خيار شمشون

 خيار شمشون
        

  حدثان مهمان في تاريخ الصهيونية، تركا جروحاً عميقة لم تندمل رغم مضي آلاف السنين، اشتركا في المقدمات واتفقا في النتائج، الانتحار المأساوي هو القاسم المشترك بينهما، سكان الماسادا وشمشون، بدايتهما واحدة: عنف دموي ضد الجيران ونهايتهما واحدة: الانتحارعند الفشل في مواجهتهم.

          تسلل الحدثان إلى الأزمنة الحديثة وملكا الوجدان الصهيوني وسيطرا على عقله... كيف ومتى؟؟

          كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها، وأمريكا قد استخدمت لتوّها السلاح النووي وحسمت به الحرب لمصلحتها ونشطت كل الدول التي عانت ويلات الحرب وسارعت في محاولة لامتلاك هذا السلاح الجديد الرهيب.

          انضم بن جوريون إلى هذا السعي الحثيث وراح يبحث هو الآخر في إصرار عن السلاح النووي، لماذا وهو لا يواجه قوة كالجيش الياباني أو الجيشر الألماني؟ إنه هاجس الأمن الذي ظل يؤرقه وانتقل إلى خلفائه، ليس فقط من الجيران وإنما أيضاً من الذات، فالشعوب اليهودية التي جاءت من أعراق شتى من مختلف بقاع العالم، لتستوطن رقعة محدودة من الأرض يحيط بها الأعداء من كل جانب، لا يجمعهم شيء سوى حلم غامض بتفريغ الأرض واقتلاع سكانها على طريقة الهنود الحمر وإقامة مجتمع طوباوي يعيش على أسنة الرماح، هذه الشعوب إذا فشلت في تحقيق حلمها فستنكفئ على ذاتها لتتصارع فيما بينها، ثم تذبح بعضها تأسيّاً واستدعاء لأبطال من الأساطير مازالوا يمتلكون الوجدان (!) ولذلك لابد من تزويدهم بقوة مدمرة تكون رادعا لهم وللاخرين.

تعددت الاشباب

          وتجمعت مصالح أطراف عدة حول هذاً الهدف...
          - أوربا التي رأت في إسرائيل حلا أمثل لمشكلة اليهود التي أقلقتها طويلاً، فلأسباب دينية واقتصادية وعنصرية كرهت أوربا اليهود وحاولت التخلص منهم عبر سلسلة من المذابح، في إسبانيا بعد سقوط الحكم الإسلامي، وفي روسيا القيصرية، وفي إنجلترا وأخيراً في ألمانيا النازية، ولم تفلح أي منها في إبادتهم، وهاهم يخرجون طوعاً إلى ما يسمى أرض الميعاد، ولابد من تزويدهم بقوة مدمّرة تحول دون هزيمتهم، لأن ذلك معناه عودتهم وعودة الكابوس المزمن.

          - أمريكا التي أزعجها نمو الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الإيطالي، كانت تبحث عن عميل في الشرق الأوسط يمنع اقتراب الشيوعية من آبار النفط، ولم تكن تستطيع الدخول بنفسها، فالمنطقة بأسرها تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي، وكانت تنظرا في ريبة إلى الاتحادي السوفييتي الذي سارع بالاعتراف بإسرائيل بعد دقائق من قيامها، خاصة وأن هناك خطوطاً للتماس بين الحكم العمالي في إسرائيل والفكر الشيوعي، وجدت أمريكا في إسرائيل القوية المرتبطة بهاعاملا مساعدا على تحقيق أهدافها.

          - أثرياء اليهود في العالم الذين رأوا في المشروع الصهيوني جانبه الاقتصادي، فهو استيطان لنقطة أرتكاز في أغنى منطقة في العالم ويمكن أن يدر أرباحا طائلة، ولابأس من استئجار بعض الأجراء أليهود والتكفل بمصاريفهم ومساعدتهم على امتلاك قوة مدفرة تحارب نيابة عنهم وتحقق لهم الثراء ولاتقتضي منهم التضحية بالنفس، ولن يضير أن تلوك الألسن بعض العبارات التي تلهب الأسماع مثل، الوعد الإلهي، إنقاذ اليهود، الوطن القومي.

          وهكذا التقت المصالح وإن تعددت الأسباب.

الذى رأى المصباح!

          أبو القنبلة النووية الإسرائيلية، آرنست ديفيد برجمان، شخصية غامضة، لم يعرف عنه شيء إلا بعد وفاته، ابن حاخام، ألماني الأصل، عالم في الكيمياء العضوية، قال عنه بن جوريون إنه رجل يرى المصباح ويعرف كيف يضيئه، بدأت علاقته بإسرائيل في الثلاثينيات عندما قدمه حاييم وايزمان لعصابات الهاجاناه ليصنع لهم متفجرات شديدة التأثير ليقتلوا بها العرب، حقق نجاحاً باهرا في عمله ساعده على تولي رئاسة معهد وايزمان للعلوم جنوب تل أبيب.

