عبدالوهاب البياتي وجهاد فاضل

عبدالوهاب البياتي وجهاد فاضل

* أدونيس شاعر من الطبقة الثالثة أو الرابعة، وإذا أراد أن يدافع عن الإنسان العربي فعليه أن يضحي براحته.

ليس البياتي في حاجة إلى تعريف، فهذا الشاعر الذي يعيش الآن في المنفى بين الآم الحنين والشوق إلى ثرى الوطن من جهة، والنقمة على قسوة النظام وظلم جلاوزته من جهة أخرى، وفيما هو يتقلب بين الآلام يغرد فيشجو ويترنم فيطرب، استطاع أن يتسلح بزهده، ويستمد من مناصريه الفقراء والمقهورين قوة تجعل منه خصماً للظلم والقسوة والغبن الذي لا مثيل له، ولا شك أن الجولة الأخيرة ستكون لصالحه فينهزم الجبابرة أو يخرون ساجدين أمام إرادة ولا شك أن الجولة الأخيرة ستكون لصالحه فينهزم الجبابرة أو يخرون ساجدين أمام إرادة الشعب الذي هو لسان حالها. ويعد عبدالوهاب البياتي من الشعراء العراقيين الكبار الذين يمثلون جيل الرواد، فقد كان البياتي مع السياب ونازك الملائكة يشكلون مثلث الشعر الذهبي. فاز البياتي بجائزة العويس الإماراتية في 1996 وينسب الكثيرون صعود نجم الشاعر عبد الوهاب البياتي، وبخاصة في بداياته في الخمسينيات، إلى أنه استقل في تلك المرحلة قطاراً عجائبيا كان يصنع أدباء وشعراء، هو قطار الحزب الشيوعي. ففي نظر هؤلاء لا يمكن التأريخ لعبدالوهاب البياتي، سيرة وشعراً، دون المرور بذلك القطار أو التوقف عنده، كما لا يمكن التأريخ لسيرة الكثيرين من أدباء وشعراء تلك المرحلة الغنية بالأدب والشعر دون التعرض لكرامات ذلك القطار الذي ما إن كان يصعد إليه الكاتب أو الشاعر حتى يصل اسمه إلى كل عاصمة عربية، وحتى يجد بانتظاره تظاهرات صاخبة ترحب به. فما الذي يقوله الشاعر عبدالوهاب البياتى عن هذا القطار وعن تجربته فيه وأثره فى شعره وشهرته؟ هل كان لذلك القطار فضل على البياتى الشاعر الذي ذاع صيته فيما بعد وبات واحداً من ثلاثة شعراء كانوا ذات يوم يؤلفون الثلاثى الذهبى للشعر العراقى الحديث، هم بدر شاكرالسياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتى؟ البياتى يقول للـ "العربي" فى هذا الحوار ما قاله المتنبي ذات يوم: هذه حجة لاجئ إليها اللئام! ولكن ماذا يقول أيضا عن "تهمة" أخرى هي أنه لم يكن يوماً شاعراً قوميا عربيا على غرار الشعراء القوميين المعروفين، على غرار بدر شاكر السـياب بعد أن ألقى بنفسه من قطار الحزب الشيوعي غير آسـف ولا نادم وبات يغنى للعرب والعروبة؟ هذا هو محور واحد من قضايا كثيرة ساخنة أثارها الشاعر عبد الوهاب البياتي. وقد قام بالتحاور معه الصحفى والناقد اللبنانى الشهير جهاد فاضل المعروف بجهوده النقدية في مجال الشعر العربى، وقد أجرى للعربى أكثر من حوار.

* ماذا قبل كل شيء عن مشروع البياتي الشعري؟ أين أصبح هذا المشروع؟ هل اكتمل؟ أما حان للفارس أن يترجل وأن يستريح؟

- المشروع الشعري لا يمكن أن تحدد معالمه منذ البداية. عندما يبدأ الشاعر بالكتابة، أو يضع قدمه على أرض الشعر، لا يدري إلى أين سيمضي أو ينتهي.

