الزيتونة

 الزيتونة

قصاصون من سوريا
(1)

حين تلقى عبد الكريم المقدسى، طردأ بريدياً صغيراً، ملفوفا بعناية فائقة، ألمت به الدهشة وساوره العجب، فهو معلم مغمور في مدرسة ابتدائية عربية، بمدينة القدس العربية، ولا يعرف أحد في مدينته أو في الضفة الغربية المحتلة من يمت إليه بصلة القرابة أو بوشيجة صداقة، يمكن أن يؤثره بهدية ما، في أية مناسبة سعيدة- كمناسبة عيد ميلاده- فهو لا يعرف نفسه، تاريخ مولده، حتى يحتفل بعيد ميلاده السعيد في كل عام، إذ اقتصرت وثيقة هويته على ذكر العام الذي ولد فيه.

وتساءل في ذات نفسه، فيهما كان يقلب الطرد البريدي بين يديه، مراعياً إياه بنظرات الريبة والتخوف والحذر:

- ترى أيكون أحد الإسرائيليين من المستوطنين الملاعين، قد أخفى ضمن هذا الطرد لغماً ينفجر في وجهه ويقضي عليه، نكاية به وتخلصا منه، طامعاً بالاستيلاء على أرضه واستلحاقها بأرض، كان قد انتهيها من قبل، وأعانه القانون الإسرائيلي الجائر، الذي يبيح مصادرة أية أرض عربية في القدس؟

يضاف إلى ذلك كله أنه ظل موضع كراهية متأصلة في نفوس جيرانه من المستوطنين اليهود، لأنه عربي، مما يعرضه دوما لخطر الاغتيال بقنبلة ضمن طرد بريدي. وتذكر عبد الكريم، إلى هذا، كيف حاصرت دورية إسرائيلية داره، لتقلتع شجرة زيتون ملأى بثمارها الناضجة، لأن ابنه الفتى حسين انهال على هذه الدورية برقيق الحجارة من سطح الدار، معرضاً دار أبيه لاقتلاع شجرته العزيزة، اليتيححة، عقاباً له.

كان هذا العقاب من الشدة، بحيث شعر عبد الكريم بغصة شديدة تجثم فوق صدره، فيما كان يرى إلى بلدوزر إسرائيلي- هذا الوحش المعدني الضازي - يهدم جزءاً من الدار، ليتسنى له أن يصل مباشرة إلى الشجرة المسكينة، فقد عمد جنود الكتيبة إلى إحاطة جذع الشجرة وأغصانها، بأمراس فولاذية لم تلبث أن انتزعتها من أرضها وأحالتها إلى أشلاء شجرة جافة، مهملة، مطروحة على عذار الطريق.

لا، لم ينس عبد الكريم قط مشهد الحجرة المجتثة محدقاً إلى البلدوزر يشد الأغصان الخضراء، ولايني يجرها، ببطء، ليخلص إلى سمعه أنينها، فيما كانت الأغصان تتكسر، مذعنة، مستسلمة، كأن جذورها كانت تتأوه، موصولة بحنايا قلبه الحزين.

لا، ولن ينسى أبداً، صوت قضقضة الأغصان المهشمة، المحطمة، يتناهى إلى سمعة، كأنه آخر دعاء ترفعه الشجرة المجندلة إلى الله سبحانه، لتشكو إليه هؤلاء القساة، العتاة، الذين حرموه، إلى الأبد، شجرته الأثيرة، الغالية التي أنفق سنوات طوالا، في رعايتها وتعهدها بالري والسقيا، حتى أمست فارعة، محملة بثمار الزيتون المترعة بزيتها الصافي، المخضوضر، الذي كان يغمس فيه خبزه، مؤتدماً به هو وأسرته الصغيرة، بعد أن تمتلئ قواريره المترعة الأعناق، بالزيت الشهي المعتصر الذي كان يكفي أسرته زاداً مباركا موفوراً، أكثر من عام.

ولم يكتف أفراد الكتيبة الغادرة بهذا كله، وإنه ليذكر والأسي يعتصر روحه، كيف عاود ابنه، حسين إلقاء الحجارة على الجنود، وهو يرى الشجرة التي أظلت طفولته الهنيئة تقتلع من أرضها، وكيف سدد هؤلاء الجنود إلى صدر ابنه رصاصة غادرة، فأردوه قتيلاً، وتردى من حالق، ووقع في فناء الدار مضرجاً بدمه الطاهر، كأنه عصفور بريء تهاوى صريعاً برصاصة طائشة من ثنايا الأغصان الملتفة المتواشية. كانت حبات الزيتون الخبراء، مبعثرة، متناثرة، هنا وهناك من فناء الدار وحول جثة الفتى الشهيد، كأنها نجوم متلاحقة متلاحمة في منفسح السماء قد انطفأت، فجأة، وتهاوت على الأرض، مدخرة بصيصاً وانياً أخضر، كما لو أن ألقها المتوامض قد خفت وجعل لونه يتماهى، ويتلاشى، محشرجاً، محتضراً، ويحور إلى لون أخضر، باهت، ليتسنى له أن يعانق أنفاس الفتى وهو يجود بأنفاسه الأخيرة، موشياً لهاثه المتردد في فمه، بشياته الممرعة، الواعدة بمرابع الجنة الخضراء، ممهدة له الطريق إليها.

لا، ولن ينسى أبداً، فيما كان يجس براحته المرتعشة جثة ابنه حسين، وعيناه تفيضان بالدموع وزوجته المسكينة تولول، باكية على ابنها وتقرع صدرها صارخة:

- آه منكم يا أولاد الكلب، لقد قتلتم ابني.

ثم جعلت ترقص وتدور حول جثة ابنها مزغردة، منتحبة، ملوحة بمنديل مخضب بدم ابنها كأنها ترقص في عرس ابنها الشهيد، في رياض الجنة، وغمغم الفتى، فيما كانت أمه تنحني عليه، مخاطبة إياه، وبقية من دماء الحياة ترتعش على شفتيه:

- علام عرضت نفسك للخطر، يا حبيبي؟

- من أجل فلسطين، يمه.

تلك كانت آخر الكلمات التي لهج بها قبل أن يلتحق بجوار ربه، شهيداُ.

ومنذئذ اقترن، في ذهن عبد الكريم، مصير شجرة الزيتون الشهيدة بمصير ابنه الشهيد، ولم يبرأ قط من جرحه الناغر، المفتوح على مواجيده الدائمة، وظل يبكي ابنته الشجرة وابنه الحبيب معاً، عمره كله. كانت الشجرة وابنه متلازمين في خاطره، حتى إذا ناسم اسم ابنه حسين ذاكرته الموجعة، تذكر فوراً كيف امتدت الأمراس الفولاذية إلى عنق شجرته وجذعها المتين المتشبث بالتراب، الطيب، المعطاء، وكيف خلص إلى سمعه نسيجها يتردد أنيناُ موصولاً بخلجات قلبه المضني.

(2)

بيد أن تطلع عبد الكريم إلى معرفة محتوى الطرد البريدي الذي تلقاه، في هذا اليوم، طغى على تخوفه وحذره، فقد قطع الخيط الذي يحزم الطرد البريدي ويشده، وارتجفت راحته فيما كانت تزيل الغلاف الورقي الذي يلفع هذا الطرد، فإذا هو يرى علبة مربعة صغيرة. وعاوده تخوفه من أن تتضمن العلبة لغماً قد ينفجر في وجهه ويودي به، فأمسك بها وقلبها، محاذراً أفتحها، مفكراً أنها ربما تحتوي على شيء آخر، غير اللغم الخطر المميت، كأن يكون مرسلها شاء أن يعابثه، فأودع فيها، نابضاً يشرئب، فجأة، من داخلها، مثل بعض دمى الأطفال المحتوية على نابض، يقفز، بغتة، مستتبعا ضحكات حبيسة، متهانفة، مواكبة لمنظر النابض يقفز كجرادة متحفزة، تنط، على حين غرة. ومد عبد الكريم بصره الطلعة، بعد أن فتح العلبة، فإذا هو يرى بدلا من اللغم الذي كان يتوقعه ويخشاه ثمرة زيتون خضراء، ممددة في وسط العلبة، لعلها أن تماثل بحجمها، حبة زيتون من قطوف زيتوناته المألوفة، المتدلية قديماً من أغصان شجرة الزيتون، المباركة، الأثيرة التي اقتلعها الصهاينة من فناء دازه كانت تتراءى فيما هو يدانيها حيناً ويباعدها حيناً آخر عن عينيه المتطلعين، كما لو أنها حبة زيتون مقتطفة من شجرته الحبيبة. كانت نقية، مليسة، تكاد قشرتها الخضراء تشف عن نواتها الكامنة في قلبها، وجاذبه شعوره المؤلم الذي استبد بقلبه، حين اجتثت شجرته العزيزة، فارتجف فكه الأسفل، مشفياً على البكاء، متذكراً ابنه الشهيد، حين تلقى صدره الرصاصة الغادرة فوقع من حالق، على الأرض صريعاً. وتساءل مرة أخرى:

