الواقعية الإيكولوجية... (1) المطر الحامضي

الواقعية الإيكولوجية... (1) المطر الحامضي

في كتابه "الأرض في الميزان" كتب آل جور نائب الرئيس الأمريكي عام 1992 يقول: "إن على الصحفيين أن يقللوا من أهمية أي نتائج علمية تشير إلى تحسن إيكولوجي, لأن الأخبار الطيبة قد تخفف من إحساس الجماهير بالقلق. وقال أيضا إن العلماء المعارضين لفكرة المصير المشئوم الذي ينتظرنا أناس لا خلاق لهم وينبغي تجاهلهم! ربما لخص هذا موقف الكثير من البيئيين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء علينا, يفهمون لنا, يلقنوننا ما ينتقونه من نتائج العلوم, ويحجبون عنا مايرون أنه يفسد عقولنا, بحيث لايبدو من التقدم العلمي والتكنولوجي شيء يفيدنا. والحق أننا قد أصبحنا بفضلهم نستعذب الخوف ونتلذذ بالتشاؤم. لقد غدونا نقابل الأخبار السيئة بنوع من الارتياح!

لاعلم يأتي من الغرب يسر القلب! العلم أفسد بيئتنا, لونها, ثقب الأوزون من فوق رءوسنا, رفع حرارة جو الأرض لتذوب الثلوج وتغرق مدننا الساحلية, قتل مئات الآلاف من الأنواع النباتية والحيوانية وأنى لنا أن نسترجعها, ونشر السرطان, حتى المطر, لم يسلم من عدوان العلم, جعله حامضا يقتل الغابات ويسمم الأسماك في البحيرات. يزعجنا الآن أن نسمع من يقول إن الأمر سينتهي على مايرام, وأن الوضع ليس بكل هذا السوء. يصعب الآن أن نقترح اقتراحاً بيئياً متفائلا دون أن نقابل بالاستهجان. هل ثمة من يستطيع أن يقول "إن الناس أهم من النباتات والحيوانات"? لقد نجح فريق من البيئيين حقا في نشر فكرة القدر المشئوم!

ولقد صدر عام 1995 كتاب هائل من تأليف جريج إيستربروك يقع في أكثر من 700 صفحة عنوانه "لحظة فوق الأرض", يواجه فيه الكاتب الثقافة البيئىة المتشائمة السائدة, ويبسط من أسباب التفاؤل الكثير المقنع. والكتاب كما يقول مؤلفه ليس هجوماً على البيئة, فالوعي البيئي قوة تقود إلى الأفضل, ولولا تلك العقود الثلاثة من ضغوط البيئيين التي لاتفتر على الحكومات والصناعة, فلربما كنا نواجه اليوم المشاكل التي حذروا منها. إننا ندين لهم بالفضل في هذا التحول المشهود للأحداث. لقد نجحوا في أن يربطوا أمم العالم بهم مشترك, وكان هذا أفضل ماحدث بالنسبة للعلاقات الدولية. لكن المؤسسات السياسية والثقافية لاتزال تقرأ من نص قديم ينذر بقدر مشئوم, والبيئيون مع الأسف يأخذون مصداقيتهم من ادعاء مخاطر غير موجودة. ولقد حان الوقت كي نشرع في القراءة من نص جديد يوفق مابين مثاليات البيئيين وأفكارهم العاطفية, وبين الحقائق الملحوظة وواقع العالم الطبيعي. حان وقت "الواقعية الإيكولوجية".

والواقعية الإيكولوجية تقول إن المنطق, لا العاطفة, هو أفضل وسيلة لحماية الطبيعة. إن التفهم الدقيق لواقع البيئة سيخدم "الأرض" أفضل من تعبيرات الذعر. فإذا أردنا أن نتحالف تحالفا بناء مع الطبيعة فعلينا أن نتعلم كيف نفكر كما تفكر الطبيعة, ومن شأن هذا أن نفرق بالعقل بين المخاطر البيئية الحقيقية وبين المخاوف المهووسة المبنية على غير أساس.

