رئيف خوري في ذكرى وفاته السابعة والعشرين

رئيف خوري في ذكرى وفاته السابعة والعشرين

تتعدد أشكال الكتابات الأدبية التي مارسها رئيف خوري بين قصة قصيرة، ورواية، ومسرحية، ونقد أدبي، وتعريف بالأدب، وتعليق سياسي، أو مقالة أو دراسة. وبين نثر وشعر، تناولت موضوعات أدبية وسياسية وفكرية وفلسفية، واجتماعية وثقافية، جامعاً في ذلك معارف واسعة أمنتها له اطلاعاته المتعمقة الواسعة على التراث العربي بصورة خاصة والآداب العالمية بصورة عامة، مسلحاً بأصول علمية صالحة، نابعة من سعة معارفه، ومن تفكيره المعافى وتطلعاته المشرقة إلى المستقبل، وذلك على امتداد نحو ثلث قرن، أو يزيد قليلاً، فأعطى كتابات كثيرة، تجاوزت العشرين كتابا طبعت- إلا واحدا منها- في حياته، بالإضافة إلى الألوف من المقالات، والتعليقات. والمحاضرات التي لا تزال موزعة بين عشرات المجلات والصحف. أليست القضايا التي تصدى لها رئيف خوري من مقارعة الصهيونية والعدوان واغتصاب بلاد الغير، أو من دعوة إلى تحرر الإنسان العربي، وبناء المجتمعات الديمقراطية المتسامحة، وتأمين الحياة الكريمة للمواطنين، هي القضايا التي مازلنا نواجهها ونعاني منها؟

ولد رئيف عام 1913 في عائلة متوسطة الحال، لأبوين متعلمين إلى درجة متقدمة مع بداية القرن، اعتبرا العلم لأبنائهما ثروة خالدة. كانا يتناوبان التدريس، إلى جانب أشغال أخرى تجارية أو زراعية، في مدرسة القرية، تحت السنديانة في أيام الصحو والصيف، وفي المدرسة في أوقات أخرى. وبعد الدراسة في مدرسة برمانا العالية، دخل رئيف الجامعة الأمريكية، حيث لم يكتف بنهل العلم والتعرف إلى التاريخ والأدب العربيين وحسب، بل تجاوز ذلك، وهو لا يزال دون العشرين، إلى الصحافة الأدبية مثل "البرق" لبشارة الخوري "الأخطل الصغير" و"المعرض"، وفيهما نشر بعض شعر السنوات الأولى.

وبعد التخرج أمضى بقية الثلاثينيات بين العمل في مجلة "الرياض" لصاحبها فريد أبوفاضل من فاريا، ثم في التدريس في طرطوس، لينتقل بعد ذلك إلى مدرسة المطران "غوبات " في القدس. وبذلك جمع بين التدريس والكتابة والعمل النضالي، بحيث حقدت عليه سلطات الانتداب البريطانية الممالئه للصهيونية، ورفضت السماح له بأن يعود إلى التدريس في فلسطين لأنه شارك في مؤتمر للشبيبة العالمية في الولايات المتحدة، مفندا "المزاعم الصهيونية" مندداً بمن وعد الصهيونية بما لا يملك، مؤيداً الحق الفلسطيني بالبلاد وباستقلالها وحريتها. وبقي في بيروت نحو سنتين يعمل في التدريس في مدرسة "طراد" في الشويفات ثم في "الانترناشونال كوليدج" في بيروت، قبل أن يفصل من هذه الأخيرة، لأن المندوب السامي البريطاني في فلسطين طلب ذلك من المسئولين في الجامعة الأمريكية.

وشبت الحرب العالمية الثانية وهو يعمل في التدريس. وفي الصحافة. منصرفا إلى جريدة "الدفاع" التي لم يستطع أن يصدر منها غير ستة أعداد فقط لأن السلطات الفرنسية فرضت ايقافها. وكان الى جانب مواصلة التدريس يكافح ضد النازية والفاشستية، من ناحية ثانية، دعماً لجبهة الحلفاء في الحرب، من أجل التحرر والديمقراطية، بالإضافة إلى التحرير في مجلة "الطريق" التي كان أحد مؤسسيها. والكتابة في مجلة "المكشوف"، والمساهمة بالنشاطات الأدبية الواسعة، إلى جانب عمر فاخوري، وإلياس أبو شبكة، ومارون عبود، وسواهم.

ومن أبرز نشاطاته بعد الحرب العالمية الثانية مشاركاته في مؤتمرات الكتاب والأدباء العرب، مساهما باستمرار في إنجاحها بلبنان، والكويت، وفي مؤتمر التضامن الإفريقي الآسيوي في القاهرة ثم في بيروت. ولا ننسى أن نذكر هنا محاضرته معارضا المفكر العملاق طه حسين حول "لمن يكتب الأديب للعامة أم للخاصة؟ " مؤكدا أن الأديب إنما يكتب للكافة، واضعاً بذلك الكثير من أصول العلاقة بين الأدب والدولة والمؤسسات.