- ترى أتكون هذه الزيتونة الممددة في وسط العلبة مزحة سمجة، شاء مرسلها أن يذكي حقده ويؤرثه ليزيد في استيائه وغضبه؟

ومع ذلك كله، فقد أحس بحنان غريب يجاذب نفسه، وهو يحيط حبة الزيتون بنظراته الحادبة، المتعطفة، كأن ولداً غائباً عاد فجأة من غربته. لهذا لم يشأ أن يرمي بها ويستغني عنها وحمل العلبة التي تحتوي عليها فوضعها، بعناية، على طاولته الصغيرة التي ألف أن يصحح وظائف تلاميذه فوقها.

وقبل أن يفيء إلى سريره ليخلد إلى النوم، راق له أن يداعب بأنامله الحانية حبة الزيتون رانياُ إليها، مشغوف اللب، وخيل إليه أن نظراته تترفق من عينيه، كأنها تلامس وجنة طفلة له نائمة، ملامسة ناعمة رقيقة، لتقتطف منها قبلة خاطفة.

(3)

ولما اغتمضت جفونه المتدانية، سنحت في نومه، رؤيا غريبة متحت ألوانها من اللون الأخضر الذي تتسم به حقول الزيتون الممرعة، الممتدة في بساتين القدس وضواحيها.

وانفسحت رؤياه عن أشجار الزيتون وهي تتمايل، مزهوة، متأودة على هيتمة النسيم الرخي، يداعب أغصانها المرتعشة التي تحمل ثمارها اليانعة الخضراء المترعة بزيت يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، وينبثق منها نور على نور، نور باهر يلامح نوراً باهراً آخر، يضمه، يعانقه، كأنما يؤكده ويتممه. وحلا له في إغفاءته الحالمة، أن يتفيأ شجرة من تلك الشجرات الظليلة، وهي ترخي عذبات أغصانها المتخلجة، واستلقى على التراب الممهد، محدقاً بنظراته المهمومة، المستطلعة، إلى ثمارها المتدلية، مغرية ذراعه بأن تقتطف زيتونة يعرف، سلفاً، أنها ستكون مرة، لاذعة، إن طاب له أن يتذوقها.

وانتزعت أنامله السانحة، في حلمه الهنيء زيتونة خضراء واعدة بمذاقها المر، الحريف، فلما دسها في فمه، خجل إليه أن طعم زيتها في لسانه أضحى مماثلاً لعسل شهي، بل أطيب مذاقاً وأكثر حلاوة.

وانساق من الزيتونة شعاع متلألىء، كما لو أنه يترقرق من مصباح، في مشكاة قابعة في جدار مضيء. وجعل لسانه يغمغم لاهجاً ببقية الآية الكريمة من سورة النور التي كان يحفظها جيداً، تترقرق كلماتها المباركة، المترادفة على شفتيه:

سورة النور آية 35المصباح في زجاجة. الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة. زيتونة لا شرقية ولا غربية. يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار

وانداح من الزيتونة المقتطفة فيض غامر من النور، لم يلبث بعد أن استطاب لسانه مذاقها المعسول أن تدفق نوراً على نور، مترقرقاً من ثمار الزيتون المتوهجة، المتدلية التي كانت ذراعه تعطو إليها لتقتطف بعض ثمارها، إذ تحول هذا النور بقدرة خفية إلى كوكب دري يوقد من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية ولا غربية، حتى لقد عشيت عيناه من النور المنثال من الزيتونة المتوهجة رهواً، ليناً، هيناً، ملامساً صدره، مريقاً في منفسحه طمأنينة سابغة.

ولما استفاق من حلمه الماتع، مثل في وهمه أن شعاعاً من النور يلامس شفتيه الضارعتين، المتوسلتين، وهما تلهجان بكلمات الآية الكريمة، ليهب لهما مدداً من النور غريباً، مذهلاً، لم تألفاه من قبل.

(4)

حين استيقظ عبد الكريم المقدسي، صباحاً، راق له أن يستعرض في خاطره صوراً من حلمه الرائع الذي استمسكت به ذاكرته، ثم تذكر، فجأة، حبة الزيتون المستلقية ضمن العلبة التي تلقاها بالبريد ودفعه حب الاستطلاع، إلى الاقتراب من طاولته، حيث تجثم العلبة، راضية مصير زيتونتها النائية عن أمها الشجرة وعن لداتها من ثمار الزيتون، وتساءل:

- ترى من الذي بعث إليه بهذه الزيتونة، وما قصده من إرسالها إليه؟

ولما فتح العلبة بدا له أن حبة الزيتون الراقدة، قد تضخمت وزاد حجمها وتضاعف، على نحو لافت للنظر، ومثير للدهشة، وخيل إليه أن الأمر لا يعدو أن يكون خداعاً للنظر، فلربما أخطأ تقدير حجمها السابق، ولعل ثمة غيوضاً قد ينحسر ويتضح له غداً أو بعد غد، واعتزم أن يعاود النظر إلى الزيتونة، ليتحقق جيدا من أن زيتونته هذه لا تزال على حالها، من دون أن تتضخم وتنمو، فقد ولى زمن السحر والمعجزات.

وفي اليوم التالي وثب من فراشه، واتخذ سمته، متمهلاً، منسرق الخطا، نحو العلبة، كأنما يحاذر أن يرى شيئاً خارقاً، ربما التوى على ذهنه أن يتأوله، ومن يدري؟ لعل حلمه الذي سنح أول من أمس، في نومه يفسر هذه الظاهرة الغريبة، في تضخم زيتونته، ولما فتح العلبة هاله أن يجد حجة الزيتون قد أضحت في حجم تفاحة كبيرة، وأيقن، آنئذ أن ثمة شيئاً ذا دلالة خاصة بهذه الزيتونة، وأن ذهنه عاجز عن حل لغزها، مرجئاً تعليل ذلك إلى ما يمكن أن يحمل إليه الغد من مفاجآت، حول هذه الزيتونة المتنامية، يوماً بعد يوم.

وفي صباح اليوم التالي، فزع فوراً إلى الزيتونة الراقدة في علبتها، فإذا هي تتراءى وقد تضخمت وأضحت بحجم يعدل ضعفي حجمها السابق، أجل إن في الأمر شيئاً يثير الاستغراب والتعجب، لعله يكون أشبه بحدث عجيب، يخالف المنطق وسنة الطبيعة.

كانت حبة الزيتون تتراءى بحجمها الجديد مماثلة لقنبلة يدوية كبيرة، بعد أن اتسع حجمها وفاض فلم تعد علبتها التي كانت تحتوي عليها من قبل بقادرة على استيعاب حجمها المتنامي، وتساءل في ذات نفسه:

- ترى أيكون في مقدور هذه الزيتونة المماثلة، بشكلها وحجمها، لقنبلة، أن تنهض بدور يماثل القنبلة الحقيقية، في الإحراق والتدمير؟

ما عليه إذن سوى أن ينتظر مرور سيارة عسكرية، أمام داره، ليقذف بها من فوق السطح المطل على الطريق، وليوكل أمره، بعدئذ، للقدر المواتي، في النجاة، ومن يدري؟ فلربما أوتيت هذه الزيتونة العجيبة قدرة القنبلة الحقيقية وأثرها في التدمير، ولعلها أضحت رمزاً حياً دلالة موحية لما ينبغي أن ينهض به عبد الكريم لمقدسي نفسه، ليثأر لشجرة الزيتون التي اقتلعها الصهاينة ظلماً وعدواناً، وينتقم لابنه حسين الذي قضى نحبه شهيداً. هكذا تنقلب ثمرة شجرة الزيتون التي كان غصنها يرمز، من قبل، للسلام، إلى قنبلة مدمرة، تضحي رمزاً للنضال والتحرير والمقاومة ضد العدو المغتصب الغاشم.