لابد أن ندرك أن الطبيعة, لملايين السنين, كانت تولد مشاكل أعقد بكثير مما نصنعه نحن البشر. في عام 1990 لفظت المصانع المتحدة, ومحطات القوى بها, والعربات, نحو 19 مليون طن من ثاني أكسيد الكبريت ـ السبب الرئيسي في المطر الحمضي. هذا لاشك معدل مرتفع للغاية. لكن, انظر ماحدث عام 1991 عندما ثار في الفلبين بركان بيناتوبو. لقد أطلق هذا البركان من هذا الغاز في الجو, خلال بضع ساعات لا أكثر, ماقدر بنحو 30 مليون طن. وبجانب هذا فإن الغازات التي تتسرب طبيعيا من البراكين والمحيطات تزود الغلاف الجوي للأرض سنويا بنحو مائة مليون طن من ثاني أكسيد الكبريت. هذا بالطبع لايبرر الاستهانة بما تلفظه الصناعة. لكنا في نفس الوقت لابد أن ندرك أن الطبيعة ذاتها قد أنفقت زمانا طويلاً تتعلم فيه كيف تتغلب على المطر الحمضي, وغازات الصوبة, والتغيرات المناخية, وتآكل الغابات, والإشعاع, واختفاء الأنواع, وغير هذه من المشاكل التي نعتقد أننا أول من واجه بها البيئة. إن إدراكنا هذا يقول إن مانصنعه نحن البشر لن يؤذي الأرض بالشكل الذي تذيعه الثقافة الشائعة الآن, وأننا إذا ما أوقفنا تلويثنا للطبيعة, ثم نظفنا ماقد قمنا به بالفعل من تلوث, فستستعيد البيئة وضعها وتتجدد في زمن أقصر مما نتوقع. الواقعية الإيكولوجية لاتقول "لاتهتم, كن سعيدا, وسيمضي كل شيء على مايرام", لأن هناك بالفعل الكثير من الأنشطة البشرية الأنانية المخربة للبيئة, وإنما نقول إن علينا أن نغير هذه المعادلة, وسيكون تغييرها أقرب إلى التحقق مما يعتقد معظم الناس. الواقعية الإيكولوجية ليست تبريراً لنمط الحياة التكنولوجية, فهي لاتفترض أن التكنولوجيا هي واهبة الخير للجميع, هي كالسكين ذات حدين, قد تستخدم بحكمة وقد تستخدم بحماقة, ونحن من يقرر ماذا سنصنع بها.

تلقى أسباب اليأس الشرح المستفيض من وسائل الإعلام, بينما يندر أن تعرض أسباب التفاؤل, فقد غدا التشاؤم مع الأسف هو التيار الرئيسي للفكر المعاصر. ولقد تمت بالفعل تحسينات ملموسة في كل مجالات البيئة: في مشاكل تلوث الهواء, وتلوث الماء, وتلوث المحيطات, والتلوث بالمخلفات السامة, والانبعاثات التي تسبب المطر الحمضي وثقب الأوزون, وفقدان التربة, وحماية الأنواع. لكن الاستفتاءات لاتزال تشير إلى أن الناس يعتقدون أن البيئة تتدهور, لأن الكثيرين من البيئيين والكتاب يتنافسون اليوم في إخراج أفضل العروض المسرحية لليأس. وسنعرض الآن بعض أسباب التفاؤل في قضيتين من قضايا البيئة ذاعتا واختلط فيهما الحابل بالنابل, فلقد حان الوقت كي نعرف كيف نحمي البيئة دون الخوض في مستنقع الجدل العقيم حول مستقبل مشئوم يتربص بنا, حان الوقت لرؤية جديدة يتعلم فيها الناس أن يعملوا في تناغم مع الآلات ومع الطبيعة لمصلحة الجميع. ولقد تمضي أشياء كثيرة, بل وكثيرة جدا, على عكس هذه الرؤية. لكن, لماذا لانركز أنظارنا على مثل هذا الهدف? أليس هذا هو العقل بالنسبة لنا نحن البشر? أليست حياتنا على هذه الأرض مجرد لحظة?

المطر الحمضي

بلغت قضية المطر الحمضي أسماع الجماهير في أواخر الستينيات. وما بلغها يقول إنها القدر الرهيب المشئوم! أكد البيئيون: الحمض في قطرات المطر سيؤدي إلى "ربيع صامت جديد", كالربيع الذي حذرت منه راشيل كارسون عام 1962: فبحلول عام 1990 ستكون الغابات وقد قتلت وطيورها, وستكون البرك الحامضة وقد انتشرت في كل مكان, وماتت أسماكها. ستصبح حموضة مياه البرك, حتى في البرية, مائة ضعف حموضتها قبل العصر الصناعي!