          التقت أفكاره مع بن جوريون في ضرورة امتلاك السلاح النووي، وكان ذلك سنة 1947، وقدم له بن جوريون شاباً في العشرينيات من عمره، سوف يلعب دوراً هائلاً في هذا المجال، وهو شيمون بيريز، نجح الثلاثة في إقامة شبكة بالغة السرية على مستويين.

          الأول.. مع الباحثين أو العلماء اليهود العاملين في مختلف مراكز  والأبحاث النووية من الاتحاد السوفييتي شرقاً، وحتى أمريكا وكندا غرباً، مروراً بإنجلترا وفرنسا والنرويج والدنمارك وغيرها، كان أخطرها مع أوبنهيمر أبي القنبلة النووية الأمريكية في مركز الأبحاث النووي في لوس ألاموس Los Alamos بأمريكا وعالم الرياضيات أينشتين، لكن أهم هذه العلاقات كان مع مركز الأبحاث النووي الفرنسي في ساكلاي Saclay وماركول Marcoule والذي سيكون له دور أساسي في صنع القنبلة النووية الإسرائيلية اعتباراً من سنة 1949.

          أما المستوى الثاني للشبكة، فكان مع أثرياء اليهود في أنحاء العالم لضمان التمويل اللازم للمشروع.

          قبل أن ينسحب بن جوريون من الحياة العامة إلى منفاه الاختياري في سد بوكر سنة 1953 عيّن تلميذه النجيب بيريز مديراً لوزارة الدفاع، وعندما عاد بن جوريون إلى وزارة الدفاع في منتصف الخمسينيات كان البرنامج النووي قد خطا خطوات هائلة على أيدي بيريز وبرجمان، وهو ما دعا أمريكا للسؤال عنه، فأجاب بن جوريون: إنه للأغراض السلمية، لكن برجمان علّق وقتها "ليست هناك طاقتان نوويتان إحداهما للسلم والأخرى للحرب، إنها طاقة واحدة"، وتغاضت أمريكا عامدة عن هذه الإجابة الملتوية.

مفاعل ومفارقات

          كان العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 علامة فارقة، فقد علقت دول العدوان آمالاً عريضة عليه، لكنه فشل فشلاً ذريعاً، وجاء الإنذار السوفييتي بضرب العواصم الثلاث مفاجأة للجميع، تصوّر الرئيس الفرنسي جي موليه أن أمريكا ستتدخل لحماية عواصم حلفائها، لكن ذلك لم يحدث، كان لأمريكا حساباتها الخاصة، فقد رأت في العدوان الثلاثي آخر مسمار يدق في نعش الاستعمار الفرنسي والبريطاني في المنطقة، وعليها أن تستعد لتحل محلهما.

          خرج جي موليه من هذه التجربة بضرورة أن يكون لفرنسا قنبلتها النووية، وانتهز بن جوريون الفرصة وطلب منه أن تبني فرنسا مفاعل ديمونه في بير سبع في صحراء النقب، ووافق جي موليه استمراراً لسياسة العقاب التي فرضها على مصر لدعمها ثوار الجزائر

          كانت تكلفة المفاعل تقترب من مائة مليون دولار، ولم تكن ميزانية إسرائيل وقتها تتحمل هذا المبلغ الكبير، وكانت إحدى نجاحات بيريز أنه استطاع جمع المبلغ من أثرياء اليهود دون أن تتحمل إسرائيل شيئا منه.

          حول هذا المفاعل عدد من المفارقات لابد من تسجيلها.

          - جزء كبير من المفاعل بني تحت الأرض، الأعمال الشاقة فيه، الحفر والبناء، قام بها اليهود الشرقيون وخصوصا المغاربة والجزائريين لإتقانهم الفرنسية، أما الأعمال الإدارية والفنية فقد أسندت إلى اليهود الغربيين والفنيين الفرنسيين، وقد كتب أحد هؤلاء العمال اليهود الشرقيين أخيراً أنهم عوملوا كالعبيد، وفور انتهاء عملهم أبعدوا عن المفاعل ولم يسمح لهم بالاقتراب منه بعد ذلك.

          - سنة 1980 الشركات الفرنسية نفسها التي بنت مفاعل ديمونة ذهبت إلى العراق لبناء مفاعل "أوزيراك" واستعانت بالفنيين الفرنسيين أنفسهم، ومعهم عدد من الإسرائيليين الذين يحملون الجنسية المزدوجة، الإسرائيلية والفرنسية، ولذلك كان من السهل تدميره بعد أن دفع العراق تكلفته (!!).

عاش فى الطلام

          تولى برجمان رئاسة المفاعل، ونجح مع بيريز في إغراء عدد كبير من العلماء اليهود من دول عدة بالهجرة إلى إسرائيل، كان أغلبهم من أمريكا وفرنسا، وفيما بعد من الاتحاد السوفييتي، وقدم الجميع خبراتهم للمفاعل الناشئ، وتطور التعاون مع المراكز النووية الفرنسية إلى آفاق بعيدة، وهنا استطاع بيريز تحقيق نجاح آخر، حيث نص استطاع توفيراليورانيوم والماء الثقيل للمفاعل عبر سلسلة من العمليات الملتوية.

