عن الديمقراطية وحقوق الإنسان

 عن الديمقراطية وحقوق الإنسان
        

هل يظل تطبيق الحدود مقصوراً على المستضعفين؟
عرض: الدكتورة سهام الفريح

         يسترجع الجابري وهو يضع معالجته لقضيتي (الديمقراطية وحقوق الإنسان) في هذا الكتاب العديد من المفاهيم حولهما منذ بداياتهما في حضارات الأمم السابقة حتى تطورت إلى شكلها النهائي في الفكر الأوربي الحديث والمعاصر، مقارباً في تحليله هذا بين ما في هذا الفكر بما يقابله في الفكر العربي الإسلامي القديم.

         وقد كان الجابري مجيداً في هذه المعالجة لاتصاله المباشر بالدراسات الغربية كشأن بعض المفكرين والباحثين في المغرب العربي، وإن كان اتصاله هذا لم يبعده عن الموروث العربي الإسلامي القديم، بل كان متعمقاً في ثناياه، حتى تملك هذه الإثنية التي كونت علمه، وشكلت ثقافته، وقام عليهما فكره، فكان موفقاً في معظم ما كتب، ومنها كتابه هذا (الديمقراطية وحقوق الإنسان) الذي استخدم فيه - كعادته - نهجه السائد في جميع ما كتب: التحليل الموضوعي والمعالجة العلمية المحضة بلغة راقية في صياغتها.

         وبدأ الجابري حديثه عن الديمقراطية، وحاجة الإنسان العربي إليها في البحث في مضمون (الديمقراطية) حيث يقرر أنه لن يجده في الموروث الغربي (اليوناني والروماني) ولا في الموروث الإسلامي (الشورى)، ولكي يتبلور هذا المضمون يجب أن يتحدد من خلال (الوظيفة التاريخية).

         ويكمل المؤلف أن الديمقراطية هي أول حق من حقوق الإنسان، وهي اعتراف من الحاكم للمحكوم بأول حق له، وأنه قبل تطبيق الديمقراطية يجب احترام حقوق الإنسان، وهي حقه في التعبير، والحق في العمل، وحق المساواة، ورفع الظلم. فلم تتمثل الديمقراطية في أي مجتمع من المجتمعات دون أن تمنح هذه الحقوق - التي مر ذكرها - للشعب، فهي كما حددها الجابري (الإطار التنظيمي للحقوق الاجتماعية).

         فنتيجة لهذا التحديد، يعتقد الجابري أن مأساتنا في الوطن العربي الراهن تكمن في أننا لا نملك الكلمة، بل إننا محرومون من حق طلب الكلمة، ودون هذا الحق يفقد الإنسان هويته كإنسان، ولن يكون (حيواناً ناطقاً بل سيبقى إنساناً).

         وتأسيساً على هذا الاعتقاد نقول: إن الحرمان من هذا الحق هو سمة تسود مجتمعاتنا العربية يعاني منها الفرد ويعتادها منذ نشأته. ونعود ثانية إلى هذا الكتاب لنتلمس فيه مفهوم الديمقراطية، فهل هي حقيقة (حكم الشعب نفسه بنفسه)؟ الذي هو معناها اليوناني، لكن المؤلف يستطرد بقوله: (إن حكم الشعب نفسه بنفسه لا يمكن أن يكون له مجال للتطبيق إلا في إحدى المدن الفاضلة، وقد حلم به متخيلوها لتكون ملجأ لهم عندما لم يجدوا موضعاً لهم في عالم الواقع لتطبيق آرائهم ومثلهم، وعند الرومان في القرون الوسطى، كانت تأتي بهذا المعنى عند الحالمين بمجتمع لا يقسم فيه أفراد الشعب بصفة رسمية إلى سادة وعبيد وإلى نبلاء وأشراف في مستوى وإلى رقيق في مستوى آخر). "انظر ص 15 من الكتاب".

         يقول المؤلف: لذا نجد من يقول إن تطبيق الديمقراطية قبل نضج الشعب يؤدي إلى الفوضى والاضطراب، لكن العكس هو الصحيح يجب أن تطبق الديمقراطية أولاً، لأنها المحصلة النهائية التي ستؤدي إلى نضج الشعب، وطبيعي أنه لا يمكن تطبيقها دون تنظيم أو جهاز هو (الدولة) أو الحاكم ينظم تطبيق هذه الديمقراطية. وأن مفهوم الديمقراطية في العصر الحديث ارتبط بفكرة الانتخاب، وإعطاء هذا الحق لجميع أفراد الأمة رجالاً ونساء لاختيار الحاكم.

