الإسلام والانتماء العربي
الإسلام والانتماء العربي
تساوقت الدعوة إلى الأمة مع ظهور السلطة السياسية للجماعة الناشئة بالمدينة بعد هجرة الرسول إليها في العام 622 م. وكانت دراسات المائة عام الأخيرة قد ركزت كثيرا على استعداد العرب وتهيُّئهم عشية بزوغ الإسلام للتوحد, والخروج من إسار وعزلة فارس والروم. بيد أن هذا الوعي المدعى لا يظهر بجلاء في سنوات الإسلام الأولى بدليل المقاومة العنيفة التي لقيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) لاستيعاب العصبيات القبلية والمحلية, وبناء وعي جمعي اجتماعي وسياسي تؤطره الجماعة الواحدة, ويكون الدين الواحد مرجعية عليا له. هذا الوعي بالتباساته وظلاله, ووجوه تفاوتاته ونقائضه في البطون والشعب والحمائل والقبائل والنواحي واللهجات ـ هو ما أطلق عليه القرآن اسم الأمة, التي أرادها أن تكون أمة واحدة, تعبد ربا واحدا. وكانت فكرة الأمة هي الإسهام الأهم الذي جاء به الإسلام للعرب: وعيا بالذات وللذات, وانشدادا إلى مرجعية عليا, وضما للصف تحت راية جامعة. فكرة الأمة هذه ظل القرآن يعمل عليها, وظل الرسول (صلى الله عليه وسلم) يمارسها, وينظّر لها سنوات عدة بحيث تعني الوحدة في مواجهة الفرقة, والجماعة في مواجهة الفتنة, والتآخي في مواجهة التشرذم, والقلة المتضامنة في مواجهة الكثرة الباغية. وما اكتفى القرآن والنبي باشتراع الأمة, والتنظير لوحدتها, وممارسة ذلك, بل جرى اشتراع تنظيمات لها اجتماعية وسياسية. ففي المجال الاجتماعي كانت هناك فرضية الهجرة إلى المدينة, من أجل تكوين جماعة دينية وسياسية تجمعها بقعة واحدة, وتصدر عن توجيه واحد:إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله, والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض. والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا..(الأنفال:72). كانت الجماعة الإسلامية الوحيدة في نظر القرآن والنبي (صلى الله عليه وسلم) حتى فتح مكة في المدينة فقط. وكان على أولئك الذين يزعمون أنهم مسلمون الالتحاق بالمركز, بالمدينة, بدار الهجرة, التي يواجهها مصطلح التعرب ـ والالتحاق بالمدينة, بدار الإسلام, التي تواجهها (دار الشرك) حتى إذا فتحت مكة قيل إن هذه الفرضية سقطت. ذلك أن الهجرة التي اعتبرت مقوما أساسيا من مقومات الجماعة عندما كانت دار الإسلام محصورة بالمدينة, لم تعد كذلك عندما انكمشت دار الكفر على أرض الجزيرة, فصار من الضروري أن تتحول الهجرة إلى الخارج في صورة جهاد من أجل تحقيق الأمة الجامعة, ومن هنا قوله صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح, ولكن جهاد ونية ـ وقوله: لا هجرة اليوم. ومع تغير مفهوم الهجرة لتغير ظروف الجماعة جاء الأمر النبوي الآخر على المستوى الاجتماعي والاجتماعي/ السياسي بتحريم التحالفات داخل الأمة أو النهي عنها: (لا حلف في الإسلام, وأي حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة). والمعروف أن النبي (صلى الله عليه وسلم) شهد أحلافا بين بني قومه في الجاهلية, وكان شديد الاعتزاز ببعضها, لكن عندما قامت الجماعة العربية الإسلامية الواحدة ما عادت للأحلاف وظيفتها أو أن تلك الوظيفة لم تعد ممكنة. فالقبائل العربية المتصارعة في الجاهلية كانت تعقد أحلافا فيما بينها لدعم بعضها في وجه البعض الآخر ـ أما في الإسلام فإن ذلك ينافي التضامن العام داخل الأمة. وكان لابد أن تكون لهذا التنظيم الأخلاقي, والاجتماعي, والاجتماعي/السياسي تجلياته السياسية البحتة التي تحول جماعة المؤمنين