سحابة صيف

سحابة صيف

قراءة نقدية في مجموعة
للقاص: محمد المر

ظهرت الأعمال القصصية لكاتبنا في ثلاثة مجلدات ضخمة, يضم المجلد الأول أربع مجموعات قصصية هي: حب من نوع آخر, الفرصة الأخيرة, صداقة, شيء من الحنان.

ويحتوي المجلد الثاني على أربع مجموعات أيضا هي: المفاجأة, نصيب, ياسمين, حبوبة. ويشتمل المجلد الثالث على ثلاث مجموعات هي: مكان في القلب, قرة العين, الصوت الناعم.

وبجانب هذه المجلدات الثلاثة صدرت للكاتب عن دار البيان بدبي أحدث مجموعة له وهي: "سحابة صيف".

وسوف نركز في دراستنا للقاص على هذه المجموعة لأنها أحدث إنتاجه, ولأنها تمثل في الوقت نفسه تطوره الفني, وخصائصه في المضمون والتشكيل. وتضم مجموعة "سحابة صيف" اثنتي عشرة قصة هي سحابة صيف, وحوادث الطريق والواجب, ومنولوغ, وحديث بعد منتصف الليل, وهذيان الديسك, ونوم هادىء, وهواتف رأس السنة, وانتظار, وفي حب الأطفال, عند مدام روز, ونظرة إلى البحر. وتقع في مائتين وثمان وثلاثين صفحة من القطع المتوسط.

وتدور حوادث هذه القصص على أرض دولة الإمارات, وتعبر عن هموم الطبقة المتوسطة فمعظم أبطالها من الموظفين البسطاء, كما أنها تدور في جو أسري بحت, وتهتم برصد التفاعلات بينها, ومن ثم تدور في فلك محدود بعيد عن الصراع الطبقي, أو النمو الاقتصادي السريع في المؤسسات والبنوك والشركات العملاقة التي تمثل واقعا جديدا في دول الخليج, كما أنها تبتعد عن الرومانسية المسرفة.

إن الكاتب تقوقع داخل شرنقة المجتمع الأسري يجتر مشاكله اليومية التي تؤرقه, ويسجلها في لوحات قصصية دون أن يمتد نظره إلى المجتمع الكبير الذي يركض في سباق محموم مع الزمن ثقافيا واقتصاديا وبيئيا وعالميا, لتحقيق ازدهاره الحضاري.

فالقصة الأولى "سحابة صيف" تدور أحداثها في مستشفى بدبي حيث تلد الزوجة في غياب زوجها الذي يرعى أمه المريضة في أبوظبي. وتستشعر الزوجة الألم من غياب زوجها وتتذكر ماضيها معه, وحسن معاملتها له, وأمها تكيل السباب والتهم. والأخت تتهمه بالخيانة, ولكن يظهر الزوج في النهاية حاملا وردة كبيرة, فيشرق وجه الزوجة وتنسى كل شيء إلا حبها لزوجها وبها تنقشع سحابة الصيف.

والقصة الثانية "حوادث الطريق" تدور في جو أسري أكثر ضيقا, فهي بين الزوج وزوجته, حيث يدور حوار بينهما نفهم منه إحساسهما بالملل والسأم من حياتهما. ويقيم الكاتب توازنا بين عالمهما النفسي المشحون بالتوتر والقلق والعالم الخارجي الذي يكسوه الضباب, وصعوبة الرؤية.

لقد نجا الزوجان من حوادث الطريق, ولكنهما لم ينجوا من الكآبة والهم النفسي الذي يخيم عليهما "ساد صمت كئيب تعلوه الهواجس والهموم بقية الطريق, أخيرا في الساعة الواحدة وصلوا إلى دوار المركز التجاري, مر المشوار دون حوادث طريق مرعبة, خرجت منها زفرة كادت أن تكون مشتركة, ولكنها لم تكن زفرة ارتياح وسعادة" (33).

إحساس مسيطر

إن الإحساس بالملل والسأم والإحباط يسيطرعلى هذه المجموعة.

يقول بطل قصة "بعد منتصف الليل": "متضايق جدا, كرهت حياتي, كل الموظفين الذين يعملون معي في الوزارة متحاملون ضدي".(71).