والواقع أن مشكلة المطر الحمضي ـ شأنها شأن كل المشاكل البيئية التي تثار حاليا ـ مشكلة حقيقية, لكنها أبداً ليست بمثل الخطورة التي ادعيت, ثم إن علاجاتها ميسورة, بل لقد طبق البعض منها فعلاً, وبتكاليف معقولة, وآتى أكله. قضية المطر الحمضي هذه تعتبر مثالاً لما يمكن أن تخدم فيه الواقعية الإيكولوجية.

الطبيعي أن يكون المطر حمضيا! هذه حقيقة لاتسمعها أبداً من "حماة البيئة" المتشائمين عند الحديث عن "كارثة" المطر الحمضي. فالكربون موجود بالطبيعة, ويدور بالغلاف الجوي للأرض بملايين الأطنان, وهو يكوّن ـ طبيعيا ـ مع الرطوبة في الجو حامضا, هو حامض الكربونيك الذي يسقط مع المطر. قد يكون المطر فوق الصحاري قلويا بعض الشيء لأن غبار الصحارى يحتوي على معادن تعادل الحمض, لكن معظم المطر الطبيعي حامض قليلا, والمعتقد أن معظم المطر قبل العصر الصناعي كان في مثل حموضة فنجان الشاي. تقذف البراكين إلى الجو أيضا بغاز ثاني أكسيد الكبريت ومركبات النتروجين لتكون مع رطوبة الهواء حمض الكبريتيك وحمض النيتريك. ولما كان المطر الخفيف الحموضة يسقط على العالم من زمان بعيد, فالمتوقع أن تكون الكائنات الحية قد تعلمت أن تقاومه. ليس من قبيل الصدفة إذن أن نجد الغلاف الخارجي لمعظم الكائنات مكوناً من خلايا تتحمله, فهو لايضر جلد معظم الحيوانات ولا أسطح معظم النباتات. والحق أن الكثير من النباتات يستغل هذه الحموضة الخفيفة, فثمة نباتات وأشجار تحب الحموضة وتستخدمها كسماء, البستانيون مثلا ينصحون بنثر تفل البن حول نباتات الأزاليا ليرفع الحموضة فتسرع النباتات من إزهارها.

لكن استعداد البيئة لتلقي المطر الحمضي الخفيف لايعني بالطبع أن إضافة الكثير من الأحماض ستكون فكرة طيبة, فسوائل معدتك حامضة لكنك إذا رفعت حموضتها وقعت في مشكلة!

أصل الحكاية

قبل مطلع هذا القرن بقليل عندما بدأت حركة التصنيع الضخمة, كانت المصانع ومحطات القوى تعتمد على الفحم كوقود أساسي. والفحم يحتوي على نسبة مرتفعة من الكبريت, وهو يطلق إلى الجو عند إحراقه قدراً كبيراً من ثاني أكسيد الكبريت وأكسيدات النتروجين, لتحولها الرطوبة وضوء الشمس إلى حمض كبريتيك وحمض نيتريك. حريق الفحم إذن هو أول أسباب المطر الحمضي "الصناعي" أو "البشري" الناجم عن نشاط الإنسان. يحتوي البترول أيضا على قدر متوسط من الكبريت, أما الغاز الطبيعي "ثالث أنواع الوقود الحفري" فلا يحمل إلا قدراً ضئىلا منه ـ الأمر الذي يجعل هذين المصدرين أسبابا ثانوية للمطر الحمضي "البشري".

وعلى ستينيات هذا القرن كانت شركات البترول الغربية قد خلصت بنزين السيارات ـ تقريبا ـ من الكبريت "وإن كانت دول العالم الثالث لاتزال تحرق البنزين مليئاً به", لكن هذا لم يتم بالنسبة لفحم المصانع ومحطات القوى ـ ففي عام 1970 كانت الولايات المتحدة تضخ في الهواء 28 مليون طن من ثاني أكسيد الكبريت, منها مايزيد على الثلثين من المصانع ومحطات القوى التي تعمل بالفحم. ومع تقدم حركة التصنيع تزايد استخدام الفحم في كل من الولايات المتحدة وأوربا بدءا من عام 1970. وعلى أواسط السبعينيات أصبح المطر حمضيا أكثر من المعتاد في مناطق كثيرة بأوربا, وبدأ الألمان يتحدثون عن موت الغابات لاسيما بالمناطق التي تهب عليها الرياح من ناحية مجمعات التصنيع الهائلة التي تستخدم الفحم بالكتلة الشرقية. وتزايدت حموضة بعض البحيرات في أمريكا إلى درجة أعلى من أن يتحملها الكثير من الأسماك.