إلى جماعة سياسية تشكل في وجه من وجوه تجليها نظاما للجماعة البازغة, فكان كتاب النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي يسميه الباحثون المحدثون (دستور المدينة), وأطراف التعاقد فيه: المؤمنون والمسلمون من قريش وأهل يثرب, ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم ـ إذ يعلنون أنهم: (أمة واحدة من دون الناس), لعلاقاتها الداخلية نظام معين نُص عليه في بعض بنود الكتاب, كما أن سلمها واحد وحربها واحدة كما هو واضح في الكتاب أيضا, والسيادة في الجماعة الجديدة لتعاقدها وأعرافها التي اصطلحت عليها في إعلانها, وضامن هذا الإعلان ورئيسه محمد النبي (صلى الله عليه وسلم) كما تذكر تلك الوثيقة الخطيرة التي تحدد طبيعة النظام السياسي بأنه تعاقدي, وتبقيه مفتوحا تبعا للمعنى الاستيعابي للأمة عندما تقول (ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم..). فإذا تذكرنا بعد هذا كله أن مصطلحات الأمة والجماعة والهجرة والنصرة والحلف والكتاب والأمان والجماعة والفتنة.. إلخ كلها مصطلحات عربية قديمة جرى أخذها كما هي أو جرى تحويلها وإضفاء معان جديدة عليها, وإذا تذكرنا أن الجماعة الأولى هذه أو أمة الإجابة هذه هي أمة عربية, أدركنا الدور التأسيسي للإسلام في العروبة وانتماءاتها وأنساقها الثقافية والسياسية, البعيدة الغور, والمتغلغلة في أعماق التاريخ, وحنايا النفس العربية. فقد نشر الإسلام وعيا جمع من حوله العرب, مشكلا تنظيمات جديدة باعتبارها تجليات لهذا الوعي, وفاتحا آفاقا جديدة لرؤية الذات والعالم والعلائق بينهما, ومعطيا للوجود العربي معاني جديدة, وأهدافا جديدة تتصل بالمسئولية عن الدين, وعن الأمة, وتجاه بني البشر:وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون(الزخرف:44) الفئات الأربع يقول عبدالله بن عباس (ـ68هـ): "لقد ترك النبي الناس يوم توفي على أربع منازل, مؤمن مهاجر, والأنصار, وأعرابي مؤمن لم يهاجر.. والرابع, التابعون بإحسان". وعلى الفئات الثلاث الأولى يتوقف وجود التابعين بإحسان. فالأولون هم أمة الإجابة, والذين يحتمل أن يتبعوا الدين الجديد هم أمة الدعوة, وهم الذين ذكر القرآن أن العرب مسئولون عنهم. وكان القرآن قد رأى أن البشرية تنقسم من حيث التنظيم الاجتماعي إلى قسمين كبيرين: الشعوب والقبائل فقال:يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات: 13). وقد اختلف المفسرون في فهم المقصود من الشعوب, ثم ارتأى أكثرهم أنهم غير العرب من غير المنظمين قبليا. فالآية ترى أن علاقات التعارف والتواد والتساند والتراحم ينبغي أن تسود بين سائر أبناء البشرية المكونة من قبائل وشعوب. وقد كان العرب في القرن السابع الميلادي من بين سائر أصحاب الديانات والعقائد الأقوى إحساسا بضرورات الدعوة للتعارف. وفضلا عن هذا الوعي, فقد كانوا يملكون بيئة سياسية مرنة ورحبة في مفهوم الأمة المتجلي في دولة المدينة التي صارت إمارة للمؤمنين, وخلافة للرسول (صلى الله عليه وسلم) ـ ومعنى هذا أنهم كانوا يملكون الوعي والإرادة والأداة القادرة على التصرف بمقتضى الوعي والإرادة, فكانت الفتوحات التي عنت اتجاها لفتح آفاق الأمة للشعوب, واستيعاب تلك الشعوب داخل الأمة بحيث أدى ذلك إلى قيام جدلية تاريخية زاخرة تغيرت بمقتضاها تلك الشعوب, لكنها بدورها غيرت الأمة أو غيرت من معناها ليس بالمعنى الإثني وحسب, بل وبالمعنى الثقافي/السياسي أيضا. التمايز الاجتماعي لكن التمايز بين المفهوم الدعوي للأمة من جهة, والمفهومين الاجتماعي