات الدينية في رمضان تتميز بعدة خصائص هي:

          - فتاوى وأحكام وتكون موضوعاتها حول الطلاق وأحكام الزواج والميراث، وقليلاً من أحكام البيوع، وكثيراً من أحكام العبادات، دون الكلام عن النظم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو نظام القضاء (إلا من الناحية التاريخية) ونظام الأمن والصحة والتعليم ونحوها.

          - موضوعات العبادة والأخلاق والتزكية وإذا ما تعرض الكاتب للموضوعات المثارة، فإنه يتعرض لها بصورة جزئية مثل موضوع المرأة أو البيئة أو الطفولة أو التكافل الاجتماعي، وليس بصورة كلية أو بصورة مؤسسية، أو لوضع وصياغة مبادئ يمكن بها مواجهة الحياة وإدراك واقعها والتعامل معها بناء على العقيدة الدينية.

          - أخبار حول أحداث واقعة أو مؤتمرات ولقاءات وهي عادة ما تكون منحازة بحسب الصحيفة وتوجهاتها السياسية ومدى حرية النشر في البلاد التي تصدر بها، سواء أكانت حرية نشر الأفكار أو نشر الأخبار والوقائع.

          - خدمات حول نشر عرض الكتب ونحوها وهذه الخدمات لم تصل في شهر رمضان إلى مستواها للدلالة على مثيلاتها في الصحافة السيارة، وهي مازالت باهتة ولم تأخذ مكانها المرجو لها.

          وعلى الرغم من هذه الحالة، فإن الجرعة التي تشتمل عليها تلك الصحف في صفحاتها الدينية اليومية ينتظرها الناس كل عام، وعلى الرغم من سطحية المعلومات المعروضة وإعادة نشر أحداث تاريخية مكررة، إلا أنها ساهمت كثيراً في تعليم الناس بعض أمور دينهم، وهذا القدر البسيط السطحي المنحصر في مجال معين يبقي الدين في ذاكرة الناس في عصر خلا فيه الإسلام، بل وكثير من مناهج التعليم من التوجه الديني، حتى شاع الجهل، حتى بالأحكام التي كانت معلومة في السابق من الدين بالضرورة.

          وتقوم وسيلة الإعلام الثانية- الإذاعة- في رمضان ببث العديد من البرامج والمسلسلات والخدمات.

          أما البرامج الدينية في الإذاعات التي لم تخصص لإذاعة القرآن الكريم- فتمثل مالا يزيد على نصف ساعة في اليوم من 24 ساعة، وفي رمضان تزاد هذه المدة إلى ساعتين أو ساعتين ونصف في عموم المحطات، وينحصر موضوع البرامج في الموعظة الحسنة، وكثيراً ما تقوم الإذاعة باستعمال التسجيلات التي في جعبتها للعلماء الراحلين، وهذا يوضح نظرة متخذي القرار في تلك الإذاعات لمفهوم الدين، كما يبين أزمة الابتكار في أسلوب الخطاب، وأزمة إدراك آليات التعامل مع الواقع المتغير.

          أما المسلسلات، فإنها تكرّس توقف الحضارة بحديثها عن الماضي بأمجاده دون الكلام عن الحاضر ولا مشكلاته ولاكيفية التعايش معه، ولا إلقاء الضوء على المبدعين والمفكرين والقادة في عصرنا الحاضر كأمثلة وآسوة حسنة، تشعر السامع بأن الخير باق وأن تطبيق مبادئ الإسلام ورؤيته ممكنة، وأن العالم يحتاج إليها، وأن لدينا شيئاً يخرج الناسك من مشكلاتها التي يعيشونها.

          كما أن لغة هذه المسلسلات تنحصر في لهجة عربية غريبة، لا أظنها كانت موجودة عبر التاريخ، حيث يأمر المخرج المؤدين بنبر في الكلمة أو الجملة تجعل اللغة غاية في السذاجة واستحقاق السخرية منها.

