الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية
الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية
المؤلف: روجيه جارودي من البداية، يعرض جارودي لكلمة للحاخام هيرش، يقول فيها: "قضت الصهيونية بأن يصبح الشعب اليهودي كياناً قومياً.. وتلك هي الهرطقة". ومن هنا، يتصور جارودي أن كتابه هو تاريخ للهرطقة والتي تجعل من الدين أداة للسياسة، بإضفاء القداسة عليها، عن طريق القراءة الحرفية والانتقائية للنص المقدس. والصهيونية التي يفضحها جارودي في كتابه تتسم - حسب ما يرد في تفسيرات هيرتزل - بأنها عقيدة سياسية وقومية واستعمارية، وهي - بالتالي - ليست امتدادا للديانة أو الروحانية اليهودية. وهذا ما أدى إلى تفجير ردود أفعال مضادة لهرتزل، أهمها ما نتج عن مؤتمر مونتريال 1897، حيث جاء فيه: "إننا نشجب تماماً أي مبادرة تهدف إلى إنشاء دولة يهودية وإن أي محاولة من هذا القبيل تكشف عن مفهوم خاطئ لرسالة إسرائيل.. التي كان الأنبياء اليهود هم أول من نادى بها". وفيما بعد، فإن مارتن بوبر أحد الأصوات اليهودية الكبرى في هذا القرن يقرر أن اليهود أكثر من أن يكونوا أمة.. إنهم أعضاء في جماعة مؤمنة، وهو يرى أن "الصوت اليهودي الجديد يتكلم من فوهات البنادق.. وهذه هي التوراة الجديدة لأرض إسرائيل". إن تحول اليهودية إلى الصهيونية، هو تحول من الديانة إلى القومية. وكل قومية - كما يتصور جارودي - في حاجة إلى تقديس ادعاءاتها. فإذا ما تطرف القوميون في تأكيد قداسة فكرتهم، فإنهم يكونون بإزاء تشكيل نموذج يتطابق مع "الأسطورة الآرية". وها هو أندريه نهير يقرر أن إسرائيل هي - وبامتياز - "علامة التاريخ الإلهي في العالم، فهي محور هذا العالم، وهي بمنزلة المركز والعصب والقلب منه". ولأن الاستبداد بالرأي يلغي الحوار، فإن جارودي يرى أنه لا يمكن الحوار مع هتلر أو بيجن، لأن سموهما الجنسي، أو تحالفهما القسري مع الآلهة، لا يترك أي مجال لوجود الآخر. على أن أخطر ما في القراءة السياسية للتوراة، هو الاتكاء على مجموعة من الأساطير التي اعتمدت على الجمع الشفاهي للعهد القديم، وذلك بغرض خلق واقع تاريخي مخالف. فلا يمكن لأي إنسان أن يقتنع بصيغة اسطورية مثل الوعد الإلهي لليهود، أو الحق التاريخي لهم في فلسطين. والأخطر من ذلك أن تستند عقلية معاصرة إلى الأساطير الدموية التي بررت - قديماً - المذابح التي أمر بها "رب الجيوش" والنبوءات الكبرى لعاموس وحزقيال وأشعيا وأيوب. إن سياسة التطهير العرقي التي اتبعها موسي، ومن بعده يشوع، هي النموذج التاريخي الذي تحاول إسرائيل إعادة إنتاجه الآن، لذلك فإن جارودي يرد على النموذج "الأسطوري" بمناقشة صحته التاريخية أولاً، والتى لم تثبت حتى الآن وكذا من خلال تفنيد سياسة التقليد الحرفي للإبادة المقدسة، فتلك الإبادة لا تستهدف سوى التطهير العرقي حيث يمكن - كما يتصور الحاخام كوهين - "توزيع جميع سكان المعمورة بين إسرائيل والشعوب الأخرى جمعاء. فإسرائيل هي شعب الله المختار". ومن الطبيعى أن يؤدي هذا التصور كما يؤكد حاييم كوهين القاضي السابق بالمحكمة العليا لإسرائيل إلى أن "تستخدم نفس الطروحات البيولوجية والعنصرية التي روج لها النازي، كأساس لتعريف الوضع اليهودي داخل دولة إسرائيل". وإذا كانت القراءة السياسية للتوراة تحاول استثمار الأساطير التاريخية الموغلة في الزمن، فإن