والسياسي من جهة ثانية, عاد للظهور في مسألة الموالي, والعرب. فقد أرغم الأعاجم الذين أقبلوا على الإسلام على الدخول في علاقات ولاء وتبعية مع إحدى القبائل العربية. فأنتج ذلك حساسيات ما أمكن إخفاؤها طويلا, إذ عبر عنها الشعراء في منتصف العصر الأموي, وبلغت درجة الأزمة أيام عمر بن عبد العزيز (99ـ101هـ). ولقد عنى ذلك أمورا اجتماعية وسياسية واقتصادية, بيد أن الأمرين الاجتماعي والسياسي كانا الأهم لارتباط كل منهما بالآخر. إذ الواضح أن التمايز الاجتماعي ما كان ذا أصل ديني, بل هو من مواريث العادات والأعراف العربية, وله نتائج سياسية, فقد كان معنى ذلك انفراد العرب بالسلطة السياسية باسم الدين ـ فتتأثر بذلك فكرة الأمة المفتوحة والمستوعبة في الدين كما في السياسة لربط الخلافة (أو السلطة) الإسلامية المسألتين معا. نجم عن هذا التوتر الاجتماعي/ السياسي بين الدولة العربية الإسلامية, ومقتضيات الاستيعابية الدينية انفجار متعدد الوجوه والأبعاد, أفضى في النهاية إلى سقوط الدولة الأموية, وقيام السلطة العباسية التي زادت من الطابع الديني للخلافة ممايزة بينها وبين النظام أو السلطة السياسية تدريجيا. وقد وصل الأمر أواخر القرن الثالث الهجري إلى شبه انفصال بين الخلافة وتلك السلطة السياسية التي تمثلت في أمراء التغلب والاستيلاء, ثم في السلاطين بحيث صارت الخلافة مرجعية عليا للنظام كله, وصار الصراع على السلطة صراعا على السلطنة بين عصبيات داخل الأمة التي اتسع أفقها لكل الجماعات الداخلة في الإسلام على قدم المساواة. وقد أنتج الصراع على السواسية الإسلامية, وعلى السلطة في دار الإسلام تيارات ثقافية, وحركة جدالية بين أنصار المساواة ضمن الإسلام, وأنصار التميز العربي بداخله. وقد استمرت تلك التيارات والحركات حتى أواسط القرن الثالث الهجري, وخلفت موروثات ثقافية غنية في مسائل السلطة, ومعنى المساواة في الإسلام ومعنى العروبة والعربية, ومسوغات تميز العرب داخل الأمة, حتى إذا صار واضحا الانفصال بين السياسة والشريعة, وبين العرب والسلطة, انصرف الفقهاء والمثقفون العرب والمتعربون للتنظير لهوية عربية ضمن الانتماء الإسلامي الأوسع. سمى مثقفو الموالي أنفسهم وحركتهم: أهل التسوية, وسماهم مجادلوهم من العرب والمتعربين: الشعوبية وأهل التفضيل. وكانوا يقصدون بذلك نبزهم بهذين اللقبين, إذ إن مفرد القبائل الوارد في الآية القرآنية فهم باعتباره دالا على العرب المنتظمين في قبائل, أما الشعوب فهم غير المنتظمين في قبائل من الأعاجم. وكان القرنان الهجريان الأولان قد شهدا إقبالا كثيفا من المثقفين الإيرانيين على الإسلام, كما شهدا تعربهم, ودخولهم في إدارات الدولة والجيش المتحول من كتائب من متطوعة الأمصار إلى جيش نظامي محترف. وبذلك فإن مثقفي (أهل التسوية) كانوا فرسا في الأغلب الأعم. لكن الفرس والعرب على حد سواء فوجئوا في خضم صراعهم على الدين والثقافة والسلطة الثقافية والسياسية بظهور فريق ثالث أفاد من الانفصام التدريجي بين الخلافة والسلطة السياسية هو فريق العصبية التركية, ذات الأصل القبلي, التي استولى ضباطها على الأمر السياسي ببغداد, ثم في سائر أنحاء دار الإسلام, واستمرت سلطاتهم وسلاطينهم على تقطع حوالي العشرة قرون. بيد أن تضاؤل الوجود العربي في السلطة, وزوال التمايز الاجتماعي بين العرب وغيرهم, واتساع آفاق الثقافة الإسلامية العربية اللسان, كل ذلك أنهى الجو الجدالي والسجالي, ونقل المسائل والقضايا إلى آفاق أخرى البارز فيها ومنها البعد الثقافي والحضاري للعصبيات