ورأيه في فتاته يبدو سوداويا قاتما: "معقدة متخمة بالمشاكل, ولا مرة أغلق التليفون بعد حديثها معي إلا وتركت لي هما من الهموم الصغيرة أو الكبيرة, وتصر على قذفي بالهموم الكبيرة في أحاديثها التليفونية الليلية لكي تحول ليلي إلى ساعات أرق مقلقة أو إلى نوم هادىء مليء بالكوابيس المفزعة" (75).

إن محمد المر يتجول بنا لنتعرف على التطلعات الاستهلاكية للمجتمع الجديد من خلال وصف تطلعات ميثاء بطلة قصة "نوم هادىء" لليلة زفافها "وكانت هي تتشبث بالآمال, فترتب في ذهنها لحفلة العرس المستقبلة, الفستان الحليبي أو الأبيض اللؤلؤي, عقد الماس على شكل عصفور ينقر قلبا, ياقوتة الخاتم كبيرة حمراء تقطر دما, حذاء سندريلا الوردي لقدميها الصغيرتين تاج المجوهرات الاصطناعية اللماع الذي سيتوج سعادتها المتأخرة, كيكة الحنطة بطول نخلة تعانق سماء الفرح, بطاقات الدعوة مزينة بنقوش مستوحاة من سفر الحب والجمال, تسريحة شعرها ستكون عقوصها وجدائلها موجات ليلية ساحرة من ليالي ألف ليلة وليلة, مكياجها الفاتن سيمفونية للألوان والظلال والأنداء. (109).

ومن خلال وصف حفلة زفاف في فندق "حياة ريجنسي" عندما مررنا ببوابة صالة الفندق كانت النساء تخرجن منها بالعشرات, وهن فرحات, لأنهن فرغن من تأدية طقس احتفالي إنساني كبير, طقس فيه ألوان وأزياء وعطور, وورود وأكل وموسيقى وثرثرة وضحكات. (65). ولكن هذه المظاهر الاحتفالية الباذخة لم تنجح في إيجاد المجتمع المتماسك بدليل فشل الحياة الزوجية عند أبناء الجيل الجديد.

ولا يغفل محمد المر عن بعض السلبيات التي ظهرت في المجتمع الجديد, ومنها التكالب المادي دون نظر للاعتبارات الإنسانية والأخلاقية, فالابن يهتم بإحصاء تركة والده قبل دفنه! كما في قصة "الواجب".

والجنون يصيب الجميع, الرجال يتزوجون فتيات في مثل سن حفيداتهم, والتغيير يشمل كل شيء, والناس يلهثون في حياتهم, وإيقاع الحياة أصبح سريعا لا يرحم! يقول بطل قصة "هذيان الديسك": "الجنون أصاب الجميع, جارنا الوقور أبومحمد تزوج فتاة هندية بيضاء في سن حفيداته, وأحضرت معها شابا أسمر ادعت أنه أخوها من أمها ليساعدها في تربية الأولاد. كل يوم يغيرون الطرق والشوارع والمعالم, رصف وإعادة رصف, بناء دورات ثم تكسيرها, وضع إشارات ضوئية ثم إزالتها, بناء بنايات ثم هدمها. طبعا الكل يريد أن يعمل حتى ولو كان العمل بلا فائدة, الكل يريد أن يغير حتى لو كان التغيير لا جدوى منه" (63).

ونجد الشعور بالحنين إلى حياة الهدوء والبساطة نجده عند بطل قصة "هذيان الديسك" حيث يقول: "مرت على الناس سنوات عديدة هادئة دون هذا الركض المحموم, كأن هناك اليوم سوطا خفية تلهب ظهور الناس اركضوا, اركضوا, نريد أن نرتاح قليلا". إن الواقعية عند محمد المر ليست واقعية تسجيلية, وإنما هي واقعية نقدية تعايش الواقع, وترصده بما فيه ومن فيه, كما أنها تكشف زيف الحضارة المادية وخداع الازدهار الاقتصادي حيث لم يحقق للإنسان السعادة التي ينشدها!

وهي في الوقت نفسه تعبر عن العلاقات الإنسانية المتناقضة والمتنافرة داخل المجتمع الإماراتي, وتكشف عن الشروخ التي حدثت في شخصية الإنسان العربي في الإمارات بعد ظهور ثروة النفط! وبعد الانتقال من حياة البداوة إلى حياة الحضارة الجديدة.