          وسنة 1960 نجحت فرنسا وإسرائيل في إجراء أول تجربة نووية في المحيط الهادي، بعدها انطلق التعاون بينهما إلى أن أوقفه ديجول بعد حرب 1967، فانتقلت إسرائيل بتعاونها النووي إلى الهند وجنوب إفريقيا.

          وعندما مات برجمان، كان لدى إسرائيل من 250 إلى 300 رأس نووي، وعند ما سألوا بيريز- بعد وفاته - عنه، أجاب باقتضاب: إنه واحد من ثلاثة لهم الفضل في إنشاء إسرائيل، والآخران هما حاييم وايزمان وبن جوريون، ورفض الدخول في أي تفاصيل، وعندما ألحّوا عليه، قال: ربما بعد مائة عام يمكن الحديث بالتفصيل عن دور برجمان في إنشاء إسرائيل وبقائها.

          وهنا يجب التوقف قليلاً عند شخصية بيريز، والتي يلفت النظر فيها أمران:

          - أنه قضى معظم سني حياته في العمل السري يعمل تحت رئاسة آخر، في البداية بن جوريون بعد ذلك رابين، وحقق في هذا المجال نجاحات كبيرة، منها البرنامج النووي الإسرائيلي واتفاق سيفر بفرنسا الذي وضعت فيه خطة العدوان الثلاثي على مصر، ثم علاقاته السرية ببعض العرب التي دفعتهم للهرولة نحو إسرائيل لنيل بركاتها، لكنه عندما انتقل إلى العمل المعلن وأصبح المسئول الأول فشل فشلاً ذريعاً وأسقطه الناخبون الاسرائيليون مرتين، على الرغم من أنه في المرة الأخيرة قدم لهم قربانا من دم أكثر من مائة بريء في قانا، وهو نموذج لمن عاش طويلا في الظلام ففقد القدرة على الرؤية في وضح النهار.

          - على الرغم من أنه أحد الذين زرعوا العنف في- الشرق الأوسط، فإنه عندما تقدم به العمر راح يدعو للسلام ويبشر بمجتمع شرق أوسطي يسوده الحب والتعاون، فهل هي إحدى ألاعيب الظلام التي يجيدها؟ أم أنه في أخريات أيامه قرر أن يغسل يديه من دم الأبرياء الذين قتلهم طيلة مسيرة حياته؟

          إنه شخصية تراجيدية، تستحق الدراسة، لرجل مراوغ رائحة الدم تفوح منه ويحاول إخفاءها، ارتكب مذبحة قانا في الوقت نفسه الذي يدعو فيه للسلام والود والتعاون في مجتمع شرق أوسطي.

المعبد الثالث

          يحلو لبعض الكتاب الغربيين أن يطلقوا على إسرائيل مسمى المعبد الثالث، باعتبار أن المعبدالأول (أول دولة يهودية) دمّره البابليون سنة 537 ق. م والمعبد الثاني (الدولة الثانية) دمّره الرومان سنة 70 م، واستخدام لفظ المعبد رمزاً للدولة هي إشارة خفية لمعبد شمشون، والمعروف أن تدمير هذه المعابد كان نتيجة صلف سكانها واعتداءاتهم المتكررة على جيرانهم، ويرى البعض في الغرب أن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي هو الحلقة الأخيرة في حياة المعبد الثالث.

          لعل بن جوريون كان يعلم في قرارة نفسه أنه سيأتي يوم يحكم إسرائيل فيه أحمق يفتن بشخصية جده شمشون ويتتبع خطاه ويسير على هديه ويصيح صيحته "علي وعلى أعدائي"، وساعتها سيكون أعداؤه هم رفاقه من سكنة المعبد، وهذا هو هاجس الأمن الذي ظل يؤرقه- بن جوريون- ومات محسوراً بسببه، فقد أدرك بعد فوات الأوان أنه بنى معبداً عناصر ضعفه أكبر من مصادر قوته، ففي الانتخابات الأخيرة في إسرائيل تصارع فيها أكثر من ثلاثة وثلاثين حزبا لشعب تعداده أربعة ملايين ونصف المليون، وهي أرقام لا مثيل لها في أنحاء العالم.

          من جانبنا، علينا أن نتوقع أن يخرج من بين هذه الأحزاب المتصارعة ذلك الأحمق، يلوح لناخبيه أنه قادر على تحقيق الحلم ويحاول أن يعالج هذا التفتت، فلا يجد أمامه سوى الصهيونية، فهي التي وضعت مبدأ استدعاء الميثولوجيا الخام والأساطير الغابرة، وأسست عليها دولة (معبد) يتيه فيه صلفا وغروراً أصحاب الرؤى التوراتية.

          ما يهمنا في هذه الإشكالية هو أن نعمل على ألا يطالنا شيء من غبار هدم المعبد.

 

حسين حامد