          وتبقى الخدمات التي تقدمها الإذاعة في شهر رمضان كالآذان ونقل الصلوات وإذاعة القرآن، فمن المؤكد أنها تعطي جوّاً لشهر رمضان يجعله متميّزاً عن باقي الشهور، وهذا في حد ذاته يروق لعموم الناس، ويلبي ما تعوّدوا عليه من ذكريات، وما شبّوا عليه من تمتع بمثل ذلك الجو الثقافي أكثر منه دينياً.

          ومع هذا الخطاب نفسه، يكثر وجود المسلسلات غير الدينية أو التاريخية- المعتادة التي تسلي الصائم بالليل والنهار، والتي سنتكلم عنها في التلفزيون الذي أصبح أكثر تشويقاً وانتشاراً من المذياع.

سلطة التلفزيون

          مما لاشك فيه أن التلفزيون أصبح سلطة كسلطة المعرفة أو سلطة العسكر، والتلفزيون- وما يقدمه من خطاب ديني في شهر رمضان- نراه ينطلق من أفكار عدة حول هذا الشهر الكريم لدى كل من يشارك في خروج ما يقدم حتى يصل إلى عموم الناس.

          ومشكلة تلك الأفكار أنها تتعامل مع الصيام على أنه عادة أكثر منه عبادة، وأنه عبادة مؤقتة، وأن الصيام حرمان، وبالتالي يستلزم هذا احرمان مساعدة الصائم على قطع الوقت تحت شعار (سلي صيامك).

          وأخيراً إن الصيام- بما أنه حرمان- لابد بعده ترفيه يعوّض ما كان في النهار، وأنه من العدل- عندهما - أن يعقب الحرمان ذلك النوع من الترفيه الذي يقدم بكل صورة.

          هذه الأفكار تنطلق من حالة معرفية يعيشها أولئك الناس ابتداء من المنفذ إلى المخرج، والممثل ومقدم البرنامج، وانتهاء بمتخذ القرار وواضع السياسة لمحطة التلفزيون المرئية مروراً، بالكاتب والسينارست، بل والمفكر والمعد.

          وهذه الحالة المعرفية تتميز بأمرين:

          أنها شائعة (وهذه حرية النموذج المعرفي)، وأنها مسيطرة (بحيث يصبح إدراكها مفسراً لكل ما يصدر عن الإعلام عامة والتلفزيون خاصة).

          وهذا النموذج المعرفي يقرر ويؤمن بالنسبية المطلقة، فيصبح الدين أحد الخيارات، وليس هو بحثاً عن الحق وتحصيلاً للحقيقة، وهذه الحالة يترتب عليها عدم جواز ادّعاء انحصار الحقيقة لدى الإسلام، ولا يحق لأحد أن يزعم استئثاره بالحقيقة.

          ويؤمن هذا النموذج بأن الحرية- وليس الالتزام- أصل التعامل بين الناس أو الكون، مما يترتب عليه اختلال في مفهوم الحرية وعدم وضع فاصل فلسفي بين الحرية والتفلت، ويؤدي إلى اختلال مفهوم الحرية أيضاً كما هو وارد في الإسلام، بجعل ذلك المفهوم هو مفهوم Freedom، ويرى ذلك النموذج أن الإنسان جزء من الكون، بما يسمح معه إدخاله تحت التجارب، كأي جزء من الكون، وأن الطرق الأمبريقية تصلح في التعامل معه، في حين يرى الإسلام أن الإنسان مكرم فريد لا تصلح معه هذه النماذج، وإن حسنت مع الجماد أو النبات أو الحيوان على أكثر تقدير.

          ويرى هذا النموذج أن الإنسان سيد للكون، وليس سيداً في الكون، مما يترتب عليه أن هناك صراعاً بين الإنسان والكون، وبين الرجل والمرأة، وبين القوي والضعيف، وأن الاختيار والانتخاب الطبيعي يقتضي غلبة الأصلح على البقاء، مما يؤكد ثانوية القيم والمبادئ، وأنها تأتي بعد هذه السنن التي لا تتخلف، وهي نظرة غربية حادة للكون والإنسان والحياة، تعارض تماماً كل ما يتعلمه المسلم من القرآن أو الأكاديميات المعاصرة الدينية أو الدعوة الرسمية أو الشعبية حول هذه النظرة.