         وبعد هذا العرض يطرح الجابري هذا السؤال: فهل الديمقراطية في الفكر العربي المعاصر من هذا القبيل؟ ثم ينتقل المؤلف إلى تفسير العلاقة بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، ويشير إلى أن ما دفعه إلى عرض هذه العلاقة الجدلية هو (كان المثقفون الوطنيون والتقدميون في الوطن العربي يهاجمون الديمقراطية السياسية، ويصبون اللعنات عليها منصرفين بكل فكرهم ووجدانهم نحو الديمقراطية الاجتماعية "أو الاشتراكية")، حتى ينتهي إلى القول بأنه لا يمكن للديمقراطية الاجتماعية أن تتحقق دون الديمقراطية السياسية، وأن هذه الأخيرة هي وسيلة للأولى، وهي أيضاً هدف في ذاتها، وإذا حدث التلاعب والتزييف في تحقيقها، فيجب ألا نفكر بها.

         إن هذا العرض الشائق لمفهوم الديمقراطية والذي جاء به المؤلف في مقدمة كتابه دفع بنا إلى الرحلة معه في ثنايا هذا الكتاب للتعرف على هذه المفاهيم وكيفية تطبيقها في المجتمعات الغربية ومقابلتها بما لدينا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية والتى منها العلاقة بين مفهوم (حقوق الإنسان) ومفهوم (الحقوق الطبيعية)، فيتضح من تفسيره لهذه العلاقة أن الطبيعة سابقة على كل حضارة وثقافة في كل مجتمع وكل دوله، وأنه يرجع بحقوق الإنسان في الفكر الأوربي إلى بداياتها عندما اهتم (جون لوك) بتقرير (حالة الطبيعة) أكثر من غيره.

         أما الانتقال من حالة (الطبيعة) إلى حالة (المدنية) مع ممارسة الإنسان لحقوقه الطبيعية، فقد جاء بها (جان جاك روسو) في القرن الثامن عشر الميلادي حيث كان أكثر تقريراً لفرضية (العقد الاجتماعي).

         وإن هاتين الفرضيتين قامتا أصلاً على التطابق بين (نظام الطبيعة ونظام العقل) الذي بدأ عند (نيوتن) في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، وعلى هذه الفرضيات الثلاث، جاء تأسيس (حقوق الإنسان) في الفكر الأوربي الحديث والمعاصر الذي جعل العقل المرجعية الأولى والحكم الأول والأخير. أما فرضية (العقد الاجتماعي) فإنها تفسر حالة الإنسان الذي لا يستطيع أن يعيش دون الجماعة من أبناء جنسه، ولما كانت رغبات الأفراد تتضارب وتختلف، فلابد من تعاقد فيما بينهم يتنازل بموجبه كل فرد من هذه الجماعة عن حقوقه كافة للجماعة التي ينتسب إليها، وإن من ينظمها أو يحسمها الدولة (كهيئة اعتبارية) والتي تنوب عن الناس في تنظيم ممارستهم لحقوقهم وقيامهم بواجباتهم، وإن هذه الفرضية لا تلغي قيمة الحرية والمساواة (وتبقى الحرية والمساواة هما جوهر هذه الحقوق). "انظر ص 152 من الكتاب".

المرجعية الإسلامية

         وبعد هذا الاستغراق مع الجابري في تفسير فرضية (العقد الاجتماعي) بهدف الكشف عن مقاربة بين هذه الفرضية (العقد الاجتماعي) وما يقرره الخطاب الإسلامي بآيات حددها في مثل قوله تعالى :
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً سورة الأحزاب. الآية "7-8".

         فإن جاء تحديد لفظة الميثاق في هذه الآية وهو العقد، ففي آيات آخرى أوردها المؤلف تتحدث عن الميثاق مضموناً في مثل قوله تعالى :
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا "سورة الأعراف. الآية 172".
         وهو ميثاق بين الله وبني آدم لعبادته وربوبيته وعدم الشرك به، والميثاق الآخر هو قوله تعالى :
         ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا. "سورة الإسراء. الآية 70 ".

         فالمفروض عليهم بعد هذا التفضيل أن يكونوا، أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر "سورة آل عمران 104".