(5)

في اليوم التالي، تربص عبدالكريم المقدسي، فوق سطح داره، منتظراً مرور سيارة عسكرية إسرائيلية، ها هي ذي سيارة تغص بالجنود المسلحين، تقترب شيئاً، فشيئاً، من باب داره، واستعد عبد الكريم كنمر ضار، يتجمع ليثب على فريسته، وقذف بجماع قوته حبة الزيتون المدمرة. وتجاوب صوت انفجار شديد، مدوياً في أرجاء مدينة القدس كلها، وكذلك صرعت حبة الزيتون جميع راكبي السيارة العسكرية الإسرائيلية والتهمتها النار المتأججة، المحرقة.

أما عبدالكريم المقدسي فلم يعثر أحد على أثر له، بالرغم من البحث الدائب، المتواصل الذي قامت به سلطات الاحتلال الإسرائيلية، بغية اعتقاله.

وقد روى شخص عرف بخياله المتوفز، المجنح، أنه رأى بأم عينيه، عبد الكريم المقدسي، حين رمى حبة الزيتون/ القنبلة، من سطح داره، مضيفاً أن الزيتونة كانت تشع، متوامضة بنور متلألئ وهاج، وأن عبد الكريم تمكن من الهرب، إذ فزع إلى شجرة الزيتون - وكانت لا تزال مطروحة على وصيد داره - فامتطاها، مثلما يمتطي صهوة جواد مطهم، وأنه سمع، إثر ذلك هزيم رعد قاصف، يماثل حمحمة جواد يسابق الريح في عدوه، وأن عبدالكريم كان يلوح بيده، مودعاً، وبدا كما لو أنه يعلو سحابة عابرة جازت به سماء القدس الصافية، المتلاحمة النجوم، لنقله إلى مكان قصي، يكون فيه بمنجى من انتقام الصهاينة.

وزعم شخص أنه شاهد عبدالكريم في دمشق، وقد التحق بقوات المقاومة الفلسطينية، جندياً بسيطاً، تتقد عواطفه حماسة وإيماناً، كما أكد شخص آخر أنه رآه يطوف بالكعبة، في مكة المكرمة، بين جموع حجاج بيت الله الحرام، في عيد الأضحى المبارك.

والله أدرى وأعلم بمصيره المجهول.

المارد
حكاية أسطورية
قصة بقلم: فاضل السباعي

اهتزت أسلاك البرق والهاتف والفاكس في طول البلاد وعرضها: لقد ألقي القبض على "المارد" وكان الإمبراطور أول من تلقى النبأ الخطير، زفه إليه مدير أحد أجهزة الأمن، المتسمي ب "زند النظام "، الذي كان لرجاله شرف إيقاع المارد في الأسر دون قوات الأمن الأخرى.

أمر الإمبراطور، وهو يكاد يغمى عليه من شدة الفرح: "اجعلوه في زنزانة ضيقة، وامنعوا عنه الناس، وقدموا له القليل من الطعام والشراب، وتفننوا في إرهاقه وتعذيبه قبل أن تشرعوا في استجوابه، وفي الاستجواب أهينوه وأذلوه.. حتى إذا وهن عزمه، أمرنا بأن يمثل بين أيدينا، فيكون لنا معه شأن آخر".

أشرف زند النظام بنفسه على تنفيذ الأوامر السامية.

جيء إليه بالمارد يرسف بالأغلال. أمعن فيه النظر: كان ظنه أن يراه يرتعد أمامه من الخوف، ولكنه وجده ثابت الجنان كما لو أنه حر طليق، ورآه، أيضاً، آسراً جليلاً يملأ النفس مهابة، مما جعله يحس هو رعشة بإزائه. ولكنه كان واثقاً من أن هذا الرجل، الذي أقض مضجع الإمبراطور، سوف يتغير تحت وطأة ما يملكه رجاله من أدوات الإرهاق والتعذيب.

- ما الذي يحملك على الثورة على إمبراطور البلاد العظيم؟.

- إن إمبراطوركم بغير العدل يحكم.

- كيف تجرؤ على هذا القول وأنت أسير في قبضتنا؟

- أردد هنا ما تعلنه الجماهير في كل مكان.

- إن الإمبراطور عادلة، وحكمه راسخ، وليس هناك من قوة تزعزعه.

- وهم. إنه من هلام!

- أيها الأسير الذليل!

سدد المارد إلى زند النظام ازدراء، وهو بالصمت معتصم.

- ماذا تعني بكلمة "الجماهير"، هذا المصطلح الفارغ؟ إن الشعب، كل الشعب، ينحني للإمبراطور حباً، ويسبح بحمده صباح مساء.

-...!....!...!

- تصمت، أيها المدعي المغرور! تظن أنهم يقفون إلى جانبك أو يسيرون وراءك؟ أين هم الآن؟ تخلوا عنك إلى الأبد، وانتهت أسطورتك الزائفة. إن امبراطورنا لهو أعظم كيان حاكم على وجه الأرض، لم ينجب التاريخ له نظيرا. أما تستمع إلى وسائل الإعلام، ما تبدي وما تعيد؟ ألا تعيش بيننا، أم أنك عن الوطن غريب، أيها الكائن الغريب؟!

هدر زند النظام بذلك، ثم أشار لهم أن.. ابدأوا!!

أخضع الجلادون المارد لكل ما في أيديهم من أدوات التعذيب وما في صدورهم من آيات الغضب. وكان مما يزيدهم حقداً عليه، أن لسانه يتأبى على الاحتجاج، فلا تند عنه صرخة، فإذا ما اشتد عليه الألم اكتفى بغمض عينيه.

ولم يزالوا يمعنون.. حتى تبينوا، في موهن من الليل، أنه، وهو بين أيديهم، قد فارق الحياة! فصعقوا من الخوف، والزند أجهش بالبكاء:

"لقد كانت إرادة الإمبراطور أن يقابل المارد وجهاً لوجه!"

كان نبأ اعتقال المارد قد تسرب إلى خارج السجن، على ألسنة الجلادين الفرحين أنفسهم، ليسري بين الناس.

فريق منهم، ممن آمنوا بأن المارد لا يمكن أن يناله الاعتقال، قالوا: "تلك دسيسة من الإمبراطور لإشاعة التخاذل بيننا! " واعتقد آخرون أن المارد سوف ينغص، وهو في السجن، على الإمبراطور هناءته، كما نغصها عليه وهو طليق! ولكن بعض الناس قالوا: "إن كان الإمبراطور قد تمكن حقاً من المارد، فإن جذوة الكفاح قد خبت إلى الأبد! ". فلما شاع في الصباح نبأ موت المارد، بكى من بكى من الناس حزناً ويأسا. ولكن منهم من أنكر ما سمع: "تلك دسيسة أخرى، يريدون بها توهين عزائمنا! ". ومنهم من قال: "إن كان المارد قد مات وهو بين أيديهم، فلابد أنه تماوت ليخدعهم، وهو منبعث في الغد أقوى مما كان! إنه، وقد تجلت فيه روح الشعب، لا يمكن ألن يموت ".

وأما الإمبراطور، فإنه، لحظة بلغه نبأ الموت، أرغى وأزبد: "وشرفي لأصلبن زند النظام، الغبي، على باب سجنه!"

والجلادون حملوا جثمان المارد إلى زنزانته، وسجوه على تلك المصطبة الضيقة، وغطوه بكفن، وشددوا عليه الحراسة. فلما أصبح الصباح، أطل رئيس الحرس بعينيه على الزنزانة فافتقد- ياللعجب!- الكفن الأبيض وما تحت الكفن. دعك عينيه، ثم صرخ:

(كارثة آخرى تحل بنا: السجين الميت يغيب من زنزانته!"