واتهمت كندا جارتها أمريكا بأنها قد تسببت في موت 42 ألف بحيرة من بحيراتها الصغيرة. وبدأ رجال الغابات بأمريكا وكندا يشتكون من مرض الأشجار, وذاع مفهوم المطر الحمضي ليصبح قضية سياسية, وأخذت وكالات الأنباء تنشر التحذيرات مصحوبة بصور الأشجار الميتة, وتنبأت بأن هذا سيكون مصير غابات العالم جميعا.

وفي عام 1980 أصدرت أكاديمية العلوم الأمريكية تقريرها عن المطر الحمضي يؤكد فيه على مفهوم "الربيع الصامت الجديد". ظهرت هذه العبارة في الملخص, وإن كان معظم التقرير أقل إنذاراً بالخطر. لكن الصحفيين والسياسيين, كما نعلم, لايقرأون سوى الملخص. وبنشر التقرير ذاع الذعر!

ريجان والبيئيون

تولى رونالد ريجان رئاسة الولايات المتحدة بعد صدور تقرير الأكاديمية بوقت قصير. كان ريجان يرى أن التحذيرات البيئية كلها من صنع البروباجندا اليسارية. كان هو الرئيس الذي قال يوماً لشخص أفزعه هلاك الغابات بكاليفورنيا: "يكفي أن ترى شجرة سيكويا واحدة, إنها تمثل الشجر جميعاً". كان يرى هو ورفاقه أن الطبيعة عدو يلزم قهره, هي السبب في الأمراض وفي تدهور إنتاج المحاصيل وفي العواصف الغبارية. محطة توليد الكهرباء إذ تقام في الريف ـ تولد الطاقة وتتجشأ الدخان ـ كانت عنده تأكيداً للذات البشرية: إما أن يتمتع المجتمع بمزايا الإنتاج الصناعي ويقبل مايسببه من تدمير للبيئة دون نشيج وأنين عاطفي متهافت نبكي فيه أحبابنا من الطيور والسميكات ـ مثلما تفعل مدرسة "هم أفضل منا" أو أن نغلق المصانع ومحطات القوى ونعود لنسكن الخيام!

لذا تجاهل ريجان وإدارته قضية المطر الحمضي. لكنه اضطر إلى أن يصدر قراراً بإجراء دراسة تقدر حجم مخاطرها "البرنامج القومي لتقييم المطر الحمضي: ناباب", وكان هدفه الحقيقي من ورائه هو التسويف. وبالفعل لم تظهر نتائج البرنامج خلال فترة رئاسته.

كان معظم المتشائمين من الليبراليين سياسيا, وكان معظم من ينكرون المشكلة من المحافظين سياسيا. يفترض الليبراليون أن النشاط الصناعي إثم, ومن ثم فإن منتجاته العرضية ـ كثاني أكسيد الكبريت ـ لابد أن تسبب أذى رهيبا لأرضنا المسكينة, وكل من يدعي غير هذا عدو وصنيعة للشركات الرأسمالية. أما المحافظون فيرون أن الاقتصاديات المادية هي قضاء البشر وقدرهم, وبذا فإن نواتجها الثانوية أمر يتماشى مع الخطة الإلهية, وكل من يدعي غير هذا عميل سري لعصابة الاشتراكيين. لم يكن في قاموس أي من الفئتين مكان لأفكار إيكولوجية واقعية ـ أفكار تقول مثلا إن المطر الحمضي هو بالفعل مشكلة, لكنها مشكلة يمكن معالجتها بسرعة دون آلام ملحوظة.

ولقد تحقق بعض ماتوقعه المتشائمون في بلو ريدج, إذ مرت بها سحابات في مثل حموضة عصير الليمون ـ أكثر حموضة من أي مطر حمضي طبيعي, إذا استثنينا مايحدث عقب ثورات البراكين. كانت الإبر الجديدة لأشجار التنوب تحترق كما لو كانت قد غمست في حمض. وفي عام 1985 قدر أن الأشجار على قمة جبل ميتشيل لن تعيش أكثر من عشر سنوات. وبعد ثلاث سنوات ماتت جميعا. قال هيومورتون: "إنني لاأستطيع أن أقطع بأن التلوث يقتل الأشجار بأكثر مما يستطيع غيري أن يقطع بأن التدخين يسبب سرطان الرئة. فإذا كان هناك من يعتقد أن موت الأشجار مجرد حادثة طبيعية, فهو لاشك مختل العقل!

ماذا قالت النتائج العملية?