قراءة إسرائيلية أخرى للحاضر تحاول أن تصنع أسطورتها الخاصة في القرن العشرين، وهذا هو رهان المعركة بين الديانة اليهودية التوراتية وبين القومية الصهيونية التي تقوم - كأي قومية - على رفض الآخر وتقديس الذات. تلك هي نقطة البدء لإعادة قراءة الأساطير اللاهوتية، وكذا الأساطير الحديثة التي بنيت عليها، أو التي أقامتها على أساس ثيوقراطي. تأسست اسطورة الوعد الإلهي على الآية الواردة بسفر التكوين " 15 -18". "لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" فهل هي أرض موعودة، كما يتساءل جارودي، أم أرض مغتصبة؟ يري ديان - طبقاً للنص السابق - "أننا إذا كنا نملك التوراة، وإذا كنا نعتبر أنفسنا شعب التوراة، فمن الواجب علينا أن نتملك كل الأرض التوراتية". وإذا كان البعض قد أخذ الوعد الذي أعطي للآباء بمعناه الكلاسيكي، فإن جارودي يحصر أصول هذا الوعد في: الوعد بالأرض، بمعنى الوعد بالاستقرار وليس الغزو والسياسي أو العسكري، وقد فهم هذا الوعد - خطأ - على أنه التجسيد المسبق للغزو النهائي لفلسطين. وهذا ما أدى بالحاخام إلمر بيرجر إلى أن يرفض "الادعاء بأن إنشاء دولة إسرائيل هو تحقيق لنبوءة توراتية". ويرى جارودي أن هذا الفهم الخاطئ لا يؤدي إلا إلى غوغائية التربة والدم، ومن هنا لا يصبح إيجال عامير - قاتل رابين - عربيداً أو مجنونا، لكنه النتاج الخالص للتربة الصهيونية، حيث يرى أنه تلقى الأمر بالقتل من الرب. جاء في سفر الخروج "4 - 22": "كذا قال الرب: إسرائيل ابني البكر" لقد تأسست أسطورة كاملة على تلك الآية، حيث كان هناك نوع من الإيمان - دون سند تاريخي - على أن الوحدانية قد ولدت مع العهد القديم. والغريب أن إيلوهى ويهوى - اللذين قاما بتدوين التوراة - لم يكن أي منهما وحدانياً، فقد كانا يناديان - فقط - بتفوق الإله العبراني على سائر الآلهة. ورب مواب "قاموش" معترف به مثل الآلهة الأخرى "قضاة 11 - 24" "الملوك الثاني 27". ولم تنشأ" صيغ الوحدانية في التوراة إلا في عصور لاحقة ومتأخرة "التثنية - أشعيا" ولم يتأت ذلك للديانة اليهودية، إلا بالتماس مع الحضارات الأخرى "الفرعونية والبابلية". الأسطورة والتطهير العرقي تأتي تلك الأسطورة التي تنادي بالتطهير العرقي، لتصبح المشهد التاريخي الذي يتم إنتاجه الآن، من خلال الاستخدام الذرائعي للتوراة، حيث الماضي الأسطوري هو الذي يوجه المستقبل نحو ما يسميه بـ "الانتحار الكوني" لقد بدأ موسى عمليات التطهير العرقي في حربه مع آل مدين، كما ورد في سفر العدد فصل 31 "آيات 7 - 18" ثم واصل يشوع أثناء غزوه لكنعان نفس السياسة "يشوع "10 - 34" وقد جاء في الفصل العاشر من هذا السفر "آيات 34 - 38": "وفتح يشوع في ذلك اليوم "مقيده"، وضربها بحد السيف، وأبسل ملكها وكل الأنفس التي فيها لم يبق باقياً" .. وتستمر تلك الملحمة المملة - على حد تعبير جارودي - في سرد وتعداد عمليات "الإبادة المقدسة" وهنا يطرح جارودي سؤالين أساسيين: الأول بشأن صحتها التاريخية، والثاني بشأن عواقب التقليد الحرفي لها. ألم تكن مسيرة يشوع هي نفسها مسيرة بيجن عندما قضى في 9 أبريل 1948 على سكان دير ياسين، البالغ عددهم 254 نسمة؟ وألم يكن طريق يشوع هي التي أشار إليها موشى ديان، حين طالب بامتلاك الأراضي التوراتية؟ لقد ظل الانفصال عن الآخر هو القانون الذي يحكم التاريخ اليهودي، استناداً إلى التوراة، كما ورد في سفر تثنية الاشتراع وسفر عزرا الذي بكى لأن الجنس "الطاهر" قد اختلط بشعوب الأرض، كما أن نحميا يقول في سفره عن إسرائيل: "فطهرتهم من كل غريب" "فصل 13 آية 30 " وخطورة رفض الآخر تكمن في أن هذا الرفض سيعقبه - بالضرورة رفض دين الآخر، وكذا ثقافته وطريقة حياته. وهكذا، تتدرج ايديولوجية "الترنسفيد"، أي نقل السكان في إطار متوسط بين الإبادة والخوف من الاختلاط، ويساندها حالياً غالبية حاخامات يهوذا وسامرا. لهذه الأسباب، إتخذت الأمم المتحدة في 10 نوفمبر 1975 قراراً باعتبار أن الصهيونية شكل من أشكال التمييز العنصري. إلا أنه تحت ضغط أمريكي. ومباركة من بعض الدول العربية، تم إلغاء القرار في ديسمبر 1991 ويثبت جارودي أن معاداة الصهيونية للفاشية محض كذبة كبرى. فقد كان زعماء اليهود على استعداد للتعاون مع هتلر، في سبيل تأسيس دولة لهم في فلسطين. بل إنهم - بالفعل - قد تعاونوا مع النازي واسحق شامير خير نموذج على ذلك. كما أن الحصار الذي فرضته أوربا على ألمانيا النازية قبل الحرب العالمية الثانية، ظل محكماً إلى أن أحدث اليهود ثغرة به، من خلال شراء بضائع ألمانية بغرض بيعها في فلسطين، ثم تمكنوا من بيعها حتى في إنجلترا ذاتها. وهناك أمثلة عديدة يسوقها جارودي لإثبات التعاون الوثيق بين النازية والصهيونية ففي سبيل إقامة الدولة اليهودية قال بن جوريون في 7 ديسمبر 1948. لو كنت أعلم أنه من الممكن إنقاذ كل أطفال ألمانيا بإحضارهم إلى إنجلترا، أو إنقاذ نصفهم فقط بنقلهم إلى إسرائيل الكبرى، لاخترت الحل الثاني، لذلك لن يرى توم سيجيف أنه: "لم يكن إنقاذ يهود أوربا على رأس أولويات الطبقة الحاكمة، بل كان تأسيس دولة هو الأمر المهيمن في نظرهم". إن العدو الرئيسي بالنسبة لزعماء الصهاينة لم يكن هو النازي، بقدر ما كان ذوبان اليهود وتمثلهم في مجتمعاتهم. وهم يلتقون في ذلك مع الفكر الأساسي لأي عنصرية، بما فيها العنصرية الهتلرية التي تقوم على فكرة نقاء الدم. لم تكن الأحكام التي أصدرتها محكمة نورمبرج سوى تصفية حسابات المنتصرين مع المهزوم، كما أنها لم تتناول جرائم هؤلاء المنتصرين، ومنها إلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما نجازاكى، في الوقت الذي كان يسعى فيه إمبراطور اليابان لإعلان الاستسلام بالفعل، وبالتالي، فإن تلك الأحكام لم تكن تتمتع بالعدالة الكاملة، يقول المؤرخ الإنجليزي دافيد إيرفنج: "لقد شعر كبار القانونيين في العالم أجمع بالخجل من إجراءات نورمبرج. ولا شك أن القاضي روبرت جاكسون الرئيس الأمريكي للادعاء، كان يخجل من هذه الإجراءات، كما جاء في مذكراته الشخصية". إن هذه العدالة الشائهة كانت تمثل انتهاكات للقواعد الثابتة لأي قضية حقيقية، والتي تتمثل في: إقامة الدليل على صحة النصوص المقدمة، وتحليل قيمة الشهادات والظروف التي من خلالها تم الحصول عليها، ثم البحث العلمي لسلاح الجريمة، لإثبات استخدامه وآثاره. بالنسبة للنصوص التي تمثل الأوامر الصادرة بالإبادة الجماعية، فلم يتم العثور حتى الان على أى وثيقة مكتوبة، تخص هتلر أو احد معاونيه، فيما يتعلق بتلك الإبادة. كما أن رقم الضحايا نفسه يتغير من مصدر لآخر، مما يدل على غياب الحقيقة في نورمبرج، أكثر مما يتعلق بحضورها. لقد كان الحل النهائي في المسالة اليهودية، يرتبط بتفريغ أوربا من اليهودية، طبقا للتصور