واقتحموها.. وإذا هم يرون المارد يجلس، حياً، في زاوية منها!!!

بكوا من الفرح: لم يكن المارد بالضائعة جثته، بل لم يكن ميتا! ولكن بغتهم خوف: إذا كان قد قدر له أن تدب الحياة فيه بعد الموت، فأي كائن هو؟!

والإمبراطور ازداد ذهوله. وأرسل محققين ليتحروا الحقيقة. وتزايد إيمان الناس بالمارد: إذا كان قد استعصى على الموت، فإنه مستعص على واقع السجن، وعلى الجلادين، وعلى حلقات القهر كلها.

وجاء في تقرير المحققين أن الشهود أكدوا حقيقة الموت الذي نزل بالسجين في منتصف الليل! وكشفوا عن حقيقة أخرى مغايرة: لدى معاينتهم لجسمه، بدا لهم وكأنه لم ينزل به موت، لا ولم يباشر ضده تعذيب!

فاستفزوا بذلك الإمبراطور:

"كاذبون! خادعون ومخدوعون! مجانين، سكارى!".

- من أنت؟

- أنا روح الشعب.

- أنت عدو الشعب، لأنك تحاول قهر روحه، ولن تستطيع.

- أيها المتججح! قل لي: ماذا تريد مني؟

- أن تزول!

- أنت تطالب الجلالة الإمبراطورية بأن يزول!!

- المطالب هو الشعب.

- إن سمحنا لنفسنا بسماعك، فمن ذا الذي ينهض بحكم البلاد؟

- الشعب.

- لا يزال يردد كلمة: الشعب، الشعب! إمبراطورية قد وطدت أركانها وأعليت بنيانها، أتركها لوهم تسميه "الشعب"؟!

- الواهم أنت. أنت ما وطدت أركانا ولا أعليت بنيانا.

- وهذه الإمبراطورية العظيمة، التي تظلك؟

- ما قام على الفساد فهو فاسد.

- من أين أتيت، أيها الرجل الخرافي؟

- مزروع أنا في كل قلب، منبث في كل نفس.

- هل مت حقاً في العشية، كما زعموا؟

- مثلي لا يدركه الموت.

- وهل هناك من لا يموت، أيها الغر؟ أنبئني: أنا، الإمبراطور، ألن أموت أيضا؟

- لسوف تزول عما قريب.

- ولكنك أنت، أيها الأفاق، من يلفظ أنفاسه هذا اليوم. حكمت عليك بالموت على الخازوق. أوصيكم بأن تطيلوا عذابه: لا تقدموا له جرعة الماء الأخيرة حتى يبلغ السنان ما بين كتفيه. ولسوف نرى ما إذا كان يناله الموت، أم أنه يبقى على الخازوق حيا!!

ارتسمت بسمة عريضة على ثغر المارد، لحظة النطق بحكم الإعدام. بعض من حضروا المقابلة أكدوا أنه بدا أعلى قامة مما كان ساعة ألقي القبض عليه، وأصلب عوداً، وأكمل رجولة، ترفرف عليه روح معنوية عالية جدا!

على الخازوق رفعوه، بعد أن أحاطوا مبنى السجن بجيش عرمرم. ولكن أحداً من أبناء الشعب لم تراوده فكرة أن يهاجم السجن لإنقاذ المارد. باتوا موقنين بأن قواتهم الخارقة كامنة فيه. ولكن قلة من الناس خافت أن يكون موت أمس خدعة لفقها الجلادون الخبثاء، فيكون موته على الخازوق اليوم حقيقة. لم يقاوم المارد جلاديه. رفعوه فطاوعهم. أدوا مهمتهم الصعبة بأيد ترتجف. ثم بدأ رمح الخازوق ينزلق في اللحم شيئا فشيئا. حدث الجلادون أن المارد كان ينقل ناظريه بينهم وكأنه يعتلي عرشاً وثيرا قد أقيم فوق أعناق شعب محب وفي!

فقط طلب المارد منهم جرعة ماء. وظلوا مانعيها عنه، حسب إرادة الإمبراطور. وما ناولوه الكأس إلا لحظة بلغ السنان ما بين الكتفين. فلما ارتشف جرعته، لوى عنقه وأغمض عينيه ميتا.

وتوزع الناس ما بين خائف مشفق، وبين مؤمن بأن المارد لا يمكن أن يموت.

والإمبراطور أعلن فرحته:

"هذا هو الموت الحقيقي. ومن ذا الذي يستعصي على إرادتي؟ ".

وأمر بأن توارى الجثة في مكان مجهول.

في صباح اليوم التالي، شوهد المارد وهو يدخل العاصمة، من احد أبوابها، سائرا على قدميه، وقت طلوع الشمس!

صرخ الإمبراطور:

"أهو نفسه؟ أم شبه لكم، أيها السكارى؟ "

وأمرهم: " قطعوا أوصاله، حياً، إربا إربا، ثم ارموا بأشلائه، كل شلو، في ركن من أركان الإمبراطورية" جعلوا يحتزون قطعا من يديه، رجليه، جذعه، ثم رأسه.. ويبعثون بكل شلو إلى جنوب، وشمال، وشرق، وغرب، وجنوب غرب، وشمال شرق.. وإلى كل مكان: في عمق الصحراء، وفي وهاد الأودية، وعلى التخوم البعيدة، لتكون طعاماً لسباع البر وجوارح الطير.

في الصباح الذي تلا، شوهد مردة، بعدد أشلاء المارد الذي قطع، يدخلون العاصمة الإمبراطورية، من كل اتجاه، يشبه كل واحد منهم المارد- الأب ويضاهية قوة وجلالا. أمر الإمبراطور بأن يلقى القبض عليهم جميعا، ويحرقوا في أتون كبير، ثم تحمل طائرات سلاح الجو الإمبراطوري رمادهم، وتسفيه فوق قيم الجبال، وعلى مجاري الأنهار، وسواحل البحار، وفي كل حيز من فضاء الإمبراطورية. في باكر الصباح شوهد جيش من المردة، جيوش، يدخلون العا صمة، والمدن، والمواني، والثغور، وكل قرية من قرى الإمبراطورية.. بعدد لا تستطيع عين أن تحصي ولا جيش أن يرصد ليصد.

صرخ الإمبراطور:

"ما هذا التكاثر؟! ما هذا الجيش من النمال ؟! دعوهم لأرى ما يسعهم أن يفعلوا، هؤلاء العزل! " الذي وقع في ذلك اليوم المشهود، أن جيش المردة الأعزل، اتجه نحو القصر الإمبراطوري، وأحاط به. شاهد الإمبراطور ذلك بنفسه من نوافذ قصره. فأمر حراسه بأن يطلقوا النار على هذا الزحف غير المقدس. العجيب- الذي أصبح يروى فيما بعد - أن الرصاص، الذي كان ينهمر من البنادق الأتوماتيكية مثل زخ المطر، ما يكاد يلامس صدور الزاحفين حتى يرتد إلى الحرس فيفنيهم!

وأما الإمبراطور- الذي كان يوما عظيما- فقد انهار قصره، وغارت الأرض به وبكل من فيه، حتى لم يعثر لأحد منهم على أثر. وأما المارد- المارد الأب- والمردة- الأبناء والأحفاد، فإن عينا لم تكتحل بمرأى أي منهم قط. ذلك أنهم لم يكونوا سوى إرادة الشعب، الكامنة في الصدور، المنبثة في كل نفس تواقة إلى الحرية.


دمية عالقة في الشجرة
قصة بقلم: وليد إخلاصي

كان النور المبهج يشق طريقه مع انحسار الفجر الرطب، فتدب حرارة مبكرة انعشت رجلاً غلبت عليه عادة تأمل الطبيعة والإصغاء إلى الصمت. وكانت حرارة النور قد دفعت بنسيم رقيق هز برفق أوراق شجرة الزنزلخت المتسامقة في الفضاء، متفوقة على أشجار السرو والعفص، وقد سابقت ما حولها من أشجار دائمة الخصرة، وكادت تسبق ارتفاع العمارة الساكنة منذ نصف قرن لا يتغير فيها شيء سوى لون الحجرالحلبي الذي غطت سمرته المحصرة بشرة الحجر الكلسي الذي كان في البداية علامة عام المدينة الشهباء.