         وينتهي المؤلف بعد ما أورده من آيات إلى القول (فهذه الآيات تتقدم على فرضية "العقد الاجتماعي" وتسبقها زمناً وتنظيماً، وهي تعبر عن "الميثاق الماورائي، الذي بدأ عند بدء الخلق بين الله والبشر تحول بعد ذلك إلى تنظيم واقعي ملموس ينظم حياة الناس وحقوقهم، وهو عقد "الشورى"، في قوله تعالى وأمرهم شورى بينهم . فهو عقد يؤسس المجتمع، وينظم العلاقة بين الناس والدولة وشاورهم في الأمر.

         "السورة الأولى - الشورى الآية 38 والسورة الثانية آل عمران - الآية 159. انظر ص 163 من الكتاب".

         فالمقارنة بين ما جاء في الفكر الأوربي، وما جاء في الخطاب الإسلامي هي - كما أشار الجابري - أن حالة (الطبيعة) في الفكر الأوربي يقابلها حالة (الفطرة) في الخطاب الإسلامي، وأن (العقد الاجتماعي) في الفكر الأوربي تقابله (الشورى) في الخطاب الإسلامي، وأن الشورى جوهر الإسلام التي يجدها مبدأ رفيع المستوى، حيث إنه لا ينظم حياة الناس فحسب، وإنما ينظم العلاقة بين رئيس الجماعة الإسلامية والمسلمين، وأنها صدرت بصيغة الأمر وليس بصيغة الاختيار، كما في قوله تعالى:
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر "سورة آل عمران. الآية 159".

         فالشورى في الإسلام تنظيم دائم في خدمة العدل والمساواة بين الناس، ودائم في مراقبة الحكام في سلوكهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقضائي، وهو ما يسمى بالديمقراطية في عصرنا  الحاضر.

         وإن العدل في الإسلام، وفي المنظور القرآني لا يقتصر على العدل بين المتخاصمين كما فسره الفقهاء، وإنما يشمل مختلف العلاقات بين الناس: العلاقات بين الرجال والنساء، وبين الآباء والأبناء، وبين الحاكمين والمحكومين، ويؤكدها قوله تعالى :
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل "سورة النساء - الآية 58".
وفي آية آخرى فاحكم بينهم بالقسط "سورة المائدة - الآية 42" والعدل والقسط هما بمعنى واحد. لذا يقول الجابري إن العدل قرين المساواة وملازم لها، وهو حق من حقوق الديمقراطية التي يأمر الإسلام باحترامها.

         أما بالنسبة لحقوق الإنسان في الإسلام، فقد تؤكدها نصوص قرآنية عدة، منها حق (مقاومة الجور) الذي جاء ما يماثله في المادة الثانية من إعلان (حقوق الإنسان والمواطن) الصادر من الجمعية الفرنسية عام 1789 التي تظهر أكثر عمقاً في المبدأ الإسلامي منها في المبدأ الأوربي في قوله تعالى :
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وفي الحديث الشريف (من رأى منكم منكراً فليغيره).

         ولم يغفل الجابري المعارضات التي قد تثار حول التوافق بين الفكر الأوربي الحديث والفكر الإسلامي حول حقوق الإسلام بسببها أنها في الفكر الأوربي تصدر عن (العلمانية) وفي الفكر الإسلامي تصدر عن (الدين)، ويخلص الجابري إلى القول (إن علمانية حقوق الإنسان في الفكر الأوربي الحديث لم تكن تعني لدى فلاسفة هذا الفكر الاستغناء عن الدين كدين، بل فقط التحرر من سلطة الكنيسة وطقوسها، لذا فهم بنوا "معقولية" حقوق الإنسان باعتماد العقل وحده بدلا من سلطة الكنيسة).

         ويأتي تأكيد الجابري على ما ذهب إليه بإطلاق السؤال التالي: (فهل يتناقض هذا الموقف في شيء مع الموقف الإسلامي المؤسس لحقوق الإنسان على العقل والفطرة والميثاق والشورى؟).

التحليل الموضوعي

         أما بالنسبة لاعتراض البعض حول بعض الأحكام الفقهية كالحكم تجاه المرتد، والأحكام التي تخص المرأة في الميراث والزواج والطلاق والشهادة التي تبدو في ظاهرها معارضة لمبدأ الحرية، ومبدأ المساواة، فقد كان رد الجابري معتمداً التحليل الموضوعي الذي بدأه بالإشارة إلى أن مفهوم الحرية اللغوي يختلف بتقدم العصر، ثم لحقه بإشارة أخرى وهي أن الشريعة الإسلامية كليات وجزئيات، ومبادئ وتطبيقات، والأصل في الحكم الصادر في الجزئي وإن يكون تطبيقاً للمبدأ الكلي.

