نحو منطقة عربية للتجارة الحرة

نحو منطقة عربية للتجارة الحرة

لقد تضاعفت قيمة التبادل التجاري العربي في سنوات الازدهار النفطى خلال النصف الثانى من السبعينيات، التي تلت ما عرف بالحقبة القومية ثم بقيت مستقرة تقريبا في سنوات الركود النفطي اللاحقة وحتى بداية التسعينيات، وذلك مقارنة بحجمها المتواضع، برغم تعدد الاتفاقات التي استهدفت تيسير وتحرير التبادل التجاري بين الدول العربية، قبل الحقبة النفطية. وهكذا، بالرغم من توقيع اتفاقية تسهيل التبادل التجاري وتنظيم تجارة الترانزيت في دول الجامعة العربية في عام 1953، وإقرار اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية بين دول الجامعة العربية وما نصت عليه من حرية تبادل البضائع والمنتجات الوطنية والأجنبية في عام 1957، ثم إنشاء السوق العربية المشتركة في عام 1964، فقد بقيت التجارة البينية العربية محدودة القيمة من الناحيتين المطلقة والنسبية، طوال الخمسينيات والستينيات.

وقد زادت قيمة الواردات العربية البينية من نحو 3756 مليون دولار في عام 1975 إلى 11168 مليون دولار في عام 1980، أى تضاعفت بنحو ثلاث مرات خلال النصف الثاني من السبعينيات، ثم تذبذبت خلال الثمانينيات، وانخفضت بدرجة محدودة إلى 11106 ملايين دولار في عام 1993.

وهكذا نرى أن الثروة النفطية العربية الخليجية - خاما ومالا - سواء في صعودها خلال السبعينيات، أو هبوطها خلال الثمانينيات، كانت محور تطور العلاقات الاقتصادية العربية البينية. لكن نمو تلك العلاقات بقي متواضعا من منظور طموحات بناء تكامل اقتصادي عربي، ومقارنة بإمكانات تعظمها كما يدل عليها النمو الأوسع للعلاقات الاقتصادية العربية الدولية. فقد ارتبط بتعاظم عوائد وفوائض النفط العربي خاصة الخليجي تطور وتأثير مختلفة جوانب العلاقات الاقتصادية العربية - العربية، كما كشف تحليل المساعدات الإنمائية وانتقال العمالة والتبادل التجاري. وبرغم قصور حصاد هذه العلاقات من زاوية بناء التكامل وإنجاز التقدم في الاقتصادات العربية، فقد شكلت قنوات مهمة لإعادة توزيع الدخل وتبادل المصالح الاقتصادية بين البلدان العربية.

وقد كان شعار إعادة توزيع الثروة العربية نتيجة وسببا لأزمة شاملة في مجمل التفاعلات العربية - العربية تراكمت وبلغت ذروتها بكارثة الغزو العراقي للكويت، فقد ترتب على مقدمات وتداعيات رفع هذا الشعار تشديد نزعات الانسحابية من العمل الاقتصادي العربي المشترك، وتعميق أزمة الثقة في جدوى هذا العمل، فضلا عن خلق انشقاق بين حكومات وشعوب الوطن العربي لا سابق له حتى في زمن الحرب الباردة العربية العربية في الستينيات. وجسد غزو العراق مظاهر التدمير الذاتي للقدرة العربية وخطوة بعيدة إلى الوراء في اتجاه مضاد للتأقلم الإيجابي مع المتغيرات العالمية والإقليمية الجديدة، التي تسارعت مع نهاية الحرب الباردة. وأنذرت بتعاظم التهديدات والتحديات للوطن العربي. وقد يكفي أن نشير إلى ما ترتب على احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية من خسائر عربية، مباشرة وغير مباشرة، قدرها صندوق النقد العربي بما يزيد على 650 مليار دولار.