وكشف النور المضيء أحشاء الشجرة المكتنزة الأوراق، بعد أن مر عليها ربيع استثنائي ارتوت فيه التربة واندفع النسغ في عروق الشجر وهاش العشب وأزت الحشرات، استعاد الرجل المتقاعد حيويته فتعلقت عيناه بالأوراق الخضر يبادلها النشوة بينما كأس الشاي الرقيق بيده يبدو وكأنه يشرب منه نخب بهجة الاخضرار. كانت الزوجة قد عادت إلى النوم من جديد، والدار الواسعة تلم بين جدرانها الأثاث القديم والكتب التي اصفرت أوراقها والصور المعلقة يطل منها الآباء والأجداد وآثار الفوضى التي خلفها احتفال الأولاد والأحفاد بعيد الزواج الأربعين وقد أصرت الزوجة على إحيائه لاصطياد أفراد الأسرة في لحظة تجمع واحدة كانت قد افتقدتها لفترة طويلة.

وكانت الواجهة الشرقية الشمالية للدار تستقبل صعود الشمس، بينما الرجل كعادته يتأرجح بهدوء على كرسيه البامبو الذي ورثه عن أبيه وخصصه للشرفة المزججة التي تطل على الشارع العريض. فتح المتقاعد جريدة البارحة يلقي نظرة عاجلة على عناوين الصفحة الأولى، لكنه في ذلك الصباح شرد إلى شجرة الزنزلخت التي لمع منها شيء يثير الانتباه. ثمة ثمرة حمراء كبيرة كانت تتمايل مع أوراق الغصن السفلي، فطوى الجريدة ومال بجذعه يريد أن يتبين أمر تلك الثمرة الغريبة وقد ظن أنها مجرد وهم أو التماع مخادع لشمس الخريف، ولكنه سيكتشف أنها لم تكن ثمرة من ثمار الزلزلخت الصغيرة التي كان يستخدمها في طفولته لمضايقة الجنود الفرنسيين وهم يتيهون بأحذيتهم الثقيلة في الشوارع والأحياء. لابد أنها ثمرة شذت فالشذزذ قد استشرى في كل مكان وفي أي حين. رجال صغار فشلوا في دراستهم أو طردوا من وظائفهم لسوء الائتمان باتوا يتيهون في الشوارع بسياراتهم السود التي لا تسمح للعين أن ترى من بداخلها، وسجناء حجزوا لارتكاب جرائم مست اقتصاد البلد أو أممنه خرجوا إلى مقاهي الفنادق الكبرى ليكونوا أهم زبائنه. ثم انكشفت له حقيقة الثمرة الشاذة فإذا هي دمية صغيرة غطى ثوب أبيض جانباً من جسدها فظهر الرأس العاري والساقان والقدمان كزهرة الرمان القانية. كانت الدمية دون ذراعين وكأنها عاجزة عن فعل شيء.

لاحت له صورة آخر أحفاده، وشعاع الشمس التي تنزلق متسارعة نحو الأعلى خارجة من افق طالما تخلية بعد أن حجبته الأبنية العالية، يكشف تفاصيل الدمية كطفل عالق في الشجرة لا يفكر بالصراخ أو باستغاثة. وبدا حفيده الأخير وكأنه يتقلب بهدوء بين الأوراق يصغي إلى هدهدة ساحرة دفعت به إلى إغفاءة طويلة. تساءل حائراً من أين جاءت الدمية؟ وهمس بمرح مفتعل لم يكن من عادته خلال سنوات التقاعد المتراكمة "أنها سقطت من السماء ولابد أن أهلها من الملائكة يبحثون عنها الآن ".

هكذا أغفى عن الدمية القادمة من السماء، وعاد إلى جريدته يقلب صفحاتها المكتظة بالحروف والصور التي لم يفهم شيئاً منها أو ميز أمراً فيها. كان الضياء المتزايد كفيض يعشي عينه، وعقله يفكر في كل اتجاه.

أربعون سنة قلقة في خدمة الحكومة، يعادلها تقريباً عمر زواج هادىء يخفف عنه وطأة التقلب والضيق في الوظيفة. رئيس ديوان في محاكم مختلفة وبئر أسرار لمئات القضاة والمحامين والمتهمين والمتقاضين من كل صنف. أكثر رجال القصر العدلي معرفة بكل شيء، ثم ينتهي إلى أمين مكتبة القصر. لم يستطع أن يبعد عن تخيله اليومي الذي بات من الأمور التي تنهكه، ذكريات العدل والظلم، الافتراء والكذب. في البداية كانت الخيالات متعة يستعيد فيها شباب الماضي، ثم باتت ألماً ونزيزاً لجرح عميق.

محاكم شرعية ومحاكم مدنية وأخرى جزائية. زواج وطلاق واعتداء على حقوق الغير وجرائم تذهب بالأبرياء وينفذ منها قتلة ومتآمرون كالشعرة من العجين. وكأن المتقاعد كان ضابط إيقاع القضاء والقدر في زواج الناس وخلافاتهم، فى اغتصاب عجوز لصبية في زواج إكراه أو إغراء، أو في جمع أموال الأرامل واليتامى والمحتاجين والهرب بها إلى مشاريع وهمية لا يستطيع القانون أن يكسر حواجزها. قاض وقور يذبح شرف القانون خلسة، ومحام يتآمر على موكله، ومحقق يزيف الحقائق لصالح رزمة من الأوراق النقدية المحددة سلفاً. وهكذا كان المتقاعد يفكر، بل إنه مازال، يفكر في تدوين ذكرياته التي ما إن يشرع في كتابة أول سطر منها حتى تذهب به المخاوف بعيداً إلى احتمالات غضب أحد من القضاة أو المحامين أو لربما المسئولين الكبار، وهو العجوز الذي يشكو من مرض السكري، وأولاده وأصهاره موظفون في الدولة، أو لدى مكاتب وشركات خاصة لا يمتلك أحد منهم القوة لدرء الخطر عنه الذي قد يتسبب به نبش ذكريات الماضي الذي لا يريد أن يموت.

لقد حدث أن دون ملاحظاته برموز سرية لها علاقة برجال وأحوال رآها وعاينها ودقق بها فباتت ملتحمة بعقله وروحه لا يقدر على الهرب منها، حتى وهو يخفيها كي تكون نواة كتاب الذكريات الحلوة والمريرة، وحتى وهو يضطر إلى إحراقها ذلك اليوم وهو يرى إلى ابنه البكر، وكان فنياً في البلدية، وقد أوقف عرضياً انتقاماً من اعتراضاتة التي ضايقت متضررين من تشدده. وقد قال الابن بعد الافراج عنه إنه يدفع ثمن شرف مهني لن يعطيه الفرصة كي يمنح أولاده الأمان، وقد قال يطمئن العجوز "ولكن لن أتراجع "، فخاف الأب أن يذهب بعيداً في استجماع قطرات ذكريات الوظيفة المتكلسة كذرات الفحم، فيدفع من يحبهم الثمن. قال لنفسه أكثر من مرة "قد تحميك شيخوختك، ولكن من سيحمي شباب الآخرين ومستقبلهم؟ "

وعند العصر، أطل على الدمية العالقة فكانت في مكانها ثابتة، وكان سكون الخريف المفاجىء يراقبها أيضاً كصيف متقاعد يشبه الرجل في استكانته لما حوله. وكان يفكر في الدمية المعلقة من خيط التف بإحكام على رقبتها فبدت كمحكوم بالإعدام، فتحسس عنقه المتهدل فعاودته سخريته المنسية "متى يضيق علينا الحبل أيضا؟ "