         وإن كان هناك اختلاف فلسبب وحكمة من الله سبحانه وتعالى، وأن الإسلام يقر مبدأ الحرية في المجالات كافة، ومرجع ذلك القرآن الكريم والسنة الشريفة، ففي القرآن قوله تعالى :
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. "الأحزاب الآية 72" فاختار الإنسان بحرية حمل الأمانة، وهي (خلافة الله في الأرض، فهي اختيار ولم تفرض على الإنسان فرضا).

         ولعلاقة هذه القضية بحرية العقيدة، فقد أورد الجابري العديد من الآيات القرآنية التي تحدد حرية الاعتقاد والتي نذكر منها قوله تعالى :
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر "سورة الكهف - الآية 29 " فهذه الآية وغيرها من آيات تحدد حرية الإنسان في الإيمان، أما حكم من (ارتد بعد إيمانه) فهو قوله تعالى :
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم . "البقرة - الآية 217"، وكذلك قوله تعالى :
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم. "سورة النحل - الآية 106" فهنا حكم المرتد هو لعنة الله وغضب منه ومأواه جهنم.

         فالوضع القانوني لـ (المرتد)، لا يتحدد في الإسلام بمرجعية "حرية الاعتقاد" - كما أشار الجابري - بل يتحدد بمرجعية ما نسميه بـ (الخيانة للوطن) أو (إشهار الحرب على المجتمع)، لذا فإن حكم المرتد خلال الدولة الإسلامية لم يكن تجاه شخص غير دينه، بل تجاه شخص خرج عن (الإسلام عقيدة ومجتمعاً ودولة)، فهو خروج على الدولة وعصيان لقوانينها في (امتناعهم عن دفع الزكاة) في عهد أبي بكر.

         فالمرتد في هذه الحالة يقتل باتفاق الفقهاء، وهذا ما جاءت به السنة الشريفة (من بدل دينه فاقتلوه). لكن الفقهاء اختلفوا: هل يستتاب أولاً أم يقتل دون استتابة، فيقول الجابري: (الحرية شيء والردة شيء آخر) وهو يدعو إلى الاجتهاد الفقهي، والنظر في ما إذا كان المسلم الذي يعتنق ديناً آخر اعتناقاً فردياً لا يمس من قريب أو بعيد المجتمع الإسلامي، ولا الدولة الإسلامية يدخل في دائرة (المرتد) الذي يقتل أم لا؟.

         أما عن موقف الإسلام تجاه المرأة، وحقوقها في الحياة العامة والخاصة، فالإسلام يقرر كحكم عام ومطلق (مبدئيا) المساواة بين الرجل والمرأة، كقوله تعالى :
.. إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . " سورة الحجرات - الآية 13"، وقوله تعالى :
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. "سورة التوبة - الآية 9"، وإن محمدا (صلى الله عليه وسلم) رفع من شأن المرأة قولاً وعملاً كقوله
الجنة تحت أقدام الأمهات، وقوله (صلى الله عليه وسلم):
النساء شقائق الرجال.

         وعن حقوق المرأة يقف الجابري عند الإرث ليورد الآيات التي تنص على الحكم فيه كقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين "سورة النساء - الآية 11"، وقبل أن يفسر حكم القرآن في الإرث للمرأة، يصف المؤلف حال المجتمعات العربية وقت نزول الآية التي يحكمها النظام القبلي، وإن الزواج في هذه المجتمعات لم يكن علاقة رجل بامرأة، بل كان مصاهرة، أي علاقة بين قبيلة الزوج وقبيلة الزوجة، ففي هذه الحالة يجد التبرير العقلي لهذه المسألة، وهي الحفاظ على أموال القبيلة كي لا تتبدد بين زواج البنات وهو يلتمس المعقولية، وكذلك في الطلاق وتعدد الزوجات، فالإسلام لا يوجب تعدد الزوجات ولا الطلاق، فقد كانت هاتان الظاهرتان سائدتين قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام وضع شروطاً لهما تقترب من المنع أكثر من الإطلاق، لذا فقد اشترط في تعدد الزوجات العدل فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة. "سورة النساء - الآية 3". وفي آية أخرى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم. "سورة النساء - الآية 129".