كان هذا شعوري عندما نشرت "أباريق مهشمة" عام 1954. ولكني أحسست بعد أن نال هذا الديوان شهرة كبيرة في أرجاء الوطن العربي، - وربما لأول مرة في تاريخ الثقافة العربية في هذا القرن - بمسئولية كبيرة كما أنني أحسست بخوف من الواقع العربي الذي كان يتغير باستمرار. منذ البداية أحسست بمصائب ومكائن قد تحل بالثقافة العربية من خلال التصاقها بالسياسة، وأقصد بالسياسة هنا السياسة اليومية، سياسة الاحتراف، السياسة المتغيرة، سواء كانت في الشارع أو في السلطة.

كنت أحاذر من أن ألتقي مع هذا الخط، وإن لم أكن بعيدا عنه. ظللت أحمل بيدي جمرة الشعر، كان هذا هو مشروعي وكانت هذه الجمرة بوصلتي أيضا لتحديد مساري الشعري. ربما كانت هجرتي عن الوطن غير سياسية وحسب، بك إن الجانب السياسي فيها هو القليل، ولكن الجانب الشعري وكيف احتفظ بمقدرتي على كتابة الشعر في جو بعيد عن الليل، عن الإرهاب، عن الواقع الملوث ماديا وروحيا، هو هاجسي. كنت أشعر بأن حياتي ارتبطت بالكتابة، وأنني دون الكتابة أموت تماما. كان هذا تطابقا. وقد انبثق منه تطابق بين سلوكي ورؤيتي للحياة وعلاقاتي بالناس وموقفي الشعري أيضا. كان هذا مهماً للحفاظ على مشروعي الشعري الذي كان يتنامى يوما بعد يوم. كنت أرى هذا البنيان لبنة بعد لبنة، حجرا بعد حجر. وكنت لا ألتفت إلى الوراء لأرى ما أنجزت. ولم أكن مزهواً على الإطلاق، بل على العكس، فكلما وضعت لبنة شعرت بجزع أكبر، لأن ذلك كان يضعني أمام مسئولية تزداد خطورة يوما بعد يوم. كان البعض يعتقد أن شهرتي في البداية انبعثت من مواقف سياسية، وهذا غير صحيح. لقد جذفت ضد التيار منذ الستينيات وبقيت وحدي. ووقفت في وجه قوى سياسية مختلفة كانت تهدد الشاعر فيّ لا الإنسان وحده وقد صمدت تماماً. تلك كانت لحظة حاسمة ومهمة في حياتي. وقد اجتزت تلك المرحلة. انتقلت من "النار والكلمات" الذي نشر في عام 1964 إلى مشروع "سفر الفقر والثورة" الذي اعتبره الدكتور إحسان عباس ذروة جديدة أعلى سناما من الذروة التي حققها ديوان أباريق مهشمة، وقد كتب الدكتور إحسان عباس دراسة مهمة في مجلة الآداب في عدد خاص عن الشعر العربي الحديث في عام 1966 أكد فيها هذه الظاهرة. بعد ذلك شعرت بأنني استعدت وعيي وثقتى وزال جزعي لأنني كما ذكرت كنت أشعر بأن البنيان بدأ يعلو فيعلو. أعطاني ثقة جديدة في الغوص في حياة الناس الفقراء. عندما كتبت "سفر الفقر" و"الثروة" كنت في مصر. كنت أذهب إلى أحياء الفقراء وإلى مسجد سيدنا الحسين واختلط بالناس العاديين في المقاهي وأشتري الكتب الشعبية لقراءتها. أي أنني عدت إلى التراث من جديد، ولكن لا لأقرأ ما قرأت في دار المعلمين العالية، بل لأقرأ ما فاتني من التراث قرأت في تلك الفترة الشعراء المتصوفة. قرأت بعض دواوين الشعر العربي التي لم تكن محققة في زماني. قرأت كتاب الأغاني من جديد، وإن كانت بعض أجزاء الأغاني مقررة علينا في دار المعلمين العالية، ولكننا قرأنا صفحات قليلة منها. عدت فقرأت الكتاب من جديد، واكتشفت فيه آفاقا جديدة منحتنى فيما بعد مادة شعرية مهمة لتعميق رؤيتي الشعرية من خلال التراث، وكيف أن الشاعر وهو يتقدم في أرض الشعر يعود إلى التراث لكي ينطلق منه من جديد وينقطع عنه ويبدأ برحلة جديدة. يتواصل مع التراث ثم ينقطع عنه.