كذلك بعد أيام كان يتابع تأرجح الدمية وقد اختلط الأمر عليه إن كان الحبل القابض على العنق هو الذي يجعلها عالقة بالشجرة، أم أن كثافة الأوراق هي التي تحملها. متى تسقط الأوراق فتهوي الدمية إلى أسفل. هكذا تساءل المتقاعد وهو يتابع نشرة الأخبار في التلفزيون. قتل جماعي، رصاص ومقابر جماعية، فيضانات جارفة وزلزال يشرد الآلاف ويبتلع البشر، والشتاء الثلج الذي يغطي كل شيء، سفن تبتلعها الأمواج وبحر ملوث بالنفط والجثث. وكان الليل بارداً، فتدثر بشال زوجه التي أوت إلى فراشها مبكرة تخفف عن عظامها آلام الروماتيزم، وأغلق الزجاج بعد أن هبت نسائم توحي له بخريف غاضب، فكانت الدمية تتأرجح وأنوار الشارع تكشف حركتها المضطربة. وسيجيء بعض الأحفاد مع آبائهم، فيتسلق أصغرهم قا مة الجد ليحس بالوهن. وتشتد الرياح دافعة الغيم العالي أمامها فيعبر سماء المدينة مسرعاً وكأنه على موعد مع مطر غزير في منطقة أخرى بعيدة، ثم تهبط شمس حادة غير مألوفة لتشتبك مع برودة الريح، فكان الرجل يفكر في تداخل الماضي بأيامه القادمات. وعندما سقطت بعض أوراق شجرة الزنزلخت بعد ظهر يوم مغبر بارد، عاد إلى كتابه القديم المفضل الذي يقرأ فيه منذ سنين، فقالت الزوجة معاتبة :"منطق الطير.. منطق الطير! "فقال ضاحكا: "منطق الإنسان.. منطق الإنسان!"

وهتف بالدمية التي كانت تدور على نفسها وكأنها تسقط في دوامة دون أن تسقط "تماسكي". ويطل على الحديقة السفلية لجيرانه يحاول أن يدرس احتمالات استقبال ترابها اللين للدمية إذا ما سقطت، فوجد التراب تغطيه أوراق جافة، فقال لابد أن الأوراق تخفف من صدمة الوقوع، ثم يكتشف أن حفرة صغيرة تظهر واضحة لمن يراها بعد أن كنست الريح بعض الأوراق التي، تجمعت في زاوية الحديقة التي أهملها أصحابها. في غيابهم الذي طال. وكانت الأوراق تتساقط مع اشتداد الريح وكانت الحفرة تختفي، ثم لا تلبث أن تنكشف. كانت تتسع أحياناً وكانت تضيق، وكان خوف المتقاعد يزداد. لابد أن الحفرة تستعد لاستقبال الدمية المسكينة! فقرر أن يقوم بفعل شيء. قال لنفسه إن عليه إنقاذها قبل مجيء الشتاء والطين. ففشلت محاولته الأولى والأخيرة في استخدام العصا المحدودة وهو يحاول أن يقترب بها من الدمية يريد أن يجذبها إليه فلا يستطيع. وعاد إلى الترقب والمراقبة، وعاد إلى كتابه فظلت الصفحة هي نفسها خلال أيام متعاقبة ينتقل بصره منها إلى الشجرة بتناوب بات كإيقاع يومي لابد منه وكان الأحفاد يأتون ويغيبون، والزوجة تحتفل باليوم الأول للمدفأة التي أرسلت وهجاً من الدفء لم يتسلل إليه. وكان قد أدمن عد الأوراق المتساقطة وهي تنفض عن الدمية واحدة إثر واحدة، والحفرة الصغيرة في تراب الحديقة تختفي ثم ما تلبث أن تظهر عندما تكنسها الريح، فيتكشف للرجل عمق الحفرة الذي كان يتعاظم لحظة بعد لحظة. وبدا أن الشتاء قد احتل مكان الخريف عنوة، فكانت شجرة الزنزلخت شبه عارية، واختفت الدمية، وكان الكرسي على الشرفة وحيداً لذا لم يلاحظ أحد غياب الدمية التي كانت قد علقت بالشجرة.


وشم
قصة بقلم: ابراهيم صموئيل

كان لا بد أن أناور. أن أغير دربي. أسلك عبر الحارة الثانية - ولو كانت أطول - كي أتابع طريقي إلى عملي دون أن أراه ويراني. وإذا ما اكتشف حيلتي فسأعود لسلوك الحارة الأولى. سأبحث عن أية طريقة للتهرب منه لأنني لم أعد أطيق رؤيته. لم أعد أتحمل عينيه وهما تفتحان لي باب دارنا وترافقاني خطوة بخطوة إلى أن يغيبني عنه المنعطف. ماعدت أستطيع تدبر خطواتي المتقلقلة، لوبان عيني وحيرتهما، وتشنج بدني طوال المسافة اللعينة التي تفصل دارنا عن موقف الباص.

في السابعة والنصف من كل صباح، حين أفتح الباب وأخطو، أراه يتأهب: يسوي شعره وهندامه، يضع باطن كفه على فمه كأنما يتنحنح، ثم يشابك ساعديه على صدره لتشرع شفتاه، مع اقترابي منه، بالانفراج والانطباق المتسارع، المرتبك، كالوجيب الذي يتعثر ويترنح في قلبي، دافعا بالحمى لتفيض مني، فلا أبترد حتى تجاوزه عيناي ويغيبني عنه المنعطف.

وبرغم أنه ماهم بلمسي يوماً، ودلا تبعني إلى مكان عملي، ولا حاول اعتراضي، بل ظل هناك، في، أواخر الحارة، لصق شجرة الكينا كأنه لحاؤها، يكتفي بحملي على ناظريه، والرفرفة حولي بما تنطقه شفتاه.. فقد ضقت برؤيته، وبحالي، وبالحارة، وبالساعة التي رآني فيها وتعلق بي، وأنهكتني تلك المسافة التي أقطعها أمامه وأنا أتزلزل من أعماقي وأتصدع، فاقدة توازني حتى أكاد أن أسقط أرضاً، لا بتأثر من سماعي للكلمات التي يقولها، بل على العكس تماماً: من عدم سماعي لها..!

وما كان له أن يعرف بأنني صماء، ولا أتاح لي أن أخبره، عز علي فعل ذلك، منعتنى أنوثتي، حال اعتزازي بصباي، فصبرت مكابرة، وداوم آملاّ. لا هو كل من فشل محاولاته في التودد إلي وإظهار حبه، ولا أنا استطعت تجاهل عاهتي وتبادل الود معه، فمكثنا على رهان مضمر كان لابد أن أفوز به مهما مال قلبي إلى رقته أو هفت عيناي إلى جماله وفتوته. وما بدا في الأيام الأولى من لقائنا، مفارقة طريفة تبسمت منها في سري، راح يجرحني استمراره ويحفر عميقاً لينبش عاهتي من خفائها، يذكرني بها. بلى وحده من كان يذكرني بها.

فمع السنين التي تلت مرضي واصابتي بالصمم، طمر الزمان تصويت الكلام لدي إلى أن نسيت أذني. سهوت عن عاهتي، واعتدت مع أفراد أسرتي وأقاربي ومعارفي على إشارات أصابعهم وحركات أجسامهم وتقلصات وجوههم حتى بت أرى ما يقولون، وأفهمه. ولولا زائر طارىء هنا وعابر هناك يضطرني لتوضيح حالي لترسخ لدي اليقين بأنني خلقت لأفهم الناس من إشاراتهم.

من أين طلع لي هذا الباب؟! ولم يأسرني هذا الهم اليومي الجارح؟! وكيف لي أن أنجو من شهوة يحييها في وقد حسبتها ماتت وتبددت: رنين الأصوات، بحها، نبرها، همسها، غنجها، وانثيالها الدافىء في الأذنين؟! وكيف أنبئه بأن كلماته التي يبذلها على مرآي لا تطتر قلبي ولا تنذي روحي، بل تذلني وتنكس رآسي وتنزلق نحو ساقي فتشلهما؟!

ومن قهري رحت، في المساءات، أجثو على ركبتي، وأدعو الله أن يزيحه من دربي. أن يرسل له فتاة تشغله عني، أو يدب اليأس في روحه فيعافني، وأرتاح.

لكن الله ما استجاب، ولا برحت عاهتي مكان وقوفها قرب الشجرة، وتذكيري!

حاولت تجاهله. ولجأت إلى صممى لأستعين به على صده ورد كلماته خائبة، دون أن تتلون بأي انفعال مني، أو تكتسي بوقعها لدي.. بيد أنه ماكف. لكأنما ظن تجاهلي خفراً، فصبر علي وراح يفقدني صبري عليه.