النفط والتعاون العربي

وأخيراً، بصدد العلاقة بين اقتصاديات النفط والتعاون العربي قد يجدر أن نشير إلى أن الغزو العراقي للكويت بتداعياته قد وفر قوة دفع هائلة لجهود الدول الصناعية المستوردة والمستهلكة لتحويل سوق النفط من سوق للبائعين إلى سوق للمشترين. إذ تبين مؤشرات عام 1989، السابق مباشرة للغزو العراقي للكويت، أن منطقة الخليج انفردت بنحو 66% من الاحتياطي العالمي المؤكد من النفط، وساهمت بنحو 42% من صادرات النفط في العالم، وقدمت 25% من الإنتاج النفطي العالمي، وفي ذات العام مثل النفط 44% من استهلاك الطاقة في الدول الصناعية، وقدم أكثر من 90% من عوائد الصادرات السلعية للدول الخليجية العربية، ووفر حوالي 26.4% من الدخل القومي الإجمالي للسعودية، مثلا. وفي ضوء هذه المؤشرات، كان يتوجب التسليم بالحقائق التي تعين حدود قواعد لعبة النفط وفي مقدمتها: أولا، أن النفط العربي سلعة حيوية واستراتيجية قابلة للمساومة في السوق، دون تهديد تدفق إمدادات النفط أو فرض لأسعار تتجاهل الاعتبارات الاقتصادية. وثانيا، أنه يمكن ويجب مقايضة النفط بالواردات الضرورية شاملة مواد ومعارف التكنولوجيا اللازمة لتنويع الهياكل الاقتصادية وتقليص الاعتماد المطلق على تصديره وثالثا، أن البلدان العربية قد تمكنت، بقدر ما أدركت قواعد اللعبة من تحقيق مكاسب مهمة صارت مهددة، مثل تحقيق السيطرة العربية على إنتاج النفط، أو تعاظمت أسباب فقدان مكاسب أخرى مثل التحكم في أسعار النفط، فضلا عن نزيف أموال النفط لتوفير الأمن ضد التهـديدات الفعلية أو المتصورة.

التخلف الاقتصادي يقيد التجارة

يكشف حصاد اتفاقات ومشروعات التكامل الاقتصادي العربي بعد خمسة عقود من عمر جامعة الدول العربية، أن حصاد تلك العلاقات كان محدودا من زاوية إسهامه في التعجيل بالتنمية والتصنيع في جميع البلدان العربية. فقد كان ما تحقق من إنجازات للتنمية والتصنيع في الدول العربية النفطية وغير النفطية أدنى من المعدل اللازم لتضييق الفجوة التي اتسعت بينها وبين الدول الصناعية المتقدمة في الفترة المدروسة، وأقل من المعدل الذي يسمح لها بولوج نادى الدول الصناعية الجديدة التي حققت قفزتها الكبرى إلى الأمام في ذات الفترة.

ومن حيث الجوهر، فإن الضعف النسبي لحصاد تلك العلاقات والعجز عن الارتقاء بها يرجع من حيث الجوهر إلى مأزق التنمية الاقتصادية في جميع البلدان العربية. وبغير إنكار للعوامل الأخرى، فإن هذا المأزق نعزوه أساسا إلى غياب استراتيجية تستهدف بناء ركائز للتقدم الصناعي والتكنولوجي وارتقاء أسس تكافؤ المشاركة في الاقتصاد العالمي. فقد ترتب على مأزق التنمية تقييد إمكانات توظيف التوسع في أسواق التمويل والعمل والاستثمار والتجارة في الدول العربية النفطية، خاصة الخليجية، لصالح التنمية والتصنيع والتقدم والتكامل في الوطن العربي. وتظهر بوضوح الأسباب الهيكلية لضعف الوزن النسبي للتجارة العربية البينية، من تحليل التوزيع الجغرافي والتركيب السلعي لإجمالي التجارة الخارجية العربية. فقد مثلت الدول الصناعية المتقدمة الشريك التجاري الرئيسي للدول العربية، سواء باعتبارها المستورد الرئيسي للنفط الخام، الذي يمثل المكون الرئيسى للصادرات العربية، أو باعتبارها المصدر الرئيسي للسلع الصناعية، الى تمثل المكون الرئيسى للواردات العربية.