بنية وبيئة

          ومكونات النموذج المعرفي الشائع والمسيطر على متخذي القرار وسلسلة التنفيذ يجعل الخطاب الديني الإعلامي- خاصة التلفزيون- يسبب أزمة الرفض وعدم التفاعل بين المتلقي وبين الجهاز، ويسبب أيضاً ضائقة بين الحيرة وعدم الرضا، تتسع حتى تصل إلى ضلال الإرهاب والعنف غير المبرر، وتضيق حتى يفقد الملتزم بدينه وغيره توازنه وقدرته على الابتكار والإبداع، ويظل النقد من خلال هذه الطاحونة والدوار الرهيب مستمراً من كل الطوائف للخطاب الديني في بنيته وبيئته.

          أما البيئة، فها نحن تكلمنا عن النموذج المعرفي، ونتكلم أيضاً عن شكل التنفيذ ووضع برنامج الشهر وبرنامج اليوم وأسلوب الأداء، وكلها تصل بنا إلى أصول تلك الأفكار التي أشرنا إليها من ناحية، وإلى النموذج الذي تحدثنا عنه من ناحية أخرى، فلا ننس الفوازير والرقص الخليع والأفلام... إلخ.

          أما البنية، فإن ما يقدم من خطاب ديني في التلفزيون يتمثل في:

          المسلسلات الدينية والتي توقف الإسلام على عصور بعينها، مع سذاجة العرض وفساد المضمون في الأغلب الأعم، مع وضع هذه المسلسلات- خاصة- في أوقات لا تسمح بسهولة رؤيتها (منتصف الليل، عند صلاة التراويح).

          والبرامج الدينية- وهي لا تزيد على نصف ساعة يومياً في المعتاد، تزاد إلى ساعتين كشأن الإذاعة كما ذكرنا، مع سطحية البرامج وانحصارها في الفتاوى أو بعض الموضوعات، وهي العبادات أو المواعظ أو عرض الكتب.

          أما الأخبار، فلا تختص بها سوى المحطات التي تخصصت في الإسلاميات، وهي ليست موضوع مقالنا هذا، ثم الخدمات مثل الأذان ونقل الصلاة والإعلانات، وهي تحدث ذلك الجو الرمضاني الذي يجعل الشهر مفضلاً ومحبوباً في نوره.

          هذه الصورة هي التي أشرنا إليها أولاً، بأن النقد وإن كان ذكر الإيجاب والسلب، إلا أننا نجد السلب ظاهراً إذا ما قوّمنا الخطاب الديني من خلال معيار الشرع الإسلامي، والمفاهيم الإسلامية التي تستفاد من القرآن والسنة وإجماع الأمة، فيما يمثل هوية الإسلام ورؤيته الكلية للإنسان والكون والحياة وما قبل ذلك وما بعد ذلك.

          أما إذا تكلمنا عن الناحية الفنية لكل ما مر، فإنه يظهر جلياً التخلف الفني والتكنولوجي، وتخلف أساليب العرض والتشويق في كل جزئيات الخطاب الديني، بصورة لا تصح معها المقارنة ولا يتردد فيها أحد، لا من القائمين عليها ولا من المنتقدين لها حتى خارج المعيار الإسلامي، ويتمثل ذلك في تخلف الديكورات وأجهزة التصوير وإمكانات الإخراج والإعداد والتقييم، مما يحتاج إلى كتب منفصلة للحالة المخزية التي عليها أداء الخطاب الديني في المنطقة العربية، والتي يعود بعضها إلى قلة الإمكانات الفعلية، وبعضها إلى مرتبة الخطاب الديني من الخطاب الإعلامي، وبعضها إلى النموذج المعرفي والقرار المسبق الصادر عنه.

 

علي جمعة