إذن أصبحت في منتصف مشروعي الشعري بين الحداثة كما يسمونها، أو الجديد، والتراث أيضا. كنت أستسقي منه بما يمكن أن نعتبره جديداً.

إنه الحوار بين الأصالة والمعاصرة والتراث قضية تكاملت عندي كما ترى.

قطار الحزب الشيوعي

* هناك من يقول إن قطار الحزب الشيوعي كان وسيلة النقل التي أوصلت الكثير من الشعراء والأدباء العرب إلى الشهرة، ومن هؤلاء بدر شاكر السياب ومحمود درويش .. وآخرون، ومنهم أيضا عبدالوهاب البياتي. كيف تتحدث عن هذا القطار الآن؟ وكيف كانت علاقتك به؟

- لم تكن لي علاقة بالحزب الشيوعي نهائياً، بل كانت لي صلات صداقة مع كل القوى الوطنية العربية ومنها الحزب الشيوعي.

إنها حقيقة، ويكاد يكون جميع المثقفين العرب مروا بهذه المرحلة ولست وحدي من مر. ولكني كما ذكرت في بداية حديثي عن مشروعي الشعري، مررت بهم ولم أكن منهم، كما لم آكن ضدهم. وهذه قضية مهمة جدا والكثير من الشعراء كانوا في قطار الحزب الشيوعي أو سواه، ولكن لم يستطع لا هذا الحزب ولا ذاك أن يصنع منهم شعراء وأدباء. بل إن البعض منهم كان يحتل الساحة الشعرية باسم الشعر والساحة الشعرية بريئة منهم.

كتبت عن هذه الظاهرة في السابق وذكرت أن الكثير من الشعراء غير الموهوبين دخلوا في أحزاب كانت في السلطة أو خارج السلطة، وكانت لها سطوة على الشارع، ولكنها لم تتمكن من أن تصنع منهم شعراء في الحزب الشيوعى في "شيلي" كان هناك "بابلو نيرودا"، وهو أعظم شاعر في العالم سواء كان شيوعيا أو غير شيوعي. ولكن في نفس الحزب كان هناك مئات الشعراء، ولكننا لم نسمع بهم لم يستطع الحزب الشيوعي أن يصنع منهم شعراء.

هذه حجة لاجئ إليها اللئام، كما يقول المتنبي، عندما يكون هناك طود شامخ يتعالى يبدأ بعض الصغار لإيجاد كيف اشتهر هذا، هل هو يفعل كذا أو يفعل كذا؟

وكما ذكرت فقد كانت لي مواقف في عام 1964 لم أعلنها بشكل مباشر، لكن أعلنت أنني مستقل تماما عن كل التيارات السياسية. وقد ظهر هذا في شعري وفي سلوكي تماما. تحررت من هذا الهاجس أو "الدوغما" التي كانت توجه لي. وهؤلاء يرددون نفس التهمة التي توجهها السلطة إلى الشعراء في كل العصور.

أنت تعرف أنه في عصور محاكم التفتيش في أوربا وفي العالم كله، عندما كانوا لا يستطيعون وقف الشاعر الذي يمضي في طريقه، يتهمونه بتهم شتى. لكني كنت أقوى من مثل هذه التهم.

إن ديواني "سفر الفقر والثورة" أعقب إعلان موقفي الواضح الصريح بأني لا أنتمي إلى موقف سياسي، بل أنا رجل تقدمي. وقد نال هذا الديوان شهرة كبيرة في كل أرجاء الوطن العربي.