اللغة في قصص المر

يعتمد الكاتب في معظم قصص المجموعة على الحوار باللغة العربية الفصحى, ولكنها اللغة التقريرية المباشرة البعيدة عن التكثيف والإيحاء والرمز واستنطاق العالم النفسي الداخلي للشخصيات. أما الوصف السردي فهو يتفاوت في مستواه الفني, فأحيانا يكون واقعيا حادا معبرا عن انفعال الشخصية وشعورها المتوتر كقول حصة عن زوجها خالد في قمة غضبها: "لا أريد خالدا. لو جاء لزيارتي لسببته وأهنته" سوف أطرده مثل الكلب... إنه إنسان حقير.. سافل.. منحط".

وأحيانا يكون شاعريا شفافا كقول الكاتب عن بطلة قصة "انتظار" "ظنت أنها تستطيع أن تمحو أميته العاطفية, أن تجعله يعرف أن لليل معاني أخرى غير معنى السهر والصخب والكسل والنوم, معاني ممتعة عميقة لها علاقة بنجوى الأرواح في حدائق النجوم, برحلات النفس في فردوس الخيال, بتأمل منازل القمر في فسيفساء القلوب, بالتعاطف مع كائنات الليل الشفيفة باستنشاق عطر الأحلام الوردية, حاولت أن تدفعه لتلمس جمال رقص الأمواج على شواطىء الخليج للاستمتاع بألوان سجادة البحر البديعة المنسوجة بتدرج لوني عذب شفاف رائق" (172).

وهناك ظاهرة لغوية شغف بها الكاتب, وهي توظيف التشبيه لتوضيح معانيه وتحديدها حسيا فلا تخلو قصة من الاعتماد عليه. من التكتيكات الفنية التي وظفها القاص ربطه بين العالم الخارجي والعالم النفسي الداخلي لبطل القصة, ولعل أروع مثل على ذلك قصة "منولوغ" حيث رأى البطل منظر الليل والبحر وفندق حياة ريجنسي وهو في حالة اكتئاب وإحباط, ولذلك كانت الصورة سوداوية قاتمة, ثم رأى المنظر نفسه بعد أن زال اكتئابه بصورة أخرى متفائلة.

ونفس الربط نجده عند بطل قصة "حوادث الطريق", حيث يربط بين صوت محرك السيارة والضباب وضيق النفس "إحساس بالضيق والصمت مرة ثانية, صوت المحرك صار أكثر إزعاجا, الضباب يزداد كثافة" (24).

وفي وصف الكاتب لمشاعر بطلة القصة ذاتها "انفجرت باكية, ارتفع نحيبها, أخرسه بكاؤها, زاد سرعة السيارة وكأنه أراد أن يفر منها, صوت متوتر يقطعه نشيجها المنتظم, والصوت الرتيب لماسح الزجاج, اجتاحته انفعالات متباينة, أراد أن يقول شيئا ولكنه واصل الصمت" (23).

إن سرعة السيارة مرتبطة بالقلق النفسي, وصوت ماسح الزجاج ارتبط برتابة الحياة وآليتها!

ومثل هذا الربط بين العالم الخارجي والعالم النفسي الداخلي للإنسان نجده أيضا في قصة "هواتف رأس السنة", حيث نجد بطل القصة بعد خروجه من غرفة والدته المريضة بالمستشفى يرى الأشياء في صورة تناسب حالته النفسية "خرجت من الغرفة, ومشيت في الممرات التي أحسست أنها تضيق علي, وتوشك أن تحطم ضلوعي, وجوه الناس في تلك الممرات كانت كئيبة مفزعة قبيحة كأنهم أفراد كومبارس فيلم مرعب مزعج" (134).

إن هذا يذكرنا ببطل قصة "قنديل أم هاشم" حين رأى ميدان السيدة زينت في ثلاث رؤى مختلفة تتناسب مع حالته النفسية.

ويوظف القاص أسلوب الارتداد ليتيح للماضي فرصة إثراء الحاضر أو تنويره, فلا تخلو قصة من هذه التقنية الفنية, بل إن قصة كاملة هي "نظرة إلى البحر", تقوم على التذكر بين الأخ المريض وشقيقته التي تعوده.