دعنا نحاول الآن بأسلوب الواقعية الإيكولوجية أن نميز الحقيقي في الادعاءات من المهول. السحابات الحمضية لاتؤذي إلا إذا سقطت أمطاراً فوق سطح الأرض. والكثير من مثل هذه السحب بالولايات المتحدة لايمطر إلا فوق الأطلنطي بعد أن تدفع به الرياح إلى هناك, حيث لاتؤذي, إذ تخففها مياه المحيط سريعا. لكن قمم الجبال التي توجد داخل السحب قد تتعرض للحموضة دون مطر. وقمم جبال بلوريدج تقع داخل السحب, وبذا فالمتوقع أن يكون الأذى من المطر الحمضي, أو السحاب الحمضي, عليها أعلى. وهذا بالفعل ماوجده برنامج ناباب.

قام برنامج ناباب ـ وكانت مدته عشر سنوات وميزانيته 540 مليون دولار - بجمع عينات من 7 آلاف بحيرة, ومئات من الغابات. وأعلن البرنامج سنة 1991 أنه لم يجد شواهد تدل على تدهور عام أو غير طبيعي بغابات الولايات المتحدة أو كندا بسبب المطر الحمضي. وجد المشروع حموضة خطرة في 4% من البحيرات الشرقية "لافي 50% كما توقع المتشائمون", ووجد نسبة مرتفعة من موت الأشجار في 3% فقط من الغابات الشرقية "لافي 100% منها". وكانت أسوأ الآثار في أشجار البيسية الصنوبرية الموجودة بالارتفاعات العليا في مناطق مثل بلوريدج. والحقيقة أن هذه النتائج قد أثارت الارتباك في مجتمع البيئيين, ونبهت البعض منهم إلى أن الكثير جدا من تنبؤاتهم ترتكز على أنماط الكمبيوتر, لا على دراسة عملية بالعالم الواقعي.

قال تقرير "الناباب" إن 240 بحيرة شرقية قد أصبحت "حامضة بشكل حرج" منذ الخمسينيات. وهذه نصف الحقيقة. أما النصف الآخر في أن هناك عددا من البحيرات يقارب هذا قد غدا أقل حموضة. كما أن معظم هذه البحيرات الحامضة بشكل حرج توجد في ولاية فلوريدا, وهي ليست في مهب الرياح الآتية من ناحية محطات القوى, أما أوهايو ـ وهي فعلاً في مهب هذه الرياح ـ فلم تسجل بها بحيرات حامضة.

كناريا المناجم

لكن هذا لايعني بالطبع ألا يثير المطر الحمضي فينا الانزعاج, علينا أن نعتبره "كناريا المنجم". ففي الأزمنة السابقة كان العاملون بالمناجم يضعون بها أقفاصاً تحمل عددا من طيور الكناريا, فهذه الطيور حساسة لنقص الأكسجين في الهواء ولزيادة غاز أول أكسيد الكربون وغاز الميثان, وموتها الفجائي يعني ضرورة إخلاء المنجم من العمال على الفور. ربما كانت هذه النسبة المحدودة من الغابات والبحيرات التي ماتت هي مجرد تحذير كناري. صحيح أن البيئيين يستعملون هذا القياس التمثيلي كثيرا حتى عندما تكون الشواهد مهدئة, لكنه في حالة المطر الحمضي جدير بألا نتجاهله. فحمض الكبريتيك وحمض النيتريك يطلقان الكالسيوم والمغنسيوم من التربة ـ وهاتان مادتان تحتاجهما النباتات الخضراء. فإذا ما ازداد تركيز الحمضين في المطر فإنهما يحرران الألومنيوم, وهذا معدن سام يوجد طبيعيا في التربة مرتبطاً بمعادن أخرى. فإذا استوعبت النباتات هذا الألومنيوم الحر, تسممت. ويعتقد بعض العلماء أن الألومنيوم الذي يحرر في التربة هو السبب الأساسي في موت أشجار بلوريدج.