ولم يكن أمامي إلا أن أغير الحارة، وفعلت. وحين لاحقنى إلى الحارة الجديدة- بعد أن اكتشف حيلتي- عدت إلى الأولى، فعاد لكنني عاودت بإصرار وعناد. بكرت ساعة الخروج، وتأخرت عن موعد الأوبة، وتغيبت ولمرات عدة.. فاختفى!

اختفى، وبرئت من كابوسه. تخلصت منه. من مرآه ودمامل كلماته. وعدت، هانئة، إلى سكينتي. سكينتي التي خضها وعكرها أياماً كثيرة. ومن فرحي بخلاصي منه وجدتني- رغم اختفائه- ألعنه وأدعو عليه بالموت!

أدعوت عليه حقا.. أم تراني دعوت على نفسي.؟! إذ ما كنت لأحسب، ولا كان للشياطين أن تحسب، أن خلاصي منه سيرتد علي ليشقيني ويدحرجني أمام الناس وأمام نفسي! ما كنت لأحسب أن عيني ستثابران على التسابق إلى الباب وشقه للطيران منه نحو شجرة الكينا.. وأنني سأعتاد على قطف الحصة الأكبر من صباحاتي لتخير أجمل أثوابي وتزيين شعري والتملي في هيئتي طويلاً قبل مغادرة البيت، لكأنما آمل في لقائه مجدداً! وإذا تدبرت عاداتي الجديدة المكتسبة من وقوفه ومغازلاته.. فكيف لي أن أتدبر أو أتحمل أولئك الناس الذين تحولوا في عيني إلى أشباح جراء حركات أذرعهم وتلوي أجسامهم وتغض وجوههم؟!

بت أشعر بأن حركاتهم تفضح عاهتي. تعريها للقاصي والداني. تفردني عنهم، وتنبهني إليها، فينتابني الأسى لكأنني للتو أصبت بالصمم!

وفجأة راح يدهمني شعور طاغ بأنه، وحده، من كان يعيد إلي سمعى! ففي تلك المسافة بين دارنا والمنعطف، على مساحة غبش الصباح الفضي التي تضيق بيننا وتضيق، وفيما يعانق ذراعيه على صدره ويترك لشفتيه أن تشاغبا على وقع خطواتي.. كنت أسمعه. أبلى من بلائي، وأسمعه! وأتذكر الآن- في غيابه- أنني كنت أطرق فعلاً، وأعجل من خطوي، وأثبت رأسي.. لكن ناظري كانا يتآمران معه، فيهربان إلى أقصى زاوية من عيني ليضما آخر حركة من شفتيه، حتى إذا ما عدت إلى البيت، وليل الليل، وآويت إلى فراشي، راح غطاء وسادتي يتماوج تحت أذنى كحركات شفتيه فأسبح في بحر من النشوة والفرح بأنني مثل كل الفتيات، مثل كل الذين يتخاطبون بالشفاه ويهمسون بالخفاء. ومن استمرار غيابه راح ينمو اشتهائي لحركة الشفاه وهي تسر وتبوح. تفتح توقي إلى لقياه. تسرب إلي شعور مرير بأنني أضعت فرصة قد لا تعوض: أن أعود- ولو لبرهات- إلى ما كنت عليه قبل إصابتي. فمن تجاذب شفتيه وتباعدهما كل صباح كنت أغتسل وأبرأ وأنتشي. تكسر روحى جدار الصمت الكتيم، وتحلق. وبلا تردد، طفقت ألوب باحثة عنه!

فتشت الحارات القريبة والبعيدة. تمعنت في وجوه الشباب العابرين. تريثت قرب الشجرة. نظمت أوقات خروجي. بحثت، وانتظرت، وصبرت.. فلم أجن غير الخذلان: هو يوغل في غيابه، وأنا فعم بالنوت إليه.

وها أنا اليوم- وقد طال غيابه وامتد إلى ما يفوق طاقتي على انتطاره أو يمكن لروحي أن تحتمله- أدلف، من جديد، إلى عتم قوقعتي، مغلقة صمتها علي، وآملة البراء من وشمه.. وشمه البليغ الذي خلفه في كياني كله، والذي لا يني ينبهني، ويكويني، كلما عبرت أمام شجرة الكينا، وتفتحت أذناني كزهرتين، حتى إذا ما جاوزتها، ووصلت حافة المنعطف، ومضيت.. غرقت في لجة صممي البهيم، البهيم.. وأحراش من الأيادي التي تتقاطع وتتلوى أبداً أمام وجهي.


دعيس
قصة بقلم: محمد الحاج صالح

كنا نخافه، نختزن الخوف منه في نفوسنا كل يوم، مرآه من بعيد على ظهر حصانه يرعدنا، فندخل البيوت تاركين ساحة القرية وأزقتها خالية إلا من الأطفال الذين يتبعونه عن بعد صارخن "هيه.. هيه ادعس يا دعيس. اضرب يا دعيس.. هيه.. هيه " وكانت التفاتة غاضبة منه نحو الأطفال تجعلهم ينفرطون مختفين في الأزقة ومداخل البيوت، حتى الكلاب التي لا يسلم منها مار راكب، أو راجل، كانت تنبحه عن بعد غير متجاسرة على الاقتراب منه، فإذا ما رفع يده بخيزرانته مشيراً إليها انهزمت وبصبصت بصوت ذليل كيا لو أن الخيزرانة ساطتها على ظهورها.

في الصيف الماضي عندما سرقت بضع نعجات من أغنام "إبراهيم الوكاد" جمعنا في ساحة القرية التي حولها إلى دار حرب تحت الشمس المحرقة، ومنع عنا الماء، وأخذنا، كل بدوره، الفلقة أولاً، يحشرنا في دولاب السيارة الصغير، فتبرز مؤخراتنا من جهة وترتفع أرجلنا إلى السماء في ابتهال صامت من جهة أخرى، وتنقرف ظهورنا من شدة العطف والانحناء الإجباري ونحن محشورون في فتحة الدولاب الضيقة. ثم تمتلىء القرية بالصراخ والترجي "أبوس إيدك أنا مالي دخل. دخيل النبي. دخيل الله " ويردد شط الفرات الصرخات بصدى متطاول متتابع، وبعدها يركضنا على سقف البلور المكسرة والخيزرانة تأكل من جلد أكتافنا والدم ينفجر ينابيع حمراء، وتأتي الثالثة المرعبة المخجلة، إذ يضع في أدبارنا خرطوم المنفاخ أمام الأطفال والنساء اللواتي يغطين عيونهن كي لا ينظرن، ويأمر هو أحد هجانته بضغط المنفاخ صارخاً به "انفخ.. انفخ " وتنتفخ بطوننا، وتمتلىء أمعاؤنا إلى. حد الانفجار وهو يسخر "حامل بالشهر التاسع يا ابن الكلب.. ها" ونحن نبكي ونترجى "دخيل عرضك أنا مالى دخل. دخيل النبي محمد." ولما ختم علينا جميعا بختم المنفاخ ولم يعترف أحد، صرخ "هاتوا النساء" عندها صاح أحمد الخلاف "أنا.. انا " وراح يهذي بصوت عال متصل "أنا.. أنا". قال دعيس كأنما أنهى عملاً عادياً "ما تقول من الصبح وتخلصنا.. خذوه ".