حديث النفس

استخدم الكاتب المنولوج الداخلي لتعبر الشخصية عن عالمها النفسي الداخلي المضطرب دون تدخل منه, كحديث بطل قصة حوادث الطريق.. مع نفسه وهو في سيارته مع زوجته: "أخوه يسخر منه دائما. ما الفائدة من الشهادة والوظيفة, ابيض سالفاك ومازلت في درجة ثانية وثالثة.."

وقد يمتزج حديث النفس بالتذكر كحديث بطلة القصة ذاتها: "كم تكره مضغ اللبان وخصوصا للرجال, شيء كريه مقزز يذكرها ببقرة سوداء عجفاء قبيحة كانت لعمتها عندما كانت تجتر, وهي مربوطة قرب مطبخهم الخارجي. ذبحوها ليطبخوا لحمها في هريسة حفل زفاف ابن عمتها" (27)

تيار الوعي:

تيار الوعي هو ارتياد مستويات ما قبل التعبير, ويفصح عن العالم المضطرب المشوش للشخصية, وقد استخدمه الكاتب في قصة "الواجب" للتعبير عن هذيان خميس وغياب وعيه الخارجي, وهو يفتقد العلاقات المنطقية. "كان يهذي ويخربط, أعطوني كبريتا لأحرق نفسي وأحرق البيت, لا فائدة من الأدوية, خلاص, أنا انتهيت, الأطباء سفلة, الطيور سوف تأخذني معها, الأمطار سوف تغرق البيت, سأسافر في الباخرة إلى بومباي, كلنا سنموت, وأمك المجرمة ستعيش عمر نوح, الطائرة هبطت في الخور, وكلنا شاهدناها, أصابعي قطعها ثعبان البحر, أين ذهب الجراد?

وقد استخدم محمد المر الكوابيس ذات الطابع الفانتازي في قصة واحدة هي "هواتف رأس السنة" لأنه كاتب واقعي يؤثر الواقع على الفانتازيا بتهاويلها السوداوية. يقول بطل القصة متأثرا بمرض أمه العضال "طيلة السنة الماضية وأنا تنتابني الكوابيس بعد مرضها, في إحدى الليالي في جنيف شاهدتها وهي جالسة تبكي, والنساء يضربنها, وأنا لا أقدر على شيء.. ما أفظع ذلك الكابوس كانت تصرخ من الألم والنساء يضربنها بعصي الخيزران على رأسها بعنف وقسوة لا مثيل لهما, دماؤها لوثت شيلتها البيضاء التي تغطي بها رأسها عندما تصلي.. انفعال الألم فظيع, ولكني منفصل عن المأساة التي تجري أمام عيني" (138).

إن توظيف هذه التقنيات الفنية الحديثة لم يشفع للكاتب عدم اهتمامه بالحبكة الفنية في قصصه, وإغفاله حركة الصراع الدرامي التي تكون لبّ العمل القصصي, واكتفاءه برصد السطح الخارجي لشخصياته دون اقتحام العالم النفسي بكل تناقضاته وتفاعلاته, ودورانه في دائرة مغلقة هي دائرة المجتمع الأسري بهمومه وتطلعاته دون انفتاح على المجتمع الكبير الذي شهد تغيرات ضخمة ثقافية واقتصادية واجتماعية.

كما يؤخذ على الكاتب تدخله المباشر, وتعليقه على الأحداث, كما في قصة "نوم هادىء" حين يقطع الأحداث ليعقب قائلا: "في بعض الأحداث التي نتمناها تخاصمنا إلى الأبد أو نتأخر كثيرا, حتى إذا جاءت لا ترقص لها فراشة القلب الملونة, وفي أحيان أخرى تحقق أمانينا ويستجاب بسرعة لخفق النبضات الضارعة دون الحاجة إلى نذور أو قرابين. إنها الصدمة اللعينة أو الصدفة السعيدة" (110).

وهناك ظاهرة أخرى أتمنى لو تخلص الكاتب منها وهي ظاهرة الاستطراد التي تتنافى مع لغة القصة القصيرة من حيث التكثيف والرمز والإيحاء, لأن كل كلمة ينبغي أن تكون لبنة في بناء القصة.

إن محمد المر قصاص واعد, وهو جدير بأخذ مكانته المرموقة بين كبار كتاب القصة القصيرة في عالمنا العربي.

 

عبدالفتاح عثمان

 
  




غلاف المجموعة القصصية





من مؤلفات محمد المر