وهكذا، من حيث التوزيع الجغرافي للتجارة الخارجية العربية، فإن الدول الصناعية المتقدمة قد استوعبت النسبة الأعظم منها. وهكذا، في عام 1975، مثلت الواردات العربية من دول الجماعة الاقتصادية الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية واليابان نحو 64.38% من إجمالي الواردات العربية، ومثلت الصادرات العربية إلى ذات الدول نحو 61.6% من إجمالي الصادرات العربية. وفي فترة عامي 1992 و 1993 بلغت حصة التجمعات الإقليمية للدول الصناعية بالإضافة إلى اليابان، نحو 69.7% من إجمالي الواردات العربية، و 62% من إجمالي الصادرات العربية، في المتوسط سنويا.

وبذلك نخلص إلى استنتاجين أساسيين:

الأول، أن التبادل التجاري العربي قد شهد توسعا مهما نسبيا، خلال الفترة المدروسة، ارتبط، وبدرجة أساسية، بتعاظم صادرات وواردات الدول العربية النفطية، وخاصة الخليجية. وأما استقرار التجارة البينية العربية من حيث القيمة، وزيادتها وإن بدرجة محدودة من حيث الوزن النسبي، فضلا عن الارتقاء النسبي لتركيبها السلعي، فيرجع إلى إنجازات التنمية الاقتصادية العربية، خاصة التنمية الصناعية برغم قصورها. كما ساهم في هذا التطور أيضا. ما شهدته اتفاقات تسهيل التجارة البينية على المستوى الإقليمي القومي من تطورات مهمة وإن كانت أدنى من المنشود، فضلا عن أثر النمو النسبي للتجارة العربية البينية في اطار التجمعات الإقليمية الفردية، كما يتجلى في حالة مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

والثاني، أن مدخل التجارة البينية العربية كان محدود التأثير من منظور التكامل الاقتصادي العربي، كما تكشف التطورات الفعلية ويتسم بالأهمية والمحدودية في آن واحد. إذ تسمح التجارة العربية البينية بالإفادة من التنوع النسبي للموارد الاقتصادية في الوطن العربي. ويسمح الإنتاج للسوق العربي الواسع بتضاعف الاستثمار وخفض التكلفة وتعظيم الربحية وتوسيع فرص العمل وزيادة القدرة التنافسية وزيادة الرفاهية وغير ذلك مما يترتب على وفورات النطاق. بيد أنه بغير تسريع التنمية القطرية وارتقاء التصنيع العربي وتنويع البنى الإنتاجية لم ولن يثمر تحرير التجارة عن تكامل أعمق بين الاقتصادات العربية.

التنمية شرط تعظيم التجارة

والأهم هنا، أن المتغيرات العالمية والإقليمية والعربية التي تسارعت مع نهاية الحرب الباردة وحرب الخليج الثانية، التسوية الشرق أوسطية وغيرها، تفرض في رأينا ضرورة المراجعة النظرية لمختلف أبعاد مشروع التكامل الاقتصادي العربي وخاصة نتيجة تعمق التمايز بين الاقتصادات العربية، وتكريس عدم التكامل بين الهياكل الإنتاجية الصناعية العربية، واشتداد عدم تكافؤ المشاركة العربية في تقسيم العمل الاقتصادي الدولي، وتسارع التحولات الاقتصادية الليبرالية في البلدان العربية، وحدة الانشقاق السياسي بين البلدان العربية، ونزعة الانكفاء الإقليمي الفرعي على الذات في بلدان مجلس التعاون الخليجي العربية، وتجميد أو تحجيم مؤسسات ومشروعات العمل الاقتصادي العربي المشترك.. إلخ.