إذن هذه التهمة باطلة من الأساس، وقد أبطلت أنا مفعولها.

الشاعر والقومية

* ولكن هناك تهمة أخرى توجه للبياتي هي أنه لم يكن شاعرا قومياً عربياً بالمعنى المعروف للكلمة، لقد كان دائما شاعرا تقدميا، وأحيانا شاعراً يسارياً، ولكن لماذا لم يقترب من العروبة كما اقترب السياب في بعض مراحله؟

- هذا شيء جميل ومضحك أيضا. العربي يسمي نفسه عربيا قوميا مثل العندليب أو الضوء يسمي نفسه ضوءاً. هذه صفة كامنة فينا، في سلوكنا. يكفي أني أكتب باللغة العربية، وأني شاعر معروف وهذا يؤكد هويتي القومية.

* ولكن سواك يكتب بالعربية أيضا ولا ينسب إليهم مضمونا وأساساً؟

- أنا أنتسب إلى العرب مضموناً وأساساً، وآية ذلك أن قرائي لا ينتمون إلى حزب سياسي معين، أنا قرائي من كل الأقطار. أنا مثلي مثل طاغور وأسد الله غالب. أسد الله غالب شاعر من الهند، والذين يقرأون شعره ينتمون إلى اتجاهات سياسية مختلفة. المتصوفة يقرأون شعره، والسكارى ومن إليهم.

أنا أكتب من أجل الإنسان، والإنسان هو الإنسان العربي والإنسان الكوني أيضا.. الموقف الإنساني في الشعر لا يتناقض مع الموقف القومي أبدا. والموقف القومي

لا يحتاج إلى تأكيد. لماذا أقول إني عربي"؟ أنا عربي. ربما هذا يكون في ظروف الاحتلال، في ظروف احتلال أجنبي، أو في ظروف أقلية معرضة للذوبان في أكثرية فيتخذ المرء مثل لهذا الموقف، ولكني عربي وأعيش في وطني العربي، وأنتمي إلى تراث عربي وأكتب بلغته.

* هل يقلقك وضع الشعر العربي اليوم؟ كيف ينظر شاعر من جيل الرواد إلى حاضر شعرنا الحديث؟

- أنا شخصيا أنظر إلى هذا الوضع نظرة تفاؤلية بالرغم من أنني أعيش في زمان ومكان يخيم عليهما البؤس والمذلة والفاقة والخراب الروحي والمادي، ولكنني عندما أنظر إلى المستقبل أرى أن الكثير من الأمم والشعوب قد مرت بمثل هذا البرزخ الجهنمي ولكنها اجتازته أيضا.

نحن نعيش فترة زمنية معينة نولد ونعيش ونموت ويجب أن نرى أبعد مما بين قوس الميلاد والموت.

لذلك أؤمن بأن الأمة العربية شأنها شأن أي أمة أخرى لا يمكن أن تموت ما دام لها تاريخ وكيان ووحدة ثقافة.

والشعر العربي لعب دوراً كبيراً منذ الجاهلية حتى الآن يصون وجدان الأمة العربية إزاء التحديات، وإزاء التعاسة والموت والغزوات الأجنبية والداخلية أيضا التي يتعرض لها الوطن العربي أيضا.

هذه الأمور مهمة جدا لأن العالم العربي لم يتعرض فقط للغزاة الذين يأتون من الخارج، بل تعرض لغزاة يأتون من الداخل.

* نظرة ليست تفاؤلية

من خلال هذا لا أرى المستقبل وردياً مشعاً، ولكن جدلية التاريخ هي هكذا. عندما نرجع إلى الحضارة الصينية والحضارة السومرية والحضارة العربية والحضارة الإغريقية والرومانية نجد الكثير من المآسي التي لم يقم بها الناس البسطاء وحسب، بل قام بها الكبار أيضا.