وعندما وشي بنا نحن الثلاثة سلمان الراعي، جمع علينا القرية، وانتظر حتى التم الجميع، الرجال، والشيوخ، والأطفال، والنساء، والكلاب، والقطط. قال "هؤلاء الثلاثة يحسبون أنفسهم رجالاً. يقولون عني إني ظالم وإنى لولا خيزرانة الحكومة التي بيدي لما كئت أساوي قرشا واحداً وإنهم سيفعلون بي ذات يوم ما فعلته بهم. هؤلاء أجلسونا نحن الثلاثة على كراسي خيزران منخوبة القواعد لتتدلى مؤخراتنا عميقاً فيها، وربطوا أيدينا على المساند الخلفية، وجمعوا أرجلنا في رباط محكم أيضا مع أرجل الكراسي، وأوقفوا على رأس كل واحد منا "هجانين"، واحد يضغط على الكتفين ليغرزنا وكراسينا في الأرض، وآخر يمسك رأس الواحد منا بيدين كأنهما ملزمتا حديد، ودعيس يتخطر بيننا وبين الناس محدقاً في كل الوجوه عله يلمح تعبير تبرم أو احتجاج ليكمل الحفلة بعدد آخر من الرجال. تقدم منا، وكنت الأول.. أطبق بسبابته وإبهامه الغليظن على جمزة من شواربي ونتف نتفة كأنه ينتر حبلاً معلقاً بثقل، أمتطت شفتي العليا وارتدت مرتطمة بلثتي وأسناني محدثة صوتاُ كأنه ضربة على جلد دف رطب، ويعلقها بين أصابعه في الهواء ليراها الجميع، ثم يبصق عليها ويرميها تحت قدميه. حاولت أن أصبر على الإهانة والألم مناجياً نفسي: "يجب ألا أبكي" وعندما أحسست برطوبة الدمع في عيني فتحتهما على وسعهما وأنا أكز على أسناني متمنياً ألا تسقط الدمعة، لكنها سقطت ونقذ الأمر، وتهاطل الدمع بعدها دون محاولة مني لحبسه.. وفعل بمحمود وعلي مثلما فعل بى. قال وهو يبصق على آخر نتفة من شوارب علي "أرأيتم أكباشا نطاطة بلا قرون.. لم تروا؟ إذن انظروا إلى هذا الأكباش" بعدها توارينا حتى اندملت جروحنا وتموست أورام شفاهنا ونبتت أشعار شواربنا، فتجولنا في القرية متجنبين النظر في عيون الناس، والناس يتجنبون النظر في وجوهنا، ولم يلمح أي منهم إلى ما حدث وهو ماحز في نفوسنا أكثر، كنا نحس بصمتهم مثقلاً بالإشفاق والخزي، متصورين في دواخلنا ما يدور في نفوسهم من استعادة لمشهدنا ونحن مربوطون بالكراسي وشواربنا تنتف ويبصق عليها. تعذبنا أياماً بين صمت الناس وبين نار قلوبنا، فتواعدنا وأقسمنا أيماناً مغلظة على الانتقام منه، وكي لا نتراجع حلقنا شواربنا وحلفنا ألا نعيد تربيتها إلا بعد أن نأخذ بثأرنا، وسرى في القرية نبأ سري هامس أننا سنرحل عن القرية أو نثأر، وعندما رأونا مرط الشوارب تيقنوا أن الأمر جد، فتجنبونا، وراحت عيونهم تهرب بعيداً كلما التقينا بهم.

وفي يوم ونحن نحمل همنا ووعدنا الثقيل لأنفسنا بالثأر، جاءتنا الفرصة. كنا متوحدين نمشي على شط الفرات، عصينا بأيدينا وخناجرنا مشكوكة في خواصرنا، عندما صدمت عيوننا ثياب وبندقية هجاني بين شجيرات الغرب، نظرنا في عيون بعضنا البعض تلامحت على وجوهنا تعابير خاطفة، وسمعنا إلى يسارنا، هناك، في وسط تيار النهر نخير سباح كأنه نخير فرس مستثارة، ورأيناه، هو.. هو نفسه. وقفنا ننظر إليه وأيدينا اشتدت على عصينا، وبلا شعور اصطففنا واحداً جنب الآخر متحفزين مباعدين ما بين أرجلنا، وبحركة متواقتة نزع كل منا لثامه عن وجهه، وبأيدينا الحرة مسحنا على شواربنا الحليقة كأنها لا تزال نابتة.. حدق هو بنا زمناً طويلاً محركا يديه حركة هينة ليبقي نفسه في مكانه وكي لا يجرفه التيار". صرخ بصوت عال ليسمعنا فردد الشط والفرات صرخته "هؤلاء أنتم يا تيوساً بلا لحى؟ ". قال علي وهو يرتجف غضبا محاولا رفع صوته "أخرج إلينا يا دعيس وسنرى أنحن الرجال أم أنت؟ " وبلا جواب سبح هو نحو الشط معاكساً التيار ليظهر لنا قوته. اهتزت العصي بأيدينا والتهجت نخوة القتال في رءوسنا واحتشدت القشعريرة تحت جلودنا. بعد سباحة عنيفة تخلص من تيار الماء السريع ووصل إلى المياه الراكدة، فانفلتت قوته وراح يضرب الماء بحركة سريعة مارقاً كالسهم نحو نقطة لا تبعد عنا سوى خطوات، ثم وقف في المياه الضحلة وخب مخوضا فيها، بان أولاً صدره وظهرت سرته ونحن لا نحول عيوننا عنه، وعندما انكشف عاريا ارتبكت عيوننا وحاصت في محاجرها وقف على الشط يغمر الماء قدميه محدقاً في عيوننا، واثقاً من نفسه، كأنه لم يكن عادياً ولا أعزل، قال وعضلات خده تتراقص: "من هو ابن المرأة اللي أمه ولدته واقفة يمد يده علي.. ردوا.. قولوا" ولما لم نجب تابع:

"لا تحسبوا أن الحكومة وبندقيتها هي دعيس.. دعيش هو دعيس. واحد غيري يتلطى خلف بدلة الحكومة أما أنا فلا.. " غمغم علي: "شف ابن الحرام! يحسب نفسه أبا زيد الهلالي لولا النسر المثبت على عقاله ما ساوى فلسا" وتمتمت أنا من غير أن أرفع نظري عنه: "سنهترىء في السجن إن ضربناه وبقينا هنا.. فلنضربه في وقت واحد ونهرب إلي بلد مجاور ليس فيه مثل قسوة هجانتنا" قال: "اسمعوا.. سأعد إلى العشرة فإذا لم تتنحوا كان لي شغل آخر معكم " وعد بصوت عال "واحد اثنان ثلاثة.. " ولما أنهى العد تقدم نحونا بعريه وكانت لحظات حاسمة، كان يلزمنا خطفة يد مرفوعة بالعصا لكننا لم نفعل، وكان كل واحد منا ينتظر قرار الآخر وعصاه المشرعة لكن أيا منا لم يفعل، كأننا تجمدنا، حتى أنفاسنا انحبست في صدورنا. وصل إلينا وعيناه الذئبيتان تلتهمان وجوهنا، وذراعاه متباعدتان عن جسده في تأهب وتحرص، شق ما بيني وبين محمود، دفعنا بيديه، إذ لم يكن ما بيننا يكفيه للمرور، ترنحنا والتفتنا إليه وهو يتجه إلى لباسه، وتلاحظنا بنظرات تقول إن هذا أكبر من إهانة، لكننا لم نبادر، بل رحنا نتابعه وهو يرتدي ثيابه متمهلا، ويلبس جواربه وحذاءه، ويضع كوفيته على رأسه ويضبط عقاله فوق الكوفية، ويلتمع النسر مشرقاً في أشعة شمس العصر. قال محمود هامساً "فلنضربه قبل أن يمسك بندقيته " لكننا لم نتحرك. مشى خطوات نحو بندقيته، ورمانا بنظرة جانبية وهو ينحني عليها. صارت البندقية في يده ولم نضربه، فارتعدت أيدينا وكادت عصينا تسقط. رفع البندقية ولقمها وأطلق طلقة في الهواء، فتساقطت عصينا بلا إرادة منا. صرخ "اخلعوا ثيابكم يا ولد الساقطات " لكننا بقينا متيبسين في خوفنا. لقم البندقية ثانية وعين نحونا "قلت اخلعوا ثيابكم" ولم نتحرك. أطلق، فصفرت الرصاصة في أذني ارتعدت أحسب أنني أصبت. رفعت يدي ولمست أذني وقلبتها أمام عيني فلم أر دماً. نظرنا إلى بعضنا مذهولين ورحنا نخلع ثيابنا إلى أن بقينا في السراويل الداخلية الطويلة. صرخ بنا مرة أخرى "اخلعوها" فخلعناها. قال "أمامي إلى المخفر". ومشينا في صف ذليل نحو المخفر وكسل منا يتآكله الندم لأننا لم نضربه.


 

بديع حقي