ونكتفي هنا بإبراز الاستنتاجات الأهم التالية:

أولا: من منظور آليات التكامل، نؤكد أن التكامل يشترط أسبقية التنمية ويتحقق عبر السوق. ذلك أن انهيار اقتصادات الأوامر السلطوية والمنظومة الاشتراكية السوفيتية، قد كشفت عدم قدرة تلك الاقتصادات على تحقيق الكفاءة وتأمين التحديث وغير ذلك من أهداف التقدم الشامل. إذ أنه لا بد من أن تستند عملية التكامل، خاصة بين البلدان النامية، إلى تسريع التصنيع وتنويع الإنتاج ورفع الإنتاجية وتعظيم التنافسية، كما توضح خبرة شرق آسيا، وتفرض عملية تحرير التجارة العالمية بعد اتفاقات الجات الأخيرة.

وثانيا: من منظور ضرورات التكامل، نرصد مزيجا من حوافز وعوائق التكامل الاقتصادي العربي. وبين الحوافز يبرز اختلال توزيع القدرة الاقتصادية الشاملة على الصعيد العالمي، واشتداد نزعات التكتل الاقتصادي والتجاري في المراكز الصناعية الرئيسية، وتراجع دور ومنزلة البلدان العربية وغيرها من البلدان النامية في الاقتصاد العالمي، وانفراد الدول الصناعية الرئيسية بإدارة النظام العالمي والاقتصاد العالمي، وتعاظم خطر تهميش الاقتصادات العربية تحت تأثير الثورة التكنولوجية - نرصد خلق حقائق جديدة تكرس- وتفاقم عوائق هذا التكامل. ومن ذلك تعاظم تدهور وتدوير وتبديد عوائد النفط العربي تحت تأثير المتغيرات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، وهي العوائد التي رأينا دورها الحاسم في تنامي العلاقات الاقتصادية العربية- العربية وفي تطور مؤسسات العمل الاقتصادي العربي المشترك في العقدين الماضيين، وذلك تحت تأثير المتغيرات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية وغيرها. كما يشتد تمايز الهياكل والمصالح والأهداف الاقتصادية العربية بين ثلاث مجموعات من البلدان: النفطية الغنية، متنوعة القدرة ومتوسطة التطور ولكن المأزومة، والفقيرة المهمشة المصدرة للمواد الزراعية والتعدينية، بما يضعف دوافع العمل التكاملي العربي.

وثالثا: من منظور مؤسسات التكامل، فإنه ينبغي تدعيم وتطوير مؤسسات العمل الاقتصادي العربي. ونضيف أن الاقتصاد السياسي للسلام العربي - الإسرائيلي يؤكد أفضلية خيار السلام على أساس توازن تحقيق معادلته بما يضمن المصالح والحقوق العربية. لكن شرط استقرار هذا السلام هو تعظيم القدرة الاقتصادية العربية، وهو ما يفرض ضرورة مواصلة العمل التكاملي العربي على الأسس التي اوجزناها، والحيلولة دون انفراد إسرائيل بمكاسبه، والتنسيق فى مواجهة مختلف التفاعلات الاقتصادية للسلام، من تعاون وتنافس وتناقض وصراع، بما يقلص المخاطر والخسائر ويعظم الفرص والمكاسب العربية. وفى ذات السياق تبرز حتمية نزع الأسلحة النووية الإسرائيلية مع غيرها من أسلحة الدمار الشامل في المنطقة بما يسمح بتوجيه المزيد من الموارد العربية والإقليمية إلى التنمية بدلا من التسلح. ولا بد من الدفع في اتجاه مراعاة المصالح والأهداف التكاملية العربية في مشروعات البنية الأساسية وتدفقات رءوس الأموال وتوسيع التجارة الإقليمية في إطار المشروعات الاقتصادية الدولية لدعم السلام في الشرق الأوسط، بما يحول دون إعادة تشكيل الاقتصادات العربية بحيث تتمحور إقليميا حول دور مركزي قيادي لإسرائيل.

 

طه عبدالعليم