         وأما الطلاق، فإن الإسلام لا يجيزه (كحلال مطلق) كما تعدد الزوجات لا يجيزه فهو (حلال مقيد) بشرط يصعب الوفاء به، فالطلاق ليس حلالاً مطلقا في قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) أبغض الحلال عند الله الطلاق وهو يختلف نوعياً عن الحرام. "انظر الصفحات 184-187 من الكتاب".

         أما مسألة شهادة المرأة في قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما  الأخرى. " البقرة- الآية 282". يقول الجابري: (ليس السبب أن الخطأ والنسيان من طبيعة المرأة وجوهرها، وإنما يرجع إلى الوضعية الاجتماعية للمرأة في تلك العصور).

         ومن المسائل التي وقف عندها المؤلف والتي يتعرض فيها الفكر الإسلامي إلى النقد - إضافة إلى حقوق المرأة - (قضية الرق)، وقبل أن ينبري الجابري مجاهداً في تبرئة ساحة الفكر الإسلامي مما علق به حول هاتين القضيتين، أخذ يستعرض موقف الحضارات القديمة من الرق، فقال (فقد نظر له فلاسفة اليونان فاعتبروا العبدأقل إنسانية من (المواطن) وجعلوا وظيفته العمل الشاق وشبهوه باليد والرجل بالنسبة للعقل والرأس)، وقال (وسار الرومان على الدرب نفسه واشتهروا باضطهاد العبيد واعتبارهم كالحيوان أو أقل مرتبة، ولم يختلف الوضع في القرون الوسطى المسيحية الأوربية عما كان عليه الأمر من قبل، وكذلك العصر الأوربي الحديث، فكان ينظر إليه على أنه ظاهرة اجتماعية طبيعية، غير قابلة للتفكير فيها، فبعد هذا العرض لوضع المرأة والرقيق في الحضارات القديمة، انتقل إلى وضعهما في الإسلام الذي جاء مستقيماً وواضحاً، وهو أن الإسلام لا يكرس الاسترقاق، بل دعا إلى إلغائه كما جاء في مواضع عدة في القرآن الكريم، وجعله من صميم الأعمال التعبدية بما يسمى بالكفارات عن الذنوب التي منها (فك رقبة)، وقول النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي يأتي مفسراً لما في التشريع القرآني في دعوته إلى المساواة بين السادة وما يملكون من رقيق في حديثه عن أبي ذر الغفاري إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تطعمون فهو ميل صريح إلى تصفية هذه الظاهرة وإلغائها انطلاقاً من مبدأ المساواة.

         وحرية الإنسان التي نصت عليها مقولة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الشهيرة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟)، أما تبريره في عدم إلغائه جملة، فهو من الأمور التي تؤدي إلى اضطراب الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في المجتمع العربي الإسلامي القديم.

حقوق المستضعفين

         وقد قابل الجابري بين ما أمر به الله تعالى في آيات الزكاة عامة وآية (البر) خاصة من حقوق المستضعفين، وبين ما يسمى اليوم بـ (الضمان الاجتماعي) الذي يشمل الحق بالعلاج من الأمراض، وتعويض البطالة، وحق التقاعد، وهي ما تقتطعه الدولة من أموال الأغنياء بنظام الضرائب، فهو تدين حديث ينسجم مع ما جاء في الشريعة الإسلامية في قضايا الزكاة والبر، فالقرآن الكريم أكد مراراً على حقوق المستضعفين وعلى الوفاء بها، وقد جاءت مرة بصيغة الأمر وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا. "سورة الإسراء - الآية 26" وتأتي مرة أخرى بمعنى الأمر الضمني والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم. "سورة المعارج - الآية 24 - 25"، وقد أغفل الجابري أقدم حق مدني دعا إلى الدفاع عن حقوق الإنسان قبل الإسلام الذي اتفقت عليه أشراف العرب في حلف الفضول.

         ونختم عرضنا لهذا الكتاب بما دعا إليه الجابري من الاهتمام بالتنمية البشرية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، والتي يجب أن تقوم على تنمية التفكير في حقوق الإسلام كما يقررها القرآن الكريم والحديث الشريف، وإن هذه الحقوق (كحق الحياة - أولاً وكحق التمتع بها، وحرية الاعتقاد والمعرفة، وفي الاختلاف وفي الشورى والمساواة والعدل إضافة إلى حقوق المستضعفين) هي الحقوق الأساسية التي من دون توافرها وتمتع الناس بها لا يمكن تطبيق الحدود الشرعية تطبيقاً لا لبس فيه.

 

محمد عابد الجابري   

 
 




غلاف الكتاب





محمد عابد الجاري