ووقع الحدث الذي نقل النضال العربي في وجه الصهيونية إلى مستوى جديد، ووضع رئيفاً في معركة، هادئة في البداية، لكنها أخذت بعد ذلك أبعاداً كبيرة حول الموقف من القضايا القومية من قبل الاتحاد السوفييتي آنذاك. وحول الموقف من القضية الفلسطينية بصورة خاصة.

ومع بداية عام 1967 بدأ رئيف خوري يحس بالتعب الجسدي، وبضعف البصر. وفي منتصفها اخذت تلك العافية التي كانت سمة مميزة له تضعف. لونه أخذ يشحب، يده لم تعد تمسك بالقلم بقوة، لسانه الذي كان طلقا. أخذ يتعثر بعض الشيء. ثم تبين أنه مصاب بورم خبيث في الدماغ. ولم تنجح بذلك عملية ولا علاجات. وفي الثاني من نوفمبر عام 1967 لفظ أنفاسه الأخيرة.

الرافد العربى هو الأساس

إن إبداع رئيف خوري ينطلق في الأساس من خلفية واحدة، بحيث لا تتعدد شخصية الكاتب. تتعدد الفنون ويستحيل الفصل بين الكاتب وكتابته، أو بين مختلف أنواع ما يكتب الإنسان، المجتمع الإنساني، الحرية، الديمقراطية، التحرر، التقدم، كلها موضوعات تناولها من منطلق السياسة الواقعية والمبدئية في الآن نفسه.

نظرة سريعة إلى نتاج رئيف خوري تؤكد معرفته الراسخة بالتاريخ العربي وبالحضارة العربية، وغزارة هذه المعرفة. وتفاعل هذه الحضارة مع الحضارات الأخرى الفكر العربي الحديث وأثر الثورة الفرنسية فيه، ومع العرب في التاريخ والأسطورة. كما تؤكد لنا نظرته إلى التاريخ بأنه ليس في نظره سلسلة أعمال من الأبطال، ولا هو عمل أفكار مجردة، إنه في نظره تقدمي صاعد إجمالا ولو تعرض إلى انتكاسات ووقفات. مؤلفه عن ديك الجن.. أو الحب المفترس. شهادة على أسلوبه في كيفية معالجة ما يهمله التاريخ، وعلى تصحيح النظرة إلى ماضينا العربي.

الواقع أن المقاييس الأدبية والفلسفية التي اتخذ رئيف خوري منها أساس البحث، طبقها على دراساته للتراث العربي. وبذلك كان رائدا.

وبالنسبة للبنان فقد أحبه لأن الفكر الجديد التقدمي سبق فيه إلى النبات والأزهار، ولأن لبنان هو البلد الذي لا تمكن فيه إلا الحرية والتسامح. لقد كان لبنان محوراً في تفكيره السياسي والاجتماعي، لا بسبب مناظره الطبيعية ولا سقوطا في أثرة انعزالية، بل لما فيه من حرية وديمقراطية وتسامح مريدا أن تتوسع الحرية والديمقراطية، وأن يترسخ التسامح، وهو بذلك لا يرى ما يحول بين لبنانيته وعروبته.

الكتابة السياسية مبدأ ونهج

والكتابة السياسية عنده لا بل السياسة نفسها، هي مبدأ ونهج لتحقيق إنسانية الإنسان، لتحرره، لبناء مجتمعه على أساس تنظيم التبادل المادي تنظيما عقلانياً، وبذلك كان له مفهومه للحرية ضمن نطاقها السياسي والاجتماعي والثقافي العام. وضرورى هنا أن نعيد قوله: أجل إن الإنسان هو القيمة الاجتماعية العليا، هو الغاية القصوى، لا النظريات ولا الأنظمة، فإن هذه تشتق قيمتها من الإنسان، وليس يشتق الإنسان قيمته منها. والإنسان بكلمة واحدة هو تلخيص فلسفته بالحياة، بالمجتمع.

إن هذه النزعة الإنسانية واضحة في كل ما كتب ولنضف هنا أن هذه النزعة الإنسانية كان لا بد أن تلازمها النزعة للتغيير، لا لأن التغيير أو التطور سمة ملازمة وحسب، ولكن لأن المجتمع الذي أراده، هو غير المجتمع القائم على أسس غير إنسانية بوجه عام. المجتمع الذي يريده هو غير المجتمع الجائر، ولذلك كانت النزعة إلى التغيير، آو لنقل إلى التطور التقدمي بوجه عام، صفة ملازمة في كتاباته. ومن هنا كانت بالتالي موسوعيته، أو تناوله موضوعات في شتى المجالات.