عندما نقرأ مسرحيات شكسبير مثلاً نكتشف جرائم كثيرة جداً. هكذا شأن البشر في كل العصور والأزمنة.

ولكن جدليا التاريخ يصفي هذه الأمور. أنا قلت في قصيدة من قصائدي "إن ميراث القتل يصفي".

* ثمة شعراء عرب معاصرون يكتبون في الوقت الراهن ملاحم حول أن التاريخ العربي القديم كان بصورة عامة تاريخ الدم والمذابح والانحطاط والوحشية لا أى تاريخ آخر. لو أنك أردت أن تروي تاريخنا العربي كيف ترويه؟

- أعتقد أن هؤلاء لم يقرأوا ماذا حصل فى الإمبراطورية الصينية أو المغولية أو الإمبراطورية الرومانية أو الإغريقية نفسها أيضا. عندها سيجدون العجب العجاب: محاكم التفتيش والقتل والحرف والنبذ في كل مكان.

إذن لا يوجد عجب عجاب. إن ما يحصل فى العالم من جرائم يرتكبها البشر من كل الجنسيات والأديان والحضارات. هي ليست خاصة بتاريخ أمة دون أخرى. وإبراز هذا الجانب البشع وحده جريمة أيضا. عندما تصل أوربا إلى مثل هذا التقدم التكنولوجي لا يجوز أن ننسى أن هذا التقدم قام على أشلاء المستعمرات أيضا تضحيات ومعاناة جسيمة قامت بها شعوب مقهورة مظلومة.

إذن مذابح التاريخ قامت في كل زمان ومكان، ولا يخلو منها تاريخ أي أمة من الأمم.

لا توجد أمم هبطت من السماء وأقامت مملكة سعادة أو مملكة الله على الأرض.

والسلطات الحاكمة في كل زمان تمارس جرائم، ومن قال عكس ذلك؟

ولكن ليس التاريخ، ليس الحضارات، ليست الأمة. الفئات المستغلة الحاكمة.

لماذا يتجاهلون هذه القضية البسيطة التي يتجاهلونها، فيصمون أمة بأنها أمة مجرمة؟ هذا غير صحيح.

كان هناك فقراء وأبرياء يدافعون عن العدالة والحق. وهذا، قرأناه في كتب تراثية كثيرة. كان هناك شهود ضد شهود الزور، ضد الظلم، وقد دفعوا حياتهم ثمنا لهذه الشهادة.

ماذا بعد جيل الرواد؟

* ينتمي البياتي إلى جيل الرواد أو جيل الخمسينيات. بعد هذا الجيل ظهرت أجيال شعرية أخرى وصولا إلى الجيل الشعري الحالي. الكثير من الشعراء الرواد نفضوا أيديهم فيما بعد مما آل إليه الشعر بعدهم. من هؤلاء خليل صاوي وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش الذين عبروا بمرارة عما ارتكب ويرتكب الآن بحق الشعر. فكيف تعبر أنت؟

- أنا لا أنظر إلى الشعر وإلى أجيال. أنظر إلى الشعراء فرادى، وأؤمن بالمواهب. الحقيقة أنه في كل الأجيال ظهرت مواهب جديدة مبدعة. أما الكثرة الكاثرة فهي موجودة في كل الأجيال حتى في جيلنا. فقد كان هناك مئات الشعراء الذين يكتبون الشعر، ولكن أسماءهم انطفأت واختفت تماما. لذلك لا أشعر بقلق على الشعر العربي أو من الأشكال الأدبية الأخرى. أنا شخصيا مع حرية الإبداع. يمكنك ان تكتب بأي شكل تشاء، ولكن بشرط أن تبدع أولاً. ودون الابداع ينتهي الحوار أو الجدال.

نحن نجادل أحيانا أيهما أهم: التفعيلة أو العمود، أو النثر؟ وما أشبه، ولكن أن ننظر في الابداع.