في عام 1970 صدر قانون لنظافة الهواء بالولايات المتحدة, ثم أضيفت إليه مواد أخرى جعلته أكثر صرامة في عامي 1977 و 1990. وهذا القانون يكلف الدولة نحو 50 بليون دولار سنويا, وهو يختص بضبط المطر الحمضي, والفريونات "الكلورفلوروكربونات", الضخان, والعوادم السامة من العربات الخاصة واللوريات والباصات والمصانع ومحطات القوى والمكاتب, وحتى المخابز. تطلق المحطات الجديدة لتوليد الطاقة الآن من الكبريت مايقل بمقدار 90% عن المحطات التي أقيمت في السبعينيات, والمفروض أن تصل هذه النسبة إلى 95% في أواخر التسعينيات. وبسبب هذا تناقص بالفعل مايبث من ثاني أكسيد الكبريت بالولايات المتحدة في الفترة مابين 1970و 1991 بنسبة بلغت 53%, بالرغم من تزايد ما استخدم من الفحم بنسبة 45%. كما نقص أيضا ما ينبعث من أكسيدات النتروز بنسبة 27%. وهذا يعني أن اهتمام الناس بالقضية قد أدى إلى خفض الانبعاثات بشكل واضح ـ والبيئيون أبداً لايذكرون هذا عند تغطيتهم للقضية. ولقد حذت إنجلترا وألمانيا وفرنسا, وأخيراً كندا, حذو الولايات المتحدة.

الحق في التلويث

في سنة 1990 وافق الكونجرس الأمريكي على اقتراح قدمه وليام رالي, ثم أصدره تشريعا, يقضي بخفض انبعاثات الكبريت بحيث لايُبث في العام ـ ابتداء من سنة 2000 ـ إلا 9 ملايين طن, أي نحو نصف الكمية التي أطلقت عام 1990 "وكانت 19 مليون طن", لتثبت عند هذا المستوى بعد ذلك. وما لم يلاحظه المراقبون هو أن تثبيت الرقم بعد عام 2000 إنما يمثل التفكير الإيكولوجي الواقعي في أعلى مراتبه, إذ هو يقول بضرورة أن يتم النموالاقتصادي في المستقبل دون نمو في التلوث.

سمح إذن لكل محطة من محطات توليد القوى بقدر معين تبثه من الكبريت بحيث يتم خفضه على مستوى الدولة كلها على عام 2000 بالنسبة المقررة. يمكن لأي مؤسسة أن تصل إلى الحد المطلوب إما بتخفيض انبعاثاتها, أو بشراء رصيد مؤسسات أخرى تبث أقل من المسموح لها به. إذا استطاعت المؤسسة أن تخفض ماتطلقه في الهواء من الكبريت إلى مستوى أدنى مما هو مسموح به, فلها الحق في أن تبيع الفرق في الرصيد لغيرها من المؤسسات, بالسعر الذي تسمح به السوق. كان من المتوقع أن يكون سعر الحق في إطلاق طن الكبريت نحو 600 ـ 700 دولار, لكنه يباع في الواقع بسعر 150 دولاراً للطن. وكان أعلى سعر بيع به هو 350 دولارا.

ومعنى هذا السعر المنخفض أن المؤسسات إذا وجدت أن ليس أمامها سوى أن تخفض ماتبثه من الكبريت, اكتشفت إمكان إنجاز ذلك بسعر أرخص مما توقعت! فإذا كان سعر طن الكبريت المنبعث هو 150 دولاراً "لا 700" فإن هذا المبلغ يمثل ماتنفقه المؤسسة فعلا لتخفيض طن من الكبريت في انبعاثاتها. ولقد بين سوق المطر الحمضي زيادة البائعين على المشترين, وهذا يعني أن المؤسسات تقلل ما تنفثه في الجو من الكبريت بأكثر مما يطلبه منها القانون. والترخيص بإطلاق الكبريت ترخيص مؤقت, فهو لايعطي للمؤسسة الحق المطلق في أن تبث ثاني أكسيد الكبريت في الهواء, فقيمة كل حصة تتناقص سنويا بحيث تصبح بلاقيمة في أوائل القرن القادم. إنها لاتعني أن يحول التلوث إلى حقوق ملكية, وإلا لهرْول رجال الصناعة إلى المحاكم يؤكدون حقهم في أن يلوثوا الهواء. هذه الحصص لاتمنح حقوقا, وإنما هي تلغي نفسها بمضي الوقت, فلا يمكن الاحتفاظ بها.

وهذا لايعني أيضا أن تخفيض المطر الحمضي إلى النصف هو المستوى "الصحيح" بأي معنى علمي. إن الشيء الوحيد الذي نعرفه عن البيئة هو أننا لانعرف ماالذي لانعرفه! وهذه النسبة ليست بأكثر من معيار اعتباطي ـ لكنه أفضل ماهو ممكن تحت الظروف الحالية. هو معيار معقول, والمعقولية ـ لا الإيديولوجية ـ لابد أن تكون هي الموجه للواقعية الإيكولوجية الجديدة.

 

أحمد مستجير