النقد الموجه

أما اهتمامه بالنقد الأدبي فلم يكن محض منحى تدريسي، وهو الذي قضى حياته كلها غير منقطع عن التدريس، بل يعود إلى نظرية قائمة على وجوب الكشف عن المضمون الفكري الذي يشتمل عليه الأدب، والأحوال التاريخية التي اتصل بها، ثم ما نستصفيه نحن من هذا الأدب ليكون الغذاء والتوجيه. وبناء على ذلك جاء أسلوبه النقدي دقيقا، ساخرا، وكأن القارئ معه في نزهة مريحة للأعصاب، ولو أن ذلك ينبغي أن يكون بحثا عما وراء الظاهرات الحسية للجمال الذي أحب رئيف خوري ان يكون ملازماً للعبارة، للجملة. للفكرة. وهنا نذكر أن نظريته الجمالية في الأدب كانت تنطوي على المعنى الإنساني أولا، ثم على فنية الأداء ثانيا. ولقد طبق هذه القاعدة في أعماله النقدية، وفي كتاباته كذلك، وهو القائل "إن للجمال وجهين متصلين أوثق اتصال. فوجه يتألف من الظاهرات والمقومات الحسية للجمال، ووجه يتعلق بمقومات الجمال الخلقية". كان كارها للأدب الذي يثير لدى القارئ" لا شيئية الإنسان.

على أنه ينبغي ألا يفهم من ذلك أنه كان واعظاً. الناحية الخلقية مهمة عنده لا في التصرف الشخصي، بل في الأدب والكتابة الأدبية. إن سيرته الشخصية مثال على هذه الناحية الجمالية الخلقية. وقد ظهرت كذلك في كتاباته القصصية. كان في اختيار القصة أو الرواية يتعمد أن تكون منها "أمثولة" إنما يجب لهذه الأمثولة أن تكون "فنية". لقد رأى الصديق الدكتور إحسان عباس أن رئيف خوري توخى وضع خمر عتيقة في آنية جديدة. أو بعث وقدة الجمرة في عروق طال خمودها، حين اختار مواقف في الأدب العربي لتكون مادته القصصية الأساسية صحونا ملونة. ورأى أنه أحسن أسلوب الحوار، لكن توخي الغاية المباشرة من القصة أوقع رئيف خوري تحت سيطرة الغائية، ثم وجد أن غاية قصة "ديك الجن"، ليست الاتقان الفني. أما في قيمة "الغاية والطريق" فرأى الناقد أن رئيف خوري أراد أن يثبت أننا لا نستطيع أن نشيد بيتاً نظيفاً بمواد قذرة، مهاجما المصلحين بالأساليب الملتوية، فيما اعتبره ضاق ذرعاً بالحيل الفنية القصصية، أمام نبل الغاية.

رئيف خوري الشاعر

هنا أريد أن أشير إلى ناحية مهمة في تراث رئيف خوري، وهي شعره. الحديث في ذلك صعب الآن، لأن شعره لا يزال غير مجموع. كان رئيف خوري يجمع نتاجه الشعري في "أوراق زنبق" ولكن المنية عاجلته، قبل إنجاز ذلك العمل المهم. يبقى علينا نحن أن ننجزه له. سمتان ملازمتان له في شعره أولاهما الصدق في التعبير عن مشاعره، ومعتقداته، لا في ما يمكن أن يسمى بالشعر الغزلي فقط، بل حتى في الشعر الذي وضعه أثناء الحرب العالمية الثانية في موضوعات مختلفة سياسية، أو اجتماعية. القسم الأول من شعره الذي كان يعبر فيه عن عاطفة خاصة، أو فكرة، كان صادق الشعور، يرفض فيه المبالغة. والقسم الآخر الذي تناول فيه أحداثا عالمية - من استقلال لبنان، أو معارك حربية حاسمة - كان كذلك صادق الشعور فيه: هو هنا يعتبر الشعر تعبيراً يصب في النهاية في بناء إنسانية الإنسان، ومواجهة مشاكله.

أما السمة الثانية فهي التزام الشعر العمودي التقليدي ولو انه لم يلتزم الصيغ المألوفة دائما كل الالتزام، ولا تجاوزها إلى صيغ جديدة كل الجدة، بعيدة عن التقليد المعروف. ولعل الاسترسال في وصف هذه السمة الثانية سابق لأوانه قبل جمع ديوانه وحصر محاولاته التجديدية من حيث الصيغ، لا الخروج عن الأوزان المعروفة. أحسب أن رأيه بالقصيدة النثرية، أو بالنثر الشعري غير مرض لكثيرين ممن يكتبون الشعر حاليا.

ولعل ما يمكن قوله حاليا، هو أن شعر رئيف خوري الذي خرج فيه عن الناحية الغزلية عالج فيه قضايا منها ما كان يعالجه نثراً. حتما إن هناك من لا يحبون مثل هذه المباشرة في الشعر، ولكن رئيف خوري كان يتمسك بوجوب الإيحاء في الفن. لا بالغموض واللبس.

 

ميخائيل خوري

 
  




رئيف خوري