والهويات ووجوه الانتماء. وقد استمر هذا الاتجاه, الذي يفهم الهوية العربية فهما ثقافيا, ويربط بين العرب والإسلام في القرون اللاحقة بعد زوال سلطة العرب, والانصراف من جانب المؤرخين والمفكرين السياسيين لتحديد أدوار الأمم الكبرى (ومنها العرب) في التاريخ, ودور العرب في الإسلام. وأبرز الذين بلوروا نظرية متكاملة في الهوية العربية وعلاقتها بالإسلام ابن تيمية (-728هـ) الذي كتب فصلا طويلا في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) عن الهوية العربية, ماهيتها ومعناها, وكونها بمثابة النسق الفرعي الأبرز من بين الأنساق العصبية الأخرى المنبثقة عن النسق الإسلامي العام. الذاتية العربية كانت الحرب العالمية الأولى قد أفضت إلى سقوط الدولة العثمانية, التي كانت ترفع أحيانا شعار الخلافة التاريخية. وكان الأعيان العرب والمثقفون العرب قد بدأوا منذ أواخر القرن التاسع عشر يثوبون إلى نوع من الذاتية العربية ضمن نطاق السلطنة العثمانية. وقد وجدت تلك الذاتية تبلورا في تيار اللامركزية. الذي أراد للأقاليم العربية المشرقية (باستثناء مصر) استقلالية إدارية وثقافية محدودة في ظل السلطنة. بل إن بعض المثقفين العرب قبل إلغاء الخلافة (مثل الكواكبي وعازوري) أو بعدها (مثل رشيد رضا وأحمد الشريف السنوسي..) حلموا بخلافة عربية, كانت قد غابت عن الوجود عمليا منذ سقوط بغداد عام 656هـ/1258م. وكان الجزع العربي على الخلافة وإلغائها عائدا إلى أنها ظلت آمادا طويلة رمزا لوجود الأمة, واستمرار وحدتها وفعاليتها. وقد شاركتهم في هذا الإحساس شعوب إسلامية أخرى ما خضعت للعثمانيين, ولا كانت تابعة لسلطتهم مثل مسلمي الهند وإندونيسيا وأفغانستان, وأواسط آسيا. فهم الجمهور العربي العروبة باعتبارها استمرارا للمشروع الوحدوي الإسلامي التاريخي. فالعروبة عنت بالنسبة للجمهور منذ البداية الوحدة العربية على أن ما نشأ في الواقع ما كان يعبر عن فهم الجمهور وآماله. قامت كيانات وأنظمة في النواحي العربية التاريخية, اتخذت لنفسها, أو اتخذت لها الدول المستعمرة, صيغة الدولة الوطنية أو القومية على النحو الفرنسي أو البريطاني. وقد استعملت في دساتيرها وقوانينها المفردات والمصطلحات العربية الإسلامية القديمة, للتعبير عن نظم أيديولوجية وسياسية, ما عرفها عالم الإسلام, ولا عالم اللسان العربي. وفي خضم الكفاح ضد الاستعمار, ومع بروز قضية فلسطين, تصاعدت وتيرة التحدي بحيث اقترب مفهوم العروبة الرسمي من مفهومها الجماهيري الذي عنى ويعني وحدة الأمة الذي يتحاور بداخله البعدان التاريخيان للإسلام والعروبة. لكن فشل مشاريع ومحاولات التوحد خلّف أنظمة قطرية بأيديولوجيا قومية. والأيديولوجيا الشمولية تأبى الالتباس, وتأبى الاستيعاب, وتصر على التمايز والتنافي. وقد أدى ذلك, أعني فشل محاولات الوحدة, والآثار السياسية والاجتماعية لذلك الفشل, والاستقطاب الدولي في حقبة الحرب الباردة, أدى ذلك كله إلى نشوب صراعات سياسية وأيديولوجية بين الأنظمة العربية الحاملة للشعارات القومية, والأخرى التقليدية أو الحاملة للشعار الإسلامي. كما انصرف المثقفون القوميون والعلمانيون والإسلاميون إلى التجادل والتساجل في العلاقة بين العروبة والإسلام. فقد رأى القوميون التقدميون والعلمانيون أن التحقق القومي يحتاج إلى وعي قومي علمي متبلور, والإسلام دين يتضمن عناصر ميتافيزيقية, فلن تنشأ قومية علمانية حديثة في المجال العربي إلا إذا زال الامتزاج بين الإسلام والقومية العربية. وذهب القوميون التقليديون وذوو الثقافة