عندما أرى كاتبا مبدعا يكتب روايته أو قصة أو نصاً نثريا أو قصيدة. أنا أحبه واحترمه واحتضنه.

اذن يجب ألا ننسى قضية مهمة هي قضية الابداع. أولا: والنص الذي يخلو من الابداع يوجد مثله هذه النماذج في القصائد العمودية وقصائد التفعيلة والنشر أيضا. انت تتذكر محمد الماغوط وهو شعر لأنه يمتلك ثقافة ورؤية الشاعر، وعندما نشر إنتاجه لم ينظر إليه على أنه شاعر يكتب النثر، بل نظر إليه على انه شاعر لأنه يمتلك ثقافة ورؤية الشاعر. وهناك أسماء أخرى جاءت بعده أيضا تمتلك نفس موهبته وعلينا ألا نغض الطرف عن هؤلاء. لكن الذي يبعث على التشاؤم والتساؤل الكثرة الكاثرة. أصبحنا لا نستطيع المتابعة وقراءة كل شيء. المجلات العربية من الخليج إلى المحيط مليئة بالشعر والقصص والروايات التي تظهر أفواجاً وأرتالاً من الكتاب، وهذه ظاهرة من الطبيعي أن تظهر في بلدان العالم الثالث. ولكنها ظاهرة ستصفى في النهاية فلا يبقى إلا المبدع الذي يستمر في الإبداع.

* بمن تعترف دولة البياتي من الشعراء العرب المعاصرين؟

- أنا قلت وأقول الآن إن الجواهري هو آخر العباقرة الكبار في الشعر العربي الكلاسيكي. وكذلك هناك شاعر كالبردوني لا شك في أهميته. هنالك شعراء مثل سعدى يوسف ومحمود درويش ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وأحمد عبدالمعطي حجازي وعفيفي مطر وعبد العزيز المقالح، وأسماء أخرى كثيرة.

هؤلاء قدموا إنجازات طيبة يجب أن ندرسها ونهتم بها.

أنا والحداثة

* لم أقرأ لك يوماً بحثاً في الحداثة أو كلاماً عليها، فلماذا كان هذا التخلف عن الركب؟

- أنا أقرأ ما يكتب عن الحداثة ولا أفهم شيئا منه. كنت أستاذاً للغة العربية وقرأت التراث العربي قراءة جيدة، وأعرف الدلالية في اللغة العربية تماما، ولكني لا أرى هناك فائدة من هذه الكتب والأبحاث التي كتبت في العربية عن الحداثة. ربما تشبه وصفات الأطباء التي تصنع لك ماء، ولكن هذا الماء موضوع في قنينة، وأنت تتصور أنه دواء. فائدة مثل هذه الأبحاث، أنا قرأت بعض ما كتب حتى عن شعري ولم أستفد منه أي فائدة، فما بال القارئ؟

لا بأس من أن يكون هناك ناقد أو كاتب واعد، أن يكتب عن مثل هذه الأمور لكي يضيف إلى الثقافة العربية شيئا جديداً متداولاً في أوربا، ولم يعد يتداوله الأوربيون الآن أبدا. إنما أن يصبح كل النقاد هكذا، وحتى بعض الذين لا يعرفون لغات أجنبية يقرأون ما هو مترجم في العربية ويسيرون في نفس الطريق.

أضحك أحيانا عندما أتذكر صديقا وناقدا أحبه كتب أكثر من عشرين صفحة لكي يقرر من خلال هذه "الخزعبلات" هل أن "عائشة" في شعري هي رمز أم أسطورة أم قناع؟ وقد سألته بعد أن تعب وكتب هذه الدراسة: ما ضر لو كانت قناعاً أو رمزاً أو ما أشبه؟ أنت لم تتحدث عن عائشة وكيف ظهرت في شعري كقوة ملهمة، كربة للشعر، عن القصائد مثلاً وهو لم يتحدث عن كل ذلك، إنما كان مذهولا من السطر الأول. إلى السطر الأخير حول بحث ما إذا كانت عائشة في شعري رمزاً أم قناعاً.. وما الذي يهم القارئ أو يهمني إذا كانت رمزاً أو إذا كانت قناعاً؟

أيها النقاد الجدد اتئدوا.. وانظروا إلى اتجاه، وآثار إحسان عباس ومحمد مندور وعبدالقادر القط.