النازي. ولم تكن ظروف الهزيمة هي الظروف المناسبة للإدلاء بالشهادات، التي ينتظر منها أن تخدم الطرف المنتصر. أما عن سلاح الجريمة، المتمثل في "غرف الغاز"، فلم يثبت وجود غرفة غاز واحدة، وكل ما وجده المنتصرون هو غرف لحرق جثث الموتى. فالتدليل إذن على أن جرائم النازي لم تقتصر إلا على اليهود وحدهم، وأنها خلفت الملايين من القتلى منهم، هو عنصرية تشجع على التمييز والحقد العنصريين. اسطورة الملايين الستة الهولوكوست - كما جاء في لاروس - هو "قربان لدى اليهود، تحرق فيه الضحية بالنار تماماً". وبذلك يصبح استشهاد اليهود لا يعادله استشهاد آخر، نظراً لطابعه القرباني، الذي يدمجهم ضمن المشروع الإلهي، على طريقة الصلب في اللاهوت المسيحي. لقد أدى ذلك إلى أن يصرح أحد الحاخامات بأن: "إنشاء دولة إسرائيل هو رد الرب على الهولوكوست". ولتبرير الطابع المقدس للهولوكوست، كان لا بد من التمسك بمزاعم الإبادة التامة، واختراع عمليات الحرق الجماعي. ومن هنا، يصبح الكم ذا فاعلية فائقة، لإظهار مدى فداحة الثمن المقدس الذي دفعه اليهود. لذلك، يرصد جارودي مجموعة من التقديرات التي صاحبت فكرة "أسطورة" التاريخ، من خلال التناقض في تقدير أرقام الضحايا: 9 ملايين طبقاً لفيلم المخرج الفرنسي آلان رينيه" الليل والضباب" 1955 8 ملايين طبقا لـ "وثائق خدمة الحرب" الذي أصدره المكتب الفرنسي للنشر 1945. 4 ملايين طبقا للتقرير السوفييتي المقدم لمحكمة نورمبرج. مليونان طبقا لما جاء في كتاب المؤرخ اليهودي ليون بولياكوف "ترانيم الحقد" 1974. 300 الف طبقاً لياروش وايرهارد 1991. 50 الفا طبقا لراؤول هيلبرج. وبعد هذا التضارب، كيف يمكن أن نصل إلى الحقيقة؟ أسطورة أرض بلا شعب إن الأيديولوجية الصهيونية، كما يرى جارودي، ترتكز على فرضية واهية، وهي ما جاء بسفر التكوين "15/ 8 - 21". "في ذلك اليوم بت الرب مع إبرام بهذا قائلاً. لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير". وانطلاقاً من ذلك النص، ودون التساؤل عن ماهية هذا العهد ولمن صدر، أعلن الزعماء الصهاينة، حتى لو كانوا ملاحظة أو لا أدريين، أن فلسطين قد أعطيت لهم من الرب. وهناك مفارقة آخرى تأتي في إحصائية للحكومة الإسرائيلية، حيث إن المتدينين لا يمثلون سوى 15% فقط من السكان الإسرائيليين. وبالرغم من ذلك، فإن الـ 85%. الباقين لا يزالون مصرين على أن الرب "الذي لا يؤمنون به" قد منحهم تلك الأرض!! لقد شرح ناثان وينستوك هذا التناقض في كتابه "الصهيونية ضد إسرائيل"، قائلاً: "لو ألغينا مفاهيم (الشعب المختار) (الأرض الموعودة)، لانهارت الصهيونية من أساسها". فإذا ما عدنا للوراء قليلاً، لندحض أسطورة أن أرض فلسطين كانت بلا شعب، فسوف نجد أن الأرقام ذات دلالة خاصة في هذا المجال: وقت صدور وعد بلفور لم يكن اليهود يملكون سوى 2.5% من أرض فلسطين. وقت صدور قرار التقسيم كانوا يملكون 6.5%. إن هذا التغير المذهل في نسب الملكية لم يكن ليأتى، دون تفريغ الأرض من سكانها، أما بالطرد أو بالترويع، كما حدث في دير ياسين 1948 ثم في كفر قاسم 1956. وقد أورد البروفيسور أبراهام شاحاك عام 1975 قائمة بأسماء 385 قرية، تم تدميرها بالبلدوزر، من بين 475 قرية كانت مسجلة 1948، ليتسنى للإسرائيليين الزعم بأن فلسطين قبلهم كانت صحراء جرداء، وهكذا يصبح استيطانهم فيها حقا وواجبا كونيا في نفس الوقت.
|