الإسلامية إلى أن العرب أمة تاريخية, يلعب الإسلام وثقافته ورموزه دورا كبيرا في تشكلها التاريخي والحديث. والدليل على هذا الامتزاج بين العروبة والإسلام, جماهيرية الفكرة العربية ذات الأبعاد الإسلامية, وضآلة نفوذ الأفكار العلمانية بين الجمهور, بل واقتصار انتشارها على قلة من النخبة المتغربة. على أن اعتناق نخب قومية للأفكار والأيديولوجيات الماركسية في النصف الثاني من الستينيات, حسم الأمر على مستوى الأنظمة والنُخب لصالح الوعي القومي العلماني, والوحدة المدروسة, ذات المضمون الاجتماعي والسياسي التقدمي. فآل الأمر إلى عقائدية أيديولوجية تعتمد الاستبعاد والانتقاء والإرادوية, وتنفي الجمهور في حين تود التحدث باسمه. الثقافة الإسلامية والانتماء العربي قامت الفكرة العربية في الأصل على مجموعة من المفاهيم التاريخية والرمزية ذات الأصل الثقافي الإسلامي. فشكل ذلك نوعا من التواصل تحاور مع الرغبات العميقة للجمهور, والطابع الاستيعابي التوليفي للثقافة الإسلامية التاريخية والانتماء التاريخي العربي. غير أن الثقافة الواحدة, والجمهور المتجاوب, واجها واقعا كيانيا انقساميا, وصراعا فكريا بين قومية الأمة/ الدولة, والنزعات العربية/ الإسلامية. وأدى تحول العروبة إلى أيديولوجيا عقائدية إلى إفقارها وعزلها. فواجهتها منذ السبعينيات أيديولوجيات عقائدية إسلامية نافية وإدانية تفتقر إلى استيعابية الإسلام, وغنى العروبة التاريخية. إن ما نحتاج إليه اليوم هو العمل الثقافي الجاد, الذي يعيد النظر في أصول مآزق العقائدية والخصوصية, ويفتح آفاقا لاستقراء الغنى الثقافي التاريخي لأمتنا, واستشراف المستقبل. في افتتاحية العدد رقم 26/27 من مجلة (الاجتهاد) رأى الأستاذ الفضل شلق أن العرب أمة غير قومية! وقد عنى بذلك أن قوة الفكرة العربية في وعي الجمهور ناجمة عن التباسيتها القوية بالإسلام في التاريخ والمفاهيم ووعي الجمهور. والأيديولوجيا القومية الأوربية أو نموذجها لا يمكنهما التعبير عن تنوع الواقع, وانفتاح الأحاسيس, وتعدد المصالح, والتوحد العميق الكامن على الرغم من كل شيء, وراء ذلك كله يقول الأستاذ الفضل شلق: (ليست هذه الأمة عِرقا ولا إثنية ولا قوما ولا قبيلة أو تجمع قبائل, بل هي سيرورة تاريخية. وكانت على الدوام في مختلف مراحل التاريخ مجتمعا مفتوحا يستوعب ويدمج في إطاره الشعوب والأقوام والقبائل الوافدة المنضوية تحت لوائه. وعندما كانت تواجه إشكالية المواجهة بين الانغلاق القومي والمشروع الكوني, كانت تختار هذا الأخير حتى ولو كان على حساب موقع العرب في السلطة, وهي أمة عربية لارتباطها باللغة لا بالعرق العربي أو القبائل العربية, واللغة العربية كمكون أساسي للأمة هي الدلالة على كون هذه الأمة تشكيلا ثقافيا تاريخيا قبل أي شيء آخر). ورد في الأثر النبوي قوله صلى الله عليه وسلم:إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. لقد كانت حصيلة العقود الماضية الإفضاء إلى أزمة ثقافية عربية ولدت مقولتين عقائديتين متنافيتين: العروبة العلمانية, والإسلام الأصولي. وهناك تيار ثقافي/ سياسي بدأ يتبلور ضمن البدائل المطروحة للخروج من المأزق, يقول بتواصلية تاريخية وثقافية شبيهة بما عبر عنه الفضل شلق في فقرته السالفة الذكر. لكن دون هذه الرؤية التصحيحية والإشكالية في الوقت نفسه ـ كيانات تبحث عن خصوصية, وحداثية تريد إلغاء الخاص, وإسلام حزبي يعتبر خاصه عاما وعالميا بل وإلهيا: فيا دارها بالحَزْن إن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال
|
|