أقول لمثل هؤلاء: اتئدوا وخففوا من غلوائكم.. النقد البناء الحقيقي المتداول في أوربا على يد الأساتذة الكبار يكاد يختفي. أنا أتمنى أن يولد نقاد جدد يسيرون على خطى الدكتور إحسان عباس على سبيل المثال، أو الدكتور محمد مندور أو الدكتور لويس عوض أو الدكتور عبد القادر القط، لا أن يقلدوهم، ولكن أن يطوروا هذا الاتجاه ويعمقوه.

الشاعر ناقداً

* وهل تعتقد بإمكان أن يكون الشاعر باحثا أو ناقداً أيضا؟

- لا أبداً. عندما يتحول الشاعر إلى ناقد يكون شعره من الدرجة الثانية أو الثالثة، كما هو الحال عند أدونيس مثالاً. أنا أعتبر أدونيس - وبأمانة شديدة جداً - شاعراً من الطبقة الثالثة أو الرابعة.

أما كناقد، فهو يشبه أستاذا جامعيا يستطيع أن يكتب قسما من التراث العربي القديم معتمدا في ذلك على دراسات المستشرقين، ويترجم له الآخرون إلى العربية، ويلفق ويخلط بين النصوص.

أنا أنصح أدونيس إذا كان يريد أن يدافع عن الإنسان العربي ضد الظلم والجهل، أن يضحي بالقليل من راحته ويواجه الظلم والشر الذي نواجهه في المشرق العربي، لا أن يجدف ضد التيار وهو جالس في باريس، ولا يتحدث عما يحل بنا من مظالم. لا يدافع عن حقوق الناس.

العالم لا يحترم الخفافيش التي تختفي في الظلام وتتحدث عن حرية مزعومة. ولكن العالم يحترم العمالقة. بابلو نيرودا دفع حياته ثمنا لمبادئه. وقف ضد الفاشية وأيد القوى العاملة في بلاده. بوشكين، تولستوي، دافعا عن الإنسان كجوهر ولم يكتبا عن السفاسف.

أدونيس يسعى في الغرب لنيل جائزة نوبل. ولكن جائزة نوبل تفقد مصداقيتها إذا أعطيت له، فهو شاعر من غير طينة الشعراء الكبار، وهو ظاهرة شاذة بالدرجة الأولى.

أعطيت جائزة نوبل مرة لشاعر تشيكي لا أتذكر اسمه الآن قد لا يكون هذا الشاعر التشيكي متوسطا ولكنه شاعر شريف اضطهد من قبل السلطة الشمولية في بلاده في ذلك الوقت. شعره كان متوسط القيمة، ولكنه أفضل بالطبع من شعر أدونيس بكثير.

ولا أفهم كيف يفهم القارئ الأوربي شعر أدونيس إذا كان شعر أدونيس لا يفهم بالعربية، فهل يفهم بالأجنبية؟

إن تسعة وتسعين بالمائة أو مائة بالمائة من الذين يقرأون شعر أدونيس لا يستوعبون. تحدث بعضهم فوجدت أنهم لا يفهمون.

والترجمات ربما حي شعر آخر كتبه ناس آخرون ليس لهم علاقة بالنص وأنا أتحدى أن يأتيني أحد بشيء مترجم لأدونيس إلى الفرنسية ويعيد ترجمته الى العربية ويكون مطابقا للنص العربي.

إنني أدين ظاهرة تعامل بعض المثقفين العرب مع مؤسسات أجنبية ظاهرة تستخدمهم في حين ان هؤلاء يتصورون أنهم يستخدمون هذه المؤسسات

 



 
  




عبدالوهاب البياتي





جهاد فاضل